تاريخ مدينة دمشق - ج ٦٦

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]

تاريخ مدينة دمشق - ج ٦٦

المؤلف:

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]


المحقق: علي شيري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٢ الجزء ٣٣ الجزء ٣٤ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١ الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠

الجواد ، فإنّهم يعطون عن محدود ، وعطاؤك لا حدّ له ، ولا صفة. فيا جواد (١) يعلو كل جواد ، وبه جاد كل من جاد.

وقال الشبلي (٢) :

ما قلت : الله قط إلّا واستغفرت الله من قولي : الله.

قال السلمي : سمعت علي بن عبد الله البصري يقول :

وقف رجل على الشبلي فقال : أي صبر أشد على الصابر؟ فقال : الصبر في الله ، قال : لا ، قال : الصبر لله ، قال : لا ، قال : الصبر مع الله ، قال : لا ، قال : فأيش؟ قال : الصبر عن الله ، فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه أن تتلف.

وسئل الشبلي عن المحبة ، فقال : الميم محو الصفات ، والحاء : حياة القلوب بذكر الله ، والباء بلى الأجساد ، والهاء : هيمان القلوب في ذات الله.

قال بندار بن الحسين :

سمعت الشبلي يقول يوم الجمعة وهو يتكلم على الناس ، وقد سأله شاب فقال : يا أبا بكر ، لم تقول : الله ، ولا تقول : لا إله إلّا الله؟ قال الشّبلي : أخشى أن أؤخذ في كلمة الجحود فلا أصل إلى كلمة الإقرار. قال الشاب : أريد حجة أقوى من هذه ، فقال : يا هذا ، قال الله تعالى : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)(٣) ، قال : فزعق الشاب زعقة ، فقال الشبلي : الله ، فزعق ثانية ، فقال الشبلي : الله ، فزعق الثالثة ، فمات. فاجتمع إليه أبواه ، فقدماه إلى الخليفة ، وادعيا عليه الدم ، فقال له الخليفة : يا أبا بكر ، ما ذا صنعت؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، روح جنت فرنت ، ودرّبت ، فعلمت ، ودعيت ، فأجابت ، فما ذنبي؟ فصاح الخليفة ثم أفاق فقال : خلّيا سبيله ، لا ذنب له. هذا قتيل لا دية له ولا قود.

قال السلمي : سمعت أبا بكر الأبهري (٤) الفقيه ببغداد يقول : سمعت الشبلي يقول :

الانبساط بالقول مع الحقّ ترك الأدب ، وترك الأدب يوجب الطرد ، ومن لم يراع أسراره مع الحق لا يكاشف عن عين الحقيقة بذرّة.

__________________

(١) في مختصر أبي شامة : «يا جوادا» والمثبت عن حلية الأولياء.

(٢) رواه أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد ١٤ / ٣٩٠ وسير الأعلام ١٥ / ٣٦٨.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ٩١.

(٤) هو عبد الله بن طاهر الأبهري ، أبو بكر ، من أقران الشبلي ، ومن مشايخ الجبل ، عالم ورع توفي حوالي سنة ٣٣٠ ه‍. أخباره في الرسالة القشيرية ص ٣٩٠.

٦١

قال أبو العباس الدامغاني : أوصاني الشبلي فقال (١) :

الزم الوحدة ، وامح اسمك عن القوم ، واستقبل الجدار حتى تموت.

قال السلمي : سمعت محمّد بن الحسن البغدادي يقول (٢) :

كان الشبلي يقول لمن (٣) يدخل عليه : عندك خبر (٤) ، أو عندك أثر؟! وينشد :

أسائل عن سلمي (٥) ، فهل من مخبر

بأنّ (٦) له علما بها أين تنزل؟

ثم يقول : لا وعزّتك ما في الدارين عنك مخبر.

وقال الشبلي : ما أحد يعرف الله ، قيل : كيف؟ قال : لو عرفوه لما اشتغلوه عنه بسواه.

قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي ، أخبرنا والدي قال : أنبأني صديقي أبو محمّد جعفر بن محمّد الصوفي قال :

كنت عند الجنيد ، فدخل الشبلي ، فقال جنيد : من كان الله همه طال حزنه ، فقال الشبلي : يا أبا القاسم ، لا بل ، من كان همّه زال حزنه.

قال البيهقي :

قول الجنيد محمول على دار الدنيا ، وقول الشبلي محمول على الآخرة ، وقول الجنيد محمول على حزنه عند رؤية التقصير في نفسه في القيام بواجباته ، وقول الشبلي محمول على سروره بما أعطي من التوفيق في الوقت حتى جعل الهمّ هما واحدا. والله أعلم.

وسئل الشبلي عن الزهد فقال (٧) : تحويل القلب عن الأشياء إلى رب الأشياء.

وقال : ليكن همّك معك لا يتقدم ، ولا يتأخّر.

وسئل : لم سمّوا صوفية؟ فقال : لمصافاة أدركتهم من الحق فصفوا. فمن صفا فهو صوفي. وقيل للشبلي : يا أبا بكر ، أوصني ، فقال : كلامك كتابك إلى ربّك ، فانظر ما تملي فيه.

__________________

(١) الخبر في طبقات الشعراني ١ / ١٠٥.

(٢) الخبر في طبقات الشعراني ١ / ١٠٥.

(٣) في مختصر أبي شامة : لم.

(٤) في مختصر أبي شامة : «خيرا وعندك أثر» والمثبت يوافق ما جاء في طبقات الشعراني وعبارتها : أعندك خبر أو عندك أثر.

(٥) في طبقات الشعراني : ليلى.

(٦) في طبقات الشعراني : يخبرنا.

(٧) طبقات أبي عبد الرحمن السلمي ص ٣٤٣.

٦٢

وقال : سهو طرفة عين عن الله شرك بالله.

قال السلمي : سمعت منصور بن عبد الله يقول :

سئل الشبلي وأنا حاضر : هل يبلغ الإنسان بجهده إلى شيء من طرق الحقيقة ، أو الحق؟ فقال : لا بدّ من الاجتهاد والمجاهدة ، ولكنهما لا يوصلان إلى شيء من الحقيقة ، لأنّ الحقيقة ممتنعة عن أن تدرك بجهد واجتهاد ، فإنما هي مواهب ، يصل العبد إليها بإيصال الحقّ إياه لا غيره. وأنشد على أثره :

أسائلكم عنها ، فهل من مخبّر

فما لي بنعم بعد مكثتنا علم

فلو كنت أدري أين خيّم أهلها

وأيّ بلاد الله ـ أو ظعنوا ـ أمّوا

إذا لسلكنا مسلك الريح خلفها

ولو أصبحت نعم ومن دونها النجم

قال السلمي (١) : وحكي عن بعضهم قال :

كنت يوما في حلقة الشبلي فسمعته يقول : الحقّ يفني بما به يبقي ، ويبقي بما (٢) به يفني ، ويفني بما (٣) فيه بقاء ، ويبقي بما فيه فناء. فإذا أفنى عبدا عن إياه أوصله به ، وأشرفه على أسراره. وبكى ، وأنشد على أثره :

لها في طرفها لحظات سحر

تميت به وتحيي من تريد

وسئل الشبلي : ما (٤) علامة صحة المعرفة؟ قال : نسيان كل شيء سوى معروفه.

قيل (٥) : وما علامة صحة المحبة؟ قال : العمى عن كلّ شيء سوى محبوبه.

وقال (٦) : ليس للعارف [علاقة](٧) ، ولا لمحبّ سلوى (٨) ، ولا لعبد (٩) دعوى ، ولا لخائف قرار ، ولا لأحد (١٠) من الله فرار.

__________________

(١) الخبر رواه السلمي في الطبقات ص ٣٥٠.

(٢) في مختصر أبي شامة : ما.

(٣) انظر الحاشية السابقة.

(٤) في مختصر أبي شامة : عن ما.

(٥) الخبر في الرسالة القشيرية ص ٣٢١ باختلاف الرواية.

(٦) الخبر في الرسالة القشيرية ص ٣١٢ وطبقات الشعراني ١ / ١٠٤ وحلية الأولياء ١٠ / ٣٦٨.

(٧) مطموسة في مختصر أبي شامة ، واستدركت اللفظة عن الرسالة القشيرية.

(٨) كذا في مختصر أبي شامة ، وفي الرسالة القشيرية : «شكوى» وفي حلية الأولياء : سكون.

(٩) في الحلية : ولا للصادق دعوى.

(١٠) في الحلية : ولا للخلق من الله فرار.

٦٣

قال الحسن الفرغاني :

سألت الشبلي : ما علامة العارف؟ فقال : صدره مشروح ، وقلبه مجروح ، وجسمه مطروح (١). والعارف الذي عرف الله ، وعرف مراد الله ، وعمل لما أمر الله ، وأعرض عما نهى الله ، ودعا عباد الله إلى الله. والصوفي من صفا قلبه فصفا ، وسلك طريق المصطفى ، ورمى الدنيا خلف القفا ، وأذاق الهوى طعم الجفا. والتصوّف التآلف والتطرف ، والإعراض عن التكلف.

وقال أيضا : هو التعظيم لأمر الله ، والشفقة على عباد الله.

وقال أيضا : الصوفي من صفا من الكدر ، وخلص من الغير ، وامتلأ من الفكر ، وتساوى عنده الذهب والمدر.

وقيل له : ما علامة القاصد؟ قال : أن لا يكون للدرهم راصدا.

وقيل له : في أي شيء أعجب؟ قال : قلب عرف ربه ثم عصاه (٢).

وقال : المعارف تبدو فتطمع ، ثم تخفى فتؤيس ، فلا سبيل إلى تحصيلها ، ولا طريق إلى الهرب منها ؛ فإنها تطمع الآيس ، وتؤيس الطامع.

وسئل (٣) : إلى ما ذا تحنّ قلوب أهل المعارف؟ فقال : إلى بدايات ما جرى لهم في الغيب من حسن العناية. وأنشد :

سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن

ما كان قلبي للصبابة معهدا

وقال : الدنيا خيال ، وظلها وبال ، وتركها جمال ، والإعراض عنها كمال ، والمعرفة بالله اتصال.

وسئل (٤) : ما الفرق بين رقّ العبودية ، ورقّ المحبة؟ فقال : كم بين عبد إذا عتق (٥) صار حرا ، وعبد كلّما عتق (٦) ازداد رقا.

__________________

(١) إلى هنا الخبر رواه الذهبي في سير الأعلام ١٥ / ٣٦٩.

(٢) الخبر في صفة الصفوة ٢ / ٤٥٨.

(٣) الخبر في طبقات أبي عبد الرحمن السلمي ص ٣٥٤.

(٤) الخبر والشعر في تاريخ بغداد ١٤ / ٣٩١ من طريق هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري.

(٥) كذا في مختصر أبي شامة ، وفي تاريخ بغداد : أعتق.

(٦) انظر الحاشية السابقة.

٦٤

وقال :

لتحشرنّ عظامي بعد إذ بليت

يوم الحساب وفيها حبّكم علق

وسئل : هل يتسلى .... (١) عن حبيبه دون مشاهدته؟ فأنشأ يقول :

والله لو أنك توجتني

بتاج كسرى ملك المشرق

ولو بأموال الورى جدت [لي](٢)

أموال من باد ، ومن قد بقي

وقلت [لي](٣) : لا نلتقي ساعة

اخترت يا مولاي أن نلتقي

وسئل : هل يعرف المحبّ أنه محبّ؟ قال : نعم ، إذا كتم حبه ، ثم ظهر عليه مع كتمانه.

وأنشد :

قد يسحب الناس أذيال الظنون بنا

وفرّق الناس فينا قولهم فرقا

فكاذب قد رمى بالظن غرّكم

وصادق ليس يدري أنه صدقا

قال زيد بن رفاعة الهاشمي (٤) :

سمعت أبا بكر الشبلي ينشد في جامع المدينة يوم الجمعة والناس حوله :

يقول خليلي : كيف صبرك عنهم؟

فقلت : وهل صبر فتسأل عن «كيف»

بقلبي هوى أذكى من النار حرّه

وأحلى(٥) من التقوى ، وأمضى من السيف

قال أبو جعفر الفرغاني (٦) :

كنت أنا وأبو العباس بن عطاء ، وأبو محمّد الجريري (٧) جلوسا عند الجنيد ، إذ أقبل الشبلي وهو متغيّر (٨) ، فلم يتكلم مع أحد ، وقصد الجنيد ، فوقف على رأسه ، وصفق بيديه ، وقال (٩) :

__________________

(١) كلمة مطموسة في مختصر أبي شامة.

(٢) استدركت عن هامش مختصر أبي شامة.

(٣) سقطت من مختصر أبي شامة ، وزدناه لتقويم الوزن.

(٤) الخبر والشعر في تاريخ بغداد ١٤ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

(٥) في تاريخ بغداد : وأصلى.

(٦) الخبر والشعر في حلية الأولياء ١٠ / ٣٦٧ باختلاف الرواية.

(٧) هو أحمد بن محمد بن الحسين الجريري أبو محمد ، من كبار أصحاب الجنيد ، انظر أخباره في الرسالة القشيرية ص ٤٠٢.

(٨) في الحلية : سكران.

(٩) البيتان من ثلاثة أبيات في الحلية ١٠ / ٣٦٧ ووفيات الأعيان ٢ / ٢٧٣ والبداية والنهاية ١١ / ٢١٦.

٦٥

عوّدوني الوصال ، والوصل عذب

ورموني بالصّدّ ، والصدّ صعب

لا وحسن (١) الخضوع عند التلاقي

ما جزى من يحبّ ألّا يحبّ

قال : فضرب الجنيد برجله الأرض وقال : هو ذاك يا أبا بكر ، هو ذاك! [وخرّ مغشيا عليه](٢).

قال عامر الدّينوري :

كنت جالسا عند الشبلي ، فاجتاز أبو بكر بن داود الأصبهاني ، فسلّم عليه. فقال له الشبلي : أنت الذي أنشدت ... (٣) لك وحقيقته لنا :

موقف للرقيب لا أنساه

لست أح .... (٤) باه

مرحبا بالرقيب من غير وعد

جاء يجلو عليّ من أهواه

لا أحبّ الرّقيب إلّا لأني

لا أرى من أحبّ حتى أراه

فقال ابن داود : ما علمت أنّ لله فيها إشارة حتى نبهني الشبلي عليها.

وسئل الشبلي عن حقيقة التوكل ، فقال : حفظ العبد حركات همّته من الطلب بما ضمنه الباري ـ عزوجل ـ من رزقه.

وقال الشّبلي : ذكر الله على الصفاء ينسي العبد مرارة البلاء.

وقال : ذكر الغفلة يكون جوابه اللعن. وأنشد (٥) :

ما إن ذكرتك إلّا همّ يلعنني (٦)

ذكري ، وسري ، وفكري عند ذكراكا (٧)

حتى كأن رقيبا منك يهتف بي :

إياك ، ويحك ، والتذكار إياكا

وقال : ليس مع العالم إلّا ذكر ؛ قال الله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)(٨).

__________________

(١) في وفيات الأعيان : وحق.

(٢) الزيادة عن الحلية. وفي وفيات الأعيان : أنه أجابه فقال :

وتمنيت أن أرا

ك فلما رأيتكا

غلبت دهشة السرو

ر فلم أملك البكا

(٣) مطموسة في مختصر أبي شامة.

(٤) مطموس في مختصر أبي شامة لم يظهر من اللفظة الأولى إلا حرفان ومن الأخيرة «باه».

(٥) البيتان في الرسالة القشيرية ص ٢٢٣ لبعضهم.

(٦) في الرسالة القشيرية : يزجرني.

(٧) عجزه في الرسالة القشيرية : قلبي وسري وروحي عند ذكراكا.

(٨) سورة يوسف ، الآية : ١٠٤.

٦٦

وسئل : من أقرب أصحابك إليك؟ قال : ألهجهم (١) بذكر الله ، وأقومهم بحق الله ، وأسرعهم مبادرة في مرضاة الله.

قال أبو نصر محمّد بن علي الطوسي :

سمعت الشبلي يوما في مجلسه ، وقد غلبه حاله ، جثا على ركبتيه وهو يقول :

إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا

كفى لمطايانا بذكرك هاديا

وقطع المجلس.

وسمعته يوما ينشد وهو في مثل هذه الحال :

إذا أبصرتك العين من بعد غاية

وعارض فيك الشكّ أثبتك القلب

ولو أن ركبا أمّموك لقادهم

نسيمك حتى يستدلّ بك الركب

فقطع المجلس أيضا بمثل هذا.

وسل الشبليّ عن التصوف فقال : ترويح القلوب بمراوح الصفاء ، وتجليل الخواطر بأردية الوفاء ، والتخلّق بالسخاء ، والبشر في اللقاء.

وقال السّلمي : سمعت أبي .... (٢) والسّجزي يقولان :

بلغنا أن رجلا قال للشبلي .... (٣) من أصحابك؟ ـ وهم في المسجد الجامع ـ فقال الشبلي : مرّ بنا إليهم ، فمرّ الرجل معه حتى دخل المسجد ، فرأى الشبلي قوما عليهم المرقعات والفوط (٤) ، فقال : هؤلاء هم؟ قال : نعم. فأنشأ يقول :

أمّا الخيام فإنّها كخيامهم

وأرى نساء الحي غير نسائها

قال عيسى بن علي الوزير :

دخل الشبلي على أبي ، فدفع إليه صرة فيها أربعون دينارا ، فقال له : خذ هذه نفقة للصوفية. فأخذها وخرج. فقيل لأبي : إنه عبر على الجسر ، فرأى رجلا صوفيا قد وقف على دكان الحجام يقول له : قد احتجت إليك ساعة ، أتفعل ذلك من أجل الله؟ فقال له : ادخل ،

__________________

(١) غير مقروءة في مختصر أبي شامة ، واستدركت اللفظة عن هامشه.

(٢) مطموس في مختصر أبي شامة.

(٣) مطموس في مختصر أبي شامة.

(٤) الفوط جمع فوطة : وهي ثوب قصير غليظ يكون مئزرا ، والفوطة : ثوب من صوف ، والفوط : ثياب تجلد من السند ، أو مآزر مخططة.

٦٧

فدخل إليه ، فأصلح وجهه ، وحلق رأسه ، وحجمه ، والشبلي بباب الدكان ، فلما فرغ وجاء الرجل ليخرج قال الشبلي للحجام : خذ هذه الصرة أجرة خدمتك لهذا الرجل ، فقال الحجام : إنما فعلت ذلك من أجل الله ، فقال له : إن فيها أربعين دينارا! فقال الحجام : ما أنا بالذي أحل عقدا عقدته بيني وبين الله بأربعين دينارا. فلطم الشبلي وجهه وقال : كلّ أحد خير من الشبلي حتى الحجّام.

[قال الخطيب](١) : [أخبرني أبو الفضل عبد الرّحمن بن أحمد بن الحسن الرازي بنيسابور ، أخبرنا](٢) علي (٣) بن جعفر السّيرواني :

دخلت أنا وفقير على الشبلي ، فسلمنا عليه ، فقال : إلى أين تريدان؟ فقلنا : البادية ، فقال : على أي حكم؟ فقال صاحبي : على حكم الفقراء ، فقال : احذروا ألا تسبقكم همومكم ، ولا تتأخر!.

قال أبو الحسن السّيرواني (٤) : فجمع لنا العلم كلّه في هذه الكلمة.

قال أبو حاتم الطبري (٥) : سمعت أبا بكر الشبلي يقول في وصيته :

وإن أردت أن تنظر إلى الدنيا بحذافيرها فانظر إلى مزبلة ، فهي الدنيا ، فإذا (٦) أردت أن تنظر إلى نفسك فخذ كفّا من تراب ، فإنّك منها (٧) خلقت ، وفيها (٨) تعود ، ومنها تخرج. ومتى أردت أن تنظر ما أنت؟ فانظر ما يخرج منك في دخولك الخلاء ، فمن كان حاله كذلك لا يجوز أن يتطاول ويتكبّر (٩) على من هو مثله.

قال أبو طالب العلوي :

كنت مع الشبلي بباب الطاق ، فجاء رجل راكب ، وبين يديه غلام ، فقال رجل لرجل :

__________________

(١) الخبر رواه أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد ١٤ / ٣٩٢.

(٢) ما بين معكوفتين زيادة للإيضاح عن تاريخ بغداد.

(٣) في مختصر أبي شامة : «أحمد» والمثبت عن تاريخ بغداد.

(٤) هذه النسبة بكسر السين المهملة وسكون الياء وفتح الراء نسبة إلى السيروان (الأنساب : واللباب).

(٥) الخبر من طريقه رواه ابن الجوزي في صفة الصفوة ٢ / ٤٥٩.

(٦) في صفة الصفوة : وإذا.

(٧) في صفة الصفوة : منه.

(٨) في صفة الصفوة : وفيه تعود ، ومنه تخرج.

(٩) في صفة الصفوة : أو يتكبر.

٦٨

من هذا؟ قال : صقعان الأمير ومسخرته ، فغدا الشبلي ، فقبل فخذه ، فرمى الرجل نفسه من الفرس فقال : يا سيدي ، أحسبك ما عرفتني! قال : بلى قد عرفتك ، أنت تأكل الدنيا بما تساويه ، اركب ، فأنت خير ممن يأكل الدنيا بالدين.

قال أبو بكر الرازي (١) : سمعت الشبلي يقول :

ما أحوج الناس إلى سكرة [فقيل : أي سكرة؟ فقال : سكرة](٢) تغنيهم عن ملاحظات أنفسهم ، وأفعالهم ، وأحوالهم (٣) ، والأكوان وما فيها. وأنشد :

وتحسبني حيّا وإنّي لميّت

وبعضي من الهجران يبكي على (٤) بعضي

وسئل عن متابعة الإسلام ، فقال : أن تموت عنك نفسك.

وقال : ليس في الوقت مرح ، الوقت جدّ كله.

وقال : من فني عن نفسه وقام الحق بتوليه لا ينكر له تقليب الأعيان ، واتخاذ المفقود.

وقال : احذر أماكن الاتصال ، فإنها خدع كلها ، وقف بحيث وقف العوام تسلم.

وقال : لا أشك إلّا أني قد وصلت ، ولا أشك إلّا أنّ الوصل دوني ، ولكن أبكي. ثم أنشأ يقول :

فيبكي إن نأوا شوقا إليهم

ويبكي إن دنوا خوف الفراق

فتسخن (٥) عينه عند التنائي (٦)

وتسخن عينه عند التلاقي

وسئل الشبلي : ما الحيلة؟ قال : ترك الحيلة ، لأن الحيلة إما رشوة ، أو قرار ، وهما بعيدان عن طرق الحقيقة ، فاطلب الدواء من حيث جاء الداء ، فلا يقدر على شفائك إلّا من أعلك وأنشد (٧) :

__________________

(١) الخبر والشعر في تاريخ بغداد ١٤ / ٣٩٤ من هذا الطريق. ورواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء ١٠ / ٣٧٢.

(٢) ما بين معكوفتين زيادة عن تاريخ بغداد وحلية الأولياء.

(٣) في مختصر ابن منظور : تفنيهم.

(٤) في مختصر أبي شامة : إلى. والمثبت عن حلية الأولياء وتاريخ بغداد.

(٥) تسخن عينه : سخنة العين نقيض قرتها ، وقد سخنت سخنا وسخونا وسخنة فهو سخين العين ، وأسخن الله عينه أي أبكاه نقيض أقر عينه (تاج العروس).

(٦) تناءوا : تباعدوا ، ومصدره التنائي (تاج العروس : نأى).

(٧) البيتان في وفيات الأعيان ٢ / ٢٧٤.

٦٩

إنّ الذين بخير كنت تذكرهم

هم أهلكوك (١) ، وعنهم كنت أنهاكا

لا تطلبنّ دواء عند غيرهم (٢)

فليس يحييك إلّا من توفاكا

واجتاز الشبلي بدرب سليمان عند الجسر في شهر رمضان ، فسمع البقلي ينادي : من كل لون. فحال لونه ، وأخذه السماع ، وأنشأ يقول :

فيا ساقي القوم لا تنسني

ويا ربّة الخدر غنّي رمل

وقد كان شيء يسمّى السرور

قديما سمعنا به ما فعل

خليليّ إنّ دام هذا الصّدود

على ما أراه ، سريعا قتل

وفي رواية :

خليلي إن دام همّ النفوس

على ما تراه قليلا قبل

مؤمل دنيا لتبقى له

فمات المؤمّل قبل الأمل

وقال الشبلي : لو لا أنّ الله خلق الدنيا على العكس لكان منفعة الإهليلج (٣) في اللّوزينج.

وقال : كن مع مولاك مثل الصبي مع أمه ؛ تضربه ويمسكها ، ويقول : يا أمي لا أعود.

وقال : ما ظنك بمعان هي شموس كلّها ، بل الشموس فيها ظلمة.

وقيل له : يا أبا بكر ، الرجل يسمع الشيء ولا يفهم معناه ، فيؤاخذ عليه ، لم هذا؟! فأنشأ يقول :

ربّ ورقاء (٤) هتوف بالضحى

ذات شجو صدحت في فنن

ذكرت إلفا ودهرا صالحا

فبكت حزنا ، فهاجت حزني

فبكائي ربما أرّقها

وبكاها ربما أرّقني

ولقد تشكو (٥) فما أفهمها

ولقد أشكو (٦) فما تفهمني

__________________

(١) في الوفيات : كنت أذكرهم قضوا عليك.

(٢) صدره في الوفيات : لا تطلبن حياة غير حبهم.

(٣) الإهليلج : معرب إهليله. ثمر معروف. وهو على أقسام منه أصفر ومنه أسود وهو البالغ النضيج. وله منافع جمة (تاج العروس).

(٤) الورقاء : الحمامة. جمع وراقى ، ووراق.

(٥) في مختصر أبي شامة : أشكو.

(٦) في مختصر أبي شامة : تشكو.

٧٠

غير أنّي بالجوى (١) أعرفها

وهي أيضا بالجوى تعرفني

وقال الشبلي : الوجد : اصطلام (٢). ثم قال :

الوجد عندي جحود

ما لم يكن عن شهود

وشاهد الحق عندي

يفني شهود الوجود

قال السلمي (٣) : سمعت عبد الله بن محمّد الدمشقي يقول :

حضرت مع الشبلي ليلة في مجلس سماع ، وحضره المشايخ ، فغنى قوّال شيئا ، فصاح الشبلي والقوم سكوت ، فقال له بعض المشايخ : يا أبا بكر ، أليس هؤلاء يسمعون معك؟ ما لك من بين الجماعة؟ فقام ، وتواجد ، وأنشأ يقول (٤) :

لو يسمعون كما سمعت كلامها (٥)

خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا

وقال (٦) :

لي سكرتان (٧) وللندمان واحدة

شيء خصصت به من بينهم وحدي

قال : وسمعت أبا العباس البغدادي يقول :

كنّا جماعة من الأحداث نصحب أبا الحسين بن أبي بكر الشبلي ، وهو حدث ، ونكتب الحديث ، فأضافنا ليلة أبو الحسين ، فقلنا : بشرط ألا (٨) يدخل علينا أبوك ، فقال : لا يدخل. فدخلنا داره ، فلما أكلنا إذا نحن بالشبلي وبين كل إصبعين من أصابعه شمعة ، ثماني شموع. فجاء وقعد في وسطنا ، فاحتشمنا منه ، فقال : يا سادة عدوني فيما بينكم طست شمع. ثم قال : أين غلامي أبو العباس؟ فتقدمت إليه ، فقال لي : غنّ الصوت الذي كنت تغني :

__________________

(١) الجوى : الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن.

(٢) الاصطلام : الصلم : القطع المستأصل. واصطلمه : استأصله.

(٣) الخبر في طبقات الأولياء ص ٢٠٦ باختلاف الرواية.

(٤) البيت لكثير عزّة ، وهو في ديوانه ص ٧٦ (ط. بيروت).

(٥) كذا في مختصر أبي شامة ، وفوقها علامة تحويل إلى الهامش وكتب عليه : «حديثها» والمثبت يوافق رواية الديوان.

(٦) البيت لأبي نواس ، وهو في ديوانه ص ٢٧ من قصيدة مطلعها :

لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند

واشرب على الورد من حمراء كالورد

(٧) في الديوان : نشوتان.

(٨) في مختصر أبي شامة : أن لا يدخل.

٧١

ولما بلغ الحير

ة حادي جملي حارا

فقلت : احطط بها رحلي

ولا تحفل بمن سارا

فغنيته ، [فتغير](١) فألقى الشموع من يده وخرج.

قال أبو يعقوب الخراط :

كنت في حلقة الشبلي ، فبكى رجل حتى علا صوته ، وبكى الشبلي وأهل الحلقة ببكائه ، وأنشأ يقول :

أنافعي دمعي فأبكيكا

هيهات ما لي طمع فيكا

لو كنت تدري بالذي نالني

أقصرت عن بعض تجنيكا

وقيل للشبلي (٢) : كم تهلك نفسك بهذه الدعاوى ، ولا تدعها! فقال :

إني وإن كنت قد أسأت بي ال

يوم لراج للعطف منك غدا

أستدفع الوقت بالرجاء وإن

لم أر منكم ما أرتجي أبدا

أغرّ نفسي بكم وأخدعها

نفس (٣) ترى الغيّ فيكم رشدا

وسئل : هل يقع بين الإلفين تهاجر؟ فقال : يزاد رشدا ، ثم أنشأ يقول :

هجرتك لا قلى (٤) مني ولكن

رأيت بقاء ودك في الصّدود

كهجر الحائمات الورد لمّا

رأت أنّ المنية في الورود

وسئل عن قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)(٥) ، فوصفه بصفة تضبط عنه ، ثم قال :

لست (٦) من جملة المحبّين إن لم

أجعل القلب بيته والمقاما

وطوافي إجالة السرّ فيه

وهو ركني إذا أردت استلاما

قال أبو السري : وقفت يوم عيد على حلقة الشبلي ، والناس عليه فجاء حدث من أولاد

__________________

(١) استدركت عن هامش مختصر أبي شامة.

(٢) الخبر والشعر في طبقات الصوفية ص ٣٤٧.

(٣) في طبقات الصوفية : نفسا.

(٤) قلى : وقلى زيدا قلى بالكسر مقصور وقلاء : أبغضه ، وقلاه في الهجر قلى (تاج العروس).

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ٩٧.

(٦) في مختصر أبي شامة : ليس.

٧٢

الوزراء حسن الوجه والزّي ، وكثر الناس. فلما رآه الشبلي قال : من نظر اعتبارا سلم ، ومن نظر اختيارا فتن. ثم قال له : مرّ من عندي وإلّا أخرق ثيابك.

قال الخطيب (١) : أخبرني التنوخي ، حدّثني أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي صابر الدلال قال :

وقفت على الشبلي في قبة الشعراء في جامع المنصور والناس مجتمعون عليه ، فوقف عليه في الحلقة غلام لم يكن ببغداد في ذلك الوقت أحسن وجها منه يعرف بابن مسلم ، فقال له : تنحّ ، فلم يبرح ، فقال له الثانية : تنحّ يا شيطان عنّا ، فلم يبرح ، فقال له الثالثة : تنحّ ، وإلّا والله خرّقت كل ما عليك ـ وكان (٢) عليه ثياب في غاية الحسن تساوي جملة كبيرة (٣) ـ فانصرف الفتى (٤).

وقيل : خرج الشبلي يوما من منزله وعليه خريق (٥) وأطمار (٦) ، فقيل له : ما هذا؟ فقال :

فيوما ترانا في الخزوز (٧) نجرّها

ويوما ترانا في الحديد عوابسا

ويوما ترانا في الثريد نبسّه (٨)

ويوما ترانا نأكل الخبز يابسا

وقال الشبلي : ضاق صدري ببغداد ، فضاقت علي أوقاتي ، فوقع لي أن أنحدر إلى البصرة ، فاكتريت سمارية (٩) ، وركبت فيها ، فلمّا بلغت البصرة ، وخرجت من السمارية زاد

__________________

(١) الخبر رواه أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد ١٢ / ٩٥ ـ ٩٦ في ترجمة أبي الحسن علي بن محمد بن أبي صابر الدلال.

(٢) في تاريخ بغداد : وكانت.

(٣) في تاريخ بغداد : كثيرة.

(٤) زيد بعدها في تاريخ بغداد : فقال الشبلي ونحن نسمع :

طرحوا اللحم للبزا

ة على ذروتي عدن

ثم لاموا البزاة لم

خلعوا فيهم الرسن

لو أرادوا صلاحنا

ستروا وجهه الحسن

(٥) خرق الثوب يخرقه : جابه ومزّقه ، وخرق الثوب خرقا : شقه.

(٦) أطمار واحدها طمر ، بالكسر الثوب الخلق ، أو هو الكساء البالي من غير الصوف (تاج العروس).

(٧) الخزوز ، الخزّ من الثياب ما ينسج من صوف وإبريسم.

(٨) البسّ اتخاذ البسيسة بأن يلت السويق أو الدقيق أو الأقط المطحون بالسمن أو الزيت ثم يؤكل ولا يطبخ (تاج العروس).

(٩) سمارية : جاء في تاج العروس : سمر : والسميرية ضرب من السفن.

٧٣

علي ما كنت أجده ببغداد أضعاف ذلك. فركبت تلك السمارية ، ورجعت إلى بغداد ، فلما بلغت دار الخليفة إذا جارية تغني له في التاج (١) :

أيا قادما من سفرة البحر مرحبا

أناديك لا أنساك ما هبّت الصّبا

قدمت على قلبي كما قد تركته

كئيبا ، حزينا ، بالصّبابة متعبا

فلما سمعت غناءها طرحت نفسي في دجلة ، فقيل : أدركوا الرجل! فأخذت إلى الشّط ، فقال المقتدر : من هذا؟ فقالوا : أبو بكر الشبلي ؛ فحملت إليه ، ووقفت بين يديه ، فقال : يا أبا بكر ، تبلغنا عنك في كلّ وقت أعاجيب فما هذا؟ فقصصت عليه القصة ، وخرجت.

وفي رواية : فصاح صيحة ، ووقع في دجلة مغشيا عليه ، فقال الخليفة : الحقوه ، واحملوه ، فحمل إلى بين يديه ، فقال له : أمجنون أنت؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، كان من أمري كيت وكيت ، فتحيرت فيما هو يجري علي. فبكى الخليفة مما رأى من حرقته.

قال أبو الصقر الصوفي :

دخلت على شيخ من شيوخنا أهنئه يوم عيد ، فرأيت عنده نخالة وهندباء (٢) وخلا ، فشغل ذلك قلبي ، فخرجت من عنده ، ودخلت على أحد أرباب الدنيا ، فذكرت ذلك له ، فدفع إلي صرّة فيها دراهم ، فقال : احملها إليه.

فعدت ودخلت إليه ، فأخبرته ، فقال : وما الذي رأيت من حالي؟ قلت : رأيت هندباء وخلا ونخالة. فقال : كأنك افتقدت (٣) منزلي ، وكذلك لو كانت في بيتي حرمة أكنت تفتقدها؟ قم فاخرج! أشهد لا كلّمتك شهرا. قال : فخرجت ، فنطح الباب وجهي ، ففتحته ، فمسحت الدم ومشيت. فلقيني الشبلي ، فقلت : يا أبا بكر ، رجل مشى في طاعة الله ينطح وجهه ، ما يوجب هذا؟ قال : لعله أراد أن يجيء إلى شيء صاف فيكدره.

وقال للشبلي رجل : يا أبا بكر ، اليوم يوم العيد ، فأنشأ يقول :

__________________

(١) التاج : اسم لدار مشهورة جليلة المقدار واسعة الأقطار ببغداد من دور الخلافة المعظمة كان أول من وضع أساسه وسماه بهذه التسمية أمير المؤمنين المعتضد (معجم البلدان).

(٢) الهندباء بكسر الهاء وفتح الدال وقد تكسر ، مقصور ويمد : بقلة معروفة نافعة للمعدة والكبد والطحال أكلا.

(القاموس).

(٣) افتقد الشيء وتفقده : تطلب ما كان غائبا عنه.

٧٤

الناس بالعيد قد سرّوا وقد فرحوا

وما سررت به والواحد الصمد

لمّا تيقنت أنّي لا أعاينكم

غمّضت طرفي فلم أنظر إلى أحد

قال السّلمي :

وبلغني أن الشبلي كان واقفا على قبر الجنيد ، فسئل عن مسألة ، فنظر إلى الرجل ، ونظر إلى القبر ، وقال :

وإني لأستحييه والترب بيننا

كما كنت أستحييه حين يراني

وقيل له : إن فلانا ـ رجلا من أصحابه ـ مات فجاءة ، فقال :

قضى الله في القتلى قصاص دمائهم

ولكن دماء العاشقين جبار (١)

ومات أخ من إخوان الشبلي ، فعزّ عليه ، فرجع من (٢) جنازته وهو يقول :

سأودّع الإحسان بعدك والنّهى

إذ حان منك البين والتوديع

ولأستقلّ لك الدموع صبابة

ولو أن دجلة لي عليك دموع

وحكايات الشبلي ـ رحمه‌الله ـ كثيرة في إنشاده للشعر الحسن ، والتمثل به ، والطرب عليه ، والتواجد من سماعه.

وأنشد :

كادت سرائر سرّي أن تشير بما

أوليتني من سرور لا أسمّيه

فصاح بالسر سرّ منك ترقبه

كيف السرور بسرّ دون مبديه

فظل يلحظني فكري لألحظه

والحق يلحظني أن لا أراعيه

وأقبل الحق يفني اللحظ عن صفتي

وأقبل اللحظ يفنيني وأفنيه

وقال :

وكم كذبة لي فيك لا أستقلّها

أقول لمن ألقاه : إنّي صالح

وأيّ صلاح بي وجسمي ناحل

وقلبي مشغوف ودمعي سافح

وقال :

__________________

(١) ذهب دمه جبارا ، الجبار بالضم : الهدر في الديات ، والساقط من الأرض. والجبار من الحروب : ما لا قود فيها ولا دية (تاج العروس : جبر).

(٢) في مختصر أبي شامة : عن.

٧٥

ذكرتك ، لا أنّي نسيتك لمحة

وأيسر ما في الذكر ذكر لساني

وكدت بلا وجد (١) أموت من الهوى

وهام عليّ القلب بالخفقان

فلما أراني (٢) الوجد أنك حاضر

شهدتك موجودا بكل مكان

فخاطبت موجودا بغير تكلم

ولاحظت معلوما بغير عيان

وقال :

إنّي عجبت ، وما في الحبّ من عجب

فيه الهموم ، وفيه الوجد والكلف

أرى الطريق قريبا حين أسلكه

إلى الحبيب بعيدا حين أنصرف

قال جعفر الخلدي :

أحسن أحوال الشبلي أن يقال له : مجنون.

وقال الشبلي :

كلّما قلت : قد دنا حلّ قيدي

قدّموني وأوثقوا المسمارا

وقال لأصحابه ذات يوم : ألست عندكم مجنونا وأنتم أصحاء؟ زاد الله في جنوني ، وزاد في صحتكم. ثم قال (٣) :

قالوا : جننت بمن تهوى (٤) ، فقلت لهم :

ما لذّة العيش إلّا للمجانين (٥)

وقال أيضا :

بي جنون الهوى وما بي جنون

وجنون الهوى جنون الجنون

قال أبو نصر الهروي (٦) : كان الشبلي يقول :

إنما يحفظ هذا الجانب بي ـ يعني من الديالمة ـ فمات هو يوم الجمعة ، وعبرت الديالمة إلى الجانب الشرقي يوم السبت. مات هو وعلي بن عيسى في يوم واحد.

قال منصور بن عبد الله (٧) :

__________________

(١) في مختصر أبي شامة : «وجه» والمثبت عن مختصر ابن منظور.

(٢) في مختصر أبي شامة : رآني ، تصحيف.

(٣) البيت في حلية الأولياء لأبي نعيم الحافظ ١٠ / ٣٧٢.

(٤) في الحلية : جننت على ليلى.

(٥) عجزه في حلية الأولياء : الحب أيسره ما للمجانين.

(٦) الخبر من طريقه رواه أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد ١٤ / ٣٩٦.

(٧) من طريقه الخبر والشعر في تاريخ بغداد ١٤ / ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

٧٦

دخل قوم على الشبلي في مرضه الذي مات فيه ، فقالوا : كيف تجدك (١) يا أبا بكر؟ فقال :

إن سلطان حبه

قال : لا أقبل الرّشا

فسلوه ـ فديته ـ

لم بقلبي (٢) تحرشا

وسأل جعفر بن نصير (٣) بكران الدينوري ـ وكان يخدم الشبلي ـ : ما الذي رأيت منه؟ [يعني عند وفاته](٤) فقال : قال لي : عليّ درهم مظلمة ، وتصدقت عن صاحبه بألوف ، فما على قلبي شغل أعظم (٥) منه. ثم قال : وضئني للصلاة ، ففعلت ، فنسيت تخليل لحيته ، وقد أمسك على لسانه ، فقبض على يدي ، وأدخلها في لحيته ، ثم مات.

فبكى جعفر وقال : ما تقولون في رجل لم يفته في آخر عمره أدب من آداب الشريعة؟ ـ وفي رواية : ما يمكن أن يقال في رجل لم يذهب عليه تخليل لحيته في الوضوء في وقت نزع (٦) روحه ـ.

وقيل : دخل عليه قوم من أصحابه وهو في الموت ، فقالوا : قل لا إله إلّا الله. فأنشأ يقول (٧) :

إنّ بيتا (٨) أنت ساكنه

غير محتاج إلى السّرج

وجهك المأمول حجتنا

يوم يأتي الناس بالحجج

لا أتاح الله لي فرجا

يوم أدعو منك بالفرج

وقال بكير صاحب الشّبلي (٩) :

__________________

(١) في مختصر أبي شامة : نجدك ، والمثبت عن تاريخ بغداد.

(٢) في تاريخ بغداد : بقتلى.

(٣) الخبر من طريقه رواه أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد ١٤ / ٣٩٦ وأبو نعيم في الحلية ١٠ / ٣٧١ وابن الجوزي في صفة الصفوة ٢ / ٤٥٩ والمنتظم ١٤ / ٥١.

(٤) الزيادة للإيضاح عن تاريخ بغداد وصفة الصفوة والمنتظم.

(٥) في مختصر أبي شامة : «أعظم شغل منه» والمثبت عن تاريخ بغداد وصفة الصفوة. والمنتظم.

(٦) في حلية الأولياء : نزوع روحه.

(٧) البيتان الأول والثاني في تاريخ بغداد ١٤ / ٣٩٦.

(٨) في تاريخ بغداد : كل بيت.

(٩) الخبر من طريقه في تاريخ بغداد ١٤ / ٣٩٦ ـ ٣٩٧ والمنتظم ١٤ / ٥٢ وفيه : أبو بكر غلام الشبلي وكان يعرف ببكير.

٧٧

وجد الشبلي في (١) يوم الجمعة آخر (٢) ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة خفة من وجع كان به ، فقال : تنشط نمشي (٣) إلى الجامع؟ قلت : نعم. فاتكأ على يدي حتى انتهيت (٤) إلى الوراقين من الجانب الشرقي ، فتلقانا رجل جاء من الرصافة ، فقال بكير؟ قلت : لبيك ، قال : غدا يكون لي مع هذا الشيخ شأن. ثم مضينا ، وصلينا ، ثم عدنا. فتناول شيئا من الغداء ، فلمّا كان الليل مات ـ رحمه‌الله ـ فقيل : في درب السقائين رجل شيخ صالح يغسل الموتى. قال : فدلوني عليه في سحر ذلك اليوم. فنقرت الباب خفيّا ، فقلت : سلام عليكم ، فقال : مات الشبلي؟ قلت : نعم ، فخرج إليّ ، فإذا به الشيخ ، فقلت : لا إله إلّا الله ، فقال : لا إله إلّا الله ، تعجبا. ثم قلت : قال لي الشبلي أمس لمّا التقينا بك في الوراقين : غدا يكون لي مع هذا الشيخ شأن. بحق معبودك ، من أين لك أن الشبلي قد مات؟ قال : يا أبله (٥) ، فمن أين للشبلي أنه (٦) يكون له معي شأن من الشأن اليوم؟!.

وكان موت الشبلي يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين ـ وقيل : سنة خمس وثلاثين ـ وثلاثمائة ، ودفن في الخيزرانية.

٨٤٠٠ ـ أبو بكر الوراق الصوفي

من الطوافين. صحب أبا سعيد الخزّاز (٧) ، وكان معه في ساحل بحر صيدا في حكاية تقدمت (٨).

٨٤٠١ ـ أبو بكر الجصاص البصري الصوفي

سكن دمشق ، وكان له كتاب يكتب فيه عمله حسنه وسيئه.

٨٤٠٢ ـ أبو بكر الدمشقي

من أهل الأدب. سكن بغداد.

حكى عنه علي بن هارون بن بن يحيى المنجم.

__________________

(١) سقطت من تاريخ بغداد.

(٢) في المنتظم : سلخ.

(٣) في تاريخ بغداد : «نمضي» وفي المنتظم : تعزم الجامع.

(٤) في تاريخ بغداد : «انتهينا» وفي المنتظم : حصلنا.

(٥) في المنتظم : فقال لي : فقدتك أمك ما أجهلك.

(٦) في تاريخ بغداد : أن.

(٧) هو أحمد بن سعيد الخراز ، أبو سعيد ، من أهل بغداد توفي سنة ٢٧٧ أخباره في الرسالة القشيرية.

(٨) ترجمته ليست في تاريخ دمشق المطبوع ، فهي ضمن تراجم الأحمدين المفقودة.

٧٨

٨٤٠٣ ـ أبو بكر الزعفراني

قدم دمشق.

روى عنه : أبو محمّد عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني (١) صاحب التاريخ (٢).

٨٤٠٤ ـ أبو بكر بن العطار الداراني

قرأت بخط عبد الوهّاب بن جعفر :

يوم السبت لاثنتي عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة مات أبو بكر الداراني المعروف بابن العطار المتعبد في المسجد الجامع بدمشق. مات بداريا ، وأخرجت جنازته بداريا من الغد ضحى نهار بعد أن نودي له في جامع دمشق ، وخرج جماعة من الناس من الأشراف والشيوخ والتجار ، وغيرهم فشهدوا جنازته بداريا بلاس (٣).

٨٤٠٥ ـ أبو بكر القلانسي (٤)

قرأت بخط عبد الوهاب الميداني :

في يوم الأحد سلخ شهر رمضان ـ يعني سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة ـ مات أبو بكر المعروف بالقلانسي الذي كان مقيما بسطرا (٥). وكان رجلا مستورا. وأخرجت جنازته في يوم الاثنين إلى باب شرقي ، وشهد جنازته جماعة من الناس.

٨٤٠٦ ـ أبو بكر ابن العريف الأكفاني

من أهل باب الجابية.

حدّث عن سعيد بن عبد العزيز الحلبي.

روى عنه : عبد الرّحمن بن عمر بن نصر.

__________________

(١) ترجمته في سير الأعلام ١٦ / ١٣٢.

(٢) يعني التاريخ المذيل على تاريخ محمد بن جرير الطبري.

(٣) بلاس : «بالفتح والسين مهملة ، بينه وبين دمشق عشرة أميال» ويؤكد قربها من داريا قول حسان بن ثابت :

عن الدار أقفرت بمعان

بين شاطئ اليرموك فالصمان

فالقريات من بلاس فدار

يا فسكاء فالقصور الدواني

(٤) بفتح القاف واللام. هذه النسبة إلى القلانس جمع قلنسوة وعملها ، ولعل أحد أجداد المنتسب إليه كانت صنعته القلانس (الأنساب).

(٥) سطرا : من قرى دمشق. (معجم البلدان). وفي غوطة دمشق لمحمد كردعلي ص ١٧٢ : كانت قرب بيت لهيا شمالي البلد. خربت. وقال دهمان : كانت في الطريق المقابل لباب جامع القصب.

٧٩

٨٤٠٧ ـ أبو بكر بن الفريابي

أحد الصالحين. قال عبد الوهاب :

مات لإحدى عشرة خلت من رجب سنة اثنتين وستين وثلاثمائة ، فأخرجت جنازته إلى باب توما العصر ، وكان له مشهد عظيم. عفا الله عنا وعنه.

٨٤٠٨ ـ أبو بكر الواسطي الصوفي

قرأت بخط غيث بن علي :

حدّثت أن أبا بكر الواسطي توفي بدمشق بعد مضيه من عندنا في ذي القعدة سنة خمس وسبعين وأربعمائة ، وأقام بدار الحجارة نحوا من يومين لم يعلم به.

ذكر هو لي ـ رحمه‌الله ـ أنه سمع من القاضي أبي عمر الهاشمي ، (١) وعلي بن بشران ، وهلال الحفار (٢) ، وطبقتهم. ولم يصحبه شيء من سماعه ، وكان يذكر أنه شيء كثير ، وما أظنه حدّث. وكان يظهر لي أنه قد نيف على السبعين.

٨٤٠٩ ـ أبو بكر السمرقندي الفقيه الحنفي المعروف بالظهير

قدم دمشق ، وأقام بها مدة ، وعقد له مجلس التدريس في الخزانة الشرقية بالشام من جامع دمشق التي جعلت مسجدا. ثم فوض إليه التدريس بمسجد خاتون (٣) إلى أن مات بدمشق في شوال سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة.

حرف التاء

٨٤١٠ ـ أبو تجراة (٤) الكندي (٥)

وفد على معاوية بن أبي سفيان في أمر (٦) سعد بن طلحة بن أبي طلحة العبدري مع شيبة بن عثمان الحجبي. له ذكر.

__________________

(١) اسمه القاسم بن جعفر بن عبد الواحد ، أبو عمر العباسي البصري الهاشمي ، ترجمته في سير الأعلام ١٧ / ٢٢٥.

(٢) هو هلال بن محمد بن جعفر بن سعدان أبو الفتح الحفار الكسكري البغدادي ، ترجمته في سير الأعلام ١٧ / ٢٩٣.

(٣) مسجد خاتون على الشرف القبلي عند مكان يسمى صنعاء الشام المطل على وادي الشقراء ، وهو مشهور بدمشق.

وخاتون هي أم شمس الملوك أخت الملك دقاق ، وهي ابنة الأمير جاولي (الدارس في تاريخ المدارس ١ / ٣٨٤ ـ ٣٨٥).

(٤) تجراة : بكسر المثناة وسكون الجيم (كما في الإصابة).

(٥) ترجمته في الإصابة ٤ / ٢٦ رقم ١٥٧.

(٦) في الإصابة : إمرة.

٨٠