تاريخ مدينة دمشق - ج ٦٦

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]

تاريخ مدينة دمشق - ج ٦٦

المؤلف:

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]


المحقق: علي شيري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٢ الجزء ٣٣ الجزء ٣٤ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١ الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠

ومنهم : أبو الخير الأقطع ، وكان أوحد في طريقته في التوكل ، كان يأنس إليه السباع والهوام ، وكان حادّ الفراسة ، مات سنة نيف وأربعين وثلاثمائة.

قال أبو الخير (١) : دخلت مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا بفاقة ، فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقا (٢) ، فتقدمت إلى القبر ، وسلّمت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى أبي بكر وعمر ـ رضي‌الله‌عنهما ـ وقلت : أنا ضيفك الليلة يا رسول الله ، وتنحّيت ، ونمت خلف المنبر ، فرأيت في المنام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو بكر عن يمينه ، وعمر عن يساره (٣) ، وعلي بن أبي طالب بين يديه. فحركني عليّ ، وقال لي : قم ، قد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فقمت إليه ، وقبّلت بين عينيه ، فدفع إلي رغيفا ، فأكلت نصفه ، فانتبهت (٤) ، فإذا في يدي نصف رغيف.

وقال أبو الخير : لن يصفو قلبك إلّا بتصحيح النيّة لله تعالى ، ولن يصفو بدنك (٥) إلّا بخدمة أولياء الله تعالى.

وقال أبو الخير (٦) : ما بلغ أحد إلى حالة شريفة (٧) إلّا بملازمة الموافقة ، ومعانقة الأدب ، وأداء الفرائض ، وصحبة الصالحين ، وخدمة الفقراء الصادقين.

وقال : حرام على قلب مأسور بحب الدنيا أن يسبح في روح الغيوب.

وقال (٨) : القلوب ظروف ، فقلب مملوء إيمانا ، فعلامته الشفقة على جميع المسلمين ، والاهتمام بما يهمهم ، ومعاونتهم على ما يعود صلاحه إليهم (٩). وقلب مملوء نفاقا ، فعلامته (١٠) الحقد ، والغلّ ، والغشّ ، والحسد.

وقال (١١) : الدعوى رعونة لا يحتمل القلب إمساكها ، فيلقيها (١٢) إلى اللسان ، فتنطق

__________________

(١) الخبر في طبقات الصوفية للسلمي ٣٨٢ والطبقات الكبرى للشعراني ١ / ١٠٩ وصفة الصفوة ٤ / ٢٨٣.

(٢) الذواق : طعم الشيء ، أي أنه لم يذق شيئا من طعام أو شراب.

(٣) في صفة الصفوة وطبقات الصوفية : شماله.

(٤) في صفة الصفوة وطبقات الصوفية : وانتبهت.

(٥) في مختصر أبي شامة : و «وأن يصفو بذلك» والتصويب عن طبقات الصوفية للسلمي.

(٦) الخبر في صفة الصفوة ٤ / ٢٨٤ وحلية الأولياء ١٠ / ٣٧٨.

(٧) في مختصر أبي شامة : «شهية» تصحيف ، والصواب عن الحلية وصفة الصفوة.

(٨) الخبر في حلية الأولياء ١٠ / ٣٧٨.

(٩) في الحلية : ومعاونتهم على مصالحهم.

(١٠) في الحلية : وعلامته.

(١١) رواه ابن الجوزي في صفة الصفوة ٤ / ٢٨٣.

(١٢) في صفة الصفوة : فليقها إلى اللسان.

١٦١

بها ألسنة الحمقى (١) ، ولا يعرف الأعمى ما يبصره البصير من محاسنه وقباحه.

قال أبو القاسم القشيري (٢) :

ومنهم أبو الخير الأقطع. مغربي الأصل. سكن تينات ، وله كرامات ، وفراسة حادّة. كان كبير الشأن.

قال أبو الحسين القيرواني (٣) :

زرت أبا الخير التّيناتي ، فلما ودعته خرج معي إلى باب المسجد ، فقال : يا أبا الحسين (٤) ، أنا أعلم أنّك لا تحمل معك معلوما ، ولكن احمل هاتين التفاحتين. فأخذتهما ، ووضعتهما في جيبي وسرت. فلم يفتح لي بشيء ثلاثة أيام ، فأخرجت واحدة منهما ، فأكلتها ، ثم أردت أن أخرج الثانية فإذا هما في جيبي ، فكنت آكل منهما ، وتعودان ، إلى باب الموصل ؛ فقلت في نفسي : إنهما تفسدان علي حال توكلي إذا صارتا معلوما لي ، فأخرجتهما من جيبي بمرة ، فنظرت ، فإذا فقير (٥) ملفوف في عباءة يقول : أشتهي تفاحة ، فناولتهما إياه ، فلما عبرت وقع لي أن الشيخ إنما بعث بهما إليه ، وكنت في رفقة في الطريق ، فانصرفت إلى الفقير ، فلم أجده.

قال أبو نعيم الأصبهاني (٦) :

سمعت غير واحد ممن لقي أبا الخير يقول : إن سبب قطع يده أنه كان عاهد الله ألّا يتناول بشهوة نفسه شيئا مشتهيا (٧) ، فرأى يوما بجبل لكّام (٨) شجرة زعرور ، فاستحسنها ، فقطع منها غصنا ، فتناول منها شيئا من الزعرور ، فذكر عهده ، فتركه (٩). ثم كان يقول : قطعت غصنا فقطع مني عضو.

__________________

(١) إلى هنا الخبر في صفة الصفوة.

(٢) رواه أبو القاسم القشيري في الرسالة القشيرية ص ٣٩٤.

(٣) الخبر في صفة الصفوة ٤ / ٢٨٥.

(٤) في صفة الصفوة أنه رجل فقير يعرف بالأنصاري.

(٥) في صفة الصفوة : فإذا بعليل ينادي من الخراب.

(٦) رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء ١٠ / ٢٧٨.

(٧) في مختصر أبي شامة : مشتها ، والمثبت عن حلية الأولياء.

(٨) جبل اللكام : بالضم وتشديد الكاف ، ويروى بتخفيفها : الحبل المشرف على أنطاكية (معجم البلدان).

(٩) في الحلية : وتركه.

١٦٢

قال أبو ذر الهروي :

سمعت عيسى بن أبي الخير التّيناتي بمصر ـ وكان رجلا صالحا ـ وقلت له : لم كان أبوك أقطع؟ قال : ذكر لي أنّه كان عبدا أسود. قال : فضاق صدري في الملك ، فدعوت الله ، فأعتقت ، فكنت أجيء إلى الإسكندرية ، فاحتطب ، وأتقوت بثمنه ، وكنت أدخل المسجد أقف على الحلق ، وأعلم أنهم لا يعلّموني شيئا ، لأني عبد أسود ، فكنت أقف عليهم ، فيسهل الله على لسانهم ما كنت أريد أن أسأل عنه ، فأحفظه ، وأستعمل ذلك.

سمعت (١) مرة حكاية يحيى بن زكريا وما عملوا به ، فقلت في نفسي : إن الله ابتلاني بشيء في بدني صبرت. ثم خرجت إلى الثغر بطرسوس (٢) ، وكنت آكل المباحات ، ومعي حجفة (٣) وسيف. وكنت أقاتل (٤) العدو مع الناس ، فآواني الليل إلى غار هناك ، فقلت في نفسي : إني أزاحم الطير في أكل المباحات ، فنويت ألا آكل فمررت بعد ذلك بشجرة ، فقطعت منها شيئا ، فلما أردت [أن](٥) آكله ذكرت ، فرميته ، ثم دخلت المغارة بالليل ، فإذا هناك ... (٦) قطعوا الطريق ، ودخلوا إلى الغار قبلي ولم أعلم ، فلما دخلت إلى هناك ، فإذا نحن بصاحب الشرطة يطلبهم ، فدخل الغار ، فأخذهم ، وأخذني معهم ، فقدموا جميعا ، فقطعوا. فلما قدّمت قالت اللصوص : لم يكن هذا الأسود معنا ، وكان أهل الثغر يعرفونني ، فغطى الله عنهم حتى قطعوا يدي ، فلما مدّوا رجلي قلت : يا رب ، هذه يدي قطعت لعقد عقدته ، فما بال رجلي؟! فكأنه كشف عنهم ، وعرفوني ، وقالوا : هذا أبو الخير! واغتمّوا (٧). فلما أرادوا أن يغمسوا يدي في الزيت امتنعت ، وخرجت ، ودخلت الغار ، وبت ليلة عظيمة ، فأخذني النوم ، فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم ، فقلت : يا رسول الله ، فعلوا بي وفعلوا ، فأخذ يدي المقطوعة ، فقبّلها ، فأصبحت ولا أجد ألم الجرح ، وقد عوفيت.

وقال ابن جهضم : حدّثني بكر بن محمّد قال :

__________________

(١) كذا في مختصر أبي شامة ، وفي مختصر ابن منظور : ذكرت.

(٢) طرسوس : مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم (معجم البلدان).

(٣) الحجفة : الترس ، جمعها الحجف.

(٤) في مختصر ابن منظور : أغزو.

(٥) زيادة للإيضاح.

(٦) كلمة غير واضحة في مختصر أبي شامة.

(٧) الطبقات الكبرى للشعراني ١ / ١٠٩ باختلاف الرواية.

١٦٣

كنت عند الشيخ أبي الخير بالتينات ، فبسط محادثته لي إلى أن هجمت عليه ، فسألته عن سبب قطع يده ، وما كان منه ، فقال : يد جنت فقطعت. فظننت أنه كانت له صبوة في حداثته في قطع طريق أو نحوه مما أوجب ذلك ، فأمسكت. ثم اجتمعت معه بعد ذلك بسنين مع جماعة من الشيوخ ، فتذاكروا مواهب الله لأوليائه ، وأكثروا كرامات الله لهم ، إلى أن ذكروا طيّ المسافات ، فتبرم الشيخ بذلك ، فقال : لم يقولون : فلان مشى إلى مكة في ليلة ، [وفلان](١) مشى في يوم؟ أنا أعرف عبدا من عبيد الله حبشيا كان جالسا في جامع أطرابلس ، ورأسه في جيب مرقّعته ، فخطر له طيبة الحرم ، فقال في سرّه : يا ليتني كنت بالحرم ، ثم أمسك عن الكلام.

فتغامز الجماعة ، وأجمعوا على أنه ذلك الرجل.

وقال أبو القاسم بكر بن محمّد :

كنت عند أبي الخير التيناتي وجماعة اجتمعوا على أن يسألوه (٢) عن سبب قطع يده ، فقال : يد جنت ، فقطعت. فقيل : قد سمعنا منك هذا مرارا كثيرة ، أخبرنا كيف سببه؟ فقال : نعم.

أنتم تعلمون أني من أهل المغرب ، فوقعت في مطالبة السفر ، فسرت حتى بلغت إسكندرية ، فأقمت بها اثنتي عشرة سنة ، ثم سرت منها إلى أن صرت بين شطا (٣) ودمياط (٤) ، فأقمت أيضا اثنتي عشرة سنة. فقيل له : مكانك ، إلى هاهنا انتهينا ، الإسكندرية بلد عامر ، أمكن أن تقيم بها ، بين شطا ودمياط لا زرع ولا ضرع ، أي شيء كان قوتك اثنتي عشرة سنة؟ فقال : نعم ، كان في الناس خير في ذلك الزمان ، وان يخرج من مصر خلق كثير يرابطون بدمياط ، وكنت قد بنيت كوخا على شط الخليج ، فكنت أجيء من الليل إلى الليل إلى تحت السور ، فإذا أفطر المرابطون نفضوا سفرهم (٥) خارج السور ، فأزاحم الكلاب على قمامة السّفر ، فآخذ كفايتي ، فكان هذا قوتي في الصيف. فقالوا : ففي الشتاء؟ قال : نعم ، كان ينبت

__________________

(١) استدركت على هامش مختصر أبي شامة.

(٢) في مختصر أبي شامة : يسألونه.

(٣) شطا : بالفتح والقصر ، وقيل : شطاة : بليدة بمصر (معجم البلدان).

(٤) دمياط : مدينة قديمة بين تنيس ومصر على زاوية بين بحر الروم ونهر النيل (معجم البلدان).

(٥) سفرهم : السفرة بالضم ، طعام المسافر ، المعدّ للسفر ، والسفرة ما يوضع فيه الأديم. والسفرة التي يؤكل عليها ، وسميت لأنها تبسط إذا أكل عليها (تاج العروس).

١٦٤

حول الكوخ من هذا البردي (١) الجافي ، فيخصب في الشتاء ، فأقلعه ، فما كان منه في التراب يخرج غضا أبيض ، فآكله ، وأرمي بالأخضر الجافي. فكان هذا قوتي إلى أن نوديت (٢) في سري : يا أبا الخير ، تزعم أنك لا تزاحم الخلق في أقواتهم ، وتشير إلى التوكل ، وأنت في وسط المعلوم جالس؟ فقلت : إلهي وسيدي ومولاي ، وعزّتك لا مددت يدي إلى شيء مما تنبت الأرض حتى تكون أنت الموصلي إليّ رزقي من حيث لا أكون أنا أتولى فيه. فأقمت اثني عشر يوما أصلي الفرض وأتنفّل (٣) ، ثم عجزت عن النافلة ، فأقمت اثني عشر يوما أصلي الفرض لا غير ، ثم عجزت عن القيام ، فأقمت اثني عشر يوما أصلي جالسا ، ثم عجزت عن الجلوس ، فرأيت إن طرحت نفسي ذهب فرضي. فلجأت إلى الله بسري ، وقلت : إلهي وسيدي ومولاي افترضت علي فرضا تسألني عنه ، وضمنت لي رزقا فتفضل علي برزقي ، ولا تؤاخذني بما اعتقدته معك ، فوعزتك لأجتهدن ألا (٤) أخالف عقدي الذي عقدته معك. فإذا بين يدي رغيفان ـ وربما قال : قرصان ـ بينهما شيء ـ ولم يذكر الشيء ـ فكنت آخذه على دوار وقتي من الليل إلى الليل. ثم طولبت بالمسير إلى الثغر ، فسرت حتى دخلت مصر ، وكان ذلك يوم جمعة ، فوجدت في صحن الجامع قاصّا يقصّ على الناس ، وحوله حلقة ، فوقفت بينهم أسمع ما يقول ـ فذكر قصة زكريا والمنشار ـ وما كان من خطاب الله له حين هرب منهم ، فنادته الشجرة : إليّ يا زكريا ، فانفرجت له ، فدخلها ، ثم أطبقت عليه ، ولحقه العدو ، فتعلّق بطرف عبائه ، وناداهم : إليّ ، فهذا زكريا! ثم أخرج لهم حيلة المنشار ، فنشرت الشجرة حتى بلغ المنشار رأس زكريا ، فأنّ منه أنّة ، أوحى الله تعالى : يا زكريا ، لئن صعدت منك إليّ أنّة ثانية لأمحونّك من ديوان النبوة. فعضّ زكريا على الصّير (٥) حتى قطع بشطرين ، فقلت في نفسي : لقد كان زكريا صابرا ، إلهي وسيدي ومولاي لئن ابتليتني لأصبرنّ. ثم سرت حتى دخلت أنطاكية ، فرآني بعض إخواني ، وعلم أني أريد الثغر فدفع إليّ سيفا وترسا وحربة للسبيل ، فدخلت الثغر ، وكنت حينئذ أحتشم من الله أن أرى وراء سور خيفة العدوّ ، فجعلت مقامي بالنهار في غابة أكون فيها ، وأخرج بالليل إلى شط البحر ، فأغرز الحربة على

__________________

(١) البردي بالفتح نبات معروف واحدته بردية. (تاج العروس).

(٢) في مختصر أبي شامة : توفرت ، تصحيف ، وأثبتنا ما جاء في مختصر ابن منظور.

(٣) تنفل فلان : صلى النوافل ، والنافلة : ما تفعله مما لم يجب عليك ، ومنه نافلة الصلاة (تاج العروس : نفل).

(٤) في مختصر أبي شامة : أن لا أخالف.

(٥) الصير : الشقّ.

١٦٥

الساحل ، وأشد الترس إليها محرابا ، وأتقلد سيفي ، وأصلي إلى الغداة ، فإذا صليت الصبح غدوت إلى الغابة ، فكنت فيها نهاري أجمع. فبدرت في بعض الأيام ، فبصرت بشجرة بطم قد بلغ بعضه أخضر ، وبعضه أحمر ، قد وقع عليه الندى ، وهو يبرق ، فاستحسنته ، وأنسيت عقدي مع الله ، وقسمي به أني لا أمدّ يدي إلى شيء مما تنبت الأرض ، فرددت يدي إلى الشجرة ، فقطعت منها عنقودا ، وجعلت بعضه في فمي ألوكه ، فذكرت العقد ، فرميت ما في يدي ، وبزقت ما في فمي ، وقلت : حلّت المحنة ، ورميت الترس والحربة ، وجلست موضعي يدي ، على رأسي. فما استقر جلوسي حتى دار بي فرسان ، وقالوا لي : قم. فساقوني إلى أن أخرجوني إلى الساحل ، وإذا أمير بناس ... (١) جماعة على خيول ، ورجاله كثير وبين أيديهم جماعة سودان كانوا يقطعون الطريق قبل ذلك اليوم في ذلك المكان ، فأسرى إليهم أمير بناس في موضع الأكواخ فكبسهم في السجن وأخذ من كان منهم في الأكواخ وافترقت الخيل تطلب من هرب منهم في الغابة ، فوجدوني أسود معه سيف وترس وحربة فساقوني ، فلما قدّمت إلى الأمير ، وكان رجلا تركيا ، قال لي : أيش أنت ويلك؟ قلت : عبد من عبيد الله ، فقال للسودان : تعرفونه؟ قالوا : لا ، قال : بلى ، هو رئيسكم ، وإنما تفدونه بنفوسكم ، لاقطّعن أيديكم وأرجلكم. فقدّموهم ، فلم يزل يقدم رجلا رجلا يقطع أيديهم حتى انتهى إليّ آخرهم ، فقال لي : تقدم ، مدّ يدك ، فمددتها ، فقطعت ، ثم قال لي : مدّ رجلك ، فمددتها ، فرفعت سري (٢) إلى السماء وقلت : إلهي وسيدي ومولاي ، يدي جنت ، رجلي أيش عملت؟! فإذا بفارس قد أقبل وقف على الحلقة ، ورمى نفسه إلى الأرض ، وصاح : أيش تعملون ، تريدون أن تنطبق الخضراء على الغبراء؟ هذا رجل صالح يعرف بأبي الخير المناجي ـ وكنت حينئذ أعرف بالمناجي ـ فرمى الأمير نفسه عن فرسه ، وأخذ يدي المقطوعة من الأرض يقبّلها ، وتعلّق بي يقبّل صدري ، ويشهق ، ويبكي ، ويقول : ما علمت ، سألتك بالله اجعلني في حلّ. فقلت : جعلتك في حلّ من أول ما قطعتها ، هذه يد جنت فقطعت (٣).

فقال أبو الخير : ـ وهو يبكي ـ وأي مصيبة أعظم من مصيبتي هذه. يعني قطعت يدي وانقطع عني ... (٤).

__________________

(١) كلمة غير مقروءة في مختصر أبي شامة.

(٢) كذا في مختصر أبي شامة ، وفي الطبقات الكبرى للشعراني : ثم رفعت رأسي.

(٣) انظر الحكاية باختلاف في الطبقات الكبرى للشعراني ١ / ١٠٩ ـ ١١٠.

(٤) كلمة غير مقروءة في مختصر أبي شامة.

١٦٦

وقال أبو الخير (١) : جاورت بمكة سنة من السنين ، ومرّ عليّ بها شدائد ، وهمت نفسي بالسؤال ، فهتف بي هاتف : أما يستحي الوجه الذي تسجد لي به أن تبذله لغيري؟! فجلست.

وقال أبو الخير : من أنس بالله لم يستوحش من شيء.

قال أبو سعد إسماعيل بن علي الواعظ : سمعت جماعة من مشايخنا :

أن يوما صلّوا خلف أبي الخير الأقطع ، فلما سلّم قال رجل : لحن الشيخ. ففي نصف الليل خرج إلى البراز ، فرأى أسدا والشيخ يطعمه ، فغشي على الرجل ، فقال الشيخ : منهم من يكون لحنه في قلبه ، ومنهم من يكون يلحن بلسانه.

قال السّلمي (٢) : سمعت جدي إسماعيل بن نجيد (٣) يقول :

دخل على أبي (٤) الخير الأقطع بعض البغداديين ، وقعدوا يتكلمون بين يديه ، وضاق صدره ، فخرج ، فلمّا خرج جاء السبع ، ودخل البيت ، فسكتوا ، وانضمّ بعضهم إلى بعض ، وتغيّرت ألوانهم ، فدخل عليهم أبو الخير وقال : يا سادتي ، أي تلك الدعاوى؟

قال أبو القاسم القشيري :

وأبو الخير التّيناتي مشهور بالكرامات. حكي [عن](٥) إبراهيم الرقي (٦) أنّه قال : قصدته مسلّما ، فصلى صلاة المغرب ، فلم يقرأ الفاتحة مستويا ، فقلت في نفسي : ضاعت سفرتي. فلمّا سلمت خرجت للطهارة ، فقصدني السّبع ، فعدت إليه فقلت : إن الأسد قصدني ، فخرج ، وصاح على الأسد. وقال : ألم أقل لك لا تتعرّض لضيفاني؟ فتنحى. وتطهّرت ، فلما رجعت قال : اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتم الأسد ، واشتغلنا بتقويم القلب فخافنا الأسد.

قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ :

بكرت يوما إلى أبي عثمان المغربي (٧) ، فقعدت معه إلى أن أذنوا لصلاة الظهر ، ثم

__________________

(١) الخبر رواه ابن الجوزي في صفة الصفوة ٤ / ٢٨٣.

(٢) الخبر من طريقه رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء ١٠ / ٣٣٧.

(٣) هو إسماعيل بن نجيد بن أحمد بن يوسف ، أبو عمرو النيسابوري ، ترجمته في سير أعلام النبلاء (١٢ / ٢٨١ ت ٣٣٠٢) ط دار الفكر.

(٤) في مختصر أبي شامة «أبو» خطأ ، والصواب عن حلية الأولياء.

(٥) زيادة اقتضاها السياق.

(٦) هو إبراهيم بن داود الرقي ، أبو إسحاق ، من كبار مشايخ الشام ، انظر أخباره في الرسالة القشيرية ص ٤١٥.

(٧) اسمه سعيد بن سلام المغربي ، أبو عثمان ، واحد زمانه لم يوصف قبله مثله ، توفي بنيسابور سنة ٣٧٣ ، أخباره في الرسالة القشيرية ص ٤٣٤.

١٦٧

قلت : آذيت الشيخ. قال : ثم أقبل علي فقال : أنا لا أعرف الناس ، قد كان رجل بمكة يحمل إليّ الطعام ثلاث سنين وأنا لا أعرف اسمه ، ولكن أجدني قد أنست إليك ، فاعلم أن طريق السالكين أحكم من طريق أهل الروايات ؛ هذا الأسود الذي كان بالشام ـ يعني أبا الخير الأقطع ـ خرج إليه إبراهيم بن المولد (١) من العراق ، فوصل إليه عند المساء ، فنزل ، وتطهر ، وصلّى معه صلاة العتمة ، فازدرى به لقراءته ، ففطن أبو الخير لذلك ، فلما جن عليه الليل أخذ إبراهيم ركوته ، وذهب يجدد [وضوءا](٢) ، فبينا هو على ذلك إذ جاء سبع ، فوقف عليه ، فترك إبراهيم ركوته وعدا إلى المسجد ، فأدركه أبو الخير ، فقال : ما لك؟ قال : سبع! فخرج أبو الخير ، وأخذ بأذن السبع. وقال : يا أبا الحارث ، ألم أقل لك لا تؤذ الناس! وأخذ ركوة إبراهيم وردّها إليه.

قال أبو القاسم بكر بن محمّد :

ورد على أبي الخير رجل فقيه من العراق ، فلمّا وجبت صلاة العشاء خرج إلى المسجد وضيفه معه ، فتقدم الشيخ ، فصلّى بهم ، وكان في لسانه عجمة الحبش ، فلما فرغ من الصلاة قام الفقيه فأعاد صلاته التي صلّاها خلفه ، فلما كان من غد قدم الشيخ ضيفه فقال : تقدم ، صلّ بنا الصبح ، فإنك تحقّق القراءة أكثر منّي ، فتقدّم الرجل ، وصلّى بالشيخ ولجماعة ، ثم خرج الرجل بين الآجام (٣) ، فإذا به يصرخ ، فخرج الشيخ فدخل الأجمة ، فإذا بالرجل ملقى على ظهره ، والسبع على صدره ، فتقدم الشيخ إلى السبع ، فأخذ أذنه وقال : ويحك تخيف ضيفي!؟ ونحاه عن صدره ، فأقام الرجل مغشيا عليه ساعة ، وحمل إلى المسجد ، فلما أفاق قال له الشيخ : يا هذا ، لو حقّقت يقينك كما حققت قراءتك لكنت أحد رجال الله ، ففطن الرجل وقال : أيها الشيخ التوبة ، فقال : يا هذا ، لا يعرج إلى السماء إلّا كما نزل منها محقّقا ، ولي اجتهادي (٤) ، فصوب يقينك كما صوبت قراءتك ، ارفع سوء الظن عن عباد الله. فقال : سمعا لك وطاعة.

قال أبو ذرّ الهروي : سألت عيسى بن أبي الخير :

كيف كان حديث السبع معك؟ قال : كان أبي يخرج خارج الحصن ، وعنده آجام

__________________

(١) هو إبراهيم بن أحمد بن محمد أبو الحسن الزاهد الصوفي ، انظر أخباره في حلية الأولياء ١٠ / ٣٦٤.

(٢) استدركت عن هامش مختصر أبي شامة.

(٣) الآجام واحدتها أجمة بالتحريك ، الشجر الكثير الملتف (القاموس).

(٤) كذا في مختصر أبي شامة ، وفي مختصر ابن منظور : اجتهادك.

١٦٨

كثيرة ، وسباع ، وكان أبي يضرب السبع ويقول : لا تؤذ أصحابي. فلما كان ذات يوم قال : ادخل القرية فأتني بعيش (١) ، فتركت ما أمرني واشتغلت ألعب مع الصبيان بجفنة (٢) العشاء ، فغضب عليّ ، فقال : لأحملنك وأبيتنك في الأجمة ، فأخذني تحت إبطه وحملني إلى أجمة بعيدة لا أهتدي للطريق منها ، ورماني هناك ورجع ، فلم أزل أبكي وأصيح ، ثم أخذني النوم ، فانتبهت قريب السحر ، فإذا أنا بالسبع إلى جنبي ، وأبي قائم يصلي ، فلما فرغ قال له : قم فإن رزقك على الساحل. فقام السبع ومضى ، ثم نمت ، فلما أصبحت انتبهت وأبي قد ذهب ، فخرجت من الأجمة ، وعرفت الطريق ، وجئت إلى أبي.

قال أبو الحسن بن زيد :

ما كنا ندخل على أبي الخير وفي قلبنا سؤال إلّا تكلم علينا من ذلك الموضع من غير أن نسأله.

قال حمزة بن عبد الله العلوي :

دخلت على أبي الخير التيناتي ، وكنت اعتقدت في نفسي أن أسلم عليه وأخرج ولا آكل عنده طعاما. فلما خرجت من عنده ومشيت إذا به خلفي ، وقد حمل طبقا عليه طعام ، فقال : يا فتى ، كل هذا فقد خرجت الساعة من اعتقادك.

قال أبو الحسن علي بن محمود الزّوزني الصوفي :

كان أبو الخير التيناتي صاحب مشاهدة ، وكان يسميني : غلام الله ، وكنت أنبسط إليه. فقلت : يا سيدي ، بأيش وصلت إلى هذه الحال؟ فقال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم ، فقبّل صدري ، فأنا أرى من خلفي كما أرى من قدامي.

قال : وسمعت العراقي يحكي :

إني كنت ماضيا إلى التينات أزور الشيخ ، فالتقيت بإنسان بغدادي ، فقال لي : إلى أين تمضي؟ فقلت : إلى التينات أزور الشيخ ، فقال : إن نقم بزيارة إليه الساعة ، ندخل عليه ويقدم (٣) لنا الخبز واللبن ، وأنا لا أتمكن من أكله فإني صفراوي. فدخلنا على الشيخ ، فقام

__________________

(١) العبش : الطعام.

(٢) إعجامها مضطرب في مختصر أبي شامة ، ورسمها : بجبنة.

(٣) العبارة في مختصر أبي شامة : «فقال : أنا هم بنية الزيارة الساعة فدخل عليه وتقدم» صوبنا العبارة عن مختصر ابن منظور.

١٦٩

ودخل إلى بيته ، وجاء على يده قصعة فيها لبن وخبز ، وقال : كل أنت هذا ، وفي يده الأخرى رمان حلو وحامض ، فتركه بين يدي البغدادي ، فقال : كل أنت هذا ، ثم قال لي : من أين صحبت هذا فإنه بدعيّ (١)؟ وما كنت سمعت منه شيئا. فلما كان بعد عشر سنين رأيته بتنّيس (٢) وهو تاجر ، وإذا به معتزلي محض.

قال عبد العزيز البحراني ـ وكان يمشي حافيا في أسفاره ـ قال :

خرجت من البصرة حافيا ونعلي بيدي ، إذا وصلت إلى بلد تحظّيت فيهما ، وإذا خرجت حملتهما بيدي إلى أن دخلت الثغر ، فلما عدت من الغزو ، وأردت الخروج من الثغر أحببت أن ألقى أبا الخير التيناتي ، فعدلت إلى التينات ، فسألت صبيا على باب الزقاق : كيف الطريق إلى مسجد الشيخ؟ فقال : ما أكثركم! قد آذيتم هذا الشيخ الزّمن (٣) ، كم تأكلون خبز هذا الضعيف؟ فوقع في قلبي من قوله ، فاعتقدت ألا آكل (٤) طعاما ما دمت بتينات. وأتيته ، فبت عنده ليلتين ما قدّم لي شيئا ، ولا عرض عليّ [شيئا](٥). فلما خرجت ، وصرت بين الزيتون إذا به يصيح خلفي : قف. فالتفتّ ، فإذا به ، فقلت : أنا أرجع إليك ، فاستقبلته ، فدفع إليّ ثلاثة أرغفة ملطوخة بلبن (٦) ، وقال لي : كل هذه فقد خرجت من عقدك ، ثم قال : أما سمعت قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الضيف إذا نزل نزل برزقه»؟ فقلت : بلى ، قال : فلم شغلت قلبي بقول صبي؟ فاعتذرت إليه ، وسرت [١٣٣٣٨].

وقال أبو الحسن العراقي :

قدم أبو الخير تنّيس ، فقال لي : قم نصعد السور نكبّر ، فصعدت معه ، ثم قلت في نفسي ونحن على السور : هذا عبد أسود قد نال ما هو فيه ، فالتفت إليّ وقال : (يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)(٧) ، فلمّا سمعت ذلك فزعت ، وغشي علي ، فمرّ وتركني ، فلما أفقت

__________________

(١) بدعي يعني أنه صاحب بدعة ، والبدعة بالكسر : الحدث في الدين بعد الإكمال ، أو هي ما استحدث بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأهواء والأعمال. وقال ابن الأثير : البدعة : بدعتان : بدعة هدى ، وبدعة ضلال. (انظر تاج العروس : بدع).

(٢) تنيس : بكسرتين وتشديد النون : جزيرة في بحر مصر قريبة من البر ، ما بين الفرما ودمياط (معجم البلدان).

(٣) الزمن : الزمانة : العاهة ، زمن زمنا فهو زمن وزمين وأزمن الله فلانا : جعله زمنا أي مقعدا ، أو ذا عاهة (تاج العروس : زمن).

(٤) في مختصر أبي شامة : أن لا آكل.

(٥) ليست في مختصر أبي شامة ، زيادة للإيضاح.

(٦) في مختصر أبي شامة : بين.

(٧) سورة البقرة ، الآية : ٢٣٥.

١٧٠

جعلت أذمّ نفسي ، وأستغفر مما جرى في نفسي ، فجاءني ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ)(١). فقمت معه.

قال أبو ذر الهروي : وسمعت عيسى بن أبي الخير ، سمعت أبي يقول :

الآن يدخل رجل عليه ثياب ـ ذكرها ـ فلما كان بعد ساعة قال أبي : بين يديه ظلمة نعوذ بالله. فلما دخل سلّم عليه أبي وقال : من أين أتيت؟ قال : من الجبل الفلاني ، قال : وما تعمل هناك؟ قال : أتزهّد وأتعبد ، قال : وأيش هذه الظلمة بين يديك؟ فقال الرجل : ليس إلّا خير. فسكت ، ثم رفع رأسه فقال : أعوذ بالله! أرى في عنقك رأسا ، ما هذا؟ فبكى الرجل ، ولطم نفسه ، وقال : اعلم أنّي بليت في شبابي بقتل ، وقد تبت من ذلك من سنين ، فما الحيلة؟ قال : ارجع إلى الجبل ، وأخلص النية لله ، فلعله يقبل توبتك.

وقال أبو الخير : كنت واقفا أركع ، فإذا أنا بإبليس اللعين قد جاء في صورة حية عظيمة ، فتطوق بين يدي سجودي ، فنفضته وقلت : يا لعين ، لو لا أنّك نجس لسجدت على ظهرك.

وقال : كنت بأطرابلس الشام بعد عشاء الآخرة ، وقد مضى من الليل وقت ، فذكرت الحرم وطيبة (٢) ، فاشتد شوقي إليه ، فقلت : أيش أعمل الساعة؟ فسجدت ، ورفعت رأسي ، فإذا أنا في المسجد الحرام.

وقال : أشرفت على .... (٣) فرأيت أكثر أهلها أصحاب .... (٤) والمرقعات. قال : فسمعت بعد ذلك عن بعض الفقراء أنّه قال : ما استوجبوا ذلك إلّا بقلة .... (٥).

قال بكر بن محمّد : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله ـ ويعرف بابن أم راغب ـ قال :

دخلت على الشيخ أبي الخير التيناتي في مسجده ، فإذا هو مع شخص يحدثه ، فقال

__________________

(١) سورة الشورى ، الآية : ٢٥.

(٢) طيبة : المدينة النبوية ، وطيبة بالكسر : اسم بئر زمزم (تاج العروس).

(٣) كلمة غير مقروءة في مختصر أبي شامة.

(٤) كلمة غير مقروءة في مختصر أبي شامة.

(٥) كلمة غير مقروءة في مختصر أبي شامة.

١٧١

لي : يا إبراهيم ، اخرج وردّ الباب ، فخرجت ، وجلست بالباب طويلا ، وكانت بي حاجة إليه ، فقلت في نفسي : إن كانا في سرّ فقد فرغا. ففتحت الباب ، ودخلت ، وإذا به جالس وحده ، فقلت : حبيبي ، أين الرجل الذي كان معك ، فإنه لم يخرج؟ فقال : يا بني ، هو لا يخرج من الباب ، فقلت : من هو؟ قال : هو الخضر ، فبكيت ، فقال : لم تبكي؟ قلت : لو عرفت لسألته الدعاء. ثم مضت مديدة ، ففتح على الشيخ نقود تركية ، فقال : يا بني ، لو حملت إلى الأذنة فبعته ، وابتعت به حوائج ـ ذكرها ـ. فانحدرت ، فاشتريت الحوائج ، وحملتها في كساء على ظهري ، فلقيت رجلا في الطريق ، فسلم علي ، وقد بقي إلى التينات ستة أميال ، فقال : يا أخي قد تعبت ، فناولني أحمل عنك ، فناولته ، فحملها ، وجعل يحادثني بأخبار الصالحين حتى بلغنا التينات ، فدفعها ، وودعني ، وقال : تقرأ على الشيخ منّي السّلام ، فقلت : حبيبي ، أقول من؟ قال : هو يعرف. فلما دخلت على الشيخ قال لي : يا إبراهيم ، ما استحييت ، حمّلته ستة أميال؟ ما حسدتك ، وحسدتني على كلامه إياي؟ فبكيت ، وقلت : هو هو؟ قال : هو هو ولا حيلة ، تبكي إذا لم تلقه ، وتبكي إذا لقيته!.

قال أبو الحسن جعفر بن هارون السيرواني :

أنفذ أبو علي للمستولي إلى أبي الخير الأقطع صرّة دنانير مع أبي عوانة ، فأخذ الصرّة ، فقسمها وجعلها قسمين ، ثم أخذ قسما وقال : هذا يصلح لنا ، وذاك لا يصلح لنا. فرد ما ردّه من الدنانير إلى أبي علي ، فدعا بوكلائه وقال : من أين حملت هذه الدنانير؟ قالوا : وقفت على بغلة فبعناها على بعض الأخشادية ، فقال أبو علي : من هاهنا أتينا.

قال أبو ذرّ : سمعت عيسى يقول :

كان خيثمة بن سليمان يبعث كلّ سنة لي شيئا. فلمّا كان بعض السنين بعث لي ذلك مع رجل ، فإذا بين الدراهم التي بتينات وبين الذي معه صرف ، فباع ما معه بدراهم تينات ، وأخذ الزيادة لنفسه ، ثم جاء اليّ ، وأعطاني ، فخرج أبو الخير إلى الطرابلس من يومه ، فإذا بخيثمة قد خرج إلى الصحراء لبعض شأنه ، فلما رآه عرفه. وترجّل له. وقبّل رأسه ، وقال له : ما الذي أقدمك؟ فقال : كنت تبعث لنا في كل سنة بشيء طيب ، وهذا ليس بطيّب ، والذنب للرسول ، ولكن لا تعاقبه ، ولا تستعمله أبدا. وترك تلك الدراهم عنده ورجع ، فرجع الرسول بعد أيام ـ قال خيثمة : وكنت كتبت اليوم الذي رأيت فيه أبا الخير ـ فقال : قدمت تينات وسلمت إليه ما أمرتني في يوم كذا وكذا. قال : وهو اليوم الذي جاءني أبو الخير ، وبين تينات وبين

١٧٢

طرابلس مسيرة أيّام فوق العشرة ، فأخرجت إلى الرسول الصرّة ، .... (١) وفزع. فقلت لو لا أنّه قال : أن لا أعاقبك لعاقبتك (٢) ، ولكن مرّ ، فليس تصلح لخدمتي.

قال أبو الخير (٣) : من أحب أن يطلع النّاس على عمله فهو مراء ، ومن أحب ألّا يطلع الناس على حاله فهو مدّع كذّاب.

قال أبو القاسم بكر بن محمّد المنذري :

سألني أبو حفص عمر بن عبد الله الأسواني (٤) عن أبي الخير التيناتي فقلت : قد نحل جسمه ، فقال : قربت وفاته ، قلت : من أين قلت؟ قال : ما هو بمريد فتنحله الرياضة ، ولا بخائف تذيبه الهموم ، وما هو إلّا يصفيه حتى يقبضه إليه. قال : فوصل الخبر بعد مديدة بوفاته ـ رحمه‌الله ـ.

قال أبو القاسم : وسمعت أبا الخير التيناتي يقول :

بعثت إلى الثغور ، فبكيت ، فقيل لي : هي محروسة ما عشت ، وفلان ، وفلان ، وفلان ـ طائفة من الأخيار ـ ما بقي منهم غيري ، كلهم ماتوا.

قال السلمي : سمعت أبا الأزهر يقول :

عاش أبو الخير التيناتي مائة وعشرين سنة ، ومات سنة تسع وأربعين وثلاثمائة ، أو قريبا منه (٥).

حرف الدال

٨٤٩٤ ـ أبو دوس الأشعري

حدّث عن معاوية.

روى عنه : يزيد بن سنان الأشعري.

__________________

(١) كلمة غير مقروءة في مختصر أبي شامة.

(٢) من قوله : فأخرجت إلى هنا ، سقط من مختصر ابن منظور.

(٣) رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء ١٠ / ٣٧٧.

(٤) الأسواني بفتح الألف وسكون السين المهملة ، نسبة إلى أسوان ، وهي بلدة بصعيد مصر. (الأنساب ١ / ١٥٨).

(٥) جاء في الرسالة القشيرية أنه مات سنة ٣٤٠ ه‍ (ص ٣٩٤) وقال الشعراني في الطبقات الكبرى ١ / ١٠٩ : مات بمصر سنة نيف وأربعين وثلاثمائه ودفن بجنب منارة الديلمية بالقرافة الصغرى. وقال ابن الجوزي في صفة الصفوة ٤ / ٢٨٥ وتوفي بعد الأربعين وثلاثمائة.

١٧٣

[حرف (١) الذال]

٨٤٩٥ ـ أبو ذرّ الغفاري (٢)

صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

اختلف في اسمه اختلافا كبيرا ، والأظهر أنّه جندب بن جنادة. وهو من أعيان الصحابة. قديم الإسلام. أسلم بمكة قبل الهجرة ، ورجع إلى بلاد قومه ، ولم يشهد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدرا.

وحدّث عنه بأحاديث كثيرة.

روى عنه : أبو سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري ، وابن عباس ، وابن عمر ، وأنس ، ومعاوية بن حديج ، ويزيد بن وهب ، والمعرور بن سويد ، وعبد الله بن الصامت ، ويزيد بن شريك ، وجبير بن نفير ، وأبو مسلم الخولاني وأبو إدريس الخولاني ، وموسى بن طلحة بن عبيد الله ، وأبو الأسود الدولي ، وخرشة بن الحر ، وربعي بن حراش ، وزر بن حبيش ، وأبو الشعثاء ، وأبو السليل ضريب بن نفير ، وغيرهم.

وشهد فتح بيت المقدس ، والجابية مع عمر بن الخطّاب ، وقدم دمشق ، ورآه بها الأحنف بن قيس ، وقيل : ببيت المقدس ، وقيل : بحمص.

وذكر أبو بكر البلاذري قال (٣) :

بنى معاوية الخضراء بدمشق ، فقال له أبو ذرّ : إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف. فسكت معاوية.

وقال محمّد بن سعد (٤) : أخبرنا محمّد بن عمر ، حدّثنا خالد بن حيان قال :

كان أبو ذر وأبو الدرداء في مظلتين من شعر بدمشق.

__________________

(١) سقط القسم الكبير من ترجمة أبي ذر الغفاري ، نستدرك القسم الساقط من مختصر أبي شامة ، ووضعنا القسم المأخوذ عنه بين معكوفتين ، وسنشير إلى نهايته في موضعه.

(٢) ترجمته في تهذيب الكمال ٢١ / ٢١٣ وتهذيب التهذيب وتقريبه : ١٠ / والإصابة ٤ / ٦٢ والاستيعاب ٤ / ٦١ (هامش الإصابة) وأسد الغابة ٥ / ٩٩ وطبقات ابن سعد ٤ / ٢١٩ والتاريخ الكبير ٢ / ٢٢١ وحلية الأولياء ١ / ١٥٦ وسير الأعلام : (٣ / ٣٧٨ ت ١٠٦) ط دار الفكر وأنساب الأشراف ٦ / ١٦٦.

(٣) الخبر في أنساب الأشراف ٦ / ١٦٧ طبعة دار الفكر.

(٤) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٤ / ٢٣٦ وعن ابن سعد رواه الذهبي في سير الأعلام (٣ / ٣٨٠) ط دار الفكر.

١٧٤

وقال الأحنف بن قيس :

دخلت مسجد دمشق فإذا رجل يكثر الركوع والسجود. قلت : لا أخرج حتى أنظر أعلى شفع يدري هذا ينصرف أم على وتر ، فلما فرغ قلت : يا أبا عبد الله أعلى شفع تدري انصرفت أم على وتر؟ فقال : إلّا أدر فإنّ الله يدري ؛ إني سمعت خليلي أبا القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم بكى ، ثم قال : سمعت خليلي أبا القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «ما من عبد يسجد لله سجدة إلّا رفعه الله بها درجة وحطّ عنه بها خطيئة» ، قلت : من أنت ، رحمك الله؟ قال : أنا أبو ذر. قال الأحنف : فتقاصرت إليّ نفسي ممّا وقع في نفسي عليه.

وقال أبو ذر :

قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتق الله حيثما كنت ، واتبع السنة الحسنة ... (١) وخالق الناس بخلق حسن».

قال أبو زرعة :

وممن نزل الشام من مصر أبو ذرّ جندب بن جنادة الغفاري ، نزل بيت المقدس يوم ارتحله عثمان إلى المدينة.

قال ابن سعد في الطبقة الثانية (٢) :

وأبو ذرّ ، واسمه جندب بن جنادة ـ وساق نسبه إلى غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار ـ.

قال : وكان خامسا في الإسلام ، ولكنه رجع إلى بلاد قومه ، فأقام بها حتى قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك ، وتوفي لأربع سنين بقيت من خلافة عثمان ، وصلّى عليه عبد الله بن مسعود بالرّبذة ـ زاد غيره : سنة اثنتين وثلاثين ـ.

ووقع في طبقات ابن سميع أنه بدريّ ، وهو وهم ؛ فإن أبا ذرّ لم يشهد بدرا.

وقال البخاري (٣) :

هاجر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. حجازي. ومات بالرّبذة في زمن عثمان.

__________________

(١) كلمة غير واضحة في مختصر أبي شامة.

(٢) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٤ / ٢١٩ و ٢٢٤ و ٢٢٦.

(٣) التاريخ الكبير للبخاري ٢ / ٢٢١.

١٧٥

قال أبو أحمد الحاكم :

أبو ذر جندب بن جنادة ـ ويقال : برير بن جندب ، ويقال : برير بن جنادة ، ويقال : جندب بن عبد الله ، ويقال : جندب بن السكن. والمشهور : جندب بن جنادة ـ الحجازي.

له صحبة. وأمّه : رملة بنت الوقيعة (١) ، من بني غفار أيضا.

قال ابن يونس :

شهد فتح مصر ، واختط بها ، حدّث عنه من أهل مصر عمرو بن العاص وأبو بصرة الغفاري ومعاوية بن حديج (٢) ، وذكر غيرهم.

قال ابن مندة :

ويقال : إن اسم أبي ذر جنادة بن السكن ، روى عنه عمر بن الخطاب وجماعة من الصحابة.

قال أبو نعيم :

اختلف في اسمه ونسبه ، وكان يتعبد قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثلاث (٣) سنين ، يقوم بالليل مصليا ، حتى إذا كان آخر الليل سقط كأنّه خرقة ، ثم أسلم بمكة في أول الدعوة ، وهو رابع الإسلام ، وهو أول من حيّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحية الإسلام ، وبايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ألّا تأخذه في الله لومة لائم ، ثم كان يشبه بعيسى بن مريم عبادة ونسكا ، لم يتلوث بشيء من فضول الدنيا حتى فارقها. ثبت على العهد الذي بايع عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التخلي عن فضول الدنيا ، والتبري منها ؛ كان يرى إقبالها محنة وهوانا ، وإدبارها نعمة وامتنانا. حافظ على وصيّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم له في محبّة المساكين ومجالستهم ، ومباينة المكثرين في مفارقتهم. كان يخدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا فرغ منه أوى إلى مسجده ، واستوطنه. سيّد من آثر العزلة والوحدة ، وأوّل من تكلم في علم الفناء والبقاء. وكان وعاء مليء علما فربط عليه.

كان رجلا آدم طويلا أبيض الرأس واللحية ، توفي بالرّبذة ، فولي غسله وتكفينه والصلاة عليه عبد الله بن مسعود في نفر كان منهم حجر بن الأدبر ، سنة اثنتين وثلاثين ، ودفن بها.

__________________

(١) في مختصر أبي شامة : «الرقيعة» والمثبت عن الإصابة وأسد الغابة.

(٢) في مختصر أبي شامة : خديج.

(٣) في مختصر أبي شامة : ثلاث.

١٧٦

وكان يؤاخي سلمان الفارسي. لم تقلّ الغبراء ، ولم تظل الخضراء على ذي لهجة أصدق منه (١).

قال أحمد بن حنبل (٢) ، حدّثنا إسماعيل ، حدّثنا أيوب عن أبي قلابة ، عن رجل من بني عامر قال :

كنت كافرا فهداني الله إلى الإسلام ، وكنت أعزب عن الماء ، ومعي أهلي ، فتصيبني الجنابة ، فوقع ذلك في نفسي ، وقد نعت لي أبو ذرّ ، فحججت ، فدخلت مسجد منى ، فعرفته ، بالنعت (٣) ، فإذا شيخ معروق (٤) آدم عليه [حلة](٥) قطريّ (٦).

وقال الأحنف بن قيس (٧) :

قدمت المدينة ، فدخلت مسجدها ، فبينما أنا أصلي إذ دخل رجل آدم طوال أبيض الرأس واللحية محلوق ، يشبه بعضه بعضا. قال : فخرج ، فاتّبعته ، فقلت : من هذا؟ قالوا : أبو ذرّ.

وفي صحيح مسلم (٨) : حدّثنا هدّاب بن خالد الأزدي [وقال محمّد بن سعد (٩) : أخبرنا هاشم بن القاسم الكناني أبو النضر قالا :](١٠) حدّثنا سليمان بن المغيرة (١١) ، أخبرنا حميد بن هلال ، عن عبد الله بن الصامت قال : قال أبو ذرّ :

خرجنا من قومنا غفار ، وكانوا يحلّون الشهر الحرام ، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمّنا ، فنزلنا على خال لنا ، فأكرمنا خالنا ، وأحسن إلينا ، فحسدنا قومه ، فقالوا : إنّك إذا خرجت عن

__________________

(١) في الاستيعاب ٤ / ٦٤ (هامش الإصابة) روى بسنده إلى أبي الدرداء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر.

(٢) رواه أحمد بن حنبل في المسند ٨ / ٦٨ رقم ٢١٣٦٢ طبعة دار الفكر والإصابة ٤ / ٦٣.

(٣) رسمها في مختصر أبي شامة : «مالنعب» وفي مختصر ابن منظور : «فالتفت» والمثبت عن مسند أحمد.

(٤) تحرفت في مسند أحمد إلى : «معروف» ومعروق : قليل اللحم.

(٥) زيادة عن المسند.

(٦) قطري : بكسر القاف وسكون الطاء : ضرب من البرود ، في حمرة.

(٧) رواه الذهبي في سير الأعلام ٢ / ٥٠.

(٨) صحيح مسلم (٤٤) كتاب فضائل الصحابة (٢٨) باب رقم ٢٤٧٣ (ج ٤ / ١٩١٩).

(٩) ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٤ / ٢١٩.

(١٠) ما بين معكوفتين استدرك عن هامش مختصر أبي شامة.

(١١) ومن طريقه رواه الذهبي في سير الأعلام (٣ / ٣٨٠) ط دار الفكر.

١٧٧

أهلك خالف إليهم أنيس. فجاء خالنا ، فثنا (١) علينا الذي قيل له ، فقلت : أمّا ما مضى من معروفك فقد كدّرته ، ولا جماع لك (٢) فيما بعد. فقرّبنا (٣) صرمتنا (٤) ، فاحتملنا عليها ، وتغطّى خالنا بثوبه فجعل يبكي. فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة ، فنافر (٥) أنيس عن صرمتنا وعن مثلها ، فأتيا الكاهن ، فخيّر أنيسا ، فأتانا (٦) أنيس بصرمتنا ومثلها معها.

قال : وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثلاث سنين ، قلت : لمن؟ قال : لله ، قلت : فأين توجّه؟ قال : أتوجه حيث يوجهني ربي ، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأنّي خفاء (٧) حتى تعلوني الشمس. فقال أنيس : إنّ لي حاجة بمكة ، فاكفني. فانطلق أنيس حتى أتى مكة ، فراث عليّ (٨) ، ثم جاء ، فقلت : ما صنعت؟ قال : لقيت رجلا بمكة على دينك ، يزعم أن الله أرسله. قلت : فما يقول الناس؟ قال : يقولون : شاعر ، كاهن ساحر ـ وكان أنيس أحد الشعراء ـ قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة ، فما هو بقولهم ، ولقد وضعت [قوله](٩) على أقراء الشعر (١٠) فما يلتئم على لسان أحد يعدو أنه (١١) شعر ، والله إنه لصادق ، وإنهم لكاذبون.

قال : قلت : فاكفني حتى أذهب فأنظر ـ زاد في رواية أخرى : قال : نعم ، وكن على حذر من أهل مكة ، فإنهم قد شنفوا (١٢) له ، وتجهّموا (١٣) ـ.

قال : فأتيت مكة ، فتضعّفت (١٤) رجلا منهم ، فقلت : أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟

__________________

(١) فثنا علينا الذي قيل له : أي أشاعه وأفشاه.

(٢) في مختصر أبي شامة : «لي» والمثبت عن صحيح مسلم.

(٣) في سير الأعلام : فقدمنا.

(٤) الصرمة : القطعة من الإبل.

(٥) نافر : حاكم ، يقال : نافرت الرجل منافرة إذا قاضيته ، والمنافرة : المفاخرة والمحاكمة ، فيفخر كل واحد من الرجلين على الآخر.

(٦) في مختصر أبي شامة : «فأبى» والمثبت عن صحيح مسلم.

(٧) الخفاء : الكساء ، وجمعه أخفية.

(٨) أي أبطأ.

(٩) استدركت عن هامش مختصر أبي شامة.

(١٠) واحدها قرء ، وأقراء الشعر : طرقه وأنواعه.

(١١) في صحيح مسلم : «بعدي أنه شعر» وفي طبقات ابن سعد : «بعيد أنه شعر».

(١٢) بدون إعجام في مختصر أبي شامة ، والمثبت عن صحيح مسلم ٤ / ١٩٢٣ وفي طبقات ابن سعد : شنعوا.

(١٣) يعني قابلوه بوجوه غليظة وكريهة.

(١٤) في ابن سعد : «فاستضعفت» وتضعفت رجلا منهم : أي نظرت إلى أضعفهم.

١٧٨

فأشار إليّ ، فقال : هذا الصابئ ، فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا عليّ ، فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب (١) أحمر ، فأتيت زمزم ، فغسلت عني الدماء ، وشربت من مائها ، ولقد لبثت يا بن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم ، ما كان لي طعام إلّا ماء زمزم ، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني ، وما وجدت على كبدي سخفة (٢) جوع.

قال : فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان (٣) إذ ضرب الله على أسمختهم (٤) ، فما يطوف بالبيت أحد منهم غير امرأتين ، فأتتا عليّ وهما يدعوان إسافا ونائلة ، فقلت : هن مثل الخشبة ـ غير أني لا أكني ـ فانطلقتا تولولان ، وتقولان : لو كان هاهنا أحد من أنفارنا! فاستقبلهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وهما هابطان (٥) ، قال : «ما لكما»؟ قالتا : الصابئ بين الكعبة وأستارها ، قال : «ما قال لكما»؟ قالتا : إنّه قال لنا كلمة تملأ الفم (٦). وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى استلم الحجر ، وطاف بالبيت هو وصاحبه ، ثم صلّى ، فلما قضى صلاته كنت أوّل من حيّاه بتحية الإسلام ، فقال : «وعليك ورحمة الله ، ممن أنت»؟ قلت : من غفار ، فأهوى بيده ، فوضع أصابعه على جبهته ، فقلت في نفسي : كره أن انتميت إلى غفار ، فذهبت آخذ بيده ، فقدعني (٧) صاحبه ، وكان أعلم به مني ، فرفع رأسه ثم قال : «متى كنت هاهنا»؟ قلت : منذ ثلاثين بين ليلة ويوم ، قال : «فمن كان يطعمك؟» قلت : ما كان لي طعام إلّا ماء زمزم ، فسمنت حتى تكسّرت عكن بطني ، فما وجدت على كبدي سخفة جوع. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنها مباركة ، إنها طعام طعم» (٨).

فقال أبو بكر : يا رسول الله ، ائذن لي في إطعامه الليلة ، فانطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو بكر ، وانطلقت معهما ، ففتح أبو بكر بابا ، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف ، فكان ذلك أوّل طعام أكلته بها ، ثم غبرت ما غبرت (٩) ، ثم أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «إنه قد وجهت لي

__________________

(١) النصب : الحجر أو الصنم ، وقد كانوا ينصبونه في الجاهلية ويذبحون عليه ، فيحمر بالدم ، أراد أنهم ضربوه حتى أدموه.

(٢) سخفة الجوع : رقته وضعفه وهزاله.

(٣) ليلة إضحيان أي مضيئة ومنورة.

(٤) أسمختهم جمع سماخ وهو الخرق الذي في الأذن ويفضي إلى الرأس ، والمراد هنا : آذانهم.

(٥) في مختصر ابن منظور وسير الأعلام : هابطتان.

(٦) أي كلمة كبيرة عظيمة لا شيء أقبح منها.

(٧) قدعني صاحبه : أي كفني ومنعني.

(٨) طعام طعم : أي تشبع شاربها كما يشبعه الطعام.

(٩) أي بقيت ما بقيت.

١٧٩

أرض ذات نخل ، لا أراها إلّا يثرب ، فهل أنت مبلّغ عني قومك ، عسى الله أن ينفعهم بك ، ويأجرك فيهم» [١٣٣٣٩].

فأتيت أنيسا ، فقال : ما صنعت؟ فقلت : صنعت أنّي أسلمت ، وصدّقت ، قال : ما لي (١) رغبة عن دينك ، فإنّي قد أسلمت وصدّقت. فأتينا أمّنا ، فقالت : ما لي (٢) رغبة عن دينكما ، فإنّي قد أسلمت ، وصدّقت. فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا ، فأسلم نصفهم قبل أن يقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة [فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة](٣) ، فأسلم نصفهم الباقي. وجاءت أسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إخوتنا ، نسلم على الذي أسلموا عليه ، فأسلموا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غفار غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله».

رواه ابن عون (٤) ، عن حميد بن هلال ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذرّ قال :

صليت قبل أن يبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسنتين ، قلت : أين كنت توجّه؟ قال : حيث وجّهني الله ، كنت أصلي حتى إذا كان نصف الليل سقطت كأني خرقة ـ فذكر الحديث نحو ما مضى إلى أن قال : ـ فانطلق أخي أنيس ، فأتى مكة ، فلمّا قدم قال : أتيت رجلا تسميه الناس الصابئ ، هو أشبه الناس بك.

قال أبو ذرّ :

فأتيت مكة ، فرأيت ، رجلا هو أضعف القوم في عيني ، فقلت : أين الرجل الذي تسميه الناس الصابئ؟ فرفع صوته عليّ ، وقال : صابئ ، صابئ. فرماني الناس حتى كأني نصب أحمر ، فاختبأت بين الكعبة وبين أستارها ، فكنت فيها خمس عشرة من بين يوم وليلة ـ فذكر الحديث في اجتماعه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو ما مضى ـ وقال : قال صاحبه : يا رسول الله ، أتحفني (٥) بضيافته الليلة.

رواه مسلم في الصحيح مختصرا ، ثم قال (٦) : وحدّثني إبراهيم بن محمّد بن عرعرة ، ومحمّد بن حاتم قالا : أخبرنا عبد الرّحمن بن مهدي ، حدّثنا المثنى بن سعيد ، عن أبي

__________________

(١) في صحيح مسلم : ما بي.

(٢) الزيادة بين معكوفتين عن صحيح مسلم ، للإيضاح.

(٣) الزيادة بين معكوفتين عن صحيح مسلم ، للإيضاح.

(٤) راجع صحيح مسلم ٤ / ١٩٢٣.

(٥) أتحفني بضيافته : أي خصني بها وأكرمني بذلك.

(٦) صحيح مسلم (٤٤) كتاب فضائل الصحابة (٢٨) باب ، رقم ٢٤٧٤ ج ٤ / ١٩٢٣ ـ ١٩٢٤ وأسد الغابة ٥ / ١٠٠ ـ ١٠١ وابن سعد في الطبقات الكبرى ٤ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

١٨٠