البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

قال تعالى : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) (١) وقال تعالى : (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) (٢) ولما كانت الصحابة وقت نزول هذه الآية من مقيمي صلاة ومؤتي زكاة ، وفي كلتا الحالتين كانوا متصفين بالخضوع لله تعالى والتذلل له ، نزلت الآية بهذه الأوصاف الجليلة. والركوع هنا ظاهره الخضوع ، لا الهيئة التي في الصلاة. وقيل : المراد الهيئة ، وخصت بالذكر لأنها من أعظم أركان الصلاة ، فعبر بها عن جميع الصلاة ، إلا أنه يلزم في هذا القول تكرير الصلاة لقوله : يقيمون الصلاة. ويمكن أن يكون التكرار على سبيل التوكيد لشرف الصلاة وعظمها في التكاليف الإسلامية. وقيل : المراد بالصلاة هنا الفرائض ، وبالركوع التنفل. يقال : فلان يركع إذا تنفل بالصلاة. وروي أنّ عليا رضي‌الله‌عنه تصدّق بخاتمه وهو راكع في الصلاة. والظاهر من قوله : وهم راكعون ، أنها جملة اسمية معطوفة على الجمل قبلها ، منتظمة في سلك الصلاة. وقيل : الواو للحال أي : يؤتون الزكاة وهم خاضعون لا يشتغلون على من يعطونهم إياها ، أي يؤتونها فيتصدقون وهم ملتبسون بالصلاة. وقال الزمخشري. (فإن قلت) : الذين يقيمون ما محله؟ (قلت) : الرفع على البدل من الذين آمنوا ، أو على هم الذين يقيمون انتهى. ولا أدري ما الذي منعه من الصفة إذ هو المتبادر إلى الذهن ، لأن المبدل منه في نية الطرح ، وهو لا يصح هنا طرح الذين آمنوا لأنه هو الوصف المترتب عليه صحة ما بعده من الأوصاف.

(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) يحتمل أن يكون جواب من محذوفا لدلالة ما بعده عليه ، أي : يكن من حزب الله ويغلب. ويحتمل أن يكون الجواب : فإن حزب الله ، ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر أي : فإنهم هم الغالبون. وفائدة وضع الظاهر هنا موضع المضمر الإضافة إلى الله تعالى فيشرفون بذلك ، وصاروا بذلك أعلاما. وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم. وقال الزمخشري : ويحتمل أن يريد حزب الله والرسول والمؤمنين ، ويكون المعنى : ومن يتولهم فقد تولى حزب الله ، واعتضد بمن لا يغالب انتهى. وهو قلق في التركيب. قال ابن عطية : أي فإنه غالب كل من ناوأه ، وجاءت العبارة عامة أنّ حزب الله هم الغالبون اختصارا ، لأن هذا المتولي هو من حزب الله ، وحزب الله غالب ، فهذا الذي تولى الله ورسوله غالب. ومن يراد بها الجنس لا مفرد ، وهم هنا يحتمل أن يكون فصلا ، ويحتمل أن يكون مبتدأ.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٤٢.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ١٩.

٣٠١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) قال ابن عباس : كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادونهما فنزلت. ولما نهى تعالى المؤمنين عن اتخاذ الكفار والنصارى أولياء ، نهى عن اتخاذ الكفار أولياء يهودا كانوا أو نصارى ، أو غيرهما. وكرر ذكر اليهود والنصارى بقوله : من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، وإن كانوا مندرجين في عموم الكفار على سبيل النص على بعض أفراد العام لسبقهم في الذكر في الآيات قبل ، ولأنه أوغل في الاستهزاء ، وأبعد انقيادا للإسلام ، إذ يزعمون أنهم على شريعة إلهية. ولذلك كان المؤمنون من المشركين في غاية الكثرة ، والمؤمنون من اليهود والنصارى في غاية القلة. وقيل : أريد بالكفار المشركون خاصة ، ويدل عليه قراءة عبد الله : ومن الذين أشركوا. قال ابن عطية : وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب ، من حيث الغالب في اسم الكفر أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة الأوثان ، لأنّهم أبعد شأوا في الكفر. وقد قال : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) (١) ففرق بينهم إرادة البيان. والجميع كفار ، وكانوا عبدة الأوثان ، هم كفار من كل جهة. وهذه الفرق تلحق بهم في حد الكفر ، وتخالفهم في رتب. فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء ، والمنافقون يؤمنون بألسنتهم انتهى. وقال الزمخشري : وفصل المستهزئين بأهل الكتاب على المشركين خاصة انتهى. ومعنى الآية : أنّ من اتخذ دينكم هزوا ولعبا لا يناسب أن يتخذ وليا ، بل يعادى ويبغض ويجانب. واستهزاؤهم قيل : بإظهار الإسلام ، وإخفاء الكفر. وقيل : بقولهم للمسلمين : احفظوا دينكم ودوموا عليه فإنه الحق ، وقول بعضهم لبعض : لعبنا بعقولهم وضحكنا عليهم. وقال ابن عباس : ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم ، وتقدم القول في القراءة في هزؤا. وقرأ النحويان : والكفار خفضا. وقرأ أبي : ومن الكفار بزيادة من. وقرأ الباقون : نصبا وهي رواية الحسين الجعفي عن أبي عمرو ، وإعراب الجر والنصب واضح.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لما نهى المؤمنون عن اتخاذهم أولياء ، أمرهم بتقوى الله ، فإنها هي الحاملة على امتثال الأوامر واجتناب النواهي. أي : اتقوا الله في موالاة الكفار ، ثم نبه على الوصف الحامل على التقوى وهو الإيمان أي : من كان مؤمنا حقا يأبى موالاة أعداء الدّين.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٧٣.

٣٠٢

(وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) قال الكلبي : كانوا إذا نودي بالصلاة قام المسلمون إليها فتقول اليهود : قاموا لا قاموا ، صلوا لا صلوا ، ركعوا لا ركعوا ، على طريق الاستهزاء والضحك فنزلت. وقال السدي : كان نصراني بالمدينة يقول إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمدا رسول الله ، أحرق الكاذب ، فطارت شرارة في بيته فاحترق هو وأهله ، فنزلت. وقيل : حسد اليهود الرسول حين سمعوا الآذان وقالوا : ابتدعت شيئا لم يكن للأنبياء ، فمن أين لك الصياح كصياح العير؟ فما أقبحه من صوت. فأنزل الله هذه الآية. وأنزل : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) (١) الآية انتهى. والمعنى : إذا نادى بعضكم إلى الصلاة ، لأن الجميع لا ينادون. ولما قدم أنهم الذين اتخذوا الدين هزوا ولعبا اندرج في ذلك جميع ما انطوى عليه الدّين ، فجرد من ذلك أعظم أركان الدين ونص عليه بخصوصه وهي الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه ، فنبه على أنّ من استهزأ بالصلاة ينبغي أن لا يتخذ وليا ويطرد ، فهذه الآية جاءت كالتوكيد للآية قبلها. وقال بعض العلماء : في هذه الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب ، لا بالمنام وحده انتهى. ولا دليل في ذلك على مشروعيته لأنه قال : وإذا ناديتم ، ولم يقل نادوا على سبيل الأمر ، وإنما هذه جملة شرطية دلت على سبق المشروعية لا على إنشائها بالشرط. والظاهر أن الضمير في اتخذوها عائد على الصلاة ، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من ناديتم أي : اتخذوا المناداة والهزء والسخرية واللعب الأخذ في غير طريق.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي ذلك الفعل منهم ، ونفي العقل عنهم لما لم ينتفعوا به في الدين ، واتخذوا دين الله هزوا ولعبا ، فعل من لا عقل له.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) قال ابن عباس : أتى نفر من يهود فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال : أؤمن بالله : (وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) ـ إلى قوله ـ (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٢) فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى ، ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شرا من دينكم ، فنزلت. والمعنى : هل تعيبون علينا ، أو تنكرون ، وتعدون ذنبا ، أو نقيصة ما لا ينكر ولا يعاب ، وهو الإيمان بالكتب المنزلة كلها؟ وهذه محاورة لطيفة وجيزة تنبه الناقم على أنه ما نقم عليه إلا ما لا ينقم ولا يعد عيبا ونظيره قول الشاعر :

__________________

(١) سورة فصّلت : ٤١ / ٣٣.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٥٩.

٣٠٣

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

والخطاب قيل : للرسول ، وهو بمعنى ما النافية. وقرأ الجمهور : تنقمون بكسر القاف ، والماضي نقم بفتحها ، وهي التي ذكرها ثعلب في الفصيح. ونقم بالكسر ، ينقم بالفتح لغة حكاها الكسائي وغيره. وقرأ بها أبو حيوة والنخعي وابن أبي عبلة وأبو البر هشيم ، وفسر تنقمون بتسخطون وتتكرهون وتنكرون وتعيبون وكلها متقاربة. وإلا أن آمنا استثناء فرغ له الفاعل. وقرأ الجمهور : أنزل مبنيا للفاعل ، وذلك في اللفظين ، وقرأهما أبو نهيك : مبنيين للفاعل ، وقرأ نعيم بن ميسرة : وإن أكثركم فاسقون بكسر الهمزة ، وهو واضح المعنى ، أمره تعالى أن يقول لهم هاتين الجملتين ، وتضمنت الأخبار بفسق أكثرهم وتمردهم. وقرأ الجمهور : بفتح همزة أن وخرج ذلك على أنها في موضع رفع ، وفي موضع نصب ، وفي موضع جر. فالرّفع على الابتداء. وقدر الزمخشري الخبر مؤخرا محذوفا أي : وفسق أكثركم ثابت معلوم عندكم ، لأنكم علمتم أنا على الحق ، وأنكم على الباطل ، إلا أنّ حب الرّياسة والرشا يمنعكم من الاعتراف. ولا ينبغي أن يقدم الخبر إلا مقدما أي : ومعلوم فسق أكثركم ، لأن الأصح أن لا يبدأ بها متقدّمة إلا بعد أما فقط. والنصب من وجوه : أحدها : أن يكون معطوفا على أن آمنا أي : ما تنقمون منا إلا إيماننا وفسق أكثركم ، فيدخل الفسق فيما نقموه ، وهذا قول أكثر المتأوّلين. ولا يتجه معناه لأنهم لا يعتقدون فسق أكثرهم ، فكيف ينقمونه ، لكنه يحمل على أن المعنى ما تنقمون منا إلا هذا المجموع من إنا مؤمنون وأكثركم فاسقون ، وإن كانوا لا يسلمون إن أكثرهم فاسقون ، كما تقول : ما تنقم مني إلا أني صدّقت وأنت كذبت ، وما كرهت مني إلا أني محبب إلى الناس وأنت مبغض ، وإن كان لا يعترف أنه كاذب ولا أنه مبغض ، وكأنه قيل : ما تنقمون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في الإسلام وأنتم خارجون. والوجه الثاني : أن يكون معطوفا على أن آمنا ، إلا أنه على حذف مضاف تقديره : واعتقادنا فيكم أن أكثركم فاسقون ، وهذا معنى واضح. ويكون ذلك داخلا في ما تنقمون حقيقة. الثالث : أن تكون الواو واو مع ، فتكون في موضع نصب مفعولا معه التقدير : وفسق أكثرهم أي : تنقمون ذلك مع فسق أكثركم والمعنى : لا يحسن أن تنقموا مع وجود فسق أكثركم كما تقول : تسيء إلي مع أني أحسنت إليك. الرابع : أن تكون في موضع نصب مفعول بفعل مقدّر يدل عليه ، هل تنقمون تقديره : ولا تنقمون أنّ أكثركم فاسقون. والجرّ على أنه معطوف على قوله : بما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وبأن أكثركم فاسقون ، والجر على أنه معطوف على علة محذوفة التقدير : ما تنقمون منا إلا

٣٠٤

الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم. ويدل عليه تفسير الحسن بفسقكم نقمتم ذلك علينا. فهذه سبعة وجوه في موضع إن وصلتها ، ويظهر وجه ثامن ولعله يكون الأرجح ، وذلك أنّ نقم أصلها أن تتعدّى بعلى ، تقول : نقمت على الرجل أنقم ، ثم تبنى منها افتعل فتعدّى إذ ذاك بمن ، وتضمن معنى الإصابة بالمكروه.

قال تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (١) ومناسبة التضمين فيها أنّ من عاب على شخص فعله فهو كاره له لا محالة ومصيبه عليه بالمكروه ، وإن قدر ، فجاءت هنا فعل بمعنى افتعل لقولهم : وقد رأوه ، ولذلك عدّيت بمن دون التي أصلها أن يعدي بها ، فصار المعنى : وما تنالون منا أو وما تصيبوننا بما نكره إلا أن آمنا أي : لأن آمنا ، فيكون أن آمنا مفعولا من أجله ، ويكون وإن أكثركم فاسقون معطوفا على هذه العلة ، وهذا ـ والله أعلم ـ سبب تعديته بمن دون على ، وخص أكثركم بالفسق لأن فيهم من هدي إلى الإسلام ، أو لأنّ فساقهم وهم المبالغون في الخروج عن الطاعة هم الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون تقرّبا إلى الملوك ، وطلبا للجاه والرياسة ، فهم فساق في دينهم لا عدول ، وقد يكون الكافر عدلا في دينه ، ومعلوم أنّ كلهم لم يكونوا عدولا في دينهم ، فلذلك حكم على أكثرهم بالفسق.

(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) الخطاب بالأمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتضمن الخطاب لأهل الكتاب الذين أمر أن يناديهم أو يخاطبهم بقوله تعالى : يا أهل الكتاب هل تنقمون منا ، هذا هو الظاهر. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ضمير الخطاب للمؤمنين أي : قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشر من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله ، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ، وتكون الإشارة بذلك إلى حالهم انتهى. فعلى هذا الإضمار يكون قوله : بشرّ أفعل تفضيل باقية على أصل وضعها من كونها تدل على الاشتراك في الوصف ، وزيادة الفضل على المفضل عليه في الوصف ، فيكون ضلال أولئك الأسلاف وشرهم أكثر من ضلال هؤلاء الفاسقين ، وإن كان الضمير خطابا لأهل الكتاب ، فيكون شرّ على بابها من التفضيل على معتقد أهل الكتاب إذ قالوا : ما نعلم دينا شرّا من دينكم. وفي الحقيقة لا ضلال عند المؤمنين ، ولا شركة لهم في ذلك مع أهل الكتاب ،

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٩٥.

٣٠٥

وذلك كما ذكرنا إشارة إلى دين المؤمنين ، أو حال أهل الكتاب ، فيحتاج إلى حذف مضاف : إما قبله ، وإما بعده. فيقدر قبله : بشرّ من أصحاب هذه الحال ، ويقدر بعده : حال من لعنه الله ولكون «لعنه الله» (١) إن اسم الإشارة يكون على كل حال من تأنيث وتثنية وجمع كما يكون للواحد المذكر ، فيحتمل أن يكون ذلكم من هذه اللغة ، فيصير إشارة إلى الأشخاص كأنه قال : بشرّ من أولئكم ، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف ، لا قبل اسم الإشارة ، ولا بعده ، إذ يصير من لعنه الله تفسير أشخاص بأشخاص. ويحتمل أن يكون ذلكم أيضا إشارة إلى متشخص ، وأفرد على معنى الجنس كأنه قال : قل هل أنبئكم بشر من جنس الكتابي ، أو من جنس المؤمن ، على اختلاف التقديرين اللذين سبقا ، ويكون أيضا من لعنه الله تفسير شخص بشخص.

وقرأ النخعي وابن وثاب : أنبئكم من أنبأ ، وابن بريدة ، والأعرج ، ونبيح ، وابن عمران : مثوبة كمعورة. والجمهور : من نبأ ومثوبة كمعونة. وتقدّم توجيه القراءتين في (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٢) وانتصب مثوبة هنا على التمييز ، وجاء التركيب الأكثر الأفصح من تقديم المفضل عليه على التمييز كقوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (٣) وتقديم التمييز على المفضل أيضا فصيح كقوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) (٤) وهذه المثوبة هي في الحشر يوم القيامة. فإن لوحظ أصل الوضع فالمعنى مرجوعا ، ولا يدل إذ ذاك على معنى الإحسان. وإن لوحظ كثرة الاستعمال في الخير والإحسان ، فوضعت المثوبة هنا موضع العقوبة على طريقة بينهم في : «تحية بينهم ضرب وجيع» (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٥) ومن في موضع رفع كأنه قيل : من هو؟ فقيل : هو من لعنه الله. أو في موضع جر على البدل من قوله : بشر. وجوّزوا أن يكون في موضع نصب على موضع بشر أي : أنبئكم من لعنه الله. ويحتمل من لعنه الله أن يراد به أسلاف أهل الكتاب كما تقدّم ، أو الأسلاف والأخلاف ، فيندرج هؤلاء الحاضرون فيهم. والذي تقتضيه الفصاحة أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير تنبيها على الوصف الذي حصل به كونه شرا مثوبة ، وهي اللعنة والغضب. وجعل القردة والخنازير منهم ، وعبد الطاغوت ، وكأنه قيل : قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله أنتم أي : هو أنتم. ويدل على هذا المعنى قوله بعد : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) (٦) فيكون الضمير واحدا. وقرأ أبي وعبد الله : من غضب الله عليهم ، وجعلهم

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٨ وسورة المائدة : ٥ / ٦٠.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٣٣.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٨١.

(٤) سورة فصلت : ٤١ / ٣٣.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ٢١.

(٦) سورة المائدة : ٥ / ٦١.

٣٠٦

قردة وخنازير ، وجعل هنا بمعنى صير. وقال الفارسي : بمعنى خلق ، لأن بعده وعبد الطاغوت ، وهو معتزلي لا يرى أنّ الله يصير أحدا عابد طاغوت. وتقدّم الكلام في مسخهم قردة في البقرة.

وأما الذين مسخوا خنازير فقيل : شيوخ أصحاب السبت ، إذ مسح شبانهم قردة قاله : ابن عباس. وقيل : أصحاب مائدة عيسى. وذكرت أيضا قصة طويلة في مسخ بني إسرائيل خنازير ملخصها : أنّ امرأة منهم مؤمنة قاتلت ملك مدينتها ومن معه ، وكانوا قد كفروا بمن اجتمع إليها ممن دعته إلى الجهاد ثلاث مرات وأتباعها يقتلون ، وتنفلت هي ، فبعد الثالثة سبيت واستبرأت في دينها ، فمسخ الله أهل المدينة خنازير في ليلتهم تثبيتا لها على دينها ، فلما رأتهم قالت : اليوم علمت أن الله أعز دينه وأقره ، فكان المسخ خنازير على يدي هذه المرأة ، وتقدم تفسير الطاغوت.

وقرأ جمهور السبعة : وعبد الطاغوت. وقرأ أبيّ : وعبدوا الطاغوت. وقرأ الحسن في رواية : وعبد الطاغوت بإسكان الباء. وخرجه ابن عطية : على أنه أراد وعبدا منوّنا فحذف التنوين كما حذف في قوله : (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) ولا وجه لهذا التخريج ، لأن عبدا لا يمكن أن ينصب الطاغوت ، إذ ليس بمصدر ولا اسم فاعل ، والتخريج الصحيح أن يكون تخفيفا من عبد بفتحها كقولهم : في سلف سلف. وقرأ ابن مسعود في رواية : عبد بضم الباء نحو شرف الرجل أي : صار له عبد كالخلق والأمر المعتاد قاله : ابن عطية : وقال الزمخشري : أي صار معبودا من دون الله كقولك : أمر إذا صار أميرا انتهى. وقرأ النخعيّ وابن القعقاع والأعمش في رواية هارون ، وعبد الطاغوت مبنيا للمفعول ، كضرب زيد. وقرأ عبد الله في رواية : وعبدت الطاغوت مبنيا للمفعول ، كضربت المرأة. فهذه ست قراءات بالفعل الماضي ، وإعرابها واضح. والظاهر أنّ هذا المفعول معطوف على صلة من وصلت بلعنه ، وغضب ، وجعل ، وعبد ، والمبني للمفعول ضعفه الطبري وهو يتجه على حذف الرابط أي : وعبد الطاغوت فيهم أو بينهم. ويحتمل أن يكون وعبد ليس داخلا في الصلة ، لكنه على تقدير من ، وقد قرأ بها مظهرة عبد الله قرأ ، ومن عبد فإما عطفا على القردة والخنازير ، وإما عطفا على من في قوله : من لعنه الله. وقرأ أبو واقد الأعرابي : وعباد الطاغوت جمع عابد ، كضرّاب زيد. وقرأ ابن عباس في رواية ، وجماعة ، ومجاهد ، وابن وثاب : وعبد الطاغوت جمع عبد ، كرهن ورهن. وقال ثعلب : جمع عابد كشارف وشرف. وقال الزمخشري تابعا للأخفش : جمع عبيد ، فيكون إذ ذاك جمع جمع وأنشدوا :

٣٠٧

أنسب العبد إلى آبائه

أسود الجلدة من قوم عبد

وقرأ الأعمش وغيره : وعبد الطاغوت جمع عابد ، كضارب وضرب. وقرأ بعض البصريين : وعباد الطاغوت جمع عابد كقائم وقيام ، أو جمع عبد. أنشد سيبويه :

أتوعدني بقومك يا ابن حجل

اسابات يخالون العبادا

وسمى عرب الحيرة من العراق لدخولهم في طاعة كسرى : عبادا. وقرأ ابن عباس في رواية : وعبيد الطاغوت جمع عبيد ، نحو كلب وكليب. وقرأ عبيد بن عمير : وأعبد الطاغوت جمع عبد كفلس وأفلس. وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة : وعبد الطاغوت يريد وعبدة جمع عابد ، كفاجر وفجرة ، وحذف التاء للإضافة ، أو اسم جمع كخادم وخدم ، وغائب وغيب. وقرئ : وعبدة الطاغوت بالتاء نحو فاجر وفجرة ، فهذه ثمان قراءات بالجمع المنصوب عطفا على القردة والخنازير مضافا إلى الطاغوت. وقرئ وعابدي. وقرأ ابن عباس في رواية : وعابدوا. وقرأ عون العقيلي : وعابد ، وتأولها أبو عمرو على أنها عابد. وهذان جمعا سلامة أضيفا إلى الطاغوت ، فبالتاء عطفا على القردة والخنازير ، وبالواو عطفا على من لعنه الله أو على إضمارهم. ويحتمل قراءة عون أن يكون عابد مفردا اسم جنس. وقرأ أبو عبيدة : وعابد على وزن ضارب مضافا إلى لفظ الشيطان ، بدل الطاغوت. وقرأ الحسن : وعبد الطاغوت على وزن كلب. وقرأ عبد الله في رواية : وعبد على وزن حطم ، وهو بناء مبالغة. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة : وعبد على وزن يقظ وندس ، فهذه أربع قراءات بالمفرد المراد به الجنس أضيفت إلى الطاغوت. وفي القراءة الأخيرة منها خلاف بين العلماء. قال نصير النحوي صاحب الكسائي وهو وهم ممن قرأ به ، وليسأل عنه العلماء حتى نعلم أنه جائز. وقال الفراء : إن يكن لغة مثل حذر وعجل فهو وجه ، وإلا فلا يجوز في القراءة. وقال أبو عبيد : إنما معنى العبد عندهم إلا عبد ، يريدون خدم الطاغوت ، ولم نجد هذا يصح عن أحد من فصحاء العرب أن العبد يقال فيه عبد ، وإنما هو عبد وأعبد بالألف. وقال أبو علي : ليس في أبنية المجموع مثله ، ولكنه واحد يراد به الكثرة ، وهو بناء يراد به المبالغة ، فكأن هذا قد ذهب في عبادة الطاغوت. وقال الزمخشري : ومعناه العلو في العبودية كقولهم : رجل حذر فطن للبليغ في الحذر والفطنة.

قال الشاعر :

أبني لبيني أن أمكم

أمة وإن أباكم عبد انتهى.

٣٠٨

وقال ابن عطية : عبد لفظ مبالغة كيقظ وندس ، فهو لفظ مفرد يراد به الجنس ، وبنى بناء الصفات لأن عبدا في الأصل صفة وإن كان يستعمل استعمال الأسماء ، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة ، ولذلك لم يمتنع أن يبني منه بناء مبالغة. وأنشد أبني لبيني البيت ، وقال : ذكره الطبري وغيره بضم الباء انتهى. وعد ابن مالك في أبنية أسماء الجمع فعلا فقال : ومنها فعل كنحو سمر وعبد. وقرأ ابن عباس فيما روى عنه عكرمة : وعبد الطاغوت جمع عابد كضارب وضرب ، ونصب الطاغوت أراد عبدا منونا فحذف التنوين لالتقاء الساكنين كما قال : (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) (١) فهذه إحدى وعشرون قراءة بقراءة بريد ، تكون اثنين وعشرين قراءة.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف جاز أن يجعل الله منهم عباد الطاغوت؟ (قلت) : فيه وجهان : أحدهما : أنه خذلهم حتى عبدوها ، والثاني : أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقولهم : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٢) انتهى. وهذا على طريق المعتزلة ، وتقدم تفسير الطاغوت. وقرأ الحسن : الطواغيت. وروي أنه لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود يقولون : يا إخوة القردة والخنازير ، فينكسون رؤوسهم.

(أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) الإشارة إلى الموصوفين باللعنة وما بعدها ، وانتصب مكانا على التمييز. فإن كان ذلك في الآخرة أن يراد بالمكان حقيقة ، إذ هو جهنم ، وإن كان في الدنيا فيكون كناية واستعارة للمكانة في قوله : أولئك شر ، لدخوله في باب الكناية كقولهم : فلان طويل النجاد وهي إشارة إلى الشيء بذكر لوزامه وتوابعه قبل المفضول ، وهو مكان المؤمنين ، ولا شر في مكانهم. وقال الزجاج : شر مكانا على قولكم وزعمكم. وقال النحاس : أحسن ما قيل شرّ مكانا في الآخرة من مكانكم في الدنيا ، لما يلحقكم من الشر. وقال ابن عباس : مكانهم سقر ، ولا مكان أشد شرا منه. والذي يظهر أن المفضول هو غيرهم من الكفار ، لأن اليهود جاءتهم البينات والرسل والمعجزات ما لم يجئ غيرهم كثرة ، فكانوا أبعد ناس عن اتباع الحق وتصديق الرسل وأوغلهم في العصيان ، وكفروا بأنواع من الكفر والرسل ، تنتابهم الغيبة بعد الغيبة ، فأخبر تعالى عنهم بأنهم شر من الكفار.

(وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي عن وسط السبيل ، وقصده : أي هم حائرون لا يهتدون إلى مستقيم الطريق.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٤٢.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ١٩.

٣٠٩

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) ضمير الغيبة في جاؤوكم لليهود والمعاصرين للرسول وخاصة بالمنافقين منهم قاله : ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، وهو على حذف مضاف. إذ ظاهر الضمير أنه عائد على من قبله التقدير : وإذا جاؤوكم أهلهم أو نساؤهم. وتقدم من قولنا : أن يكون من لعنه الله إلى آخره عبارة عن المخاطبين في قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) (١) وأنه مما وضع الظاهر موضع المضمر فكأنه قيل : أنتم فلا يحتاج هذا إلى حذف مضاف.

كان جماعة من اليهود يدخلون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يظهرون له الإيمان نفاقا فأخبر الله تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون كما دخلوا ، لم يتعلقوا بشيء مما سمعوا من تذكير وموعظة ، فعلي هذا الخطاب في جاؤوكم للرسول ، وقيل : للمؤمنين الذين كانوا بحضرة الرسول. وهاتان الجملتان حالان ، وبالكفر وبه حالان أيضا أي : ملتبسين. ولذلك دخلت قد تقريبا لها من زمان الحال ولمعنى آخر وهو : أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوقعا لإظهار ما كتموه ، فدخل حرف التوقع وخالف بين جملتي الحال اتساعا في الكلام. وقال ابن عطية : وقوله : وهم ، تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر وهم قد خرجوا به ، فأزال الاحتمال قوله تعالى : وهم قد خرجوا به ، أي هم بأعيانهم انتهى. والعامل في الحالين آمنا أي : قالوا ذلك وهذه حالهم. وقيل : معنى هم للتأكيد في إضافة الكفر إليهم ، ونفى أن يكون من الرسول ما يوجب كفرهم من سوء معاملته لهم ، بل كان يلطف بهم ويعاملهم بأحسن معاملة. فالمعنى : أنهم هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم ، لا أنك أنت الذي تسببت لبقائهم في الكفر. والذي نقول : إن الجملة الاسمية الواقعة حالا المصدرة بضمير ذي الحال المخبر عنها بفعل أو اسم يتحمل ضمير ذي الحال آكد من الجملة الفعلية ، من جهة أنه يتكرر فيها المسند إليه فيصير نظير : قام زيد زيد. ولما كانوا حين جاءوا الرسول أو المؤمنين قالوا : آمنا ملتبسين بالكفر ، كان ينبغي لهم أن لا يخرجوا بالكفر ، لأن رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كافية في الإيمان. ألا ترى إلى قول بعضهم حين رأى الرسول : علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، مع ما يظهر لهم من خوارق الآيات وباهر الدلالات ، فكان المناسب أنهم وإن كانوا دخلوا بالكفر أن لا يخرجوا به ، بل يخرجون بالرسول مؤمنين ظاهرا وباطنا. فأكد وصفهم بالكفر بأن كرر المسند إليه تنهبيا على

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥٩.

٣١٠

تحققهم بالكفر وتماديهم عليه ، وأنّ رؤية الرسول لم تجد عنهم ، ولم يتأثروا لها. وكذلك إن كان ضمير الخطاب في : وإذا جاءوكم قالوا آمنا ، كان ينبغي لهم أن يؤمنوا ظاهرا وباطنا لما يرون من اختلاف المؤمنين وتصديقهم للرسول ، والاعتماد على الله تعالى والرغبة في الآخرة ، والزهد في الدنيا ، وهذه حال من ينبغي موافقته. وكان ينبغي إذ شاهدوهم أن يتبعوهم على دينهم ، وأن يكون إيمانهم بالقول موافقا لاعتقاد قلوبهم. وفي الآية دليل على جواز مجيء حالين لذي حال واحد ، إن كانت الواو في : وهم ، واو حال ، لا واو عطف ، خلافا لمن منع ذلك إلا في أفعل التفضيل. والظاهر أنّ الدخول والخروج حقيقة. وقيل : هما استعارة ، والمعنى : تقلبوا في الكفر أي دخلوا في أحوالهم مضمرين الكفر وخرجوا به إلى أحوال أخر مضمرين له ، وهذا هو التقلب. والحقيقة في الدخول انفصال بالبدن من خارج مكان إلى داخله ، وفي الخروج انفصال بالبدن من داخله إلى خارجه.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) أي من كفرهم ونفاقهم. وقيل من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته وفي هذا مبالغة في إفشاء ما كانوا يكتمونه من المكر بالمسلمين والكيد والعداوة.

(وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يحتمل ترى أن تكون بصرية ، فيكون يسارعون صفة. وأن تكون علمية ، فيكون مفعو ثانيا. والمسارعة : الشروع بسرعة. والإثم الكذب. والعدوان الظلم. يدل قوله عن قولهم الإثم على ذلك ، وليس حقيقة الإثم الكذب ، إذ الإثم هو المتعلق بصاحب المعصية ، أو الإثم ما يختص بهم ، والعدوان ما يتعدى بهم إلى غيرهم. أو الإثم الكفر ، والعدوان الاعتداء. أو الإثم ما كتموه من الإيمان ، والعدوان ما يتعدى فيها. وقيل : العدوان تعديهم حدود الله أقوال خمسة. والجمهور على أن السحت هو الرشا ، وقيل : هو الربا ، وقيل : هو الرشا وسائر مكسبهم الخبيث. وعلق الرؤية بالكثير منهم ، لأن بعضهم كان لا يتعاطى ذلك المجموع أو بعضه. وأكثر استعمال المسارعة في الخير ، فكان هذه المعاصي عندهم من قبيل الطاعات ، فلذلك يسارعون فيها. والإثم يتناول كل معصية يترتب عليها العقاب ، فجرد من ذلك العدوان وأكل السحت ، وخصا بالذكر تعظيما لهاتين المعصيتين وهما : ظلم غيرهم ، والمطعم الخبيث الذي ينشأ عنه عدم قبول الأعمال الصالحة. وقرأ أبو حيوة : العدوان بكسر ضمة العين ، وتقدم الكلام في ما بعد بئس في قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ) (١).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٠.

٣١١

(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) لولا تحضيض يتضمن توبيخ العلماء والعباد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله تعالى والأمر بالمعروف. وقال العلماء : ما في القرآن آية أشد توبيخا منها للعلماء. وقال الضحاك : ما في القرآن أخوف منها ، ونحوه ابن عباس. والإثم هنا ظاهره الكفر ، أو يراد به سائر أقوالهم التي يترتب عليها الإثم. وقرأ الجراح وأبو واقد : الربيون مكان الربانيون ، وابن عباس بئس ما كانوا يصنعون بغير لام قسم. والظاهر أنّ الضمير في كانوا عائد على الربانيين ، والأحبار إذ هم المحدث عنهم والموبخون بعدم النهي. قال الزمخشري : كل عامل لا يسمى صانعا ، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه ، وكان المعنى في ذلك : أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها ، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره ، فإذا أفرط في الإنكار كان أشد حالا من المواقع ، وظهر بذلك الفرق بين ذمّ متعاطي الذنب ، وبين تارك النهي عنه ، حيث جعل ذلك عملا وهذا صناعة. وقد يقال : أنه غاير في ذلك لتفنن الفصاحة ، ولترك تكرار اللفظ. وفي الحديث : «من من رجل يجاور قوما فيعمل بالمعاصي بين ظهرانيهم فلا يأخذون على يديه إلا أوشك أن يعمهم الله منه بعقاب وأوحى إلى يوشع بهلاك أربعين ألفا من خيار قومه ، وستين ألفا من شرارهم فقال : يا رب ما بال الأخيار؟ فقال : إنهم لم يغضبوا لغضبي ، وواكلوهم وشاربوهم. وقال مالك بن دينار : أوحى الله إلى الملائكة أن عذبوا قرية كذا ، فقالت الملائكة : إنّ فيها عبدك العابد فقال : أسمعوني ضجيجه ، فإنه لم يتمعر وجهه أي : لم يحمرّ غضبا. وكتب بعض العلماء إلى عابد تزهد وانقطع في البادية : إنك تركت المدينة مهاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومهبط وحيه وآثرت البداوة. فقال : كيف لا أترك مكانا أنت رئيسه ، وما رأيت وجهك تمعر في ذات الله قط يوما أو كلاما هذا معناه أو قريب من معناه. وأما زماننا هذا وعلماؤنا وعبادنا فحالهم معروف فيه ، ولم نر في أعصارنا من يقارب السلف في ذلك غير رجل واحد وهو أستاذنا أبو جعفر بن الزبير ، فإن له مقامات في ذلك مع ملوك بلاده ورؤسائهم حمدت فيها آثاره ، ففي بعضها ضرب ونهبت أمواله وخربت دياره ، وفي بعضها أنجاه من الموت فراره ، وفي بعضها جعل السجن قراره.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) نزلت في فنحاص قاله : ابن عباس. وقال مقاتل : فيه وفي ابن صوريا ، وعازر بن أبي عازر قالوا ذلك. ونسب ذلك إلى اليهود ، لأن هؤلاء

٣١٢

علماؤهم وهم أتباعهم في ذلك. واليد في الجارحة حقيقة ، وفي غيرها مجاز ، فيراد بها النعمة تقول العرب : كم يدلي عند فلان ، والقوة والملك والقدرة. قل : إن الفضل بيد الله ، قال الشاعر :

وأنت على أعباء ملكك ذو يد

أي ذو قدرة ، والتأييد والنصر يد الله مع القاضي حين يقضي ، والقاسم حين يقسم. وتأتي صلة (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) (١) أي مما عملنا (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) (٢) أي الذي له عقدة النكاح. وظاهر قول اليهود إن الله يدا فإن كانوا أرادوا الجارحة فهو مناسب مذهبهم إذ هو التجسيم ، زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية ، قاعد على كرسي. وزعموا أنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة ، واستلقى على ظهره واضعا إحدى رجليه على الأخرى للاستراحة. وردّ الله تعالى ذلك بقوله : (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) (٣) (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) (٤) وظاهر مساق الآية يدل على أنهم أرادوا بغلّ اليد وبسطها المجاز عن البخل والجود ، ومنه (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (٥) ولا يقصد من يتكلم بهذا الكلام إثبات يد ولا غل ولا بسط ، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه ، كأنهما كلامان متعاقبان على حقيقة واحدة ، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قط ، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها. وقال حبيب في المعتصم :

تعود بسط الكف حتى لو أنه

ثناها لقبض لم تجبه أنامله

كنى بذلك عن المبالغة في الكرم. وسبب مقالة اليهود ذلك على ما قال ابن عباس : هو أن الله كان يبسط لهم الرزق ، فلما عصوا أمر الرسول وكفروا به كف عنهم ما كان يبسط لهم فقالوا ذلك. وقال قتادة : لما استقرض منهم قالوا ذلك وهو بخيل. وقيل : لما استعان بهم في الديات. وهذه الأسباب مناسبة لسياق الآية. وقال قتادة أيضا : لما أعان النصارى بخت نصر المجوسي على تخريب بيت المقدس قالت اليهود : لو كان صحيحا لمنعنا منه ، فيده مغلولة. وقال الحسن : مغلولة عن عذابهم فهي في معنى : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وهذان القولان يدفعهما قوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (٦). وقال الكلبي :

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٧١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٧.

(٣) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٣٣.

(٤) سورة ق : ٥ / ٣٨.

(٥) سورة الإسراء : ١٧ / ٢٩.

(٦) سورة المائدة : ٥ / ٦٤.

٣١٣

كانوا مخصبين وقالوا ذلك عنادا واستهزاء وتهكما انتهى. والظاهر أن قولهم : يد الله مغلولة خبر ، وأبعد من ذهب إلى أنه استفهام. أيد الله مغلولة حيث قتر المعيشة علينا ، وإلى أنها ممسوكة عن العطاء ذهب : ابن عباس ، وقتادة ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج. أو عن عذابهم إلا تحلة القسم بقدر عبادتهم العجل قاله : الحسن. أو إلى أن يرد علينا ملكنا. قال الطبري : غلت أيديهم خبر ، وإيعاد واقع بهم في جهنم لا محالة. قاله الحسن : أو خبر عنهم في الدنيا جعلهم الله أبخل قوم قاله الزجاج. وقال مقاتل : أمسكت عن الخير. وقيل : هو دعاء عليهم بالبخل والنكد ، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغلّ الأيدي حقيقة يغللون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين بإغلال جهنم. والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول : سبني سب الله دابره ، لأن السب أصله القطع. (فإن قلت) : كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟ (قلت) : المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم ، فيزيدون بخلا إلى بخلهم ونكدا إلى نكدهم ، وبما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم ، وسوء الأحدوثة التي تخزيهم ، وتمزّق أعراضهم انتهى كلامه. وأخرجه جار على طريقة الاعتزال. والذي يظهر أنّ قولهم : يد الله مغلولة ، استعارة عن إمساك الإحسان الصادر من المقهور على الإمساك. ولذلك جاؤوا بلفظ مغلولة ، ولا يغل إلا المقهور ، فجاء قوله : غلت أيديهم ، دعاء عليهم بغل الأيدي ، فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون ، لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا أن يستعلي ، فهي استعارة عن ذلهم وقهرهم ، وأن أيديهم لا تنبسط إلى دفع ضر ينزل بهم ، وذلك مقابلة عما تضمنه قولهم : يد الله مغلولة ، وليست هذه المقالة بدعا منهم فقد قالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) (١).

(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) يحتمل أن يكون خبرا وأن يكون دعاء وبما قالوا يحتمل أن يكون يراد به مقالتهم هذه ويحتمل أن يكون عاما فيما نسبوه إلى الله مما لا يجوز نسبته إليه ، فتندرج هذه المقالة في عموم ما قالوا. وقرأ أبو السمال : بسكون العين كما قالوا : في عصر عصرون. وقال الشاعر :

لو عصر منه البان والمسك انعصر

ويحسن هذه القراءة أنها كسرة بين ضمتين ، فحسن التخفيف.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٨١.

٣١٤

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) معتقد أهل الحق أن الله تعالى ليس بجسم ولا جارحة له ، ولا يشبه بشيء من خلقه ، ولا يكيف ، ولا يتحيز ، ولا تحله الحوادث ، وكل هذا مقرر في علم أصول الدين. والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ ، وأضاف ذلك إلى اليدين جاريا على طريقة العرب في قولهم : فلان ينفق بكلتا يديه. ومنه قوله :

يداك يدا مجد فكف مفيدة

وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق

ويؤيد أنّ اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق. ومن نظر في كلام العرب عرف يقينا أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل ، وقد استعملت العرب ذلك حيث لا يكون قال الشاعر :

جاد الحمى بسط اليدين بوابل

شكرت نداه تلاعه ووهاده

وقال لبيد :

وغداة ريح قد وزعت وقرة

قد أصبحت بيد الشمال زمامها

ويقال : بسط اليأس كفه في صدري ، واليأس معنى لا عين وقد جعل له كفا. قال الزمخشري : ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية ، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به ثم قال : (فإن قلت) : لم ثنيت اليد في بل يداه مبسوطتان وهي مفردة في يد الله مغلولة؟ (قلت) : ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفى البخل عنه ، وذلك أن غاية ما يبذله السخي بما له من نفسه ، وأن يعطيه بيديه جميعا ، فبنى المجاز على ذلك انتهى. وكلامه في غاية الحسن. وقيل عن ابن عباس : يداه نعمتاه ، فقيل : هما مجازان عن نعمة الدين ونعمة الدّنيا ، أو نعمة سلامة الأعضاء والحواس ونعمة الرّزق والكفاية ، أو الظاهرة والباطنة ، أو نعمة المطر ونعمة النبات ، وما ورد مما يوهم التجسيم كهذا. وقوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (١) و (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) (٢) و (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٣) و (لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٤) و (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (٥) و (هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٦) ونحوها. فجمهور الأمة أنها تفسر على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين الكلام.

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٧٥.

(٢) سورة يس : ٣٦ / ٧١.

(٣) سورة الفتح : ٤٨ / ١٠.

(٤) سورة طه : ٢٠ / ٣٩.

(٥) سورة القمر : ٥٤ / ١٤.

(٦) سورة القصص : ٢٨ / ٨٨.

٣١٥

وقال قوم منهم القاضي أبو بكر بن الطيب : هذه كلها صفات زائدة على الذات ، ثابتة لله تعالى من غير تشبيه ولا تجديد. وقال قوم منهم الشعبي ، وابن المسيب ، والثوري : نؤمن بها ونقر كما نصت ، ولا نعين تفسيرها ، ولا يسبق النظر فيه. وهذان القولان حديث من لم يمعن النظر في لسان العرب ، وهذه المسألة حججها في علم أصول الدين. وقرأ عبد الله : بسيطتان يقال : يد بسيطة مطلقة بالمعروف. وفي مصحف عبد الله : بسطان ، يقال : يده بسط بالمعروف وهو على فعل كما تقول : ناقة صرح ، ومشية سجح ، ينفق كيف يشاء هذا تأكيد للوصف بالسخاء ، وأنه لا ينفق إلا على ما تقتضيه مشيئته ، ولا موضع لقوله تنفق من الإعراب إذ هي جملة مستأنفة ، وقال الحوفي : يجوز أن يكون خبرا بعد خبر ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في مبسوطتان انتهى. ويحتاج في هذين الإعرابين إلى أن يكون الضمير العائد على المبتدأ ، أو على ذي الحال محذوفا التقدير : ينفق بهما. قال الحوفي : كيف سؤال عن حال ، وهي نصب بيشاء انتهى. ولا يعقل هنا كونها سؤالا عن حال ، بل هي في معنى الشرط كما تقول : كيف تكون أكون ، ومفعول يشاء محذوف ، وجواب كيف محذوف يدل عليه ينفق المتقدم ، كما يدل في قولك : أقوم إن قام زيد على جواب الشرط والتقدير : ينفق كيف يشاء أن ينفق ينفق ، كما تقول : كيف تشاء أن أضربك أضربك ، ولا يجوز أن يعمل كيف ينفق لأن اسم بالشرط لا يعمل فيه ما قبله إلا إن كان جارا ، فقد يعمل في بعض أسماء الشرط. ونظير ذلك قوله : (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) (١).

(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) علق بكثير ، لأن منهم من آمن ومن لا يزداد إلا طغيانا ، وهذا إعلام للرّسول بفرط عتوهم إذ كانوا ينبغي لهم أن يبادروا بالإيمان بسبب ما أخبرهم به الله تعالى على لسان رسوله من الأسرار التي يكتمونها ولا يعرفها غيرهم ، لكن رتبوا على ذلك غير مقتضاه ، وزادهم ذلك طغيانا وكفروا ، وذلك لفرط عنادهم وحسدهم. وقال الزجاج : كلما نزل عليك شيء كفروا به. وقال مقاتل : وليزيدن بني النضير ما أنزل إليك من ربك من أمر الرجم والدّماء. وقيل : المراد بالكثير علماء اليهود. وقيل : إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر.

(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) قيل : الضمير في بينهم عائد على

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٤٨.

٣١٦

اليهود والنصارى ، لأنه جرى ذكرهم في قوله : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) (١) ولشمول قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) (٢) للفريقين وهذا قول : الحسن ، ومجاهد. وقيل : هو عائد على اليهود ، إذ هم جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة ، وكذلك فرق النصارى كالملكانية واليعقوبية والنسطورية. والذي يظهر أن المعنى لاه زالون متباغضين متعادين ، فلا يمكن اجتماع كلمتهم على قتالك ، ولا يقدرون على ضررك ، ولا يصلون إليك ولا إلى أتباعك ، لأن الطائفتين لا توادّ بينهم فيجتمعان على حربك. وفي ذلك إخبار بالمغيب ، وهو أنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيشا يهود ونصارى مذ كان الإسلام إلى هذا الوقت. وأشار إلى هذا المعنى الزمخشري بقوله : فكلهم أبدا مختلف وقلوبهم شتى ، لا يقع اتفاق بينهم ، ولا تعاضد انتهى. والعداوة أخص من البغضاء ، لأن كل عدوّ مبغض ، وقد يبغض من ليس بعدوّ. وقال ابن عطية : وكأنّ العداوة شيء يشهد يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء لا تتجاوز النفوس انتهى كلامه.

(كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) قال قوم : هو على حقيقته وليس استعارة ، وهو أن العرب كانت تتواعد للقتال ، وعلامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة ، فيتبادرون والجيش يسري ليلا فيوقد من مرّ بهم ليلا النار فيكون إنذارا ، وهذه عادة لنا مع الروم على جزيرة الأندلس ، يكون قريبا من ديارهم رئية للمسلمين مستخف في جبل في غار ، فإذا خرج الكفار لحرب المسلمين أوقد نارا ، فإذا رآها رئية آخر قد أعدّ للمسلمين في قريب من ذلك الجبل أوقد نارا ، وهكذا إلى أن يصل الخبر للمسلمين في أقرب زمان ، ويعرف ذلك من أي جهة نهر من الكفار ، فيعدّ المسلمون للقائهم. وقيل : إذا تراءى الجمعان وتنازل العسكران أوقدوا بالليل نارا مخافة البيات ، فهذا أصل نار الحرب. وقيل : كانوا إذا تحالفوا على الجدّ في حربهم أوقدوا نارا وتحالفوا ، فعلى كون النار حقيقة يكون معنى إطفائها أنه ألقى الله الرعب في قلوبهم فخافوا أن يغشوا في منازلهم فيضعون ، فلما تقاعدوا عنهم أطفئوها ، وأضاف تعالى الإطفاء إليه إضافة المسبب إلى سببه الأصلي.

وقال الجمهور : هو استعارة ، وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين والاغتيال والقتال ، وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك ، وتفرّق آرائهم ، وحل عزائمهم ، وتفرّق كلمتهم ، وإلقاء الرعب في قلوبهم. فهم لا يريدون محاربة أحد إلا غلبوا

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥١.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٦٨.

٣١٧

وقهروا ، ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد ، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس. وقيل : خالفوا اليهود فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم بطريق الرومي ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين. وقال قوم : هذا مثل ضرب لاجتهادهم في المحاربة ، والتهاب شواظ قلوبهم ، وغليان صدورهم. ومنه الآن حمى الوطيس للجد في الحرب ، وفلان مسعر حرب يهيجها ببسالته ، وضرب الإطفاء مثلا لإرغام أنوفهم وخذلانهم في كل موطن. قال مجاهد : هي تبشير للرسول بأنهم كلما حاربوه نصر عليهم ، وإشارة إلى حاضريه من اليهود. وقال السدّي والربيع وغيرهما : هي إخبار عن أسلافهم منذ عصور هدّ الله ملكهم ، فلا ترفع لهم راية إلى يوم القيامة ، ولا يقاتلون جميعا إلا في قرى محصنة. وقال قتادة : لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذلّ الناس.

(وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) يحتمل أن يريد بالسعي نقل الأقدام أي : لا يكتفون في إظهار الفساد إلا بنقل أقدامهم بعضهم لبعض ، فيكون أبلغ في الاجتهاد ، والظاهر أنه يراد به العمل. والفعل أي : يجتهدون ، في كيد أهل الإسلام ومحو ذكر الرسول من كتبهم. والأرض يجوز أن يراد بها الجنس ، أو أرض الحجاز ، فتكون أل فيه للعهد. قال ابن عباس ومقاتل : فسادهم بالمعاصي. وقال الزجاج : بدفع الإسلام ومحو ذكر الرسول من كتبهم. وقيل : بسفك الدماء واستحلال المحارم. وقيل : بالكفر. وقيل : بالظلم ، وكل هذه الأقوال متقاربة.

(وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ظاهر المفسدين العموم ، فيندرج هؤلاء فيهم. وقيل : أل للعهد ، وهم هؤلاء. وانتفاء المحبة كناية عن كونه لا يعود عليهم بفضله وإحسانه ، فهؤلاء يثيبهم. وإذا لم يثبهم فهو معاقبهم ، إذ لا واسطة بين العقاب والثواب.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ). قيل : المر. أسلافهم ، ودخل فيها المعاصرون بالمعنى. والغرض الإخبار عن أولئك الذين أطفأ الله نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم ، والذي يظهر أنهم معاصر والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي ذلك ترغيب لهم في الدخول في الإسلام. وذكر شيئين وهما : الإيمان ، والتقوى. ورتب عليهم شيئين : قابل الإيمان بتكفير السيئات إذ الإسلام يجبّ ما قبله ، وترتب على التقوى وهي امتثال الأوامر واجتناب المناهي دخول جنة النعيم ، وإضافة الجنة إلى النعيم تنبيها على ما كانوا يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا. وقيل : واتقوا أي : الكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٣١٨

وبعيسى عليه‌السلام. وقيل : المعاصي التي لعنوا بسببها. وقيل : الشرك. قال الزمخشري : ولو أنهم آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به ، وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان ، لكفرنا عنهم تلك السيئات ، فلم نؤاخذهم بها ، ولأدخلناهم مع المسلمين الجنة. وفيه إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم ، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى ، وأن الإيمان لا ينجي ولا يسعد إلا مشفوعا بالتقوى كما قال الحسن : هذا العمود فأين الأطناب؟ انتهى كلامه. وفيه من الاعتزال. وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان ، وقوله : وأن الإيمان لا ينجي ولا يسعد إلا مشفوعا بالتقوى.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) هذا استدعاء لإيمانهم ، وتنبيه لهم على اتباع ما في كتبهم ، وترغيب لهم في عاجل الدنيا وبسط الرزق عليهم فيها ، إذ أكثر ما في التوراة من الموعود به على الطاعات هو الإحسان إليهم في الدنيا. ولمّا رغبهم في الآية قبل في موعود الآخرة من تكفير السيئات وإدخالهم الجنة ، رغبهم في هذه الآية في موعود الدنيا ليجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة ، وكان تقديم موعود الآخرة أهمّ لأنه هو الدائم الباقي ، والذي به النجاة السرمدية ، والنعيم الذي لا ينقضي. ومعنى إقامة التوراة والإنجيل : هو إظهار ما انطوت عليه من الأحكام والتبشير بالرسول والأمر باتباعه كقولهم : أقاموا السوق أي حركوها وأظهروها ، وذلك تشبيه بالقائم من الناس إذ هي أظهر هيئاته. وفي قوله : والإنجيل دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب. وظاهر قوله : وما أنزل إليهم من ربهم ، العموم في الكتب الإلهية مثل : كتاب أشعياء ، وكتاب حزقيل ، وكتاب دانيال ، فإنها مملوءة من البشارة بمبعث الرسول. وقيل : ما أنزل إليهم من ربهم هو القرآن. وظاهر قوله : لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، أنه استعارة عن سبوغ النعم عليهم ، وتوسعة الرزق عليهم ، كما يقال : قد عمه الرزق من فرقه إلى قدمه ولا فوق ولا تحت حكاه الطبري والزجاج. وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدّي : لأعطتهم السماء مطرها وبركتها ، والأرض نباتها كما قال تعالى : (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (١) وذكر النقاش من فوقهم من

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٩٦.

٣١٩

رزق الجنة ، ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا إذ هو من نبات الأرض. وقيل : من فوقهم كثرة الأشجار المثمرة ، ومن تحت أرجلهم الزرع المغلة. وقيل : من فوقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدّل منها من رؤوس الشجر ، ويلتقطون ما تساقط منها على الأرض ، وتحت أرجلهم. وقال تاج القراء : من فوقهم ما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم ، ومن تحت أرجلهم ما يأتيهم من سفلتهم وعوامّهم ، وعبر بالأكل عن الأخذ ، لأنه أجل منافعه وأبلغ ما يحتاج إليه في ديمومة الحياة.

(مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) الضمير في منهم يعود على أهل الكتاب. والأمة هنا يراد بها الجماعة القليلة للمقابلة لها بقوله : وكثير منهم. والاقتصاد من القصد وهو الاعتدال ، وهو افتعل بمعنى اعتمل واكتسب أي : كانت أولا جائزة ثم اقتصدت. قيل : هم مؤمنو الفريقين عبد الله بن سلام وأصحابه ، وثمانية وأربعون من النصارى. واقتصادهم هو الإيمان بالله تعالى. وقال مجاهد : المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديما وحديثا ، ونحوه قول ابن زيد : هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب. وذكر الزجاج وغيره : أنها الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتمرّدين المجاهدين. وقال الزمخشري : مقتصدة حالها أمم في عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الطبري : من بني إسرائيل من يقتصد في عيسى فيقول : هو عبد الله ورسوله وروح منه ، والأكثر منهم غلافية فقال بعضهم : هو الإله ، وعلى هذا مشى الرّوم ومن دخل بآخره في ملة عيسى. وقال بعضهم وهو الأكثر من بني إسرائيل : هو آدمي كغيره لغير رشده ، فتخلص في الاقتصاد أهو في حق عيسى؟ أو في المناصبة؟ أو في الإيمان؟ فإن كان في المناصبة فهل هو بالنسبة إلى الرسول وحده أم بالنسبة إلى الأنبياء؟ قولان. وإن كان في الإيمان فهل هو في إيمان من آمن بالرسول من الفريقين أو من آمن قديما وحديثا؟ قولان.

(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) هذا تنويع في التفصيل. فالجملة الأولى جاءت منهم أمة مقتصدة ، جاء الخبر الجار والمجرور ، والخبر الجملة من قوله : ساء ما يعملون ، وبين التركيبين تفاوت غريب من حيث المعنى. وذلك أن الاقتصاد جعل وصفا ، والوصف ألزم للموصوف من الخبر ، فأتى بالوصف اللازم في الطائفة الممدوحة ، وأخبر عنها بقوله : منهم ، والخبر ليس من شأنه اللزوم ولا سيما هنا ، فأخبر عنهم بأنهم من أهل الكتاب في الأصل ، ثم قد تزول هذه النسبة بالإسلام فيكون التعبير عنهم والإخبار بأنهم منهم ، باعتبار الحالة الماضية. وأما في الجملة الثانية فإنهم منهم حقيقة لأنهم كفار ، فجاء الوصف

٣٢٠