البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

في حالة استضعاف في الأرض بحيث لا نقدر على الهجرة ، وهو جواب كذب ، والأرض هنا أرض مكة. (قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) هذا تبكيت من الملائكة لهم ، وردّ لما اعتذروا به. أي لستم مستضعفين ، بل كانت لكم القدرة على الخروج إلى بعض الأقطار فتهاجروا حتى تلحقوا بالمهاجرين ، كما فعل الذين هاجروا إلى الحبشة ، ثم لحقوا بعد بالمؤمنين بالمدينة. ومعنى فتهاجروا فيها أي : في قطر من أقطارها ، بحيث تأمنون على دينكم. وقيل : أرض الله أي المدينة. واسعة آمنة لكم من العدوّ فتخرجوا إليها. وهل هؤلاء الذين توفتهم الملائكة مسلمون خرجوا مع المشركين في قتال فقتلوا؟ أو منافقون ، أو مشركون؟ ثلاثة أقوال. الثالث قاله الحسن. قال ابن عطية : قول الملائكة لهم بعد توفي أرواحهم يدل على أنهم مسلمون ، ولو كانوا كفارا لم يقل لهم شيء من ذلك ، وإنما لم يذكروا في الصحابة لشدة ما واقعوه ، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان ، واحتمال ردته. انتهى ملخصا. وقال السدّي : يوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر كافرا حتى يهاجر ، إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا انتهى. قال ابن عطية : والذي تقتضيه الأصول أنّ من ارتد من أولئك كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود ، ومن كان مؤمنا فمات بمكة ولم يهاجر ، أو أخرج كرها فقتل ، عاص مأواه جهنم دون خلود. ولا حجة للمعتزلة في هذه الآية على التكفير بالمعاصي. وفي الآية دليل على أنّ من لا يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يحب ، وجبت عليه الهجرة. وروي في الحديث «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم». (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) الفاء للعطف ، عطفت جملة على جملة. وقيل : فأولئك خبر إن ، ودخلت الفاء في خبر إنّ تشبيها لاسمها باسم الشرط ، وقالوا : فيم كنتم حال من الملائكة ، أو صفة لظالمي أنفسهم أي : ظالمين أنفسهم قائلا لهم الملائكة : فيم كنتم؟ وقيل : خبر إنّ محذوف تقديره : هلكوا ، ثم فسر الهلاك بقوله : قالوا فيم كنتم.

(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) من الرجال جماعة ، كعياش بن أبي زمعة ، وسلمة بن هشام ، والوليد بن الوليد. ومن النساء جماعة : كأمّ الفضل أمامة بنت الحرث أم عبد الله بن عباس. ومن الولدان : عبد الله بن عباس وغيره. فإن أريد بالولدان العبيد والإماء البالغون فلا إشكال في دخولهم

٤١

في المستثنين ، وإن أريد بالولدان الأطفال فهم لا يكونون إلا عاجزين فلا يتوجه عليهم وعيد ، بخلاف الرّجال والنساء قد يكونون عاجزين ، وقد يكونون غير عاجزين. وإنما ذكروا مع الرّجال والنساء وإن كانوا لا يتوجه عليهم الوعيد باعتبار أنّ عجزهم هو عجزهم لآبائهم الرّجال والنساء ، لأنّ من أقوى أسباب العجز وعدم الحنكة وكون الرّجال والنساء مشغولين بأطفالهم ، مشغوفين بهم ، فيعجزون عن الهجرة بسبب خوف ضياع أطفالهم وولدانهم. فذكر الولدان في المستثنين تنبيه على أعظم طرق العجز للرّجال والنساء ، لأن طرق العجز لا تنحصر ، فنبه بذكر عجز الولدان على قوة عجز الآباء والأمهات بسببهم.

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرّجال والنساء ، فيلحقوا بهم في التكليف انتهى. وليس بجيد ، لأنّ المراهق لا يلحق بالمكلف أصلا ، ولا وعيد عليه ما لم يكلف. وقيل : يحتمل أن يراد بالمستضعفين أسرى المسلمين الذين هم في أيدي المشركين لا يستطيعون حيلة إلى الخروج ، ولا يهتدون إلى تخليص أنفسهم. وهذا الاستثناء قال الزجاج : هو من قوله : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) (١). قال غيره : كأنه قيل : فأولئك في جهنم إلا المستضعفين ، فعلى هذا استثناء متصل. والذي يقتضيه النظر أنه استثناء منقطع ، لأن قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (٢) إلى آخره يعود الضمير في مأواهم إليهم. وهم على أقوال المفسرين إما كفار ، وإما عصاة بالتخلف عن الهجرة وهم قادرون ، فلم يندرج فيهم المستضعفون المستثنون لأنهم عاجزون ، فهو منقطع لا يستطيعون حيلة ، ولا يهتدون سبيلا.

الحيلة : لفظ عام لأنواع أسباب التخلص. والسبيل هنا طريق المدينة قاله : مجاهد ، والسدي. وغيرهما. قال ابن عطية : والصواب أنه عام في جميع السبل ، يعني المخلصة من دار الكفر انتهى. وقيل : لا يعرفون طريقا إلى الخروج ، وهذه الجملة قيل : مستأنفة. وقيل : في موضع الحال. وقال الزمخشري : صفة للمستضعفين ، أو الرّجال والنساء والولدان. قال : وإنما جاز ذلك والجمل نكرات ، لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس بشيء بعينه كقوله :

ولقد أمر على اللئيم يسبني

انتهى كلامه.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٩٧.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٩٧.

٤٢

وهو تخريج ذهب إلى مثله بعض النحويين في قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) (١) وهو هدم للقاعدة المشهورة : بأن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة ، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة. والذي يظهر أنها جملة مفسرة لقوله : المستضعفين ، لأنها في معنى : «إلا الذين استضعفوا فجاء بيانا وتفسيرا لذلك ، لأنّ الاستضعاف يكون بوجوه ، فبين جهة الاستضعاف النافع في التخلف عن الهجرة وهي عدم استطاعة الحيلة وعدم اهتداء السبيل. والثاني مندرج تحت الأول ، لأنه يلزم من انتفاء القدرة على الحيلة التي يتخلص بها انتفاء اهتداء السبيل. وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى مسلمي مكة بهذه الآية ، فقال جندب بن ضمرة الليثي : ويقال : جندع بالعين ، أو ضمرة بن جندب لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين ، وإني لأهتدي الطريق ، والله لا أبيت الليلة بمكة ، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة ، وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم.

(فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) عسى : كلمة اطماع وترجية ، وأتى بها وإن كانت من الله واجبة ، دلالة على أنّ ترك الهجرة أمر صعب لا فسحة فيه ، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني. وقيل : معنى ذلك أنه يعفو عنه في المستقبل ، كأنه وعدهم غفران ذنوبهم كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

(وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) تأكيد في وقوع عفوه عن هؤلاء ، وتنبيه على أنّ هذا المترجي هو واقع ، لأنه تعالى لم يزل متصفا بالعفو والمغفرة.

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) قيل : نزلت في أكثم بن صيفي ، ولما رغّب تعالى في الهجرة ذكر ما يترتب عليها من وجود السعة والمذاهب الكثيرة ، ليذهب عنه ما يتوهم وجوده في الغربة ومفارقة الوطن من الشدة ، وهذا مقرر ما قالته الملائكة : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (٢).

ومعنى مراغما : متحولا ومذهبا قاله : ابن عباس ، والضحاك ، والربيع ، وغيرهم. وقال مجاهد : المزحزح عما يكره. وقال ابن زيد : المهاجر. وقال السدي : المبتغى للمعيشة. وقرأ الجراح ، ونبيح ، والحسن بن عمران : مرغما على وزن مفعل كمذهب. قال

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٣٧.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٩٧.

٤٣

ابن جني : هو على حذف الزوائد من راغم. والسعة هنا في الرزق قاله : ابن عباس ، والضحاك ، والربيع ، وغيرهم. وقال قتادة : سعة من الضلالة إلى الهدى ، ومن القلة إلى الغنى. وقال مالك : السعة سعة البلاد. قال ابن عطية : والمشبه لفصاحة العرب أن يريد سعة الأرض وكثرة المعاقل ، وبذلك تكون السعة في الرّزق واتساع الصدر عن همومه وفكره ، وغير ذلك من وجوه الفرح ، ونحو هذا المعنى قول الشاعر :

لكان لي مضطرب واسع

في الأرض ذات الطول والعرش

انتهى. وقدم مراغمة الأعداء على سعة العيش ، لأن الابتهاج برغم أنوف الأعداء لسوء معاملتهم أشد من الابتهاج بالسعة.

(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) قيل : نزلت في جندب بن ضمرة وتقدمت قصته قبل. وقيل : في ضمرة بن بغيض. وقيل : أبو بغيض ضمرة بن زنباع الخزاعي. وقيل : خالد بن حرام بن خويلد أخو حكيم بن حرام خرج مهاجرا إلى الحبشة ، فمات في الطريق. وقيل : ضمرة بن ضمرة بن نعيم. وقيل : ضمرة بن خزاعة. وقيل : رجل من كنانة هاجر فمات في الطريق ، فسخر منه قومه فقالوا : لا هو بلغ ما يريد ، ولا هو أقام في أهله حتى دفن. والصحيح : أنه ضمرة بن بغيض ، أو بغيض بن ضمرة بن الزنباع ، لأنّ عكرمة سأل عنه أربع عشرة سنة ، وصححه. وجواب الشرط فقد وقع أجره على الله ، وهذه مبالغة في ثبوت الأجر ولزومه ، ووصول الثواب إليه فضلا من الله وتكريما ، وعبر عن ذلك بالوقوع مبالغة. وقرأ النخعي وطلحة بن مصرّف : ثم يدركه برفع الكاف. قال ابن جني : هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : ثم هو يدركه الموت ، فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم ، وفاعله. وعلى هذا حمل يونس قول الأعشى :

إن تركبوا فركوب الخير عادتنا

أو تنزلون فإنا معشر نزل

المراد : أو أنتم تنزلون ، وعليه قول الآخر :

إن تذنبوا لم يأتيني نعيقكم

فما عليّ بذنب عندكم قوت

المعنى : ثم أنتم يأتيني نعيقكم. وهذا أوجه من أن يحمل على ألم يأتيك انتهى. وخرج على وجه آخر وهو : أن رفع الكاف منقول من الهاء ، كأنه أراد أن يقف عليها ، ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف كقوله :

٤٤

من عرى سلبي لم أضربه

يريد : لم أضربه ، فنقل حركة الهاء إلى الباء المجزومة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن ، ونبيح ، والجراح : ثم يدركه بنصب الكاف ، وذلك على إضماران كقول الأعشى :

ويأوي إليها المستجير فيعصما

قال ابن جني : هذا ليس بالسهل ، وإنما بابه الشعر لا القرآن وأنشد أبو زيد فيه :

سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا

والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف انتهى. وتقول : أجرى ثم مجرى الواو والفاء ، فكما جاز نصب الفعل بإضمار أن بعدهما بين الشرط وجوابه ، كذلك جاز في ثم إجراء لها مجراهما ، وهذا مذهب الكوفيين ، واستدلوا بهذه القراءة. وقال الشاعر في الفاء :

ومن لا يقدم رجله مطمئنة

فيثبتها في مستوى القاع يزلق

وقال آخر في الواو :

ومن يقترب منا ويخضع نوؤه

ولا يخش ظلما ما أقام ولا هضما

وقالوا : كل هجرة لغرض ديني من : طلب علم ، أو حج ، أو جهاد ، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة ، أو قناعة ، وزهدا في الدنيا ، أو ابتغاء رزق طيب ، فهي هجرة إلى الله ورسوله. وإن أدركه الموت فأجره واقع على الله تعالى.

قيل : وفي الآية دليل على أن الغازي إذا خرج إلى الغزو ومات قبل القتال فله سهمه وإن لم يحضر الحرب. روي ذلك عن أهل المدينة ، وابن المبارك ، وقالوا : إذا لم يحرم الأجر لم يحرم الغنيمة. ولا تدل هذه الآية على ذلك ، لأن الغنيمة لا تستحق إلا بعد الحيازة ، فالسهم متعلق بالحيازة ، وهذا مات قبل أن يغنم ، ولا حجة في قوله : فقد وقع أجره على الله على ذلك ، لأنه لا خلاف في أنه لو مات في دار الإسلام وقد خرج إلى الغزو وما دخل في دار الحرب ، أنه لا يسهم له ، وقد وقع أجره على الله كما وقع أجر الذي خرج مهاجرا فمات قبل بلوغه دار الهجرة.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي : غفورا لما سلف من ذنوبه ، رحيما بوقوع أجره عليه ومكافأته على هجرته ونيته.

٤٥

وتضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والبديع. منها الاستعارة في قوله : إذا ضربتم في سبيل الله ، استعار الضرب للسعي في قتال الأعداء ، والسبيل لدينه ، وفي : لا يستوي عبّر به وهو حقيقة في المكان عن التساوي في المنزلة والفضيلة وفي : درجة حقيقتها في المكان فعبر به عن المعنى الذي اقتضى التفضيل ، وفي : يدركه استعار الإدراك الذي هو صفة من فيه حياة لحلول الموت ، وفي : فقد وقع استعار الوقوع الذي هو من صفات الإجرام لثبوت الأجر. والتكرار في : اسم الله تعالى ، وفي : فتبينوا ، وفي : فضل الله المجاهدين على القاعدين. والتجنيس المماثل في : مغفرة وغفورا. والمغاير في : أن يعفو عنهم وعفوا ، وفي : يهاجر ومهاجرا. وإطلاق الجمع على الواحد في : توفاهم الملائكة على قول من قال أنه ملك الموت وحده. والاستفهام المراد منه التوبيخ في : فيم كنتم ، وفي : ألم تكن. والإشارة في كذلك وفي : فأولئك. والسؤال والجواب في : فيم كنتم وما بعدها. والحذف في عدة مواضع.

وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢)

السلاح : معروف وما هو ما يتحصن به الإنسان من سيف ورمح وخنجر ودبوس ونحو ذلك ، وهو مفرد مذكر ، يجمع على أسلحة ، وأفعلة جمع فعال. المذكر نحو : حمار وأحمرة ، ويجوز تأنيثه. قال الطرماح :

يهز سلاحا لم يرثها كلالة

يشك بها منها غموض المغابن

٤٦

وقال الليث : يقال للسيف وحده سلاح ، وللعصا وحدها سلاح. وقال ابن دريد : يقال : السلاح ، والسلح ، والمسلح ، والمسلحان ، يعني : على وزن الحمار ، والضلع ، والنعر ، والسلطان. ويقال : رجل سالح إذا كان معه السلاح. وقال أبو عبيدة : السلاح ما قوتل به.

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) روى مجاهد عن ابن عباس قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد ، وقال المشركون : لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم وهم في الصلاة ، فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر ، الضرب في الأرض. والظاهر جواز القصر في مطلق السفر ، وبه قال أهل الظاهر.

واختلفت فقهاء الأمصار في حدّ المسافة التي تقصر فيها الصلاة ، فقال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق : تقصر في أربعة برد ، وذلك ثمانية وأربعون ميلا. وقال أبو حنيفة والثوري : مسيرة ثلاث. وقال أبو حنيفة : ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام. وقال الأوزاعي : مسيرة يوم تام ، وحكاه عن عامة العلماء. وقال الحسن والزهري : مسيرة يومين. وروي عن مالك : يوم وليلة. وقصر أنس في خمسة عشر ميلا. والظاهر أنه لا يعتبر نوع سفر ، بل يكفي مطلق السفر ، سواء كان في طاعة أو مباح أو معصية ، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة. وروي عن ابن مسعود : أنه لا يقصر إلا في حج أو جهاد. وقال عطاء : لا تقصر الصلاة إلا في سفر طاعة ، وروي عنه : أنها تقصر في السفر المباح. وأجمعوا على القصر في سفر الحج والعمرة والجهاد وما ضارعها من صلة رحم ، وإحياء نفس. والجمهور على أنه لا يجوز في سفر المعصية كالباغي ، وقاطع الطريق ، وما في معناهما. والظاهر أنه لا يقصر إلا حتى يتصف بالسفر بالفعل ، ولا اعتبار بمسافة معينة ، ولا زمان. وروي عن الحرث بن أبي ربيعة : أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله ، والأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود ، وبه قال عطاء وسليمان بن موسى. والجمهور على أنه لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية. وروي عن مجاهد أنه قال : لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل. والظاهر من قوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أن القصر مباح. وقال مالك في المبسوط : سنة. وقال حماد بن أبي سليمان ، وأبو حنيفة ، ومحمد بن سحنون ، وإسماعيل القاضي : فرض ، وروي عن عمر بن عبد العزيز. والظاهر أن قوله : أن تقصروا ، مطلق في القصر ، ويحتاج إلى مقدار ما ينقص منها. فذهبت جماعة

٤٧

إلى أنه قصر من أربع إلى اثنين. وقال قوم : من ركعتين في السفر إلى ركعة ، والركعتان في السفر تمام.

(إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ظاهره أنّ إباحة القصر مشروطة بالخوف المذكور ، وإلى ذلك ذهب جماعة. ومن ذهب إلى أنّ القصر هو من ركعتي السفر إلى ركعة ، شرط الخوف ، وقال : تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها ، ويكون للإمام ركعتان. وقالت طائفة : لا يراد بالقصر الصلاة هنا القصر من ركعتيها ، وإنما المراد القصر من هيآتها بترك الركوع والسجود في الإيماء ، وترك القيام إلى الركوع ، وروي فعل ذلك عن ابن عباس وطاووس. وذهب آخرون إلى أنّ الآية مبيحة القصر من حدود الصلاة وهيآتها عند المسايفة واشتعال الحرب ، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه ، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه إلى ركعتين ، ورجح هذا القول الطبري بقوله : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) أي بحدودها وهيآتها الكاملة. والحديث الصحيح يدلّ على أنّ هذا الشرط لا مفهوم له ، فلا فرق بين الخوف والأمن ، وحديث يعلى في ذلك مشهور صحيح.

والفتنة هنا هي التعرض بما يكره من قتال وغيره. ولغة الحجاز : فتن ، ولغة تميم وربيعة وقيس : أفتن رباعيا. وقال أبو زيد : قصر من صلاته قصر ، أنقص من عددها. وقال الأزهري : قصر وأقصر. وقرأ ابن عباس : أن تقصروا رباعيا ، وبه قرأ الضبي عن رجاله. وقرأ الزهري : تقصروا مشدّدا ، ومن للتبعيض. وقيل : زائدة. وقيل : الشرط ليس متعلقا بقصر الصلاة ، بل تم الكلام عند قوله : أن تقصروا من الصلاة ، ثم ابتدأ حكم الخوف. ويؤيده على قول : أنّ تجارا قالوا : إنا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي؟ فنزلت : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ، ثم انقطع الكلام. فلما كان بعد ذلك بسنة في غزاة بني أسد حين صليت الظهر قال بعض العدو : هلا شددتم عليهم وقد مكنوكم من ظهورهم؟ فقالوا : إنّ لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأولادهم ، فنزلت : (إِنْ خِفْتُمْ) ـ إلى قوله ـ (عَذاباً مُهِيناً) صلاة الخوف. ورجح هذا بأنه إذا علق الشرط بما قبله كان جواز القصر مع الأمن مستفادا من السنة ، ويلزم منه نسخ الكتاب بالسنة. وعلى تقدير الاستئناف لا يلزم ، ومتى استقام اللفظ وتم المعنى من غير محذور النسخ كان أولى انتهى.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٠٣.

٤٨

وليس هذا بنسخ ، إنما فيه عدم اعتبار مفهوم الشرط ، وهو كثير في كلام العرب. ومنه قول الشاعر :

عزيز إذا حلّ الخليقان حوله

بذي لحب لجأته وضواهله

وفي قراءة أبيّ وعبد الله : أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم ، بإسقاط إن خفتم ، وهو مفعول من أجله من حيث المعنى أي : مخافة أن يفتنكم. وأصل الفتنة الاختبار بالشدائد.

(إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) عدو : وصف يوصف به الواحد والجمع. قال : هم العدو ، ومعنى مبينا : أي مظهرا للعداوة ، بحيث أنّ عداوته ليست مستورة ، ولا هو يخفيها ، فمتى قدر على أذية فعلها.

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) استدل بظاهر الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لا يرى صلاة الخوف بعد الرسول حيث شرط كونه فيهم ، وكونه هو المقيم لهم الصلاة. وهو مذهب : ابن علية ، وأبي يوسف. لأن الصلاة بإمامته لا عوض عنها ، وغيره من العوض ، فيصلي الناس بإمامين طائفة بعد طائفة. وقال الجمهور : الخطاب له يتناول الأمراء بعده ، والضمير في : فيهم ، عائد على الخائفين. وقيل : على الضاربين في الأرض. والظاهر أنّ صلاة الخوف لا تكون إلا في السفر ، ولا تكون في الحضر ، وإن كان خوف. وذهب إليه قوم. وذهب الجمهور إلى أنّ الحضر إذا كان خوف كالسفر.

ومعنى : فأقمت لهم الصلاة ، أقمت حدودها وهيآتها. والذي يظهر أنّ المعنى فأقمت بهم. وعبر بالإقامة إذ هي فرض على المصلي في قول : عن ذلك. ومعنى : فلتقم هو من القيام ، وهو الوقوف. وقيل : فلتقم بأمر صلاتها حتى تقع على وفق صلاتك ، من قام بالأمر اهتم به وجعله شغله. والظاهر أنّ الضمير في : وليأخذوا أسلحتهم عائد على طائفة لقربها من الضمير ، ولكونها لها فيما بعدها في قوله : فإذا سجدوا. وقيل : إن الضمير عائد على غيرهم ، وهي الطائفة الحارسة التي لم تصل. وقال النحاس : يجوز أن يكون للجميع ، لأنه أهيب للعدو : فإذا سجدوا أي : هذه الطائفة. ومعنى سجدوا : صلوا. وفيه دليل على أنّ السجود قد يعبر به عن الصلاة ، ومنه : «إذا جاء أحدكم المسجد فليسجد سجدتين» أي فليصل ركعتين.

٤٩

«(فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) : ظاهره أن الضمير في فليكونوا عائد على الساجدين ، والمعنى : أنهم إذا فرغوا من السجود انتقلوا إلى الحراسة فكانوا وراءكم. وقال الزمخشري : فليكونوا يعني : غير المصلين من ورائكم يحرسونكم ، وجوز الوجهين ابن عطية ، قال : يحتمل أن يكون الذين سجدوا ، ويحتمل أن تكون الطائفة القائمة أولا بإزاء العدوّ. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : فلتقم بكسر اللام. وقرأ أبو حيوة : وليات بياء بثنتين تحتها على تذكير الطائفة ، واختلف عن أبي عمرو ، في إدغام التاء في الطاء. وفي قوله : فلتأت طائفة ، دليل على أنهم انقسموا طائفتين : طائفة حارسة أولا ، وطائفة مصلية أولا معه ، ثم التي صلت أولا صارت حارسة ، وجاءت الحارسة أولا فصلت معه. والظاهر أنّ الأمر بأخذ الأسلحة واجب ، لأنّ فيه اطمئنان المصلي ، وبه قال : الشافعي وأهل الظاهر. وذهب الأكثرون إلى الاستحباب.

ودلت هذه الكيفية التي ذكرت في هذه الآية على أنّ طائفة صلت مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض صلاة ، ولا دلالة فيها على مقدار ما صلت معه ، ولا كيفية إتمامهم ، وإنما جاء ذلك في السنة. ونحن نذكر تلك الكيفيات على سبيل الاختصار ، لأنها مبينة ما أجمل في القرآن. الكيفية الأولى : صلت طائفة معه ، وطائفة وجاه العدو ، وثبتت قائمة حتى تتم صلاتهم ويذهبوا وجاه العدوّ ، وجاءت هذه التي كانت وجاه العدوّ أولا فصلى بهم الركعة التي بقيت ، ثم ثبت جالسا حتى أتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وهذه كانت بذات الرقاع. الكيفية الثانية : كالأولى ، إلا أنه حين صلى بالطائفة الأخيرة ركعة سلم ، ثم قضت بعد سلامه. وهذه مروية في ذات الرقاع أيضا. الكيفية الثالثة : صف العسكر خلفه صفين ، ثم كبر وكبروا جميعا ، وركعوا معه ، ورفعوا من الركوع جميعا ، ثم سجد هو بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا سجد الآخرون في مكانهم ، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمين وتأخر المتقدمون إلى مصاف المتأخرين ، ثم ركعوا معه جميعا ، ثم سجد فسجد معه الصف الذي يليه ، فلما صلى سجد الآخرون ، ثم سلم بهم جميعا. وهذه صلاته بعسفان والعدو في قبلته. الكيفية الرابعة : مثل هذا إلا أنه قال : ينكص الصف المتقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود ، ويتقدم الآخر فيسجدون في مصاف الأولين. الكيفية الخامسة : صلى بإحدى الطائفتين ركعة ، والأخرى مواجهة العدوّ ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدوّ ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم سلم ، ثم قضى بهؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة في حين واحد. الكيفية السادسة : يصلي بطائفة

٥٠

ركعة ثم ينصرفون تجاه العدوّ ، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعة ثم يسلم ، وتقوم التي معه تقضي ، فإذا فرغوا ساروا تجاه العدوّ ، وقضت الأخرى. الكيفية السابعة : صلى بكل طائفة ركعة ، ولم يقض أحد من الطائفتين شيئا زائدا على ركعة واحدة. الكيفية الثامنة : صلى بكل طائفة ركعتين ركعتين ، فكانت له أربع ، ولكل رجل ركعتان. الكيفية التاسعة : يصلي بإحدى الطائفتين ركعة إن كانت الصلاة ركعتين ، والأخرى بإزاء العدو ، ثم تقف هذه بإزاء العدوّ وتأتي الأولى فتؤدي الركعة بغير قراءة ، وتتم صلاتها ثم تحرس ، وتأتي الأخرى فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها ، وكذا في المغرب. إلا أنه يصلي بالأولى ركعتين ، وبالثانية ركعة. الكيفية العاشرة : قامت معه طائفة ، وطائفة أخرى مقابل العدوّ وظهورهم إلى القبلة ، فكبرت الطائفتان معه ، ثم ركع وركع معه الذين معه وسجدوا كذلك ، ثم قام فصارت التي معه إلى إزاء العدوّ ، وأقبلت التي كانت بإزاء العدوّ فركعوا وسجدوا وهو قائم كما هو ، ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه وسجدوا معه ، ثم أقبلت التي بإزاء العدوّ فركعوا وسجدوا وهو قاعد ، ثم سلم وسلم الطائفتان معه جميعا. وهذه كانت في غزوة نجد. الكيفية الحادية عشرة : صلى بطائفة ركعتين ثم سلم ، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعتين وسلم.

وهذه كانت ببطن نخل. واختلاف هذه الكيفيات يرد على مجاهد قوله : إنه ما صلى الرسول إلا مرتين : مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم ، ومرة بعسفان والمشركون بضخيان بينهم وبين القبلة. وذكر ابن عباس : أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة الخوف. وقال أبو بكر بن العربي : روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة ، يعني كيفية. وقال ابن حنبل : لا نعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت صحيح ، فعلى أي حديث صليت أجزأ. وكذا قال الطبري. وجمع في الأخذ بين الحذر والأسلحة ، فإنه جعل الحذر أنه يحترز بها كما يحترز بالأسلحة كما جاء : (تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) (١) جعل الإيمان مستقرا لتمكنهم فيه.

(وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) تقدم الكلام في لو بعد ود في قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ) (٢) أي : يشدون عليكم شدة واحدة. وقرى : وأمتعاتكم ، وهو شاذ إذ هو جمع الجمع كما قالوا : أشقيات وأعطيات في

__________________

(١) سورة الحشر : ٥٩ / ٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٩٦.

٥١

أشقية وأعطية ، جمع شقاء وعطاء. وفي هذا الإخبار تنبيه وتحذير من الغفلة ، وأفرد المسألة لأنها أبلغ في الإيصال.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) قال ابن عباس : نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف ، كان مريضا فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس. ولما كانت هاتان الحالتان مما يشق حمل السلاح فيهما ، ورخص في ذلك للمريض لأن حمله السلاح مما يكره به ويزيد في مرضه ، ورخص في ذلك إن كان مطر ، لأن المطر مما يثقل العدوّ ويمنعه من خفة الحركة للقتال. وقال : إن يتأذوا من مطر إلا لحق الكفار من أذاه ما لحق المسلمين غالبا إن كانا متقاربين في المسافة ومرضا إما لجراحة سبقت ، أو لضعف بنية ، أو غير ذلك مما يعد مرضا ، وتكرير الأمر بأخذ الحذر في الصلاة. وفي هاتين الحالتين مما يدل على توكيد التأهب والاحتراز من العدو ، فإنّ الجيش كثيرا ما يصاب من التفريط في الحذر. وقال الضحاك في قوله : وخذوا حذركم ، أي : تقلدوا سيوفكم ، فإن ذلك حذر الغزاة.

(إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) قال الزمخشري : الأمر بالحذر من العدوّ يوهم توقع غلبة واغترار ، فنفى عنهم ذلك الإيهام بإخبارهم أنّ الله يهين عدوهم ، ويخذلهم ، وينصرهم عليه لتقوى قلوبهم ، وليعلموا أنّ الأمر بالحذر ليس لذلك ، وإنما هو تعبد من الله ، كما قال : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (١).

فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٩٥.

٥٢

لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣)

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الظاهر : أنّ معنى قضيتم الصلاة أي فرغتم منها ، والصلاة هنا صلاة الخوف ، وإلى ذلك ذهب الجمهور ، وكذا فسره ابن عباس. والذكر المأمور به هنا هو الذكر باللسان إثر صلاة الخوف على حدّ ما أمروا به عند قضاء المناسك بذكر الله ، فأمروا بذكر الله من : التهليل ، والتكبير ، والتسبيح ، والدعاء بالنصر ، والتأييد في جميع الأحوال فإن ما هم فيه من ارتقاب مقارعة العدو ، حقيق بالذكر ، والالتجاء إلى الله. أي : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي أتموها. وذهب قوم إلى أنّ معنى قضيتم الصلاة : تلبستم بالصلاة وشرعتم فيها. ومعنى الأمر بالذكر أي : صلوها قياما في حال المسايفة والاختلاط ، وقعودا جاثين على الركب من أنين ، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح ، فهي هيآت لأحوال على حسب تفصيلها. فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها وأمنتم ، فأقيموا الصلاة أي : فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج ، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري وهو خلاف الظاهر. قال : وهذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجابه الصلاة على المحارب في حال المسايفة ، والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها ، فإذا اطمأن فعليه القضاء ،

٥٣

وأما عند أبي حنيفة فهو معذور في تركها إلى أن يطمئن. وقيل : قوله : فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا ، أنه أمر بالصلاة حاله إلا من بعد الخوف قياما للأصحاء ، وقعودا للعاجزين عن القيام ، وعلى جنوبكم العاجزين عن القعود لزمانة أو جراحة أو مرض لا يستطيع القعود معها ، فإذا اطمأننتم أي : أمنتم من الخوف قاله : قتادة ، والسدي. فأقيموا الصلاة أي : صلوها لا كصلاة الخوف ، بل كصلاة الأمن في السفر. وقيل : فإذا اطمأننتم أي : فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعا.

(إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١) أي واجبة في أوقات معلومة قاله : ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، وابن قتيبة. ولم يقل موقوتة ، لأن الكتاب مصدر ، فهو مذكر. وروي عن ابن عباس : أن المعنى فرضا مفروضا ، فهما لفظان بمعنى واحد ، والظاهر الأول أي : فرضا منجما في أوقات. وقال أبو عبد الله الرازي : أجمل هنا تلك الأوقات وفسرها في أوقات خمسا ، وتوقيتها بأوقات خمسة في نهاية الحسن نظرا إلى المعقول ، لأن الحوادث لها مراتب خمس : مرتبة الحدوث ، ومرتبة الوقوف ، ومرتبة الكهولة وفيها نقصان خفي ، ومرتبة الشيخوخة ، والخامسة : أن تبقى آثاره بعد موته مدّة ثم تمحى. وهذه المراتب حصلت للشمس بحسب طلوعها وغروبها ، فأوجب الله عند كل مرتبة من أحوالها الخمس صلاة انتهى. ما لخصناه من كلامه وطول هو كثيرا في شيء لا يدل عليه القرآن ، ولا تقتضيه لغة العرب ، ذكر ذلك في تفسيره فمن أراده فليطالعه فيه.

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) قيل : نزلت في الجهاد مطلقا. وقيل : في انصراف الصحابة من أحد ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم باتباع أبي سفيان وأصحابه ، أمر أن لا يخرج إلا من كان معه في أحد ، فشكوا بأنّ فيهم جراحات. وهذه الآية تشير إلى أن القضاء في قوله : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) إنما هو قضاء صلاة الخوف.

وقرأ الحسن : تهنوا بفتح الهاء وهي لغة. فتحت الهاء كما فتحت دال يدع ، لأجل حرف الحلق ، والمعنى : ولا تضعفوا أو تخوروا جبنا في طلب القوم. وقرأ عبيد بن عمير : ولا تهانوا من الإهانة. نهوا عن أن يقع منهم ما يترتب عليه إهانتهم من كونهم يجنون على أعدائهم فيهانون كقولهم : «لا أريناك هاهنا» ، ثم شجعهم على طلب القوم وألزمهم

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٠٣.

٥٤

الحجة ، فإنّ ما فيهم من الألم مشترك ، وتزيدون عليهم أنكم ترجون من الله الثواب وإظهار دينه بوعده الصادق ، وهم لا يرجونه ، فينبغي أن تكونوا أشجع منهم وأبعد عن الجبن. وإذا كانوا يصبرون على الآلام والجراحات والقتل ، وهم لا يرجون ثوابا في الآخرة ، فأنتم أحرى أن تصبروا. ونظير ذكر هذا الأمر المشترك فيه قول الشاعر :

قاتلوا القوم يا خداع ولا

يأخذكم من قتالهم قتل

القوم أمثالكم لهم شعر

في الرأس لا ينشرون أن قتلوا

والرجاء هنا على بابه ، وقيل : معناه الخوف الذي تخافون من عذاب الله ما لا تخافون كقوله : إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ، أي : لم يخف. وزعم الفراء أنّ الرجاء لا يكون بمعنى الخوف إلا مع النفي ، ولا يقال رجوتك بمعنى خفتك. وقرأ الأعرج : أن تكونوا بفتح الهمزة على المفعول من أجله. وقرأ ابن السميفع : تئلمون بكسر التاء. وقرأ ابن وثاب ومنصور بن المعتمر : تئلمون بكسر تاء المضارعة فيهما ويائهما ، وهي لغة.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي عليما بنياتكم حكيما فيما يأمركم به وينهاكم عنه.

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) طوّل المفسرون في سبب النزول ، ولخصنا منه انتهاء ما في قول قتادة وغيره. نزلت في طعمة بن أبيرق ، سرق درعا في جرب فيه دقيق لقتادة بن النعمان وخبأها عند يهودي ، فحلف طعمة ما لي بها علم ، فاتبعوا أثر الدقيق إلى دار اليهودي ، فقال اليهودي : دفعها إليّ طعمة. وقيل : استودع يهودي درعا فخانه ، فلما خاف اطلاعهم عليها ألقاها في دار أبي مليك الأنصاري. قال السدي : وقيل : السلاح والطعام كان لرفاعة بن زيد عم قتادة ، وأن بني أبيرق نقبوا مشربيته وأخذوا ذلك ، وهم بشير بضم الباء ومبشر وبشر ، وأهموا أنّ فاعل ذلك هو لبيد بن سهل ، فشكاهم قتادة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الرسول همّ أن يجادل عن طعمه ، أو عن أبيرق ، ويقال فيه : طعيمة.

وقال الكرماني : أجمع المفسرون على أنّ هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق أحمد بني ظفر بن الحرث ، إلا ابن بحر فإنه قال : نزلت في المنافقين ، وهو متصل بقوله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) (١) انتهى. وفي هذه الآية تشريف للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتفويض الأمور إليه بقوله : لتحكم بين الناس بما أراك الله.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٨٨.

٥٥

ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما صرح بأحوال المنافقين ، واتصل بذلك أمر المحاربة وما يتعلق بها من الأحكام الشرعية ، رجع إلى أحوال المنافقين ، فإنهم خانوا الرسول على ما لا ينبغي ، فأطلعه الله على ذلك وأمره أن لا يلتفت إليهم ، وكان بشير منافقا ويهجو الصحابة وينحل الشعر لغيره ، وأما طعمة فارتد ، وأنه لما بين الأحكام الكثيرة عرف أنّ كلها من الله ، وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قوم. أو أنه لما أنه يجاهد الكفار ، أنه لا يجوز إلحاق ما لم يفعلوا بهم ، وأنّ كفره لا يبيح المسامحة في النظر إليه ، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله ، ولا يلحق به حيف لأجل أن يرضي المنافق.

والكتاب هنا القرآن. ومعنى بالحق : أي لا عوج فيه ولا ميل. والناس هنا عام ، وبما أراك الله بما أعلمك من الوحي. وقيل : بالنظر الصحيح فإنه محروس في اجتهاده ، معصوم في الأقوال والأفعال. وقيل : بما ألقاه في قلبك من أنوار المعرفة وصفاء الباطن. وعن عمر : «لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله ، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه ، لأن الرأي كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصيبا ، لأن الله تعالى كان يريه إياه ، وهو منا الظن والتكليف دون الإهمال ، أو بماله عاقبة حميدة ، لأن ما ليس كذلك عبث وباطل». وقال الماتريدي : بالحق أي : موافقا لما هو الحق على العباد ، ولما لبعضهم على بعض ليعلموا بذلك ، أو بيانا لأمره. وحق كائن ثابت وهو البعث والقيامة ، ليتزودوا له. أو بما يحمل عليهم فاعله ، أو بالعدل والصدق على الأمن من التغيير والتبديل. بما أراك الله : فيه دليل جواز اجتهاده ، واجتهاده كالنص ، لأن الله تعالى أخبر أنه يريه ذلك أو لا يريه غير الصواب انتهى كلامه.

(وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) أي : مخاصما ، كجليس بمعنى مجالس ، قاله : الزجاج والفارسي وغيرهما. ويحتمل أن يكون للمبالغة من خصم ، والخائنون جمع. فإنّ بني أبيرق الثلاثة هم الذين نقبوا المشربة ، فظاهر إطلاق الجمع عليهم وإن كان وحده هو الرّجل الذي خان في الدرع أو سرقها ، فجاء الجمع باعتباره واعتبار من شهد له بالبراءة من قومه كأسيد بن عروة ومن تابعه ممن زكاه ، فكانوا شركاء له في الإثم ، خصوصا من يعلم أنه هو السارق. أو جاء الجمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته ، فلا يخاصم لخائن قط ، ولا يحاول عنه. وخصيما يحتاج متعلقا محذوفا أي البراء. والبريء مختلف فيه حسب الاختلاف في السبب : أهو اليهودي الذي دفع إليه طعمة الدّرع وهو زيد بن السمين ، أو أبو مليك الأنصاري؟ وهو الذي ألقى طعمة الدرع في داره لما خاف الافتضاح ، أو لبيد بن

٥٦

سهل؟ وقال يحيى بن سلام : وكان يهوديا. وذكر المهدوي أنه كان مسلما. وأدخله أبو عمرو بن عبد البر في كتاب الصحابة ، فدل على إسلامه كما ذكر المهدوي. ولما نزلت هذه الآيات هرب طعمة إلى مكة وارتد ، ونزل على سلافة فرماها حسان به في شعر قاله ومنه :

وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت

ينازعها جلد استها وتنازعه

ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتمو

وفينا نبي عنده الوحي واضعه

فأخرجته ورمت رحله خارج المنزل وقالت : ما كنت تأتيني بخير أهديت لي شعر حسان ، فنزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده ، ثم نقب بيتا ليسرق منه فسقط الحائط عليه فمات. وقيل : اتبع قوما من العرب فسرقهم فقتلوه.

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي : استغفر لأمتك المذنبين المتخاصمين بالباطل. قال الزمخشري : واستغفر الله مما هممت به من عقاب اليهودي. وقال الطبري والزجاج : واستغفر الله أي من ذنبك في خصامك لأجل الخائنين. قال ابن عطية : وهذا ليس بذنب ، لأنه عليه‌السلام إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد براءتهم انتهى. وقيل : هو أمر بالاستغفار على سبيل التسبيح من غير ذنب أو قصد توبة ، كما يقول الرجل : استغفر الله. وقيل : الخطاب صورة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بنو أبيرق. وقيل : المعنى واستغفر الله مما هممت به قبل النبوّة.

(وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) هذا عام يندرج فيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم. واختيان الأنفس هو مما يعود عليها من العقوبة في الآخرة والدنيا ، كما جاء نسبة ظلمهم لأنفسهم. والنهي عن الشيء لا يقتضي أن يكون المنهي ملابسا للمنهى عنه. وروى العوفي عن ابن عباس : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصم عن طعمة ، وقام يعذر خطيبا. وروى قتادة وابن جبير : أنه همّ بذلك ولم يفعله.

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) أتى بصيغة المبالغة في الخيانة والإثم ليخرج منه من وقع منه المرة ، ومن صدرت منه الخيانة على سبيل الغفلة وعدم القصد. وفي صفتي المبالغة دليل على إفراط طعمة في الخيانة وارتكاب المآثم. وقيل : إذا عثرت من رجل سيئة فاعلم أنّ لها أخوات. وعن عمر أنه أمر بقطع يد سارق ، فجاءت أمه تبكي وقالت : هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه فقال : كذبت إنّ الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة.

٥٧

وتقدمت صفة الخيانة على صفة المآثم ، لأنها سبب للإثم خان فأثم ، ولتواخي الفواصل.

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) الضمير في يستخفون الظاهر : أنه يعود على الذين يختانون ، وفي ذلك توبيخ عظيم وتقريع ، حيث يرتكبون المعاصي مستترين بها عن الناس إن اطلعوا عليها ، ودخل معهم في ذلك من فعل مثل فعلهم. وقيل : الضمير يعود على الصنف المرتكب للمعاصي ، ويندرج هؤلاء فيهم ، وهم أهل الخيانة المذكورة والمتناصرون لهم. وقيل : يعود على من باعتبار المعنى ، وتكون الجملة نعتا. وهو معهم أي : عالم بهم مطلع عليهم ، لا يخفى عنه تعالى شيء من أسرارهم ، وهي جملة حالية. قال الزمخشري : وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم عليه من قلة الحياء والخشية من ربهم ، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة ، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح انتهى. وهذا كقول الشاعر :

يا للعجاج لمن يعصي ويزعم إذ

قد آمنوا بالذي جاءت به الرسل

أتى بجامع إيمان لمعصية

كلا أماني كذب ساقها الأمل

أي أن المعصية كلا أماني كذب ساقها الأمل الاستخفاء : الاستتار. وقال ابن عباس : الاستحياء استحى فاستخفى ، إذ يبيتون ما لا يرضى من القول الذي رموا به البريء ، ودافعوا به عن السارق. والعامل في إذ العامل في معهم ، وتقدّم الكلام في التبييت.

(وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) كناية عن المبالغة في العلم. ولما كانت قصة طعمة جمعت بين عمل وقول : جاء وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ، فنبه على أنه عالم بأقوالهم وأعمالهم. وتضمن ذلك الوعيد الشديد والتقريع البالغ ، إذ كان تعالى محيطا بجميع الأقوال والأعمال ، فكان ينبغي أن تستر القبائح عنه بعدم ارتكابها.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) تقدم الكلام على ها أنتم هؤلاء ، وعلى الجملة بعدها قراءة وإعرابا في سورة آل عمران والخطاب للذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي ، ويندرج في هذا العموم أهل النازلة. والأظهر أن يكون ذلك خطابا للمتعصبين في قصة طعيمة ، ويندرج فيه

٥٨

من عمل عملهم. ويقوي ذلك أنّ هؤلاء إشارة إلى حاضرين. وقرأ عبد الله عنه في الموضعين أي : عن طعمة. وفي قوله : فمن يجادل الله عنهم ، وعيد محض أي : أنّ الله يعلم حقيقة الأمر ، فلا يمكن أن يلبس عليه بجدال ولا غيره. ومعنى هذا الاستفهام النفي أي : لا أحد يجادل الله عنهم يوم القيامة إذا حل بهم عذابه. والوكيل : الحافظ المحامي ، والذي يكل الإنسان إليه أموره. وهذا الاستفهام معناه النفي أيضا ، كأنه قال : لا أحد يكون وكيلا عليهم فيدافع عنهم ويحفظهم. وهاتان الجملتان انتفى في الأولى منهما المجادلة ، وهي المدافعة بالفعل والنصرة بالقوة.

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) الظاهر أنهما غير أنّ عمل السوء القبيح الذي يسوء غيره ، كما فعل طعمة بقتادة واليهودي. وظلم النفس ما يختص به كالحلف الكاذب. وقيل : ومن يعمل سوءا من ذنب دون الشرك ، أو يظلم نفسه بالشرك انتهى. وقيل : السوء الذنب الصغير ، وظلم النفس الذنب الكبير. وقال أبو عبد الله الرازي : وخص ما يبدي إلى الغير باسم السوء ، لأن ذلك يكون في الأكثر لا يكون ضررا حاضرا ، لأنّ الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه. وقيل : السوء هنا السرقة. وقيل : الشرك. وقيل : كل ما يأثم به. وقيل : ظلم النفس هنا رمي البريء بالتهمة. وقيل : ما دون الشرك من المعاصي. وقال ابن عطية : هما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة. والظاهر تعليق الغفران والرحمة للعاصي على مجرد الاستغفار وأنه كاف ، وهذا مقيد بمشيئة الله عند أهل السنة. وشرط بعضهم مع الاستغفار التوبة ، وخص بعضهم ذلك بأن تكون المعصية مما بين العبد وبين ربه ، دون ما بينه وبين العبيد. وقيل : الاستغفار التوبة. وفي لفظة : يجد الله غفورا رحيما ، مبالغة في الغفران. كأنّ المغفرة والرحمة معدّان لطالبهما ، مهيآن له متى طلبهما وجدهما. وهذه الآية فيها لطف عظيم ووعد كريم للعصاة إذا استغفروا الله ، وفيها تطلب توبة بني أبيرق والذابين عنهم واستدعاؤهم لها. وعن ابن مسعود : أنها من أرجى الآيات.

(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) الإثم : جامع للسوء وظلم النفس السابقين والمعنى : أنّ وبال ذلك لا حق له لا يتعدّاه إلى غيره ، وهو إشارة إلى الجزاء اللاحق له في الآخرة. وختمها بصفة العلم ، لأنه يعلم جميع ما يكسب ، لا يغيب عنه شيء من ذلك. ثم بصفة الحكمة لأنه واضع الأشياء مواضعها فيجازى على

٥٩

ذلك الإثم بما تقتضيه حكمته. فالصفتان أشارتا إلى علمه بذلك الإثم ، وإلى ما يستحق عليه فاعله. وفي لفظة : على ، دلالة استعلاء الإثم عليه ، واستيلائه وقهره له.

(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) قيل : نزلت في طعمة بن أبيرق حين سرق الدرع ورماها في دار اليهودي. وروى الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول ، إذ رمى عائشة بالإفك. وظاهر العطف بأو المغايرة ، فقيل : الخطيئة ما كان عن غير عمد. والإثم : ما كان عن عمد ، والصغيرة والكبيرة ، أو القاصر على فعل والمتعدي إلى غيره. وقيل : الخطيئة سرقة الدرع ، والإثم يمينه الكاذبة. وقال ابن السائب : الخطيئة يمين السارق الكاذبة ، والإثم سرقة الدرع ، ورمى اليهودي به. وقال الطبري : الخطيئة تكون عن عمد وغير عمد ، والإثم لا يكون إلا عن عمد. وقيل : هما لفظان بمعنى واحد ، كرّرا مبالغة. والضمير في : به ، عائد على الإثم ، والمعطوف بأو يجوز أن يعود الضمير على المعطوف عليه كقوله : انفضوا إليها وعلى المعطوف كهذا. وتقدم الكلام في ذلك بأشبع من هذا. وقيل : يعود على الكسب المفهوم من يكسب. وقيل : على المكسوب. وقيل : يعود على أحد المذكورين الدال عليه العطف بأو ، كأنه قيل : ثم يرم بأحد المذكورين. وقيل : ثم محذوف تقديره : ومن يكسب خطيئة ثم يرم به بريئا أو إثما ثم يرم به بريئا ، وهذه تخاريج من لم يتحقق بشيء من علم النحو.

والبريء المتهم بالذنب ولم يذنب. ومعنى : فقد احتمل بهتانا ، أي برميه البريء ، فإنه يبهته بذلك. وإثما مبينا أي : ظاهرا لكسبه الخطيئة أو الإثم. والمعنى : أنه يستحق عقابين : عقاب الكسب ، وعقاب البهت. وقدم البهت لقربه من قوله : ثم يرم به بريئا ، ولأنه ذنب أفظع من كسب الخطيئة أو الإثم. ولفظ احتمل أبلغ من حمل ، لأنّ افتعل فيه للتسبب كاعتمل. ويحتمل أن يكون افتعل فيه كالمجرد كما قال : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) (١) فيكون كقدر واقتدر. لما كان الوزر يوصف بالفعل ، جاء ذكر الحمل والاحتمال وهو استعارة. جعل المجني كالجرم المحمول. ولفظة : ومن تدل على العموم ، فلا ينبغي أن تخصّ ببني أبيرق ، بل هم مندرجون فيها. وقرأ معاذ بن جبل : ومن يكسّب بكسر الكاف وتشديد السين ، وأصله : يكتسب. وقرأ الزهري : خطية بالتشديد.

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ١٣.

٦٠