البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

كذب ، وحالة يطلع فيها إذا شهدا على إثمهما بالشهادة وكذبهما في الحلف ، فإذ ذاك لا يلتفت إلى أيمانهم وترد على شهود آخرين فعمل بأيمانهم وذلك بعد حلفهم وافتضاحهم فيها بظهور كذبهم قوبلت هذه الحالة بقوله : (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) وكان العطف بأو لأن الشاهدين إذا لم يتضح صدقهما لا يخلوان من إحدى هاتين الحالتين إما حصول ريبة في شهادتهما وإما الاطلاع على خيانتهما فلذلك كان العطف بأو الموضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فالمعنى ما تقدّم ذكره من الأحكام أقرب إلى حصول إقامة الشهادة على ما ينبغي أو خوف رد الأيمان إلى غيرهم فتسقط أيمانهم ولا تقبل. قال ابن عباس ذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة ثم يخافون الفضيحة ورد اليمين انتهى. وقيل ذلك إشارة إلى تحليف الشاهدين في جمع من الناس. وقيل إلى الحبس بعد الصلاة فقط. قال ابن عطية ويظهر هذا من كلام السدّي وأو على هذا التأويل بمنزلة قولك تحبني يا زيد أو تسخطني كأنك قلت وإلا أسخطتني فكذلك معنى الآية ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وإلا خافوا رد الأيمان وأما على مذهب ابن عباس فالمعنى ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا أو أقرب إلى أن يخافوا انتهى. فتلخص أن (أَوْ) تكون على بابها أو تكون بمعنى الواو ، و (يَخافُوا) معطوف في هذين الوجهين على (يَأْتُوا) أو يكون بمعنى إلى أن كقولك لألزمنك أو تقضيني حقي وهي التي عبر عنها ابن عطية بتلك العبارة السابقة من تقديرها بشرط محذوف فعله وجزاؤه ، وإذا كانت بمعنى إلى أن فهي عند البصريين على بابها من كونها لأحد الشيئين. إلا أن العطف بها لا يكون على الفعل الذي هو يأتوا لكنه يكون على مصدر متوهم وذلك على ما تقرر في علم العربية ، وجمع الضمير في (يَأْتُوا) وما بعده وإن كان السابق مثنى فقيل هو عائد على الشاهدين باعتبار الصنف والنوع ، وقيل لا يعود إلى كليهما بخصوصيتهما بل إلى الناس الشهود والتقدير ذلك أدنى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا) أي احذروا عقاب الله تعالى واتخذوا وقاية منه بأن لا تخونوا ولا تحلفوا به كاذبين وأدوا الأمانة إلى أهلها واسمعوا سماع إجابة وقبول.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) إشارة إلى من حرّف الشهادة أنه فاسق خارج عن طاعة الله فالله لا يهديه إلا إذا تاب ، فاللفظ عام والمعنى اشتراط انتفاء التوبة.

٤٠١

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) مناسبة هذه لما قبلها أنه لما أخبر تعالى بالحكم في شاهدي الوصية وأمر بتقوى الله والسمع والطاعة ، ذكر بهذا اليوم المهول المخوف وهو يوم القيامة فجمع بذلك بين فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة لمن حرّف الشهادة ولمن لم يتق الله ولم يسمع ، وذكروا في نصب (يَوْمَ) وجوها : أحدها : أنه منصوب بإضمار اذكروا. والثاني : بإضمار احذروا. والثالث : باتقوا. والرابع : باسمعوا قاله الحوفي. والخامس : بلا يهدي ، قال قوم منهم الزمخشري وأبو البقاء قالا : لا يهديهم في ذلك اليوم طريق الجنة ، قال أبو البقاء أو لا يهديهم في ذلك اليوم إلى الحجة. والسادس : أجاز الزمخشري أن ينتصب على البدل من المنصوب في قوله (وَاتَّقُوا اللهَ) ، وهو بدل الاشتمال ، كأنه قيل واتقوا الله يوم جمعه وفيه بعد لطول الفصل بالجملتين. والسابع أن ينتصب على الظرف والعامل فيه مؤخر تقديره (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) كان كيت وكيت قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية وصف الآية وبراعتها إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفا والعامل اذكروا واحذروا مما حسن اختصاره لعلم السامع والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة ، وخص الرسل بالذكر لأنهم قادة الخلق وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق وهم المكلمون أولا انتهى. والذي نختاره غير ما ذكروا وهو أن يكون (يَوْمَ) معمولا لقوله (قالُوا لا عِلْمَ لَنا) أي قال الرسل وقت جمعهم وقول الله لهم (ما ذا أُجِبْتُمْ) وصار نظير ما قلناه في قوله (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ) (١) وسؤاله تعالى إياهم بقوله ماذا (أُجِبْتُمْ) سؤال توبيخ لأممهم لتقوم الحجة عليهم ويبتدأ حسابهم كما سئلت الموءودة توبيخا لوائدها وتوقيفا له على سوء فعله وانتصاب (ما ذا أُجِبْتُمْ) ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم قاله الزمخشري ، وقيام ما الاستفهامية مقام المصدر جائز وكذلك ماذا إذا جعلتها كلها استفهاما وأنشدوا على مجيء ما ذكر مصدرا قول الشاعر :

ماذا تعير ابنتي ربع عويلهما

لا ترقدان ولا بؤسي لمن رقدا

وقال ابن عطية معناه ماذا أجابت به الأمم ، ولم يجعل ما مصدرا بل جعلها كناية عن الجواب ، وهو الشيء المجاب به لا للمصدر ، وهو الذي عنى الزمخشري بقوله ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم. وقال الحوفي ما للاستفهام وهو مبتدأ بمعنى الذي خبرها وأجبتم صلته والتقدير ماذا أجبتم به انتهى ، وحذف هذا الضمير المجرور بالحرف يضعف لو قلت

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.

٤٠٢

جاءني الذي مررت تريد به كان ضعيفا إلا إن اعتقد أنه حذف حرف الجر أولا فانتصب الضمير ثم حذف منصوبا ولا يبعد. وقال أبو البقاء (ما ذا) في موضع نصب بأجبتم وحرف الجر محذوف أي بماذا أجبتم وما وذا هنا بمنزلة اسم واحد ويضعف أن يجعل ذا بمعنى الذي هنا لأنه لا عائد هنا وحذف العائد مع حرف الجر ضعيف انتهى ، وما ذكره أبو البقاء أضعف لأنه لا ينقاس حذف حرف الجر إنما سمع ذلك في ألفاظ مخصوصة ونصوا على أنه لا يجوز زيدا مررت به تريد بزيد مررت ولا سرت البيت تريد إلى البيت إلا في ضرورة شعر نحو قول الشاعر :

تحنّ فتبدي ما بها من صبابة

وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني

يريد لقضي عليّ فحذف عليّ وعدى الفعل إلى الضمير فنصبه. ونفيهم العلم عنهم بقوله (لا عِلْمَ لَنا) ، قال ابن عباس معناه لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا كأن المعنى لا علم لنا يكفي وينتهي إلى الغاية ، وقال ابن جريج معنى (ما ذا أُجِبْتُمْ) ماذا عملوا بعدكم وماذا أحدثوا فلذلك قالوا (لا عِلْمَ لَنا) ويؤيده (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، إلا أن لفظة (ما ذا أُجِبْتُمْ) تنبوعن أن تشرح بقوله ماذا عملوا وذكر المفسرون عن الحسن ومجاهد والسدي وسهل التستري أقوالا في تفسير قولهم (لا عِلْمَ لَنا) لا تناسب الرسل أضربت عن ذكرها صفحا. وقال الزمخشري : (فإن قلت) كيف يقولون لا علم لنا وقد علموا ما أجيبوا؟ (قلت) : يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه ، وإحاطته بما منوا به منهم ، وذلك أعظم على الكفرة وأفتّ في أعضادهم ، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم إذا اجتمع عليهم توبيخ الله تعالى وتشكي أنبيائهم عليهم ، ومثاله أن ينكت بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكتة قد عرفها السلطان واطلع على كنهها ، وعزم على الانتصار له منه فيجمع بينهما ويقول له ما فعل بك هذا الخارجي وهو عالم بما فعل به يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول : أنت أعلم بما فعل بي تفويضا للأمر إلى علم سلطانه واتكالا عليه وإظهارا لشكايته وتعظيما لما به انتهى. وليست الآية كهذا المثال الذي ذكره لأن في الآية (لا عِلْمَ لَنا) وهذا نفي لسائر أفراد العلم عنهم بالنسبة إلى الإجابة. وفي المثال أنت أعلم بما فعل بي وهذا لا ينفي العلم عنه غير أنه أثبت لسلطانه أنه أعلم بالخارجي منه.

وقال ابن أبي الفضل في قول الزمخشري ليس بالقوي لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة وكل الأمة ما كانوا كافرين حتى يريد الرسول توبيخهم ، وقيل معناه علمنا ساقط مع علمك

٤٠٣

ومغمور به لأنك علام الغيوب ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة الأمم لرسلهم فكأنه لا علم لنا إلا جنب علمك حكاه الزمخشري بهذا اللفظ. قال الزجاج معناه مختصرا. وقال ابن عطية قول ابن عباس أصوب لأنه يترجح بالتسليم إلى الله تعالى ورد الأمر إليه إذ لا يعلمون إلا بما شوفهوا به مدة حياتهم وينقصهم ما في قلوب المشافهين من نفاق ونحوه وما كان بعدهم من أممهم والله تعالى يعلم جميع ذلك على التفصيل والكمال فرأوا التسليم له والخشوع لعلمه المحيط انتهى. وقيل لا علم لنا بما كان بعدنا وإنما الحكم للخاتمة. قال الزمخشري وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه زرق العيون موبخين انتهى.

وقال ابن أبي الفضل الأصحّ ما اختاره ابن عباس أي تعلم ما أظهروا وما أضمروا ونحن ما نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا فبهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند الله كلا علم انتهى. فيكون مما نفيت فيه الحقيقة ظاهرا والمقصود نفي الكمال كأنه قال : لا علم لنا كامل ، تقول لا رجل في الدار أي كامل الرجولية في قوته ونفاذه. وقال أبو عبد الله الرازي ثبت في علم الأصول أن العلم غير والظن غير والحاصل عند كل أحد من الغير إنما هو الظن لا العلم ولذلك قال عليه‌السلام : «نحن نحكم بالظواهر والله متولي السرائر». وقال عليه‌السلام : «إنكم تختصمون إلى الحديث» والأنبياء قالوا : لا علم لنا البتة بأحوالهم إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن والظن كان معتبرا في الدنيا لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظنون أما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن لأن الأحكام فيها مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور فلهذا السبب قالوا (لا عِلْمَ) ولم يذكروا البتة ما معهم من الظن ، لأن الظن لا عبرة به في القيامة انتهى كلامه. وقال ابن عطية : لا علم لنا بسؤالك ولا جواب لنا عنه. وقرأ ابن عباس وأبو حيوة (ما ذا أُجِبْتُمْ) مبنيّا للفاعل. وقرأ علام بالنصب وهو على حذف الخبر لفهم المعنى فيتم الكلام بالمقدر في قوله (إِنَّكَ أَنْتَ) أي إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره. وقال الزمخشري ثم نصب (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) على الاختصاص أو على النداء أو صفة لاسم إن انتهى. وهذا الوجه الأخير لا يجوز لأنهم أجمعوا على أن ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا يجوز أن يوصف وأما ضمير الغائب ففيه خلاف شاذّ ، للكسائي. وقرأ حمزة وأبو بكر (الْغُيُوبِ) بكسر الغين حيث وقع كأنّ من قال ذلك من العرب قد استثقل توالي ضمتين مع الياء ففر إلى حركة مغايرة للضمة مناسبة لمجاورة الياء وهي للكسرة.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) يحتمل أن يكون (إِذْ) بدلا من قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) والمعنى أنه يوبخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل

٤٠٤

عن إجابتهم وبتعدد ما أظهر على أيديهم من الآيات العظام فكذبوهم وسموهم سحرة وجاوز واحد التصديق إلى أن اتخذوهم آلهة كما قال بعض بني إسرائيل فيما أظهر على يد عيسى من البينات (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١) واتخذه بعضهم وأمه إلهين قاله الزمخشري. وقال ابن عطية يحتمل أن يكون العامل في (إِذْ) مضمرا تقديره اذكر يا محمد إذ ، وقال هنا بمعنى يقول لأن الظاهر من هذا القول أنه في القيامة تقدمة لقوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) ويحتمل أن يكون (إِذْ) بدلا من قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ) انتهى. وجوزوا أن يكون إذ في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك إذ قال الله. وإذا كان المنادى علما مفردا ظاهر الضمة موصوفا بابن متصل مضاف إلى علم جاز فتحه اتباعا لفتحة ابن. هذا مذهب الجمهور وأجاز الفرّاء وتبعه أبو البقاء في ما لا يظهر فيه الضمة تقدير والفتحة فإن لم تجعل (ابْنَ مَرْيَمَ) صفة وجعلته بدلا أو منادى فلا يجوز في ذلك العلم إلا الضم وقد خلط بعض المفسرين وبعض من ينتمي إلى النحو هنا ، فقال بعض المفسرين : يجوز أن يكون (عِيسَى) في محل الرفع لأنه منادى معرفة غير مضاف ويجوز أن يكون في محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيدا وكل ما كان مثل هذا جاز فيه الوجهان نحو يا زيد بن عمرو وأنشد النحويون :

يا حكم بن المنذر بن الجارود

أنت الجواد بن الجواد بن الجود

قال التبريزي الأظهر عندي أن موضع (عِيسَى) نصب لأنك تجعل الاسم مع نعته إذا أضفته إلى العلم كالشيء الواحد المضاف انتهى. والذي ذكره النحويون في نحو يا زيد بن بكر إذا فتحت آخر المنادى أنها حركة اتباع الحركة نون (ابْنَ) ولم يعتد بسكون باء ابن لأن الساكن حاجز غير حصين ، قالوا : ويحتمل أن يراد بالذكر هنا الإقرار وأن يراد به الإعلام وفائدة هذا الذكر إسماع الأمم ما خصه به تعالى من الكرامة وتأكيد حجته على جاحده ، وقيل أمر بالذكر تنبيها لغيره على معرفة حق النعمة ووجوب شكر المنعم ، قال الحسن ذكر النعمة شكرها والنعمة هنا جنس ويدل على ذلك ما عدّده بعد هذا التوحيد اللفظي من النعم وأضافها إليه تنبيها على عظمها ونعمه عليه قد عددها هنا وفي البقرة وآل عمران ومريم وفي مواضع من القرآن ونعمته على أمه براءتها مما نسب إليها وتكفيلها لزكريا وتقبلها بقبول حسن وما ذكر في سورة التحريم (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ) (٢) إلى آخره وغير ذلك وأمر بذكر نعمة أمه لأنها نعمة صائرة إليه.

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٧.

(٢) سورة التحريم : ٦٦ / ١٢.

٤٠٥

(إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) قرأ الجمهور بتشديد الياء ، وقرأ مجاهد وابن محيصن (أَيَّدْتُكَ) على أفعلتك ، وقال ابن عطية على وزن فاعلتك ، ثم قال ويظهر أن الأصل في القراءتين (أَيَّدْتُكَ) على وزن أفعلتك ثم اختلف الإعلال والمعنى فيهما أيدتك من الأبد ، وقال عبد المطلب :

الحمد لله الأعز الأكرم

أيدنا يوم زحوف الأشرم

انتهى والذي يظهر أن أيد في قراءة الجمهور ليس وزنه أفعل لمجيء المضارع على يؤيد فالوزن فعل ولو كان أفعل لكان المضارع يؤيد كمضارع آمن يؤمن وأما من قرأ آيد فيحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل وإن كان يؤيد فهو أفعل. وأما قول ابن عطية إنه في القراءتين يظهر أن وزنه أفعلتك ثم اختلف الإعلال فلا أفهم ما أراد. وتقدم تفسير نظير هذه الجملة في قوله (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (١).

(تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي).

تقدم تفسير نظير هذه الجمل والقراءات التي فيها والإعراب وما لم يتقدم ذكره نذكره فنقول جاء هناك (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ). وقرأ ابن عباس فتنفخها فتكون. وقرأ الجمهور (فَتَكُونُ) بالتاء من فوق. وقرأ عيسى بن عمر فيها فيكون بالياء من تحت والضمير في (فِيها) قال ابن عطية اضطرب المفسرون فيه قال مكي هو في آل عمران عائد على الطائر وفي المائدة عائد على الهيئة ، قال ويصح عكس هذا وقال غيره الضمير المذكور عائد على (الطِّينِ). قال ابن عطية ولا يصح عود هذا الضمير لا على الطين ولا على الهيئة لأن الطير أو الطائر الذي يجيء الطير على هيئته لا نفخ فيه البتة ، وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة به وكذلك الطين إنما هو الطين العام ولا نفخ في ذلك انتهى. وقال الزمخشري ولا يرجع بعض الضمير إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء وكذلك الضمير في يكون انتهى. والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام مكي أنه لا يريد به ما فهم عنه بل يكون قوله عائدا على الطائر لا يريد به الطائر المضاف إليه الهيئة بل الطائر الذي صوره عيسى ويكون التقدير وإذ يخلق من الطين طائرا صورة مثل صورة الطائر الحقيقي فينفخ فيه فيكون طائرا حقيقة بإذن الله. ويكون قوله عائدا على الهيئة لا يريد به الهيئة المضافة إلى

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨٧ ، ٢٥٣.

٤٠٦

الطائر ، بل الهيئة التي تكون الكاف صفة لها ويكون التقدير ، وإذ تخلق من الطين هيئة مثل هيئة الطير ، (فَتَنْفُخُ فِيها) أي في الهيئة الموصوفة بالكاف المنسوب خلقها إلى عيسى ، وأما قول مكي ويصح عكس هذا ، وهو أن يكون الضمير المذكر عائدا على الهيئة والضمير المؤنث عائدا على الطائر فيمكن تخريجه على أنه ذكر الضمير وإن كان عائدا على مؤنث لأنه لحظ فيها معنى الشكل كأنه قدر هيئة كهيئة الطير بقوله شكلا كهيئة الطير وأنه أنث الضمير وإن كان عائدا على مذكر لأنه لحظ فيه معنى الهيئة. قال ابن عطية والوجه عود ضمير المؤنث على ما تقتضيه الآية ضرورة ، أي صورا أو أشكالا أو أجساما ، وعود الضمير المذكر على المخلوق الذي يقتضيه (تَخْلُقُ) ثم قال ولك أن تعيده على ما تدل عليه الكاف في معنى المثل ، لأن المعنى وإذ تخلق من الطين مثل هيئة ولك أن تعيد الضمير على الكاف نفسه فيكون اسما في غير الشعر ، فهو قول أبي الحسن وحده من البصريين وكذا قال الزمخشري ، إن الضمير في (فِيها) للكاف قال لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها وجاء في آل عمران (بِإِذْنِ اللهِ) (١) مرتين وجاء هنا (بِإِذْنِي) أربع مرّات عقيب أربع جمل لأن هذا موضع ذكر النعمة والامتنان بها فناسب الإسهاب وهناك موضع إخبار لبني إسرائيل فناسب الإيجاز والتقدير في وإذ تخرج الموتى تحيي الموتى فعبر بالإخراج عن الإحياء كقوله تعالى (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (٢) بعد قوله (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) (٣) أو يكون التقدير وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء.

(وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي منعتهم من قتلك حين هموا بك وأحاطوا بالبيت الذي أنت فيه. وقال عبيد بن عمير لما قال الله لعيسى (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يؤخر شيئا لغدو يقول مع كل يوم رزقه لم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت ، أين ما أمسى بات. وهذا القول يظهر منه أن عيسى خوطب بذلك قبل الرفع والبينات هنا هي المعجزات التي تقدم ذكرها وظهرت على يديه. ولما فصل تعالى نعمته ذكر ذلك منسوبا لعيسى دون أمه لأن من هذه النعم نعمة النبوة وظهور هذه الخوارق فنعمته عليه أعظم منها على أمه إذ ولدت مثل هذا النبي الكريم. وقال الشاعر فيما يشبه هذا :

شهد العوالم أنها لنفيسة

بدليل ما ولدت من النجباء

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٤٩.

(٢) سورة ق : ٥٠ / ١١.

(٣) سورة ق : ٥٠ / ١١.

٤٠٧

(فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) قرأ حمزة والكسائي ساحر بالألف هنا. وفي هود والصف فهذا هنا إشارة إلى عيسى. وقرأ باقي السبعة (سِحْرٌ) فهذا إشارة إلى ما جاء به عيسى من البينات.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) أي أوحيت إليهم على ألسنة الرسل. وقال ابن عطية إما أن يكون وحي إلهام أو وحي أمر والرسول هنا هو عيسى وهذا الإيحاء إلى الحواريين هو من نعم الله على عيسى بأن جعل له أتباعا يصدقونه ويعملون بما جاء به ويحتمل أن تكون تفسيرية لأنه تقدّمها جملة في معنى القول وأن تكون مصدرية.

(قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) تقدم تفسير نظير هذه الجملة في آل عمران إلا أن هناك (آمَنَّا بِاللهِ) (١) لأنه تقدم ذكر الله فقط في قوله : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) (٢) وهنا جاء (قالُوا آمَنَّا) فلم يتقيد بلفظ الجلالة إذ قد تقدم أن (آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) وجاء هناك (وَاشْهَدْ بِأَنَّا) ، وهنا (وَاشْهَدْ بِأَنَّنا). وهذا هو الأصل إذ إن محذوف منه النون لاجتماع الأمثال.

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قال ابن عطية : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) اعتراض لما وصف حال قوم الله لعيسى يوم القيامة وتضمن الاعتراض إخبار محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته بنازلة الحواريين في المائدة إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها انتهى. والذي يقتضيه ظاهر اللفظ أن قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) إلى آخر قصة المائدة كان ذلك في الدّنيا ذكر عيسى بنعمه وبما أجراه على يديه من المعجزات وباختلاف بني إسرائيل عليه وانقسامهم إلى كافر ومؤمن وهم الحواريون ثم استطرد إلى قصة المائدة ثم إلى سؤاله تعالى لعيسى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) ، وإنما حمل بعضهم على أن ذلك في الآخرة كونه اعتقد أن (إِذْ) بدلا من (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) وأن في آخر الآيات (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) ولا يتعين هذا المحمل على ما نبينه إن شاء الله تعالى في قوله : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ) بل الظاهر ما ذكرناه. وقرأ الجمهور (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) بالياء وضم الباء.

وهذا اللفظ يقتضي ظاهره الشك في قدرة الله تعالى على أن ينزل مائدة من السماء ، وذلك هو الذي حمل الزمخشري على أن الحواريين لم يكونوا مؤمنين قال : (فإن قلت) : كيف قالوا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨.

(٢) سورة الصف : ٦١ / ١٤.

٤٠٨

(هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ (قلت) : ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص وإنما حكى ادعاءهم لهما ثم أتبعه قوله : (إِذْ قالَ) فآذن أن دعواهم كانت باطلة وأنهم كانوا شاكين وقوله : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم ولذلك قول عيسى لهم معناه اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ولا تقترحوا عليه ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة انتهى.

وأما غير الزمخشري من أهل التفسير فأطبقوا على أن الحواريين كانوا مؤمنين حتى قال ابن عطية : لا خلاف أحفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين ، وقال قوم : قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ، قال المفسرون والحواريون هم خواص عيسى وكانوا مؤمنين ولم يشكوا في قدرة الله تعالى على ذلك. قال ابن الأنباري : لا يجوز لأحد أن يتوهم أن الحواريين شكوا في قدرة الله وإنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه : هل تستطيع أن تقوم معي؟ وهو يعلم أنه مستطيع له ، ولكنه يريد هل يسهل عليك انتهى. وقال الفارسي : معناه هل يفعل ذلك بمسألتك إياه. وقال الحسن لم يشكوا في قدرة الله وإنما سألوه سؤال مستخبر هل ينزل أم لا فإن كان ينزل فاسأله لنا. قال ابن عطية هل يفعل تعالى هذا وهل يقع منه إجابة إليه كما قال لعبد الله بن زيد : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ فالمعنى هل يحب ذلك وهل يفعله انتهى. وقيل المراد من هذا الكلام استفهام أن ذلك جائز أم لا وذلك لأن أفعاله موقوفة على وجوه الحكمة فإن لم يحصل شيء من وجوه الحكمة كان الفعل ممتنعا فإن المنافي من وجوه الحكمة كالمنافي من وجوه القدرة.

قال أبو عبد الله الرازي هذا الجواب يمشي على قول المعتزلة ، وأما على مذهبنا فهو محمول على أنه تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه فإنه إن لم يقض به ويعلم وقوعه كان ذلك محالا غير مقدور لأن خلاف المعلوم غير مقدور ، وقال أيضا ليس المقصود من هذا الكلام كونهم شاكين فيه ، بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول : هل يقدر السلطان على إشباع هذا ، ويكون غرضه منه أن ذلك أمر واضح لا يجوز للعاقل أن يشك فيه ، وأبعد من قال هل ينزل ربك مائدة من السماء ويستطيع صلة ومن قال : الرب هنا جبريل لأنه كان يربي عيسى ويخصه بأنواع الإعانة ولذلك قال في أول الآية (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وروي أن الذي نحابهم هذا المنحى من الاقتراح هو أن عيسى قال لهم مرة هل لكم في صيام ثلاثين يوما لله

٤٠٩

تعالى ، ثم إن سألتموه حاجة قضاها فلما صاموها قالوا : يا معلم الخبر ، إن حق من عمل عملا أن يطعم فهل يستطيع ربك. فأرادوا أن تكون المائدة عيد ذلك الصوم.

وقرأ الكسائي هل تستطيع ربك بالتاء من فوق ربك بنصب الباء وهي قراءة عليّ ومعاذ وابن عباس وعائشة وابن جبير. قالت عائشة كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) نزهتهم عن بشاعة اللفظ وعن مرادهم ظاهره. وقد ذكرنا تأويلات ذلك ومعنى هذه القراءة هل تستطيع سؤال ربك و (أَنْ يُنَزِّلَ) معمول لسؤال المحذوف إذ هو حذف لا يتم المعنى إلا به. وقال أبو عليّ وقد يمكن أن يستغني عن تقدير سؤال على أن يكون المعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك فيؤول المعنى ولا بد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ انتهى. ولا يظهر ما قال أبو علي لأن فعل الله تعالى وإن كان سببه الدعاء لا يكون مقدورا لعيسى وأدغم الكسائي لام (هَلْ) في ياء (يَسْتَطِيعُ) وعلى هذه القراءة يكون قول عيسى (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لم ينكر عليه الاقتراح للآيات وهو على كلتا القراءتين يكون قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تقريرا للإيمان كما تقول افعل كذا وكذا إن كنت رجلا.

وقال مقاتل وجماعة اتقوه أن تسألوه البلاء لأنها إن نزلت وكذبتم عذبتم. وقال أبو عبيد وجماعة أن تسألوه ما لم تسأله الأمم قبلكم. وقيل إن تشكوا في قدرته على إنزال المائدة. وقيل اتقوا الله في الشك فيه وفي رسله وآياتهم. وقيل اتقوا معاصي الله. وقيل أمرهم بالتقوى ليكون سببا لحصول هذا المطلوب كما قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (١). وقال الزمخشري هنا عيسى في محل النصب على اتباع حركته حركة الابن كقولك يا زيد بن عمرو وهي اللغة الفاشية ويجوز أن يكون مضموما كقولك يا زيد بن عمرو والدليل عليه قوله : أجاز ابن عمر كأني خمر ، لأن الترخيم لا يكون إلا في المضموم انتهى. فقوله : (عِيسَى) في محل النصب على هذا التقدير وعلى تقدير ضمه فهو لا اختصاص له بكونه في محل النصب على تقدير الاتباع فإصلاحه عيسى مقدر فيه الفتحة على اتباع الحركة وقوله : ويجوز أن يكون مضموما هذا مذهب الفراء وهو تقدير الفتح والضم ونحوه مما لا تظهر فيه الضمة قياسا على الصحيح ولم يبدأ أولا بالضم الذي هو مجمع على تقديره فليس بشرط ، ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى فتقول يا مثن أقبل وإلى ترخيم بعلبك وهو مبني على الفتح لكنه في تقدير الاسم المضموم وإن عنى ضمة مقدرة فإن عنى ضمة ظاهرة فليس بشرط ألا ترى إلى جواز ترخيم رجل اسمه مثنى فتقول يا مثن فإنّ مثل يا جعفر بن زيد مما فتح فيه آخر المنادى لأجل الاتباع مقدّر فيه الضمة

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ / ٢.

٤١٠

لشغل الحرف بحركة الاتباع كما قدر الأعرابي في قراءة من قرأ الحمد لله بكسر الدال لأجل اتباع حركة الله فقولك : يا حار هو مضموم تقديرا وإن كانت الثاء المحذوفة مشغولة في الأصل بحركة الاتباع ، وهي الفتحة فلا تنافي بين الترخيم وبين ما فتح اتباعا وقدرت فيه الضمة ، وكان ينبغي للزمخشري أن يتكلم على هذه المسألة قبل هذا في قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) حيث تكلم الناس عليها.

(قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) لما أمرهم عيسى بتقوى الله منكرا عليهم ما تقدم من كلامهم صرحوا بسبب طلب المائدة وأنهم يريدون الأكل منها ، وذلك للشرف لا للشبع واطمئنان قلوبهم بسكون الفكر ، إذا عاينوا هذا المعجز العظيم النازل من السماء وعلم الضرورة والمشاهدة بصدقه فلا تعترض الشبه اللاحقة في علم الاستدلال وكينونتهم من المشاهدين بهذه الآية الناقلين لها إلى غيرهم ، القائمين بهذا الشرع أو من الشاهدين لله بالوحدانية ولك بالنبوّة ، وقد طول بعض المفسرين في تفسير متعلق إرادتهم بهذه الأشياء وملخصها أنهم أرادوا الأكل للحاجة وشدة الجوع. قال ابن عباس وكان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر من صاحب له وذي علة يطلب البرء ومستهزئ فوقعوا يوما في مفازة ولا زاد فجاعوا وسألوا من الحواريين أن يسألوا عيسى نزول مائدة من السماء فذكر شمعون لعيسى ذلك فقال : قل لهم اتقوا الله ، وأرادوا الأكل ليزدادوا إيمانا. قال ابن الأنباري أو التشريف بالمائدة ذكره الماوردي والاطمئنان إما بأن الله قد بعثك إلينا أو اختارنا أعوانا لك أو قد أجابك أو العلم بالصدق في أنا إذا صمنا لله تعالى ثلاثين يوما. لم نسأل الله شيئا إلا أعطانا أو في أنك رسول حقا إذ المعجز دليل الصدق وكانوا قبل ذلك لم يروا الآيات ، أو يراد بالعلم الضروري والمشاهدة انتهى. وأتت هذه المعاطيف مرتبة ترتيبا لطيفا وذلك أنهم لا يأكلون منها إلّا بعد معاينة نزولها فيجتمع على العلم بها حاسة الرؤية وحاسة الذوق فبذلك يزول عن القلب قلق الاضطراب ويسكن إلى ما عاينه الإنسان وذاقه ، وباطمئنان القلب يحصل العلم الضروري بصدق من كانت المعجزة على يديه إذ جاءت طبق ما سأل ، وسألوا هذا المعجز العظيم لأن تأثيره في العالم العلوي بدعاء من هو في العالم الأرضي أقوى وأغرب من تأثير من هو في العالم الأرضي في عالمه الأرضي ، ألا ترى أن من أعظم معجزات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن وانشقاق القمر وهما من العالم العلوي وإذا حصل عندهم العلم الضروري بصدق عيسى شهدوا شهادة يقين لا يختلج بها ظن ولا شك ولا وهم وبذكرهم هذه الأسباب الحاملة على طلب

٤١١

المائدة يترجح قول من قال : كان سؤالهم ذلك قبل علمهم بآيات عيسى ومعجزاته وإن وحي الله إليهم بالإيمان كان في صدر الأمر وعند ذلك قالوا هذه المقالة ثم آمنوا ورأوا الآيات واستمروا وصبروا.

وقرأ ابن جبير : (وَنَعْلَمَ) بضم النون مبنيا للمفعول وهكذا في كتاب التحرير والتحبير وفي كتاب ابن عطية. وقرأ سعيد بن جبير ويعلم بالياء المضمومة والضمير عائد على القلوب ، وفي كتاب الزمخشري ويعلم بالياء على البناء للمفعول. وقرأ الأعمش وتعلم بالتاء أي وتعلمه قلوبنا. وقرأ الجمهور و (نَكُونَ) بالنون وفي كتاب التحرير والتحبير. وقرأ سنان وعيسى وتكون عليها بالتاء وفي الزمخشري وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم للإيمان والإخلاص وإنما سأل عيسى وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا انتهى. وإنما قال ذلك لأنه ليس عنده الحواريون مؤمنين وإذا ولي أن المخففة من الثقيلة فعل متصرف عن دعاء فإن كان ماضيا فصل بينهما بقد نحو قوله (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) وإن كان مضارعا فصل بينهما بحرف تنفيس كقوله (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) (١) ولا يقع بغير فصل قيل إلا قليلا. وقيل إلا ضرورة وفيما تتعلق به عليها التي تقدمت في نحو (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٢) ، وقال الزمخشري عاكفين عليها على أن عليها في موضع الحال انتهى.

وهذا التقدير ليس بجيد لأن حرف الجر لا يحذف عامله وجوبا إلّا إذا كان كونا مطلقا لا كونا مقيدا والعكوف كون مقيد ولأن المجرور إذا كان في موضع الحال كان العامل فيها عاكفين المقدر وقد ذكرنا أنه ليس بجيد ثم إن قول الزمخشري مضطرب لأن عليها إذا كان ما يتعلق به هو عاكفين كانت في موضع نصب على المفعول الذي تعدى إليه العامل بحرف الجر وإذا كانت في موضع الحال كان العامل فيها كونا مطلقا واجب الحذف فظهر التنافي بينهما.

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) روي أن عيسى لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي ويدعو تقدّم الكلام على لفظة (اللهُمَ) في آل عمران ونادى ربه أولا بالعلم الذي لا شركة فيه ثم ثانيا بلفظ (رَبَّنا) مطابقا إلى مصلحنا ومربينا ومالكنا. وقرأ الجمهور (تَكُونُ لَنا) على أن الجملة صفة لمائدة. وقرأ عبد الله والأعمش يكن بالجزم على

__________________

(١) سورة المزمل : ٧٣ / ٢٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٢١.

٤١٢

جواب الأمر والمعنى يكن يوم نزولها عيدا وهو يوم الأحد ومن أجل ذلك اتخذه النصارى عيدا. وقيل العيد السرور والفرح ولذلك يقال يوم عيد فالمعنى يكون لنا سرورا وفرحا والعيد المجتمع لليوم المشهود وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر أو بالجمعة ونحوه. وقيل العيد لغة ما عاد إليك من شيء في وقت معلوم سواء كان فرحا أو ترحا وغلبت الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية. وقال الخليل العيد كل يوم يجمع الناس لأنهم عادوا إليه.

قال ابن عباس (لِأَوَّلِنا) لأهل زماننا (وَآخِرِنا) من يجيء بعدنا. وقيل (لِأَوَّلِنا) المتقدمين منا والرؤساء (وَآخِرِنا) يعني الاتباع والأولية والآخرية فاحتملتا الأكل والزمان والرتبة والظاهر الزمان. وقرأ زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري لأولانا وأخرانا أنثوا على معنى الأمة والجماعة والمجرور بدل من قوله (لَنا) وكرر العامل وهو حرف الجر كقوله (مِنْها مِنْ غَمٍ) (١) ، والبدل من ضمير المتكلم والمخاطب إذا كان بدل بعض أو بدل اشتمال جاز بلا خلاف وإن كان بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة فإن أفاد معنى التأكيد جاز لهذا البدل إذ المعنى تكون لنا عيدا كلنا كقولك مررت بكم أكابركم وأصاغركم لأن معنى ذلك مررت بكم كلكم وإن لم تفد توكيدا فمسألة خلاف الأخفش بخير وغيره من البصريين بمنع.

ومعنى (وَآيَةً مِنْكَ) علامة شاهدة على صدق عبدك. وقيل حجة ودلالة على كمال قدرتك. وقرأ اليماني وأنه منك والضمير في وأنه إما للعيد أو الإنزال. (وَارْزُقْنا) قيل المائدة ، وقيل الشكر لنعمتك (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأنك الغني الحميد تبتدئ بالرزق. قال أبو عبد الله الرازي تأمل هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا فقدموا ذكر الأكل وأخروا الأغراض الدينية الروحانية وعيسى طلب المائدة وذكر أغراضه فقدم الدينية وأخر أغراض الأكل حيث قال (وَارْزُقْنا) وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية ، ثم إن عيسى عليه‌السلام لشدة صفاء وقته وإشراق روحه لما ذكر الرزق بقوله (وَارْزُقْنا) لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فقوله (رَبَّنا) ابتداء منه بنداء الحق سبحانه وتعالى وقوله (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) انتقال من الذات إلى الصفات وقوله (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة بل من حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله (وَآيَةً مِنْكَ) إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزل من حضرة الجلال. فانظر كيف ابتدأ بالأشرف نازلا إلى الأدون فالأدون (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وهو عروج مرة أخرى من الأخس إلى الأشرف وعند هذا يلوح

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٢٢.

٤١٣

همه من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها اللهم اجعلنا من أهله ، وهو كلام دائر بين لفظ فلسفي ولفظ صوفي وكلاهما بعيد عن كلام العرب ومناحيها.

قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥) وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)

(قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) الظاهر أن المائدة نزلت لأنه تعالى ذكر أنه منزلها وبإنزالها قال الجمهور. قال ابن عطية شرط عليهم شرطه المتعارف في الأمم أنه من كفر بعد آية الاقتراح عذب أشد عذاب. قال الحسن ومجاهد لما سمعوا الشرط أشفقوا فلم تنزل. قال مجاهد فهو مثل ضربه الله للناس لئلا يسألوا هذه الآيات واختلف من قال إنها نزلت هل رفعت بإحداث أحدثوه أم لم ترفع. وقال الأكثرون أكلوا منها أربعين يوما بكرة وعشية. وقال إسحاق بن عبد الله يأكلون منها متى شاؤوا ، وقيل بطروا فكانت تنزل عليهم يوما بعد يوم. وقال المؤرخون كانت تنزل عند ارتفاع الضحى فيأكلون منها ثم ترتفع إلى السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض واختلفوا في كيفية نزولها وفيما كان عليها وفي عدد من أكل منها وفيما آل إليه حال من أكل منها اختلافا مضطربا متعارضا ذكره المفسرون ، ضربت عن ذكره صفحا إذ ليس منه شيء يدل عليه لفظ الآية وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب

٤١٤

التفسير عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا أن لا يدخروا لغد ولا يخونوا فخانوا وادّخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير». قال أبو عيسى هذا حديث رواه عاصم وغير واحد عن سعيد بن عروة عن قتادة عن خلاس عن عمار بن ياسر مرفوعا ولا نعلمه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قرعة حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا سفيان بن حبيب عن سعيد بن عروة نحوه ولم يرفعه ، وهذا أصح من حديث الحسن بن قرعة ولا نعلم الحديث مرفوعا أصلا.

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم (مُنَزِّلُها) مشددا. وقرأ باقي السبعة مخففا والأعمش وطلحة بن مصرف إني سأنزلها بسين الاستقبال بعد أي بعد إنزالها والعذاب هنا بمعنى التعذيب فانتصابه انتصاب المصدر ، وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولا به على السعة وهو إعراب سائغ ولا يجوز أن يراد بالعذاب ما يعذب به إذ يلزم أن يتعدى إليه الفعل بحرف الجر فكان يكون التركيب فإني أعذبه بعذاب لا يقال حذف حرف الجر فتعدى الفعل إليه فنصبه لأن حذف الحرف في مثل هذا مختص بالضرورة والظاهر أن الضمير في (لا أُعَذِّبُهُ) يعود على العذاب بمعنى التعذيب والمعنى لا أعذب مثل التعذيب أحدا. وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير لا أعذب به أحدا وأن يكون مفعولا به على السعة وأن يكون ضمير المصدر المؤكد كقولك : ظننته زيدا منطلقا فلا يعود على العذاب ، ورابط الجملة الواقعة صفة لعذاب هو العموم الذي في المصدر المؤكد كقولك هو جنس وعذابا نكرة فانتظمه المصدر كما انتظم اسم الجنس زيدا في : زيد نعم الرجل ، وأجاز أيضا أن يكون ضمير من على حذف أي لا أعذب مثل عذاب الكافر وهذه تقادير متكلفة ينبغي أن ينزه القرآن عنها ، والعذاب قال ابن عباس مسخهم خنازير. وقال غيره قردة وخنازير ووقع ذلك في الدنيا ، والكفر المشار إليه الموجب تعذيبهم قيل ارتدادهم ، وقيل شكهم في عيسى وتشكيكهم الناس ، وقيل مخالفتهم الأمر بأن لا يخونوا ولا يخبئوا ولا يدخروا قاله قتادة ، وقال عمار بن ياسر لم يتم يومهم حتى خانوا فادّخروا ورفعوا وظاهر العالمين العموم وقيل عالمي زمانهم.

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) قال أبو عبيدة (إِذْ) زائدة وقال غيره بمعنى إذا والظاهر أنها على أصل وضعها وأن ما بعدها من الفعل الماضي قد وقع ولا يؤول بيقول. قال السدي وغيره كان هذا القول من الله تعالى حين رفع عيسى إليه وقالت النصارى ما قالت وادعت أن عيسى أمرهم بذلك واختاره الطبري.

٤١٥

وقال ابن عباس وقتادة والجمهور : هذا القول من الله تعالى إنما هو يوم القيامة يقول له على رؤوس الخلائق فيعلم الكفار أن ما كانوا عليه باطل ، فيقع التجوز في استعمال (إِذْ) بمعنى إذا والماضي بعده بمعنى المستقبل وفي إيلاء الاستفهام الاسم ، ومجيء الفعل بعده دلالة على صدور الفعل في الوجود لكن وقع الاستفهام عن النسبة أكان هذا الفعل الواقع صادرا عن المخاطب أم ليس بصادر عنه ، بيان ذلك أنك تقول : أضربت زيدا ، فهذا استفهام هل صدر منك ضرب لزيد أم لا ، ولا إشعار فيه بأن ضرب زيد قد وقع. فإذا قلت أنت ضربت زيدا كان الضرب قد وقع بزيد ، لكنك استفهمت عن إسناده للمخاطب ، وهذه مسألة بيانية نص على ذلك أبو الحسن الأخفش. وذكر المفسرون أنه لم يقل أحد من النصارى بإلهية مريم ، فكيف قيل (إِلهَيْنِ) ، وأجابوا بأنهم لما قالوا لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها ، لزمهم أن يقولوا من حيث البغضية بإلهية من ولدته ، فصاروا بمثابة من قال : انتهى. والظاهر صدور هذا القول في الوجود لا من عيسى ، ولا يلزم من صدور القول وجود الاتخاذ.

(قالَ سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك. قال ابن عطية : عن أن يقال هذا وينطق به ؛ وقال الزمخشري من أن يكون لك شريك ، والظاهر الأول لقوله بعد (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) قال أبو روق : لما سمع عيسى هذا المقال ارتعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة عين من دم ، فقال عند ذلك مجيبا لله تعالى : (سُبْحانَكَ) تنزيها وتعظيما لك وبراءة لك من السوء.

(ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) هذا نفي يعضده دليل العقل فيمتنع عقلا ادعاء بشر محدث الإلهية و (بِحَقٍ) خبر ليس أي ليس مستحقا وأجازوا في (لِي) أن يكون تبيينا وأن يكون صلة صفة لقوله (بِحَقٍ) لي تقدم فصار حالا أي بحق لي ، ويظهر أنه يتعلق (بِحَقٍ) لأن الباء زائدة ، وحق بمعنى مستحقّ أي ما ليس مستحقا ، وأجاز بعضهم أن يكون الكلام قد تم عند قوله (ما لَيْسَ لِي) وجعل (بِحَقٍ) متعلقا بعلمته الذي هو جواب الشرط ، ورد ذلك بادعاء التقديم والتأخير فيما ظاهره خلاف ذلك ، ولا يصار إلى التقديم والتأخير إلا لمعنى يقتضي ذلك ، أو بتوقيف ، أو فيما لا يمكن فيه إلا ذلك ؛ انتهى هذا القول ورده ، ويمتنع أن يتعلق لأنه لا يتقدم على الشرط شيء من معمولات فعل الشرط ولا من معمولات جوابه ، ووقف نافع وغيره من القراء على قوله (بِحَقٍ) وروي ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤١٦

(إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) قال أبو عبد الله الرازي : هذا مقام خضوع وتواضع ، فقدم ناسخ نفي القول عنه ، ولم يقل ما قلته بل فوّض ذلك إلى علمه المحيط بالكلّ وهذه مبالغة في الأدب وفي إظهار الذلة والمسكنة في حضرة الجلال ، وتفويض الأمر بالكلية إلى الحق سبحانه ، انتهى ، وفيه بعض تلخيص.

(تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) خصّ النفس لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات. قيل : المعنى : تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي. وقيل : تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك. وقيل : تعلم ما كان في الدنيا ولا أعلم ما تقول وتفعل. وقيل : تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد. وقيل : تعلم سرّي ولا أعلم سرّك. وقال الزمخشري : تعلم معلومي ولا أعلم معلومك وأتى بقوله : (ما فِي نَفْسِكَ) على جهة المقابلة والتشاكل لقوله (ما فِي نَفْسِي) فهو شبيه بقوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (١) وقوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (٢) ومن زعم أن النفس تطلق على ذات الشيء وحقيقته ، كان المعنى عنده تعلم كنه ذاتي ولا أعلم كنه ذاتك ، وقد استدلت المجسمة بقوله (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) قالوا : النفس هي الشخص وذلك يقتضي كونه جسما. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

(إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) هذا تقرير للجملتين معا لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ولأن ما يعلمه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) لا ينتهي إليه أحد ، فإذا كنت أنت المختص بعلم الغيب فلا علم لي بالغيب فكيف تكون لي الألوهية وخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلقاه الله (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) (٣) الآية كلها. قال أبو عيسى : حديث حسن صحيح.

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أخبر أنه لم يتعد أمر الله في أن أمر بعبادته وأقر بربوبيته. وفي قوله : (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) براءة مما ادّعوه فيه ، وفي الإنجيل قال : يا معاشر بني المعمودية قوموا بنا إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ومخلصي ومخلصكم. وقال أبو عبد الله الرازي : كان الأصل أن يقال ما أمرتهم إلا ما أمرتني به ، إلا أنه وضع القول موضع الأمر نزولا على موجب الأدب. وقال الحسن : إنما عدل لئلا يجعل نفسه وربه آمرين معا ودل على أن الأصل ما ذكر أن المفسرة ؛ انتهى. قال الحوفي وابن

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٥٤.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٥.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ١١٦.

٤١٧

عطية : وأن في (أَنِ اعْبُدُوا) مفسرة ، لا موضع لها من الإعراب ويصح أن يكون بدلا من من ما وصح أن يكون بدلا من الضمير في به ، زاد ابن عطية أن يصح أن يكون في محلّ خفض على تقدير ب (أَنِ اعْبُدُوا) ، وأجاز أبو البقاء الجر على البدل من الهاء والرفع على إضمار هو والنصب على إضمار أعني أو بدلا من موضع به. قال : ولا يجوز أن تكون بمعنى أن المفسرة ، لأن القول قد صرّح به ، وأن لا تكون مع التصريح بالقول. وقال الزمخشري أن في قوله (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر ، والمفسر إما فعل القول وإما فعل الأمر وكلاهما لا وجه له ، أما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن يوسط بينهما حرف التفسير لا تقول ما قلت لهم إلا (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ولكن ما قلت لهم إلا اعبدوا الله وأما فعل الأمر فمسند إلى ضمير الله تعالى فلو فسرته باعبدوا الله ربي وربكم لم يستقم لأن الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم ، وإن جعلتها موصولة بالفعل لم يخل من أن تكون بدلا من ما أمرتني به أو من الهاء في به وكلاهما غير مستقيم ، لأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه ، ولا يقال ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله بمعنى ما قلت لهم إلا عبادته لأن العبادة لا تقال وكذلك إذا جعلته بدلا من الهاء لأنك لو أقمت (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) لم يصح لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته.

(فإن قلت) : فكيف تصنع؟ (قلت) : يحمل فعل القول على معناه لأن معنى (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ما أمرتهم إلا بما أمرتني به حتى يستقيم تفسيره ب (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ويجوز أن تكون موصولة عطفا على بيان الهاء لا بدلا ؛ انتهى ، وفيه بعض تلخيص. أما قوله : وأما فعل الأمر إلى آخر المنع ، وقوله لأن الله تعالى لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم فإنما لم يستقم لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومة إلى فعل الأمر ، ويستقيم أن يكون فعل الأمر مفسرا بقوله (اعْبُدُوا اللهَ) ويكون (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) من كلام عيسى على إضمار أعني أي أعني ربي وربكم لا على الصفة التي فهمها الزمخشري ، فلم يستقم ذلك عنده. وأما قوله : لأن العبادة لا تقال فصحيح لكن ذلك يصحّ على حذف مضاف ، أي : ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله ، أي القول المتضمن عبادة الله. وأما قوله لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته فلا يلزم في كل بدل أن يحلّ محل المبدل منه ، ألا ترى إلى تجويز النحويين : زيد مررت به أبي عبد الله ، ولو قلت زيد مررت بأبي عبد الله لم يجز ذلك عندهم إلا على رأي الأخفش. وأما قوله عطفا على بيان الهاء ، فهذا فيه بعد لأن عطف البيان أكثره بالجوامد الأعلام ، وما اختاره الزمخشري وجوّزه غيره من

٤١٨

كون أن مفسرة لا يصح لأنها جاءت بعد إلا ، وكل ما كان بعد إلا المستثنى بها فلابدّ أن يكون له موضع من الإعراب وأن التفسيرية لا موضع لها من الإعراب ، وانظر إلى ما تضمنت محاورة عيسى وجوابه مع الله تعالى لما قرع سمعه ما لا يمكن أن يكون نزه الله تعالى وبرأه من السوء ، ومن أن يكون معه شريك ثم أخبر عن نفسه أنه لا يمكن أن يقول ما ليس له بحق ، فأتى بنفي لفظ عام ، وهو لفظ ما المندرج تحته كل قول ليس بحق حتى هذا القول المعين ، ثم تبرأ تبرؤا ثالثا وهو إحالة ذلك على علمه تعالى وتفويض ذلك إليه ، وعيسى يعلم أنه ما قاله ، ثم لما أحال على العلم أثبت علم الله به ونفى علمه بما هو لله وفيه إشارة إلى أنه لا يمكن أن يهجس ذلك في خاطري فضلا عن أن أفوه به وأقوله ، فصار مجموع ذلك نفي هذا القول ، ونفي أن يهجس في النفس ، ثم علل ذلك بأنه تعالى مستأثر بعلم الغيب ، ثم لما نزه الله تعالى وانتفى عنه قول ذلك وأن يخطر ذلك في نفسه انتقل إلى ما قاله لهم فأتى به محصورا بإلا معذوقا بأنه هو الذي أمره الله به أن يبلغهم عنه.

(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي رقيبا كالشاهد على المشهود عليه ، أمنعهم من قول ذلك وأن يتدينوا به ، وأتي بصيغة فعيل للمبالغة كثير الحفظ عليهم والملازمة لهم وما ظرفية ودام تامّة أي ما بقيت فيهم ، أي شهيدا في الدنيا.

(فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) قيل : هذا يدل على أنه توفاه وفاة الموت قبل أن يرفعه ، وليس بشيء لأن الأخبار تظافرت برفعه حيا ، وأنه في السماء حيّ وأنه ينزل ويقتل الدجال ، ومعنى (تَوَفَّيْتَنِي) قبضتني إليك بالرفع. وقال الحسن : الوفاة وفاة الموت ووفاة النوم ووفاة الرفع.

وقال الزمخشري : (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) تمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلة ، وأنزلت عليهم من البينات وأرسلت إليهم الرسل ؛ انتهى وفيه دسيسة الاعتزال.

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال الزمخشري : (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) والذين عذبتهم جاحدين لآياتك ، مكذبين لأنبيائك ، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز القوي على الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب.

(فإن قلت) : المغفرة لا تكون للكفار ، فكيف قال : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ)؟ (قلت) : ما قال : إنك تغفر لهم ولكنه بنى الكلام على أن يقال : إن عذبتهم عدلت لأنهم أحقاء

٤١٩

بالعذاب ، وإن غفرت لهم مع كفرهم ، لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول ، بل متى كان المجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن. وهذا من الزمخشري ميل إلى مذاهب أهل السنة فإن غفران الكفر جائز عندهم وعند جمهور البصريين من المعتزلة عقلا ، قالوا : لأن العقاب حق لله على الذنب وفي إسقاطه منفعة ، وليس في إسقاطه على الله مضرة ، فوجب أن يكون حسنا ودل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع ، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجودا في شرع عيسى عليه‌السلام ، انتهى كلام جمهور البصريين من المعتزلة.

وقال أهل السنة : مقصود عيسى تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى وترك الاعتراض بالكلية ، ولذلك ختم الكلام بقوله : (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : قادر على ما تريد في كل ما تفعل لا اعتراض عليك. وقيل لما قال لعيسى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) الآية. علم أن قوما من النصارى حكوا هذا الكلام عنه والحاكي هذا الكفر لا يكون كافرا بل مذنبا حيث كذب وغفران الذنب جائز فلهذا قال : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ). وقيل : كان عند عيسى أنهم أحدثوا المعاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه ، فقال : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) ما أحدثوا بعدي من المعاصي وهذا يتوجه على قول من قال : إن قول الله له (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) كان وقت الرفع ، لأنه قال ذلك وهم أحياء لا يدري ما يموتون عليه. وقيل : الضمير في تعذبهم عائد على من مات كافرا وفي (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) عائد على من تاب منهم قبل الموت. وقيل : قال ذلك على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم ، مع علمه بأن الكفار لا يغفر لهم ولهذا لم يقل لأنهم عصوك؟ انتهى وهذا فيه بعد لأن الاستعطاف لا يحسن إلا لمن يرجى له العفو والتخفيف ، والكفار لا يرجى لهم ذلك والذي أختاره من هذه الأقوال أن قوله تعالى (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) قول قد صدر ، ومعنى يعطفه على ما صدر ومضى ، ومجيئه بإذ التي هي ظرف لما مضى ويقال التي هي حقيقة في الماضي فجميع ما جاء في هذه الآيات من إذ قال هو محمول على أصل وضعه ، وإذا كان كذلك فقول عيسى (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) فعبر بالسبب عن المسبب لأنه معلوم أن الغفران مرتب على التوبة وإذا كان هذا القول في غير وقت الآخرة ، كانوا في معرض أن يرد فيهم التعذيب أو المغفرة الناشئة عن التوبة ، وظاهر قوله (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إنه جواب الشرط والمعنى فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما

٤٢٠