رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٣

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٣

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-091-9
الصفحات: ٤٢٨

( الثامن : التسليم )

( وهو واجب في أصحّ القولين ) وأشهرهما ، وعن الأمالي أنه من دين الإمامية الذي يجب الإقرار به (١). وفي الناصرية الإجماع عليه من كل من جعل التكبير جزءا من الصلاة (٢). وأوجبه للتأسّي ، والاحتياط ، واستصحاب تحريم ما يحرم فعله في الصلاة ، وجعله في النصوص المستفيضة التي كادت تبلغ التواتر تحليل الصلاة بما يفيد الحصر في كثير منها ، وهو لا يجامع القول بالاستحباب ، لحصول التحليل عليه بمجرّد الفراغ من التشهّد ، فلا معنى لحصوله بالتسليم بعد ذلك.

وقصور أسانيد هذه الأخبار أو ضعفها غير موهن للتمسك بها بعد بلوغها من الكثرة إلى قرب التواتر ، مع اشتهارها بين العلماء بحيث سلّمها لذلك جماعة من القائلين بالاستحباب أيضا ، هذا.

مضافا إلى الأمر به في الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة ، التي كادت تبلغ التواتر ، بل لعلّها متواترة ، مروية جملة منها في بحث الشكوك في عدد الركعات ، كالصحيح : « إذا لم تدر أربعا صلّيت أم خمسا أم نقصت أم زدت فتشهّد وسلّم واسجد سجدتين » (٣) الحديث.

وما يقال عليها ـ من ضعف دلالة الأمر فيها على الوجوب من حيث وهن دلالته في عرف الأئمة عليهم‌السلام عليه ـ فضعيف في الغاية ، كما بيّن في‌

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٥١٢.

(٢) الناصرية ( الجوامع الفقهية ) : ١٩٦.

(٣) الفقيه ١ : ٢٣٠ / ١٠١٩ ، التهذيب ٢ : ١٩٦ / ٧٧٢ ، الاستبصار ١ : ٣٨٠ / ١٤٤١ ، الوسائل ٨ : ٢٢٤ أبواب الخلل الواقع في الصلاة بـ ١٤ ح ٤.

٢٤١

الأصول.

والاعتذار للضعف ـ بوجود ما هو صريح في الاستحباب فيحمل الأمر عليه جمعا ، فإن النص حيثما تعارض مع الظاهر مقدم ـ حسن لو سلّم النص ، وإلاّ كما سيأتي فالوجوب معيّن ، سيّما مع اعتضاده بما مر ، ونصوص أخر ، كالموثق فيمن رعف قبل التشهّد : « فليخرج فليغسل أنفه ثمَّ ليرجع فليتمّ صلاته ، فإن آخر الصلاة التسليم » (١) والموثق حجة ، والدلالة ظاهرة ، فإن المتبادر من قوله : « آخر الصلاة التسليم » كونه الجزء الأخير الواجبي لا الندبي ، كما يقتضيه أيضا تعليل الأمر بالرجوع الذي هو للوجوب به ، ومتروكية ظاهر آخره غير ضارّة ، فإن الرواية على هذا كالعام المخصص في الباقي حجة. مع احتماله الحمل على ما لا يوجب المتروكية.

وقريب منه في الدلالة على كونه آخر الصلاة جملة من المعتبرة الآتية (٢) ، وفيها الصحيح وغيره ، أنّ به يحصل الانصراف من الصلاة ، وهو ظاهر في عدم حصوله بالتشهّد ، كما يدّعيه القائل بالاستحباب.

وروى الصدوق في العلل عن المفضل بن عمر ، انه سأله عن العلّة التي من أجلها وجب التسليم في الصلاة ، فقال : « لأنه تحليل الصلاة » (٣) وهو نصّ في الوجوب ، فتأمّل.

قيل : ولأنّ التسليم واجب بنصّ الآية الكريمة (٤) ، ولا شي‌ء منه بواجب في غير الصلاة ، وأنه لو لم يجب لم تبطل صلاة المسافر بالإتمام.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٢٠ / ١٣٠٧ ، الاستبصار ١ : ٣٤٥ / ١٣٠٢ ، الوسائل ٦ : ٤١٦ أبواب التسليم بـ ١ ح ٤.

(٢) الوسائل ٦ : ١٠٠٣ أبواب التسليم بـ ١.

(٣) علل الشرائع : ٣٥٩ / ١ ، الوسائل ٦ : ٤١٧ أبواب التسليم بـ ١ ح ١١.

(٤) الأحزاب : ٥٦.

٢٤٢

ويضعف الأول : بأنه يحتمل كون المراد التسليم لأمره والإطاعة له ، والثاني : باحتمال استناد البطلان إلى نية التمام (١).

والقول الثاني بالاستحباب للشيخين (٢) وجماعة من الأصحاب (٣) للأصل. ويندفع بما مرّ.

وللصحاح المستفيضة ، منها : « إذا استويت جالسا فقل : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ثمَّ تنصرف » (٤).

ومنها : « إذا فرغ من الشهادتين فقد مضت صلاته ، وإن كان مستعجلا في أمر يخاف فوته فسلّم وانصرف أجزأه » (٥) والمراد الإجزاء في حصول الفضيلة ، كما يقتضيه صدر الرواية.

ومنها : عن المأموم يطوّل الامام فتعرض له الحاجة ، قال : « يتشهّد وينصرف ويدع الامام » (٦).

ومنها : « إذا فرغت من طوافك فأت مقام إبراهيم عليه‌السلام فصلّ ركعتين واجعله أمامك ، فاقرأ فيهما في الأولى منهما : قل هو الله أحد ، وفي الثانية : قل يا أيّها الكافرون ، ثمَّ تشهّد واحمد الله وأثن عليه ، وصلّ على‌

__________________

(١) قال به الفاضل الهندي في كشف اللثام ١ : ٢٣٢.

(٢) المفيد في المقنعة : ١٣٩ ، الطوسي في النهاية : ٨٩ ، والجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ١٨٣.

(٣) منهم : القاضي في المهذّب ١ : ٩٩ ، وابن إدريس في السرائر ١ : ٢٣١ ، والعلاّمة في نهاية الإحكام ١ : ٥٤٠ ، والإرشاد ١ : ٢٥٦ ، وصاحب المدارك ٣ : ٤٣٠.

(٤) التهذيب ٢ : ١٠١ / ٣٧٩ ، الاستبصار ١ : ٣٤٢ / ١٢٨٩ ، الوسائل ٦ : ٣٩٧ أبواب التشهد بـ ٤ ح ٤.

(٥) التهذيب ٢ : ٣١٧ / ١٢٩٨ ، الوسائل ٦ : ٣٩٧ أبواب التشهد بـ ٤ ح ٢.

(٦) الفقيه ١ : ٢٦١ / ١١٩١ ، التهذيب ٢ : ٣٤٩ / ١٤٤٦ ، الوسائل ٨ : ٤١٣ أبواب صلاة الجماعة بـ ٦٤ ح ٢ ، بتفاوت يسير.

٢٤٣

النبي ، واسأله أن يتقبّله منك » (١) فإنّ ظاهره عدم الوجوب في ركعتي الطواف ، ولا قائل بالفصل.

ويرد على الصحاح الأوّلة : أنها كما تدلّ على عدم وجوب التسليم كذا تدلّ على عدم وجوب الصلاة على النبي وآله ، ولا قائل به منا. هذا على تقدير تسليم الدلالة ، وإلاّ فإنّ غايتها الدلالة على حصول الانصراف من الصلاة بالفراغ من الشهادتين ، وهو لا يستلزم عدم وجوب التسليم مطلقا ، بل عدم وجوبه في الصلاة ، وهو لا ينافي وجوبه خارجا من الصلاة كما هو رأي بعض الأصحاب (٢) ، وإن كان الأشهر الأظهر بل المجمع عليه ـ كما ذكره جماعة (٣) ـ خلافه.

هذا ، مع أن الذي يقتضيه جملة من النصوص (٤) ، وفيها الصحيح وغيره ، أن المراد بالانصراف هو التسليم. ويشهد له الأمر به في جملة من هذه الصحاح ، إذ أقلّه الطلب ، وهو يستدعي عدم حصول المطلوب بعد الفراغ من الشهادتين ، ولا يكون ذلك إلاّ على تقدير كون المراد بالانصراف ما ذكرناه ، لا المعنى اللغوي ، لحصوله بمجرد الفراغ من الشهادتين على القول باستحباب التسليم ، فلا معنى لطلبه ، فتأمّل.

__________________

(١) الكافي ٤ : ٤٢٣ / ١ ، التهذيب ٥ : ٢٨٦ / ٩٧٣ ، الوسائل ١٣ : ٣٠٠ أبواب الطواف بـ ٣ ح ١.

(٢) كالبهائي في الحبل المتين : ٢٥٤ ، والكاشاني في المفاتيح ١ : ١٥٢ ، وصاحب الحدائق ٨ : ٤٨٣ وحكاه عن الحرّ العاملي أيضا.

(٣) كالمرتضى والفاضل والسيّد السند في المدارك. منه رحمه الله. المرتضى في الناصريّات ( الجوامع الفقهية ) : ١٩٦ ، والفاضل المقداد في التنقيح ١ : ٢١٣ ، وهما ادّعيا الإجماع المركّب فالأول إجماع كلّ من جعل التكبير جزءا من الصلاة ، والثاني إجماع كلّ من جعل التسليم واجبا. وأما صاحب المدارك فهو ادّعى الإجماع على الملازمة بين وجوب التسليم وبطلان الصلاة بتخلّل المنافي بينه وبين التشهّد ( المدارك ٣ : ٤٣١ ).

(٤) انظر الوسائل ٦ : ٤٢٦ أبواب التسليم بـ ٤.

٢٤٤

ويشهد له أيضا لفظ الإجزاء في الصحيحة الثانية. وصرفه عن ظاهره الذي هو الوجوب إلى الفضيلة بقرينة صدر الرواية ليس بأولى من صرف الصدر عن ظاهره إلى ظاهر الإجزاء ، بحمل الشهادتين فيه على ما يشمل السلام ، فإنّ إطلاق التشهّد على ما يشمله شائع ووارد في الأخبار ، مع أنه لا بدّ منه بالإضافة إلى الصلاة على النبي وآله ، وعلى هذا فهذه الروايات بالدلالة على الوجوب أولى.

هذا ، مع أنّ الصحيحة الثالثة نسخها مختلفة ، ففي موضع من التهذيب كما ذكر ، وفي آخر منه وفي الفقيه بدل يتشهّد يسلّم (١) ، ويعضد هذه النسخة ـ مضافا إلى التعدد وأضبطيّة الفقيه ـ الموافقة لصحيحين آخرين مرويين فيهما : عن رجل يكون خلف الإمام فيطيل الإمام التشهّد قال : « يسلّم ويمضي لحاجته إن أحبّ » (٢) هذا ، مع أوفقيتها بالسؤال في صدر الصحيحة فتدبّر تجده.

وعلى الصحيحة الرابعة أنّ الذي يقتضيه التدبّر فيها أنّ المقام فيها ليس مقام ذكر واجبات الصلاة ، ولذا لم يذكر منها سوى قليل منها ، بل المقام فيها مقام بيان بعض ما يستحب فيها ، ولذا ذكر فيه الجحد والتوحيد ، مع أنّ عدم ذكر التسليم فيها كما ينفي وجوبه كذا ينفي استحبابه ، والخصم لا يقول به.

ولئن تنزّلنا عن جميع ذلك نقول : إنها معارضة بالنصوص المستفيضة القريبة من التواتر بل المتواترة ، الآمرة بالتسليم (٣) ، وهي بالنسبة إليها أوضح دلالة ، وإن ضعف دلالتها في نفسها من حيث استعمال الأمر في الندب كثيرا ،

__________________

(١) انظر التهذيب ٣ : ٢٨٣ / ٨٤٢ ، الفقيه ١ : ٢٦١ / ١١٩١.

(٢) الأول : الفقيه ١ : ٢٥٧ / ١١٦٣ ، الوسائل ٨ : ٤١٣ أبواب صلاة الجماعة بـ ٦٤ ذيل الحديث ٣.

الثاني : التهذيب ٢ : ٣١٧ / ١٢٩٩ ، ٣٤٩ / ١٤٤٥ ، الوسائل ٦ : ٤١٦ أبواب التسليم بـ ١ ح ٦.

(٣) الوسائل ٦ : ٤١٥ أبواب التسليم بـ ١.

٢٤٥

لكن غايته دفع الصراحة النفسية لا الصراحة والظهور بالإضافة.

هذا وقد استدل لهذا القول بوجوه أخر هي مع الجواب عنها وتمام الكلام في المسألة في الشرح مذكورة.

( وصورته ) أي صورة التسليم على تقدير وجوبه أو استحبابه ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أو : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ).

أما الأولى فلدلالة المعتبرة المستفيضة عليها ، منها الصحيح : « إن قلت : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فقد انصرفت » (١) وفي معناه البواقي (٢).

بل في الموثق : « إذا كنت إماما فإنما التسليم أن تسلّم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإذا قلت ذلك فقد انقطعت الصلاة ، ثمَّ تؤذن القوم وتقول وأنت مستقبل القبلة : السلام عليكم ، وكذلك إذا كنت وحدك تقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، مثل ما سلّمت وأنت إمام ، وإذا كنت في جماعة فقل مثل ما قلت : وسلّم على من على يمينك وشمالك » (٣) الحديث. ونحوه غيره (٤).

وهذه الأخبار وإن لم تصرّح بتأدّي الواجب من التسليم بها ، لأن غايتها التصريح بالخروج بها من الصلاة ، وهو أعم من ذلك ، لكنها تستلزم ذلك لأن بالخروج بها يتحقق التحليل الذي لأجله وجب التسليم ، بمقتضى الرواية‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٣٧ / ٦ ، التهذيب ٢ : ٣١٦ / ١٢٩٣ ، الوسائل ٦ : ٤٢٦ أبواب التسليم بـ ٤ ح ١.

(٢) انظر الوسائل ٦ : ٤٢٦ ، ٤٢٧ أبواب التسليم بـ ٤ ح ٢ ، ٥.

(٣) التهذيب ٢ : ٩٣ / ٣٤٩ ، الاستبصار ١ : ٣٤٧ / ١٣٠٧ ، الوسائل ٦ : ٤٢١ أبواب التسليم بـ ٢ ح ٨.

(٤) لم نعثر على خبر آخر نحو المتن المذكور ، ولعلّ منشأه ما وقع من صاحب الحدائق ، فذكر مرّة موثقة أبي بصير واخرى روايته ومتنهما واحد. راجع الحدائق ٨ : ٤٨٧ و٤٨٨.

٢٤٦

المشهورة (١) ، وما في معناها من الأخبار المستفيضة ، ولا سيّما ما تضمن منها لتعليل وجوبه به ، كالمروي في العلل عن العلّة التي من أجلها وجب التسليم في الصلاة قال : « لأنه تحليل الصلاة » إلى أن قال : فلم صار تحليل الصلاة التسليم؟ قال : « لأنه تحية الملكين » (٢).

وأما ما يقال : من عدم حصول التحليل بها وأن غايتها الخروج من الصلاة ، وهو أعمّ من ذلك.

فكلام شعري لا يلتفت إليه ، ويردّه صريحا المروي في الخصال : عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا يقال في التشهّد الأوّل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، لأن تحليل الصلاة هو التسليم ، فإذا قلت هذا فقد سلّمت » (٣).

وصرف التحليل فيه عن معناه المعروف إلى أنه عبارة عن انقطاع الصلاة والخروج منها ، لا وجه له.

ومن هذه الأخبار يستفاد عموم التسليم في الرواية المشهورة لمثل هذه الصيغة بل ظاهر الموثقة ونحوها انحصاره فيها ، إلاّ أنه لما انعقد الإجماع على إجزاء الصيغة الثانية وتحقّق الخروج بها ، كما حكاه جماعة (٤) ، لزم رفع اليد عن الحصر فيهما بتأويله إلى ما يجامعه ، مع قوة احتمال عدم الاعتبار بمفهومه ولا ما في معناه ، لورودهما مورد الغالب المعروف المعهود الشرعي من وقوع السلام علينا .. إلى آخره بعد الشهادتين ، كما هو المعمول عليه الآن.

وبعموم الرواية المشهورة في نفسها استدل الماتن ـ فيما حكي عنه (٥) ـ

__________________

(١) انظر الوسائل ٦ : ٤١٥ أبواب التسليم بـ ١ ح ١ ، ٨ ، ١٢. ومضمونها : تحليل الصلاة التسليم.

(٢) علل الشرائع : ٣٥٩ / ١ ، الوسائل ٦ : ٤١٧ أبواب التسليم بـ ١ ح ١١.

(٣) الخصال : ٦٠٣ / ٩ ، الوسائل ٧ : ٢٨٦ أبواب قواطع الصلاة بـ ٢٩ ح ٢.

(٤) منهم المحقق في المعتبر ٢ : ٢٣٥ ، والعلاّمة في النهاية ١ : ٥٠٤ ، والشهيد في الذكرى : ٢٠٨.

(٥) حكاه عنه في المدارك ٣ : ٤٣٦ ، وهو في المعتبر ٢ : ٢٣٤.

٢٤٧

على التخيير بين الصيغتين ، لصدق التسليم بكل منهما. وهو حسن.

وما قيل في تضعيفه : من أن التعريف للعهد ، والمعروف منه بين العامة والخاصة : السلام عليكم ، كما يعلم تتبّع الأحاديث ، حيث يذكر فيها ألفاظ السلام المستحبة والسلام علينا ثمَّ يقال : وسلّم (١).

فحسن لو لا تلك الأخبار المستفيضة المصرّحة بحصول الانصراف والتحليل الواجب بالسلام علينا ، فكما يعلم من الأخبار التي ذكرها معهوديّة الصيغة الثانية فكذا يعلم من المستفيضة عموم التسليم الواجب للأولى أيضا ، فإنّ بها يتأدّى التحليل الواجب في الصلاة الذي لأجله وجب التسليم.

وبما ذكرناه ظهر ضعف القول بتعين الثانية للخروج وأنها هي الواجبة ، كما عن الأكثر (٢) ، بل في الدروس أنه عليه الموجبون (٣) ، وفي البيان : لم يوجب الاولى أحد من القدماء ، وإن القائل بوجوب التسليم يجعلها مستحبة كالتسليم على الأنبياء والملائكة ، غير مخرجة من الصلاة ، والقائل بندب التسليم يجعلها مخرجة (٤).

وفيه نظر ، بل ظاهر المحكي عن الشيخ في التهذيب حصول الخروج بالأولى وأنه متفق عليه بيننا (٥). مع أنه قد قال بذلك مخيّرا بينها وبين الثانية ـ كما في كتب الماتن والمنتهى والإرشاد والقواعد وروض الجنان والروضة (٦) ،

__________________

(١) قال به صاحب المدارك ٣ : ٤٣٦.

(٢) حكاه عنهم في البحار ٨٢ : ٣٠٠.

(٣) الدروس : ١ : ١٨٣.

(٤) البيان : ١٧٧.

(٥) حكاه عنه في الذكرى : ٢٠٦ ، وهو في التهذيب ٢ : ١٢٩.

(٦) انظر المعتبر ٢ : ٢٣٥ ، والشرائع ١ : ٨٩ ، المنتهى ١ : ٢٩٦ ، الإرشاد ١ : ٢٥٦ ، القواعد ١ : ٣٥ ، روض الجنان : ٢٨١ ، الروضة ١ : ٢٧٩.

٢٤٨

وفي المهذب والنكت دعوى الشهرة عليه (١) ـ في الدروس والرسالة الألفية واللمعة الدمشقية (٢) التي هي آخر مصنفاته ، وقوّاه في الذكرى أيضا ، وإن قال : إنه لا قائل به من القدماء ، وكيف يخفى عليهم مثله لو كان حقا (٣).

وقال بتعين الاولى للخروج ووجوبها يحيى بن سعيد في الجامع (٤).

لكنه ضعيف ، لما عرفت من الإجماعات على الخروج بالثانية ، وتأدّي الواجب بها ، وفي الذكرى : أنه خروج عن الإجماع من حيث لا يشعر قائله (٥).

أقول : ولولاه لأمكن القول بما قاله ، لظواهر ما مرّ من المستفيضة ، لكن معه لا يمكن القول به ، كما لا يمكن القول بتعيّن الاولى للخروج ووجوب الثانية ، كما عليه جماعة (٦) ، لما عرفت من أن بعد الخروج بها يتأدّى التحليل الذي لأجله وجب التسليم.

وأما الأخبار الآمرة بالثانية بعد الأولى فمحمولة على الاستحباب جدّا ، لعدم قائل بوجوبهما معا ، لذا قال الماتن :

( وبأيّهما بدأ كان الثاني مستحبا ) وهو حسن ، إلاّ أن ظاهره استحباب الاولى لو أتى بالثانية قبلها ، ولم يستفد هذا من الأدلة التي ذكرناها ، ومع ذلك مخالف للترتيب المعروف شرعا ، ولذا أنكره الشهيد رحمه‌الله فقال : إنه‌

__________________

(١) المهذب البارع ١ : ٣٨٨.

(٢) الدروس ١ : ١٨٣ ، الألفية : ٦٠ ، اللمعة ( الروضة البهية ١ ) : ٢٧٧.

(٣) الذكرى : ٢٠٨.

(٤) الجامع للشرائع : ٨٤.

(٥) الذكرى : ٢٠٨.

(٦) لم نعثر على من قال بتعيّن الاولى للخروج مع وجوب الثانية بعدها إلاّ ما يظهر من كلام صاحب البشرى المحكي في الذكرى : ٢٠٨ ، فقال : لا مانع أن يكون الخروج بالسلام علينا .. وان كان يجب السلام عليكم .. بعده. انتهى. نعم ، قال جماعة ـ منهم صاحب المدارك ٣ : ٤٣٦ ، وصاحب المفاتيح ١ : ١٥٢ ـ بالخروج بإحدى الصيغتين مع وجوب الثانية.

٢٤٩

قول مستحدث في زمان المحقق ومن قبله بزمان يسير (١) ، هذا.

والأحوط الجمع بينهما مع تأخير الثانية عن الاولى ، لجوازه ، بل استحبابه اتفاقا ، كما حكاه بعض أصحابنا (٢).

وأحوط منه عدم ترك التسليم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لمصير صاحب الفاخر إلى وجوبه (٣) ، ومال إليه الفاضل المقداد في كنز العرفان (٤) ، ويعضده الآية (٥) ، والموثقة السابقة وما بعدها (٦) المتضمنان للحصر السابق ، وإن كان في الاستدلال بهما على ذلك نظر ، لاحتمال التسليم في الأول الانقياد وغيره مما لا يتم معه الاستدلال ، ومنافاة الحصر في الثاني للإجماع ، كما مر.

مضافا إلى دعوى الفاضل الإجماع على استحباب هذا التسليم (٧) ، وجعل الشهيد القول بوجوبه غير معدود من المذهب (٨) ، مشعرا بل مؤذنا بمخالفته الإجماع بل الضرورة.

واعلم أنه قد اختلف الأصحاب في التعبير عن الصيغة الثانية ، فبين من عبّر عنها بما في العبارة ، كابن زهرة (٩) ، وبين من جعلها هو : السلام عليكم ، خاصة كالصدوق والعماني والإسكافي وغيرهم (١٠) ، وبين من زاد عليه : ورحمة‌

__________________

(١) كما في الذكرى : ٢٠٧.

(٢) كالفاضل الهندي في كشف اللثام ١ : ٢٣٣.

(٣) حكاه عنه في الذكرى : ٢٠٦.

(٤) كنز العرفان : ١٤٢.

(٥) الأحزاب : ٥٦.

(٦) المتقدمة في ص : ٢٤٦.

(٧) حكاه عنه في كنز العرفان : ١٤٢.

(٨) الذكرى : ٢٠٦.

(٩) حكاه عنه في البحار ٨٢ : ٣٠١.

(١٠) الصدوق في المقنع : ٢٩ ، وحكاه عن العماني والإسكافي في الذكرى : ٢٠٦.

٢٥٠

الله ، دون وبركاته ، كالحلبي (١).

ولعل منشأ الاختلاف اختلاف النصوص في التأدية ، مع اختلاف الأنظار في الجمع بينها ، فللأولين حمل ما دلّ منها على الناقص مطلقا على أن ترك الزيادة لأجل وضوحها من الخارج عملا ، وللمقتصرين على الناقص حمل الزيادة على الاستحباب.

والكل محتمل ، إلاّ أن الأحوط الأول ، وإن كان في تعينه نظر ، لما يظهر من المنتهى من عدم الخلاف في عدم وجوبه ، وأنه لو قال : السلام عليكم ورحمة الله جاز وإن لم يقل : وبركاته ، بلا خلاف (٢). ولا يبعد ترجيح الوسط ، لرجحانه بفتوى الأكثر.

( والسنة فيه : أن يسلّم المنفرد تسليمة ) واحدة ( إلى القبلة ) كما في الموثق وغيره المتقدمين ، والصحيح : « وإن كنت وحدك فواحدة مستقبل القبلة » (٣) ( ويومئ بمؤخر ) (٤) ( عينيه إلى يمينه ) على المشهور ، جمعا بين تلك النصوص والخبر المروي عن جامع البزنطي : « إذا كنت وحدك فسلّم تسليمة واحدة عن يمينك » (٥).

خلافا للمبسوط ، فتجاه القبلة (٦) ، كما هو ظاهر الأخبار الأوّلة مع قصور الرواية الأخيرة.

__________________

(١) الكافي في الفقه : ١١٩.

(٢) المنتهى ١ : ٢٩٦.

(٣) التهذيب ٢ : ٩٢ / ٣٤٥ ، الاستبصار ١ : ٣٤٦ / ١٣٠٣ ، الوسائل ٦ : ٤١٩ أبواب التسليم بـ ٢ ح ٣.

(٤) مؤخر العين ، مثال مؤمن : الذي يلي الصدغ. ومقدمها : الذي يلي الأنف. الصحاح ٢ : ٥٧٧.

(٥) المعتبر ٢ : ٢٣٧ ، الوسائل ٦ : ٤٢١ أبواب التسليم بـ ٢ ح ١٢.

(٦) المبسوط ١ : ١١٦.

٢٥١

وللصدوق ، فيميل بأنفه إلى يمينه (١) ، لرواية العلل الآتية (٢).

وربما قيل بالتخيير (٣) ، للرضوي : « ثمَّ تسلّم عن يمينك ، وإن شئت يمينا وشمالا ، وإن شئت تجاه القبلة » (٤).

وفيه مناقشة ، بل هو ظاهر في الدلالة على أفضلية اليمين ، فيكون نحو الرواية الأخيرة ، فيكون مؤيّدا لها ، مضافا إلى الشهرة.

والجمع بينهما وبين الروايات الأوّلة كما يمكن بطريق المشهور كذا يمكن بطريق الصدوق ، إلاّ أن الأوّل أقرب إلى مضمون الأوّلة ، والثاني أوضح ، لوضوح الشاهد عليه من الرواية ، وأوفق بما هو المتبادر من إطلاق : « عن يمينك » بل المتبادر منه ما كان الالتفات فيه بتمام الوجه. لكن عدل عنه اتفاقا ، للرواية ، وحذرا عن الالتفات المكروه اتفاقا ، فتوى ورواية.

ومع ذلك لعلّ الأوّل أولى ، للشهرة المرجحة ، وأوفقيته للأخبار المعتبرة الدالة على استقبال القبلة. وما قابلها من أخبار اليمين قاصرة الأسانيد أو ضعيفة ، فطرحها متعيّن ، إلاّ أن حملها على اليمين في الجملة ولو بمؤخر العين أولى جمعا تبرعيا ، إذ يكفي في صدق الإضافة أدنى الملابسة.

( و ) كذلك ( الإمام ) يسلم تسليمة واحدة إلى القبلة ، لكن يومئ ( بصفحة وجهه ) إلى يمينه.

أمّا أنه يسلّم واحدة إلى القبلة فللمعتبرة ، منها الصحيح : « إذا كنت إماما فسلّم تسليمة واحدة مستقبل القبلة » (٥) ونحوه الموثق وغيره المتقدمان (٦) ، وظاهر‌

__________________

(١) كما في المقنع : ٢٩ ، والفقيه ١ : ٢١٠.

(٢) في ص : ٢٥٥.

(٣) الحدائق ٨ : ٤٩٣ و٤٩٥.

(٤) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٠٩ ، المستدرك ٥ : ٢٢ أبواب التسليم بـ ٢ ح ١.

(٥) الكافي ٣ : ٣٣٨ / ٧ ، الوسائل ٦ : ٤١٩ أبواب التسليم بـ ٢ ح ١.

(٦) في ص : ٢٤٦.

٢٥٢

الخبر تقريرا ، وفيه : عن تسليم الإمام وهو مستقبل القبلة ، قال : « يقول : السلام عليكم » (١).

وأما استحباب الإيماء إلى اليمين فللجمع بينها وبين الصحيح : « إن كنت تؤمّ قوما أجزأك تسليمة واحدة عن يمينك » (٢).

وإنما جعل بصفحة الوجه أخذا بما هو المتبادر من اللفظ عند الإطلاق كما مر.

وفيه نظر ، لجريان هذا الوجه في المنفرد أيضا ، مع أنهم جعلوا الإيماء فيه بمؤخر العين مراعاة لحال الاستقبال مهما أمكن. ويمكن أن يكون الوجه الأخبار الدالّة على أن كلا من الإمام والمأمومين يسلّم على الآخر (٣) ، وهو يستلزم الميل بصفحة الوجه لا أقل منه ، وإنما اقتصروا عليه حذرا من الالتفات المكروه.

خلافا للمبسوط ، فكما مرّ (٤) ، لما مرّ. وفيه نظر.

وللصدوق ، فبعينه (٥) ، لرواية العلل (٦). وفيه ما مر.

( والمأموم ) يسلّم بـ ( تسليمتين ) بصفحة وجهه ( يمينا وشمالا ) إن كان على شماله أحد ، وإلاّ فعلى يمينه خاصّة مطلقا ، على المشهور ، كما يستفاد من المعتبرة المستفيضة ، بعد ضمّ بعضها مع بعضها ، ففي الصحيح : « وإن‌

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٢٣٦ ، الوسائل ٦ : ٤٢١ أبواب التسليم بـ ٢ ح ١١.

(٢) التهذيب ٢ : ٩٢ / ٣٤٥ ، الاستبصار ١ : ٣٤٦ / ١٣٠٣ ، الوسائل ٦ : ٤١٩ أبواب التسليم بـ ٢ ح ٣.

(٣) الوسائل ٦ : ٤١٩ أبواب التسليم بـ ٢.

(٤) المبسوط ١ : ١١٦.

(٥) كما في المقنع : ٢٩ ، والفقيه ١ : ٢١٠.

(٦) الآتية في ص : ٢٥٤.

٢٥٣

كنت مع إمام فتسليمتين » (١).

وإطلاقه بالإضافة إلى اليمين والشمال مقيّد بالمصرّح بهما ، كالصحيح : « إذا كنت في صفّ فسلّم تسليمة عن يمينك وتسليمة عن يسارك ، لأنّ عن يسارك من يسلّم عليك » (٢).

وإطلاقهما بالإضافة إلى التسليم على اليسار وإن شمل ما لو لم يكن فيه أحد ، لكن مقيّد بما دلّ على اشتراطه من المعتبرة ، كالصحيح : « الإمام يسلّم واحدة ، ومن وراءه يسلّم اثنتين ، فإن لم يكن على شماله أحد سلّم واحدة » (٣) ونحوه الموثق وغيره المتقدمان (٤) ، وغيرهما (٥).

مضافا إلى عدم معلومية انصراف إطلاق الصحيحين إلى من عدا محل المقيّد ، سيّما مع ما في ثانيهما من التعليل الظاهر في اختصاصه بالمقيّد ، فتدبّر.

ومنه يظهر عدم استقامة ما في العبارة من الإطلاق. كما لا استقامة لما فيها من التسليم بالوجه يمينا وشمالا ، الظاهر في تمامه لا صفحته خاصة ، لأن ذلك وإن كان أظهر من يتبادر من لفظ عن يمينك وعن يسارك كما مرّ ، إلاّ أنه مستلزم للالتفات المكروه بلا خلاف ، بل المحرّم كما قيل (٦) ، ففيما ذكره المشهور احتراز عن ذلك ، كما في الإمام.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٩٢ / ٣٤٥ ، الاستبصار ١ : ٣٤٦ / ١٣٠٣ ، الوسائل ٦ : ٤١٩ أبواب التسليم بـ ٢ ح ٣.

(٢) الكافي ٣ : ٣٣٨ / ٧ ، الوسائل ٦ : ٤١٩ أبواب التسليم بـ ٢ ح ١.

(٣) التهذيب ٢ : ٩٣ / ٣٤٦ ، الاستبصار ١ : ٣٤٦ / ١٣٠٤ ، الوسائل ٦ : ٤٢٠ أبواب التسليم بـ ٢ ح ٤.

(٤) في ص : ٢٤٦.

(٥) الوسائل ٦ : ٤٩١ أبواب التسليم بـ ٢.

(٦) كشف اللثام ١ : ٢٣٤.

٢٥٤

مع أنه روى الصدوق في العلل مسندا عن مفضّل بن عمر أنه سأله عليه‌السلام : لأيّ علّة يسلّم على اليمين ولا يسلّم على اليسار؟ قال : « لأن الملك الموكّل يكتب الحسنات على اليمين ، والذي يكتب السيّئات على اليسار ، والصلوات حسنات ليس فيها سيّئات ، فلهذا يسلّم على اليمين دون اليسار » قال : فلم لا يقال : السلام عليك ، وعلى اليمين واحد ، ولكن يقال : السلام عليكم؟ قال : « ليكون قد سلّم عليه وعلى من في اليسار ، وفضل صاحب اليمين عليه بالإيماء إليه » قال : فلم لا يكون الإيماء في التسليم بالوجه كلّه ولكن يكون بالأنف لمن صلّى وحده ، وبالعين لمن يصلّي بقوم؟ قال : « لأن مقعد الملكين من ابن آدم الشدقين ، فصاحب اليمين على الشدق الأيمن ويسلّم المصلّي عليه ليثبت له صلاته في صحيفته » قال : فلم يسلّم المأموم ثلاثا؟ قال : « تكون واحدة ردّا على الإمام ، وتكون عليه وعلى ملكيه ، وتكون الثانية على يمينه والملكين الموكّلين به ، وتكون الثالثة على يساره والملكين الموكّلين به ، ومن لم يكن على يساره أحد لم يسلّم على يساره ، إلاّ أن يكون يمينه إلى الحائط ويساره إلى من صلّى معه خلف الإمام فيسلّم على يساره » (١).

وأفتى بما فيه في الفقيه والمقنع (٢) ، إلاّ أنه قال : لا تدع السلام على يمينك كان على يمينك أحد أو لم يكن. كما في الصحيح المروي عن قرب الاسناد (٣). وقال : إنك تسلّم على يسارك أيضا إلاّ أن لا يكون على يسارك أحد ، إلاّ أن تكون بجنب الحائط فسلّم على يسارك ، ونحوه عن أبيه (٤). قال‌

__________________

(١) علل الشرائع : ٣٥٩ / ١ ، الوسائل ٦ : ٤٢٢ أبواب التسليم بـ ٢ ح ١٥.

(٢) الفقيه ١ : ٢١٠ ، المقنع : ٢٩.

(٣) قرب الإسناد : ٢٠٩ / ٨١٤ الوسائل ٦ : ٤٢٣ أبواب التسليم بـ ٢ ح ١٦.

(٤) حكاه عنه في الذكرى : ٢٠٨.

٢٥٥

الشهيد رحمه‌الله ولا بأس باتّباعهما ، لأنهما جليلان لا يقولان إلاّ عن تثبّت (١).

__________________

(١) الذكرى : ٢٠٨.

٢٥٦

( ومندوبات الصلاة ) أمور ( خمسة : )

( الأول : التوجه ) إليها ( بسبع تكبيرات منها ) التكبير ( الواجب ) فالمندوب ستة في الحقيقة ، بإجماع الإمامية ، على الظاهر ، المصرّح به في الانتصار والخلاف (١). والصحاح به مع ذلك مستفيضة.

ويستحب ( بينها ثلاثة أدعية ) مأثورة في الصحيح (٢) ، وكيفيتها كما فيه : أن ( يكبّر ثلاثا ثمَّ يدعو ) فيقول : اللهمّ أنت الملك الحق لا إله إلاّ أنت ، سبحانك ، إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي ذنبي ، إنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت ، ( و ) يكبّر ( اثنتين ثمَّ يدعو ) فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشرّ ليس إليك ، والمهديّ من هديت ، لا ملجأ منك إلاّ إليك ، سبحانك وحنانيك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك ربّ البيت ( ثمَّ ) يكبّر ( اثنتين ) تمام السبع ( ويتوجه ) بعد ذلك فيقول : ( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) ، عالم الغيب والشهادة ، حنيفا مسلما ( وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، ( إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا ) من المسلمين.

ودونها في الفضل الخمس ، ثمَّ الثلاث ، كما في الصحيحين (٣) ، وغيرهما (٤).

ويجزي التكبيرات ولاء كما في الموثق فعلا (٥).

__________________

(١) الانتصار : ٤٠ ، الخلاف ١ : ١٠٧.

(٢) الكافي ٣ : ٣١٠ / ٧ ، التهذيب ٢ : ٦٧ / ٢٤٤ ، الوسائل ٦ : ٢٤ أبواب تكبيرة الإحرام بـ ٨ ح ١.

(٣) الأول : الخصال : ٣٤٧ / ١٩ ، الوسائل ٦ : ٢٣ أبواب تكبيرة الإحرام بـ ٧ ح ٩.

الثاني : التهذيب ٢ : ٦٦ / ٢٤٢ ، الوسائل ٦ : ١٠ أبواب تكبيرة الإحرام بـ ١ ح ٤.

(٤) التهذيب ٢ : ٦٦ / ٢٣٩ ، الوسائل ٦ : ٢١ أبواب تكبيرة الإحرام بـ ٧ ح ٣.

(٥) التهذيب ٢ : ٢٨٧ / ١١٥٢ ، الخصال : ٣٤٧ / ١٧ ، الوسائل ٦ : ٢١ أبواب تكبيرة الإحرام بـ ٧ ح ٢.

٢٥٧

ويتخيّر في جعل أيّها شاء تكبيرة الإحرام بلا خلاف ، لكن في أفضلية جعلها الأولى أو الأخيرة وجهان ، بل قولان ، تقدم ذكرهما مع دليل أصل التخيير في بحث التكبير (١).

وهل يشمل ذلك الحكم جميع الصلوات ، أم يختص بالفرائض منها ، أم بها وبأوّل صلاة الليل والمفردة من الوتر وأوّل نافلة الزوال وأول نافلة المغرب وأوّل ركعتي الإحرام ، أم بهذه الست والوتيرة؟ أقوال.

أظهرها الأوّل ، وفاقا للأكثر ، بل قيل : الأشهر (٢) ، لإطلاق النصوص ، بل عموم جملة منها الناشئ من ترك الاستفصال ، المؤيد بالشهرة وقاعدة التسامح في أدلّة السنن ، وأنه ذكر الله تعالى.

مضافا إلى فحوى رواية ابن طاوس : « افتتح في ثلاثة مواطن بالتوجه والتكبير : في أوّل الزوال ، وصلاة الليل ، والمفردة من الوتر ، وقد يجزيك فيما سوى ذلك من التطوع أن تكبّر تكبيرة لكلّ ركعتين » (٣).

وفي لفظة الإجزاء دلالة على ما ذكرناه. ولا ينافيه الصدر ، لحمله على التأكّد ، وعليه أيضا يحمل الرضوي : « افتتح بالصلاة وتوجّه بعد التكبيرة ، فإنه من السنة الموجبة في ستّ صلوات وهي : أول ركعة من صلاة الليل ، والمفردة من الوتر ، وأول ركعة من نوافل المغرب ، وأوّل ركعة من ركعتي الزوال ، وأول ركعة من ركعتي الإحرام ، وأوّل ركعة من ركعتي الفريضة (٤) » (٥).

ولعله مستند القول الثالث. لكن ليس بصريح فيه ، لاحتماله إرادة‌

__________________

(١) راجع ص : ١٢٢.

(٢) قال في الكفاية : ٢٠ ، والحدائق ٨ : ٥٢ إنّه المشهور.

(٣) فلاح السائل : ١٣٠ ، المستدرك ٤ : ١٣٩ أبواب تكبيرة الإحرام بـ ٥ ح ١.

(٤) في المصدر : « ركعات الفرائض ».

(٥) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٣٨.

٢٥٨

التأكّد في هذه المواضع كما يقتضيه سياقه ، لا نفي الاستحباب في غيرها.

ثمَّ ظاهر إطلاق النصوص والفتاوى عدم اختصاص الاستحباب بالمنفرد ، وعمومه للجامع ، وهو أيضا صريح الصحيح : « وإذا كنت إماما فإنه يجزيك أن تكبّر واحدة تجهر فيها وتسرّ ستا » (١).

خلافا للمحكي عن الإسكافي ، فقال بالاختصاص (٢). وهو ـ مع عدم وضوح مأخذه ومخالفته لما مرّ ـ شاذّ. وحكى الشهيدان عنه أنه زاد بعد التوجه استحباب تكبيرات سبع زيادة على التكبيرات الافتتاحية وسبحانه الله سبعا ، والحمد لله سبعا ، ولا إله إلاّ الله سبعا ، ونسبه إلى الأئمة عليهم‌السلام (٣). ويناسبه الصحيح المروي في العلل : « تكبّر سبعا ، وتحمد سبعا ، وتسبّح سبعا ، وتحمد وتثني عليه ثمَّ تقرأ » (٤).

لكن في تطبيقه على قوله إشكال ، لخلوّه عن التهليل ، مع عدم دلالة على كون التكبيرات السبع غير السبع الافتتاحية ، كما هو ظاهره.

( الثاني : القنوت في كل ) ركعة ( ثانية ) من كل صلاة فريضة أو نافلة إجماعا ، كما في الانتصار والخلاف والمنتهى ونهج الحق للعلامة وعن المعتبر (٥) ، للصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة (٦).

وأما الأخبار المنافية لذلك (٧) مطلقا أو في الجملة ، فمحمولة على‌

__________________

(١) الخصال : ٣٤٧ / ١٨ ، الوسائل ٦ : ٣٣ أبواب تكبيرة الإحرام بـ ١٢ ح ١.

(٢) حكاه عنه في الذكرى : ١٨٠.

(٣) حكاه عنه الشهيد الأول في الذكرى : ١٧٩ ، والشهيد الثاني في شرح النفلية على نقل صاحب الحدائق ٨ : ٥٥.

(٤) علل الشرائع : ٣٣٢ / ٢ ، الوسائل ٦ : ٣٢ أبواب تكبيرة الإحرام بـ ١١ ح ١.

(٥) الانتصار : ٤٦ ، الخلاف ١ : ١٣٣ ، المنتهى ١ : ٢٩٨ ، نهج الحق : ٤٣٧ ، المعتبر ٢ : ٢٣٨.

(٦) الوسائل ٦ : ٢٦٦ أبواب القنوت بـ ٣.

(٧) الوسائل ٦ : ٢٦٩ أبواب القنوت بـ ٤.

٢٥٩

التقية ، أو على أن المراد بها بيان عدم الوجوب ، كما هو الأظهر الأشهر ، بل عليه عامّة من تأخّر ، بل ومن تقدّم أيضا عدا الصدوق في الفقيه ، فقال : إنه سنّة واجبة من تركه في كل صلاة فلا صلاة له (١) ، وفي المقنع والهداية : من ترك قنوته متعمّدا فلا صلاة له (٢). وهو شاذّ ، وإن وافقه العماني في نقل مشهور (٣) ، وفي آخر : إنه خصّ الوجوب بالصلاة الجهرية (٤).

وحجتهما غير واضحة عدا الآية الكريمة ( وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ ) (٥) وهي محتملة لمعان متعددة ، وحملها على المتنازع فيه فرع القول بثبوت الحقيقة الشرعية مطلقا حتى في لفظ القنوت في الآية ، مع أن الأخبار الواردة في تفسيرها بخلافه مصرّحة ، ففي المروي في تفسير العياشي في تفسير ( قانِتِينَ ) أي « مطيعين راغبين » (٦). وفي آخر مروي فيه أيضا : « مقبلين على الصلاة محافظين لأوقاتها » (٧). ونحوه روى علي بن إبراهيم في التفسير (٨).

نعم في مجمع البيان عن مولانا الصادق عليه‌السلام في تفسيرها : أي « داعين في الصلاة حال القيام » (٩).

وهو وإن ناسب المعنى الشرعي إلاّ أنه غير صريح فيه ، بل ولا ظاهر ، فإن الدعاء فيها حال القيام لا يستلزمه ، لأعمّيته منه ، مع تضمن الحمد الدعاء ،

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٠٧.

(٢) المقنع والهداية : ٣٥.

(٣) حكي عنه في المعتبر ٢ : ٢٤٣ ، والمختلف : ٩٦.

(٤) استظهره من كلامه الشهيد في الذكرى : ١٨٣.

(٥) البقرة : ٢٣٨.

(٦) تفسير العياشي ١ : ١٢٧ / ٤١٦.

(٧) تفسير العياشي ١ : ١٢٧ / ٤١٨ بتفاوت يسير.

(٨) تفسير القمي ١ : ٧٩.

(٩) مجمع البيان ١ : ٣٤٣.

٢٦٠