البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

والثالثة للاستقبال ، وقيل الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع والثاني في الكبائر والثالث في الصغائر ، وقيل غير هذا مما لا إشعار للفظ به ، ومعنى الآية ثناء على أولئك ، الذين كانوا على هذه الصفة وحمد لهم في الإيمان والتقوى والإحسان إذ كانت الخمر غير محرمة إذ ذاك فالإثم مرفوع عمن التبس بالمباح إذا كان مؤمنا متقيا محسنا وإن كان يؤول ذلك المباح إلى التحريم فتحريمه بعد ذلك لا يضر المؤمن المتقي المحسن وتقدم شرح الإحسان وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسره في حديث سؤال جبريل فيجب أن لا يتعدى تفسيره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) نزلت عام الحديبية وأقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتنعيم فكان الوحش والطير يغشاهم في رحالهم وهم محرمون ، وقيل كان بعضهم أحرم وبعضهم لم يحرم فإذا عرض صيد اختلفت أحوالهم واشتبهت الأحكام ، وقيل قتل أبو اليسر حمار وحش برمحه فقيل قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنهم لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات وأخرج من ذلك الخمر والميسر وهما حرامان دائما ، أخرج بعده من الطيبات ما حرم في حال دون حال ، وهو الصيد وكان الصيد مما تعيش به العرب وتتلذذ باقتناصه ولهم فيه الإشعار والأوصاف الحسنة ، والظاهر أن الخطاب بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) عام للمحل والمحرم لكن لا يتحقق الابتلاء إلا مع الإحرام أو الحرم. وقال ابن عباس هو للمحرمين ، وقال مالك هو للمحلين والمعنى ليختبرنكم الله ابتلاهم الله به مع الإحرام أو الحرم ، والظاهر أن قوله (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) يقتضي تقليلا ، وقيل ليعلم أنه ليس من الابتلاء العظيم كالابتلاء بالأنفس والأموال بل هو تشبيه بما ابتلي به أهل أيلة من صيد السمك وأنهم كانوا لا يصبرون عند هذا الابتلاء فكيف يصبرون عند ما هو أشدّ منه ومن في (مِنَ الصَّيْدِ) للتبعيض في حال الحرمة إذ قد يزول الإحرام ويفارق الحرم فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم ، وقال الطبري وغيره من صيد البر دون البحر ، وقال ابن عطية ويجوز أن تكون من لبيان الجنس ، قال الزجاج وهذا كما تقول قال لأمتحننك بشيء من الرزق وكما قال تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (١) والمراد بالصيد المأكول لأن الصيد ينطلق على المأكول وغير المأكول. قال الشاعر :

صيد الملوك أرانب وثعالب

وإذا ركبت فصيدي الأبطال

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٣٠.

٣٦١

وقال زهير :

ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما

كذب الليث عن أقرانه صدقا

ولهذا قال أبو حنيفة إذا قتل المحرم ليثا أو ذئبا ضاريا أو ما يجري مجراه فعليه الجزاء بقتله.

(تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) أي بعض منه يتناول بالأيدي لقرب غشيانه حتى تتمكن منه اليد وبعض بالرماح لبعده وتفرقه فلا يوصل إليه إلا بالرمح ، وقال ابن عباس (أَيْدِيكُمْ) فراخ الطير وصغار الوحش ، وقال مجاهد الأيدي الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر والرماح تنال كبار الصيد ، قيل وما قاله مجاهد غير جائز لأن الصيد اسم للمتوحش الممتنع دون ما لا يمتنع انتهى ، يعني أنه لا يطلق على البيض صيد ولا يمتنع ذلك تسمية للشيء بما يؤول إليه ، قال ابن عطية والظاهر أن الله خص الأيدي بالذكر لأنها أعظم تصرفا في الاصطياد وفيها تدخل الجوارح والحبالات وما عمل باليد من فخاخ وشباك وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد وفيها يدخل السهم ونحوه ، واحتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا. وقرأ النخعي وابن وثاب يناله بالياء منقوطة من أسفل والجملة من قوله (تَنالُهُ) في موضع الصفة لقوله (بِشَيْءٍ) أو في موضع الحال منه إذ قد وصف وأبعد من زعم أنه حال من الصيد.

(لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) هذا تعليل لقوله (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) ومعنى (لِيَعْلَمَ) ليتميز من يخاف عقابه تعالى وهو غائب منتظر في الآخرة فيبقى الصيد ممن لا يخافه فيقدم عليه قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية ليستمرّ عليه وهو موجود إذ قد علم الله ذلك في الأزل ، وقال الكلبي لم يزل الله تعالى عالما وإنما عبر بالعلم عن الرؤية ، وقيل هو على حذف مضاف أي ليعلم أولياء الله ، وقيل المعنى ليعلموا أن الله يعلم من يخافه بالغيب أي في السر حيث لا يراه أحد من الناس فالخائف لا يصيد وغير الخائف يصيد ، وقيل يعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم ، وقيل ليظهر المعلوم وهو خوف الخائف وبالغيب في موضع نصب على الحال ومعناه أن الخائف غائب عن رؤية الله تعالى ومثله (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) (١) و (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) (٢) وقال عليه‌السلام : «فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

__________________

(١) سورة ق : ٥٠ / ٣٣.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٤٩.

٣٦٢

وقال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهو غائب عنه ، قال ابن عطية والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة من خاف الله انتهى. عن الصيد من ذات نفسه انتهى. وقرأ الزهري (لِيَعْلَمَ اللهُ) من أعلم. قال ابن عطية أي ليعلم عباده انتهى. فيكون من أعلم المنقولة من علم المتعدية إلى واحد تعدى عرف فحذف المفعول الأول وهو عباده لدلالة المعنى عليه وبقي المفعول الثاني وهو (مَنْ يَخافُهُ).

(فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) المعنى فمن اعتدى بالمخالفة فصاد وذلك إشارة إلى النهي الذي تضمنه معنى الكلام السابق وتقديره فلا يصيدوا يدل عليه قوله (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ).

(فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) قيل في الآخرة. وقيل في الدنيا. قال ابن عباس يوسع بطنه وظهره جلدا ويسلب ثيابه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ الَّذِينَ آمَنُوا) عام وصرح هنا بالنهي عن قتل الصيد في حال كونهم حرما والحرم جمع حرام والحرام المحرم والكائن بالحرم ، ومن ذهب إلى أن اللفظ يراد به معناه استدل بقوله (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) على منع المحرم والكائن بالحرم من قتل الصيد ومن لم يذهب إلى ذلك ، قال المعنى يحرمون بحج أو عمرة وهو قول الأكثر. وقيل المعنى وأنتم في الحرم والظاهر النهي عن قتل الصيد وتكون الآية قبل هذه دلت بمعناها على النهي عن الاصطياد فيستفاد من مجموع الآيتين النهي عن الاصطياد والنهي عن قتل الصيد والظاهر عموم الصيد وقد خص هذا العموم بصيد البر لقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ). وقيل وبالسنة بالحديث الثابت «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة والفأرة والكلب العقور» فاقتصر على هذه الخمسة الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وقاس مالك على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وغيرهم ورآه داخلا في لفظه من أسد ونمر وفهد وذئب وكل سبع عاد فقال له أن يقتلها مبتدئا بها لا هزبر وثعلب وضبع فإن قتلها فدى. وقال مجاهد والنخعي لا يقتل من السباع إلا ما عدا عليه وروي نحوه عن ابن عمر. وقال أصحاب الرأي إن بدأه السبع قتله ولا فدية وإن ابتدأه المحرم فقتله فدى. وقال مالك في فراخ السباع قبل أن تفترس لا ينبغي للمحرم قتلها ، وثبت عن عمر أمره المحرمين بقتل الحيات وأجمع الناس على إباحة قتلها وثبت عن عمر إباحة قتل الزنبور لأنه في حكم العقرب وذوات السموم في حكم الحية كالأفعى والرتيلا ومذهب أبي حنيفة

٣٦٣

وجماعة أن الصيد هو ما توحش مأكولا كان أو غير مأكول. فعلى هذا لو قتل المحرم سبعا لا يؤكل لحمه ضمن ولا يجاوز قيمة شاة ، وقال زفر بالغا ما بلغ ، وقال قوم الصيد هو ما يؤكل لحمه فعلى هذا لا يجب الضمان في قتل السبع وهو قول الشافعي ولا في قتل الفواسق الخمس ولا الذئب وإذا كان الصيد مما يحل أكله فقتله المحرم ولو بالذبح فمذهب أبي حنيفة ومالك أنه غير مذكى فلا يؤكل لحمه وبه قال ابن المسيب وأحد قولي الحسن ومذهب الشافعي إن ذبح المحرم الصيد ذكاه ، وقال الحكم وعمرو بن دينار وسفيان يحل للحلال أكله وهو أحد قولي الحسن.

(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) الظاهر تقييد القتل بالعمد فمن لم يتعمد فقتل خطأ بأن كان ناسيا لإحرامه أو رماه ظانا أنه ليس بصيد فإذا هو صيد أو عدل سهمه الذي رماه لغير صيد فأصاب صيدا فلا جزاء عليه ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير وطاوس وعطاء وسالم وبه قال أبو ثور وداود والطبري وهو أحد قولي الحسن البصري ومجاهد وأحمد بن حنبل ، وقال ابن عباس فيما أسنده عنه الدار قطني إنما التكفير في العمد وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا ، وقيل خرج مخرج الغالب فألحق به النادر ، وقيل ذكر التعمد لأن مورد الآية في من تعمد لقصة أبي اليسر إذ قتل الحمار متعمدا وهو محرم ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم أن الخطأ بنسيان أو غيره كالعمد والعمد أن يكون ذاكرا لإحرامه قاصدا للقتل وروي ذلك عن عمر وابن عباس وطاوس والحسن وإبراهيم والزهري ، قال الزهري جزاء العمد بالقرآن والخطأ والنسيان بالسنة ، قال القاضي أبو بكر بن العربي إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن عمر وابن عباس فنعما هي وأحسن بها أسوة ، وقال مجاهد معناه متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه فإن كان ذاكرا لإحرامه فهذا أجل وأعظم من أن يكفر وقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها ، قال ومن أخطأ فذلك الذي عليه الجزاء ، وقال نحوه ابن جريج ، وروي عن مجاهد أنه لا جزاء عليه في قتله متعمدا ويستغفر الله وحجه تام ، وقرأ الكوفيون (فَجَزاءٌ) بالتنوين (مِثْلُ) بالرفع فارتفاع جزاء على أنه خبر لمبتدأ محذوف الخبر تقديره فعليه جزاء ومثل صفة أي فجزاء يماثل ما قتل. وقرأ عبد الله فجزاؤه مثل والضمير عائد على قاتل الصيد أو على الصيد وفي قراءة عبد الله يرتفع فجزاؤه مثل على الابتداء والخبر. وقرأ باقي السبعة (فَجَزاءٌ مِثْلُ) برفع جزاء وإضافته إلى مثل ، فقيل مثل كأنها مقحمة كما تقول مثلك من يفعل كذا أي أنت تفعل كذا فالتقدير فجزاء ما قتل ،

٣٦٤

وقيل ذلك من إضافة المصدر إلى المفعول ويدل على هذا التقدير قراءة السلمي (فَجَزاءٌ) بالرفع والتنوين (مِثْلُ ما قَتَلَ) بالنصب. وقرأ محمد بن مقاتل (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ) بنصب جزاء ومثل والتقدير فليخرج جزاء مثل ما قتل ومثل صفة لجزاء.

وقرأ الحسن (مِنَ النَّعَمِ) سكن العين تخفيفا كما قالوا الشعر ، وقال ابن عطية هي لغة و (مِنَ النَّعَمِ) صفة لجزاء سواء رفع (فَجَزاءٌ) و (مِثْلُ) أو أضيف فجزاء إلى مثل أي كائن من النعم ويجوز في وجه الإضافة أن يتعلق من النعم بجزاء إلا في وجه الأول لأن جزاء مصدر موصوف فلا يعمل. ووهم أبو البقاء في تجويزه أن يكون من النعم حالا حل الضمير في قتل يعني من الضمير المنصوب المحذوف في قتل العائد ، على ما قال لأن المقتول يكون من النعم وليس المعنى على ذلك ، لأن الذي هو من النعم هو ما يكون جزاء لا الذي يقتله المحرم ، ولأن النعم لا تدخل في اسم الصيد والظاهر في المثلية أنها مثلية في الصورة والخلقة والصغر والعظم وهو قول الجمهور. وروي ذلك عن عمرو بن عوف وابن عباس والضحاك والسدّي وابن جبير وقتادة وبه قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن ، وتفاصيل ما يقابل كل مقتول من الصيد قد طول بها جماعة من المفسرين ولم يتعرض لفظ القرآن لها وهي مذكورة في كتب الفقه.

وذهب جماعة من التابعين إلى أن المماثلة هي في القيمة يقوم الصيد المقتول ثم يشتري بقيمته طعاما من الأنعام ثم يهدى وهو قول النخعي وعطاء وأحد قولي مجاهد. وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف يشتري بالقيمة هديا إن شاء وإن شاء اشترى طعاما فأعطى كل مسكين نصف صاع وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما. وقال قوم المثلية فيما وجد له مثل صورة وما لم يوجد له مثل فالمثلية في القيمة وقد تعصب أبو بكر الرازي والزمخشري لمذهب أبي حنيفة. ولفظ الآية ينبو عن مذهبه إذ ظاهر الآية يقتضي التخيير بين أن يجزئ هديا من النعم مثل ما قتل وأن يكفر بطعام مساكين وأن يصوم عدل الصيام. والظاهر أن الجزاء لا يكون إلا في القتل لا في أخذ الصيد ولا في جنسه ولا في أكله وفاقا للشافعي وخلافا لأبي حنيفة إذ قال عليه جزاء ما أكل يعني قيمته وخالفه صاحباه فقالا لا شيء عليه سوى الاستغفار لأنه تناول منه ، ولا في الدلالة عليه خلافا لأبي حنيفة وأشهب إذ قالا يضمن الدال الجزاء ، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عوف ، وقال الشافعي ومالك وأبو ثور لا يضمن الدال والجزاء على القاتل ولا في جرحه ونقص قيمته بذلك ، وقال المزني عليه شيء ، وقال بعض أهل العلم إذا نقص من قيمته مثلا العشر فعليه عشر قيمته ، وقال داود لا شيء عليه ، والظاهر أنه لو اجتمع محرمون في صيد لم يجب عليهم إلا جزاء

٣٦٥

واحد لأنه لا ينسب القتل إلى كل واحد واحد منهم. فأما المقتول فهو واحد يجب أن يكون المثل واحد ، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والثوري يجب على كل واحد منهم جزاء واحد ، والظاهر أنه إذا حمل قوله (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) على معنييه وهما محرمون بحج أو عمرة ومحرمون بمعنى داخلين الحرم وإن كانوا محلين ، أنه إذا قتل المحلون صيدا في الحرم أنه يلزمهم جزاء واحد ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال مالك على كل واحد جزاء كامل وظاهر قوله (مِنَ النَّعَمِ) أنه لا يشترط سن فيجزئ الجفر والعناق على قدر الصيد وبه قال أبو يوسف ومحمد ، وقال أبو حنيفة لا يجوز أن يهدي إلا ما يجزئ في الأضحية وهدي القران والظاهر من تقييد المنهيين عن القتل بقوله (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أنه لو صاد الحلال بالحل ثم ذبحه في الحرم فلا ضمان وهو حلال وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة عليه الجزاء.

(يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) أي يحكم بمثل ما قتل. قال ابن وهب من السنة أن يخير الحكمان من قتل الصيد كما خيره الله في أن يخرج هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ، فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظرا لما أصاب وأدنى الهدي شاة ، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير بين أن يطعمه أو يصوم مكان كل مدّ يوما وكذلك قال مالك ، والظاهر أنه يحكم به عدلان وكذلك فعل عمر في حديث قبيصة بن جابر استدعى عبد الرحمن بن عوف وحكما في ظبي بشاة وفعل ذلك جرير وابن عمر والظاهر أن العدلين ذكران فلا يحكم فيه امرأتان عدلتان ، وقرأ جعفر بن محمد (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ) على التوحيد أي يحكم به من يعدل منكم ولا يريد به الوحدة ، وقيل أراد به الإمام. والظاهر أن الحكمين يحكمان في جزاء الصيد باجتهادهما وذلك موكول إليهما وبه قال أبو حنيفة ومالك وجماعة من أهل العلم ، وقال الشافعي الذي له مثل من النعم وحكمت فيه الصحابة بحكم لا يعدل عنه إلى غيره وما لم تحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى اجتهادهما فينظران إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام فكل ما كان أقرب شبها به يوجبانه ، والظاهر أن الحكمين لا يكون أحدهما قاتل الصيد وهو قول مالك ، وقال الشافعي : إن كان القتل خطأ جاز أن يكون أحدهما أو عمدا فلا لأنه يفسق به واستدل بقوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) على إثبات القياس لأنه تعالى فرض تعيين المثل إلى اجتهاد الناس وظنونهم. وجوّزوا في انتصاب قوله (هَدْياً) أن يكون حالا من (فَجَزاءٌ) فيمن وصفه بمثل لأن الصفة خصصته فقرب من المعرفة وأن يكون بدلا من مثل في قراءة من

٣٦٦

نصب مثلا أو من محله في قراءة من خفضه وأن ينتصب على المصدر والظاهر أنه حال من قوله به ومعنى (بالِغَ الْكَعْبَةِ) أن ينحر بالحرم ويتصدّق به حيث شاء عند أبي حنيفة ، وقال الشافعي بالحرم ، وقرأ الأعرج (هَدْياً) بكسر الدال وتشديد الياء والجملة من قوله يحكم في موضع الصفة لقوله (فَجَزاءٌ) أي حاكم به ذوا عدل وفي قوله (مِنْكُمْ) دليل على أنهما من المسلمين وذكر الكعبة لأنها أم الحرام قالوا والحرم كله منحر لهذا الهدي فما وقف به يعرفه من هدي الجزاء ينحر بمنى وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم بشرط أن يدخل من الحل ولا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغا الكعبة.

(أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) قرأ الصاحبان بالإضافة والإضافة تكون بأدنى ملابسة إذ الكفارة تكون كفارة هدي وكفارة طعام وكفارة صيام ولا التفات إلى قول الفارسي ولم يضف الكفارة إلى الطعام لأنها ليست للطعام إنما هي لقتل الصيد ، وأما ما ذهب إليه الزمخشري من زعمه أن الإضافة مبينة كأنه قيل أو كفارة من طعام مساكين ، كقولك خاتم فضة ، بمعنى خاتم من فضة فليست من هذا الباب لأن خاتم فضة من باب إضافة الشيء إلى جنسه والطعام ليس جنسا للكفارة إلا بتجوز بعيد جدّا ، وقرأ باقي السبعة بالتنوين ورفع (طَعامُ) وقرأ كذلك الأعرج وعيسى بن عمر إلا أنهما أفردا مسكين على أنه اسم جنس ، قال أبو علي (طَعامُ) عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة. انتهى ؛ وهذا على مذهب البصريين لأنهم شرطوا في البيان أن يكون في المعارف لا في النكرات فالأولى أن يعرب بدلا وقد أجمل في مقدار الطعام وفي عدد المساكين والظاهر أنه يكفي أقل ما ينطلق عليه جمع مساكين ، وقال إبراهيم وعطاء ومجاهد والقاسم يقوّم الصيد دراهم ثم يشتري بالدراهم طعاما فيطعم كل مسكين نصف صاع ، وروي هذا عن ابن عباس وبتقويم الصيد قال أبو حنيفة ، وقال مجاهد وعطاء وابن عباس والشافعي وأحمد يقوّم الهدي ثم يشتري بقيمة الهدي طعاما ، وقال مالك أحسن ما سمعت ، أنه يقوّم الصيد فينظركم ثمنه من الطعام فيطعم لكل مسكين مدّا ويصوم مكان كل مدّ يوما.

(أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) الأظهر أن يكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور وهو الطعام والطعام المذكور غير معين في الآية لا كيلا ولا وزنا فيلزم من ذلك أن يكون الصيام أيضا غير معين عددا والصيام مبني على الخلاف في الطعام أهو مدّ أو مدّان. وبالمدّ قال ابن عباس ومالك ، وبالمدّين قال الشافعي وعن أحمد القولان ، وجوّزوا أن يكون ذلك إشارة إلى

٣٦٧

الصيد المقتول وفي الظبي ثلاثة أيام وفي الإبل عشرون يوما وفي النعامة وحمار الوحش ثلاثون يوما قاله ابن عباس ، وقال ابن جبير ثلاثة أيام إلى عشرة أيام والظاهر عدم تقييد الإطعام والصوم بمكان وبه قال جماعة من العلماء فحيث ما شاء كفر بهما ، وقال عطاء وغيره الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شاء ، وقرأ الجمهور (أَوْ عَدْلُ) بفتح العين ، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري بكسرها وتقدم تفسيرها في أوائل البقرة. والظاهر أن أو للتخيير أي ذلك فعل أجزأه موسرا كان أو معسرا وهو قول الجمهور ، وقال ابن عباس وإبراهيم وحماد بن سلمة لا ينتقل إلى الإطعام إلا إذا لم يجد هديا ولا إلى الصوم إلا إن لم يجد ما يطعم والظاهر أن التخيير راجع إلى قاتل الصيد وهو قول الجمهور ، وقال محمد بن الحسن الخيار إلى الحكمين والظاهر أن الواجب أحد هذه الثلاثة فلا يجمع بين الإطعام والصيام بأن يطعم عن يوم ويصوم في كفارة واحدة وأجاز ذلك أصحاب أبي حنيفة وانتصب (صِياماً) على التمييز على العدل كقولك على التمرة مثلها زبدا لأن المعنى أو قدر ذلك صياما.

(لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) الذوق معروف واستعير هنا لما يؤثر من غرامة وإتعاب النفس بالصوم والوبال سوء عاقبة ما فعل وهو هتك حرمة الإحرام بقتل الصيد ، قال الزمخشري ليذوق متعلق بقوله (فَجَزاءٌ) أي فعليه أن يجازى أو يكفر ليذوق انتهى. وهذا لا يجوز إلا على قراءة من أضاف (فَجَزاءٌ) أو نون ونصب (مِثْلُ) وأما على قراءة من نوّن ورفع (مِثْلُ) فلا يجوز أن تتعلق اللام به لأن (مِثْلُ) صفة لجزاء وإذا وصف المصدر لم يجز لمعموله أن يتأخر عن الصفة لو قلت أعجبني ضرب زيد الشديد عمرا لم يجز فإن تقدم المعمول على الوصف جاز ذلك والصواب أن تتعلق هذه القراءة بفعل محذوف التقدير جوزي بذلك ليذوق ووقع لبعض المعربين أنها تتعلق بعدل ذلك وهو غلط.

(عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) أي في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرم.

قال الزمخشري : لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم ، وكان الصيد فيها محرما انتهى. وقال ابن زيد : عما سلف لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم.

(وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) أي ومن عاد في الإسلام إلى قتل الصيد فإن كان مستحلّا فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر أو ناسيا لإحرامه كفر بإحدى الخصال الثلاث أو عاصيا بأن

٣٦٨

يعود متعمّدا عالما بإحرامه فلا كفّارة عليه وينتقم الله منه بإلزام الكفّارة فقط وكلما عاد فهو يكفر. وقال ابن عباس : إن كان متعمدا عالما بإحرامه فلا كفارة عليه وينتقم الله منه. وبه قال شريح والنخعي والحسن ومجاهد وابن زيد وداود وظاهر و (مَنْ عادَ) للعموم ألا ترى أنّ (مَنْ) شرطيّة أو موصولة تضمنت معنى الشرط فتعمّ خلافا لقوم إذ زعموا أنها مخصوصة بشخص بعينه وأسندوا إلى زيد بن العلاء أنّ رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز له ثم عاد فأرسل الله عليه نارا فأحرقته وذلك قوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) وعلى تقدير صحة هذا الحديث لا تكون هذه القضية تخص عموم الآية إذ هذا الرجل فرد من أفراد العموم ظهر انتقام الله منه والفاء في (فَيَنْتَقِمُ) جواب الشرط أو الداخلة على الموصول المضمّن معنى الشرط وهو على إضمار مبتدأ أي فهو ينتقم الله منه.

(وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أي عزيز لا يغالب إذا أراد أن ينتقم لم يغالبه أحد ، وفي هذه الجملة تذكار بنقم الله وتخويف.

(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) قال الكلبي : نزلت في بني مدلج وكانوا ينزلون في أسياف البحر سألوا عما نضب عنه الماء من السمك فنزلت ، والبحر هنا الماء الكثير الواسع وسواء في ذلك النهر والوادي والبركة والعين لا يختلف الحكم في ذلك. وقيل المراد بالبحر هنا البحر الكبير ، وعليه يدل سبب النزول ، وما عداه محمول عليه. وأما طعامه فروي عن أبي بكر وعمر وابن عمر أنه ما قذفه البحر وطفا عليه. وقال ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وهذا ينظر إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحل ميتته». وقال قتادة وابن جبير والنخعي وابن المسيب ومجاهد والسدّي صيده طرّيه وطعامه المملوح منه ، وروي هذا عن ابن عباس وزيد بن ثابت ، قال أبو عبد الله وهذا ضعيف لأن الذي صار مالحا قد كان طريا وصيدا في أول الأمر فيلزم التكرار ، وقال قوم : طعامه الملح الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات ونحوه ، وقال الحسن : طعامه صوب ساحله ، وقيل : طعامه كل ما سقاه الماء فأنبت لأنه نبت من ماء البحر ، وقيل : صيد البحر ما صيد لأكل وغيره كالصدف لأجل اللؤلؤ وبعض الحيوانات لأجل عظامها وأسنانها وطعامه المأكول منه خاصة عطف خاص على عام وعدم تقييد الحل يدل على التحليل للمحرم والحلال والصيد المصيد وأضيف إلى المقرّ الذي يكون فيه والظاهر أنه يحل أكل كل ما صيد من أنواع مخلوقاته حتى الذي يسمى خنزير الماء وكلب الماء وحية الماء والسرطان والضفدع وهو قول

٣٦٩

ابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي ، وقال الليث : لا يؤكل خنزير الماء ولا إنسان الماء وتؤكل ميتته وكلبه وفرسه ، وقال أبو حنيفة والثوري فيما روي عنه أبو إسحاق الفزاري لا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك ولا يؤكل طافيه ولا الضفدع ولا كلبه ولا خنزيره وقال : هذه من الخبائث ، قال الرازي : ما صيد من البحر حيتان وجميع أنواعها حلال وضفادع وجميع أنواعها حرام واختلفوا فيما سوى هذين. وقال الزمخشري : صيد البحر مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل وطعامه وما يطعم من صيده والمعنى أحلّ لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبي حنيفة ، وعند ابن أبي ليلى جميع ما يصاد منه على أن تفسير الآية عنده أحلّ لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه انتهى. (وَطَعامُهُ) بقوله وأن تطعموه خلاف الظاهر ويكون على قول ابن أبي ليلى الضمير عائدا على صيد البحر والظاهر عوده على البحر وأنه يراد به المطعوم لا الإطعام ويدل على ذلك ظاهر لفظ (وَطَعامُهُ) وقراءة ابن عباس وعبد الله بن الحارث وطعمه بضم الطاء وسكون العين. وانتصب (مَتاعاً) قال ابن عطية على المصدر والمعنى متّعكم به متاعا تنتفعون به وتأتدمون ؛ وقال الزمخشري (مَتاعاً لَكُمْ) مفعول له أي أحلّ لكم تمتيعا لكم وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) (١) في باب الحال لأنّ قوله (مَتاعاً لَكُمْ) مفعول له مختصّ بالطعام كما أن (نافِلَةً) حال مختصة بيعقوب يعني أحل لكم طعامه تمتيعا تأكلونه طريا ولسيارتكم يتزوّدونه قديدا كما تزوّد موسى عليه‌السلام في مسيره إلى الخضر انتهى. وتخصيصه المفعول له بقوله : (وَطَعاماً) جار على مذهبه مذهب أبي حنيفة بأن صيد البحر منه ما يؤكل وما لا يؤكل وأنّ قوله وطعامه هو المأكول منه وأنه لا يقع التمتيع إلا بالمأكول منه طريّا وقديدا وعلى مذهب غيره يجوز أن يكون مفعولا له باعتبار صيد البحر وطعامه ، والخطاب في (لَكُمْ) لحاضري البحر ومدنه والسيارة المسافرون وقال مجاهد : الخطاب لأهل القرى والسيارة ، أهل الأمصار وكأنه يريد أهل قرى البحر والسيارة من أهل الأمصار غير أهل تلك القرى يجلبونه إلى أهل الأمصار وهذا الاختلاف في أنه يستوي فيه المقيم والمسافر والبادي والحاضر والطري والمملوح.

(وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) حرم الله تعالى الصيد على المحرم بقوله (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) و (إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) (٢) وبقوله (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) (٣) بهذه الآية وكرر ذلك تغليظا لحكمه والظاهر تحريم صيد البر على المحرم من

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ / ٨٤.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٢.

(٣) سورة المائدة ٥ / ٩٥.

٣٧٠

جميع الجهات صيد ولكل من صيد من أجله أو من غير أجله. وروي ذلك عن عليّ وابن عباس ، وابن عمر وطاوس وابن جبير وأبي الشعثاء والثوري وإسحاق وعن أبي هريرة وعطاء وابن جبير أنهم أجازوا للمحرم أكل ما صاده الحلال لنفسه أو لحلال مثله ، وقال آخرون يحرم على المحرم أن يصيد فأما إن اشتراه من مالك له فذبحه وأكله فلا يحرم وفعل ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد : يأكل ما صاده الحلال إن لم يصده لأجله فإن صيد من أجله فلا يأكل فإن أكل ، فقال مالك : عليه الجزاء وبه قال الأوزاعي والحسن بن صالح وقال الشافعي لا جزاء عليه. وقال أبو حنيفة وأصحابه أكل المحرم الصيد جائز إذا اصطاده الحلال ولم يأمر المحرم بصيده ولا دلّ عليه ، وقال الزمخشري : (فإن قلت) : ما يصنع أبو حنيفة بعموم قوله صيد البر ، (قلت) : قد أخذ أبو حنيفة بالمفهوم من قوله (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) لأنّ ظاهره أنه صيد المحرمين دون صيد غيرهم فكأنه قيل وحرم عليكم ما صدتم في البحر فيخرج منه مصيد غيرهم ومصيدهم حين كانوا غير محرمين ويدل عليه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). انتهى. وهذه مكابرة من الزمخشري في الظاهر بل الظاهر في قوله صيد البر العموم سواء صاده المحرم أم الحلال. وقرأ ابن عباس وحرم مبنيّا للفاعل وصيد بالنصب (ما دُمْتُمْ حُرُماً) بفتح الحاء والراء. وقرأ يحيى (ما دُمْتُمْ) بكسر الدال وهي لغة يقال دمت تدام ولا خلاف في أن ما لا زوال له من البحر أنه صيد بحر ومن البر أنه صيد بر واختلف فيما يكون في أحدهما وقد يحيا في الآخر ، فقال عطاء وابن جبير وأبو مجلز ومالك وغيرهم : هو من صيد البر إن قتله المحرم فداه. وذكر أبو مجلز من ذلك الضفدع والسلحفاة والسرطان ، وروي عن عطاء أنه يراعي أكثر عيشه وسئل عن ابن الماء أصيد برّ أم بحر؟ فقال حيث يكون أكثر فهو منه وحيث يفرخ منه وهو قول أبي حنيفة والصواب في ابن ماء أنه صيد طائر يرعى ويأكل الحب. وقال الحافظ أبو بكر بن العربي الصحيح المنع من الحيوان الذي يكون في البر والبحر لأنه تعارض فيه دليل تحريم ودليل تحليل فيغلب دليل التحريم احتياطا.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) هذا فيه تنبيه وتهديد وجاء عقيب تحليل وتحريم وذكر الحشر إذ فيه يظهر من أطاع وعصى.

جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ

٣٧١

وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ).

مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وذلك أنه تعالى ذكر تعظيم الإحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه بحيث شرع بقتله ما شرع وذكر تعظيم الكعبة بقوله (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) ، فذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قياما للناس أي ركز في قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى أحد ، وصارت وازعة لهم من الأذى وهم في الجاهلية الجهلاء لا يرجون جنة ولا يخافون نارا إذ لم يكن لهم ملك يمنعهم من أذى بعضهم فقامت لهم حرمة الكعبة مقام حرمة الملك هذا مع تنافسهم وتحاسدهم ومعاداتهم وأخذهم بالثأر ، ولذلك جعل الثلاثة المذكورة بعد الكعبة قياما للناس فكانوا لا يهيجون أحدا في الشهر الحرام ولا من ساق الهدي لأنه لا يعلم أنه لم يجئ لحرب ولا من خرج يريد البيت بحج أو عمرة فتقلد من لحي الشجر ولا من قضى نسكه فتقلد من شجر الحرم ، ولما بعثت قريش زمن الحديبية إلى المؤمنين الحلس قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا رجل يعظم الحرمة فألقوه بالبدن مشعرة» فلما رآها الحلس عظم عليه ذلك وقال ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالة قريش ، وجعل هنا بمعنى صيّر. وقيل جعل بمعنى بيّن وينبغي أن يحمل هذا على تفسير المعنى إذ لم ينقل جعل مرادفة لهذا المعنى لكنه من حيث التصيير يلزم منه التبيين والحكم ، ولما كان لفظ الكعبة قد أطلقه بعض العرب على غير البيت الحرام كالبيت الذي كان في خثعم يسمى كعبة اليمانية ، بيّن تعالى أن المراد هنا بالكعبة البيت الحرام ، وهو بدل من الكعبة أو عطف بيان ، وقال الزمخشري : البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفة كذلك انتهى. وليس كما ذكر لأنهم ذكروا في شرط عطف البيان الجمود فإذا كان شرطه أن يكون جامدا لم يكن فيه إشعار بمدح إذ ليس مشتقا وإنما يشعر بالمدح المشتق إلا أن يقال إنه لما وصف عطف البيان بقوله الحرام اقتضى المجموع المدح فيمكن ذلك والقيام مصدر كالصيام ويقال هذا قيام له وقوام له وكأنهم ذهبوا في قيام

٣٧٢

إلى أنه ليس مصدرا بل هو اسم كالسواك فلذلك صحت الواو قال : قوام دنيا وقيام دين. إذا لحقت تاء التأنيث لزمت التاء قالوا القيامة واختلفوا في تفسير قوله (قِياماً لِلنَّاسِ) فقيل باتساع الرزق عليهم إذ جعلها تعالى مقصودة من جميع الآفاق وكانت مكة لا زرع ولا ضرع ، وقيل بامتناع الإغارة في الحرم ، وقيل بسبب صيرورتهم أهل الله فكل أحد يتقرب إليهم ، وقيل بما يقام فيها من المناسك وفعل العبادات ، وروي عن ابن عباس ، وقيل : يأمن من توجه إليها وروي عنه ، وقيل بعدم أذى من أخرجوه من جر جريرة ولجأ إليها ، وقيل ببقاء الدين ما حجت واستقبلت ، وقال عطاء لو تركوه عاما واحدا لم ينظروا ولم يؤخروا. وقال أبو عبد الله الرازي لا يبعد حمله على جميع الوجوه ، لأن قوام المعيشة بكثرة المنافع وبدفع المضار وبحصول الجاه والرئاسة وبحصول الدين والكعبة سبب لحصول هذه الأقسام انتهى.

وقرأ ابن عامر قيما بغير ألف فإن كان أصله قياما بالألف وحذفت فقيل حكم هذا أن يجيء في الشعر وإن كان مصدرا على فعل فكان قياسه أن تصح فيه الواو كعوض ، وقرأ الجحدري قيما بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة وهو كسيد اسم يدل على ثبوت الوصف من غير تقييد بزمان ولفظ الناس عام ، فقيل المراد العموم ، وقيل المراد العرب ، قال أبو عبد الله بن أبي الفضل وحسن هذا المجاز أن أهل كل بلدة إذا قالوا الناس فعلوا كذا لا يريدون بذلك إلا أهل بلدتهم فلذلك خوطبوا على وفق عادتهم انتهى. والشهر الحرام ظاهره الإفراد ، فقيل هو ذو الحجة وحده وبه بدأ الزمخشري قال لأن لاختصاصه من بين الأشهر المحرمة برسم الحج شأنا قد عرفه الله انتهى ، وقيل المراد الجنس فيشمل الأشهر الحرم الأربعة الثلاثة بإجماع من العرب وشهر مضر وهو رجب كان كثير من العرب لا يراه ولذلك يسمى شهر الله إذ كان تعالى قد ألحقه في الحرمة بالثلاثة فنسبه وسدده ، والمعنى شهر آل الله وهو شهر قريش وله يقول عوف بن الأحوص :

وشهر بني أمية والهدايا

إذا سيقت مصرحها الدماء

ولما كانت الكعبة موضعا مخصوصا لا يصل إليه كل خائف جعل الله الأشهر الحرم والهدي والقلائد قياما للناس كالكعبة.

(ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الظاهر أن الإشارة هي للمصدر المفهوم أي ذلك الجعل لهذه الأشياء قياما للناس وأمنا لهم ليعلموا أنه تعالى يعلم

٣٧٣

تفاصيل الأمور الكائنة في السموات والأرض ومصالحكم في دنياكم ودينكم فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم ، وأجاز الزمخشري أن تكون الإشارة إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره ، وقال الزجاج الإشارة إلى ما نبأ به تعالى من الأخبار بالمغيبات والكشف عن الأسرار مثل قوله (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) (١) ومثل إخباره بتحريفهم الكتب أي ذلك الغيب الذي أنبأكم به على لسان رسوله يدلكم على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض. وقيل الإشارة إلى صرف قلوب الناس إلى مكة في الأشهر المعلومة فيعيش أهلها معهم ولو لا ذلك ماتوا جوعا لعلمه بما في مصالحهم وليستدلوا على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض.

(وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هذا عموم تندرج فيه الكليات والجزئيات كقوله تعالى (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) (٢).

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) هذا تهديد إذ أخبر أن عقابه شديد لمن انتهك حرمته.

(وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا توجيه بالغفران والرحمة لمن حافظ على طاعة الله أو تاب عن معاصيه.

(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) لما تقدم الترغيب والترهيب أخبر تعالى أنه كلف رسوله بالتبليغ وهو توصيل الأحكام إلى أمته وهذا فيه تشديد على إيجاب القيام بما أمر به تعالى ، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليه الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط. قال ابن عطية هي إخبار للمؤمنين ولا يتصور أن يقال هي أنه موادعة منسوخة بآيات القتال بل هذه حال من آمن بهذا وشهد شهادة الحق فإنه عصم من الرسول ماله ودمه فليس على الرسول في جهته أكثر من التبليغ. انتهى. وذكر بعض المفسرين الخلاف فيها أهي محكمة أم منسوخة بآية السيف والرسول هنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل يجوز أن يكون اسم جنس والمعنى ما على كل من أرسل إلا البلاغ والبلاغ والبلوغ مصدران لبلغ وإذا كان مصدر البلغ فبلاغ الشرائع مستلزم لتبليغ من أرسل بها فعبر باللازم عن الملزوم ويحتمل أن يكون مصدر البلغ المشدد على حذف الزوائد فمعنى البلاغ التبليغ.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٤١.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٥٩.

٣٧٤

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) جملة فيها تهديد إذ أخبر تعالى أنه مطلع على حال العبد ظاهرا وباطنا فهو مجازيه على ذلك ثوابا أو عقابا ، ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى ألزم رسوله التبليغ للشريعة وألزمكم أنتم تبليغها فهو العالم بما تبدون منها وما تكتمونه فيجازيكم على ذلك وكان ذلك خطابا لأمته إذا كان الإبداء والكتم يمكن صدورهما منهم بخلاف الرسول فإنه يستحيل عليه أن يكتم شيئا من شرائع الله تعالى.

(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) روى جابر أن رجلا قال : يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي ، فهل ينفعني ذلك المال إذا عملته في طاعة الله تعالى؟ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا يقبل إلا الطيب» فنزلت هذه الآية تصديقا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما حذر عن المعصية ورغب في التوبة بقوله : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) الآية. وأتبعه في التكليف بقوله : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) ثم بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية. فقال هل يستوي الخبيث والطيب ، الآية أو يقال لما بين أن عقابه شديد لمن عصى وأنه غفور رحيم لمن أطاع بين أنه لا يستوي المطيع والعاصي وإن كان من العصاة والكفار كثرة فلا يمنعه كثرتهم من عقابهم ، والظاهر أن الخبيث والطيب عامان فيندرج تحتهما حلال المال وحرامه وصالح العمل وفاسده وجيد الناس ورديئهم وصحيح العقائد وفاسدها والخبيث من هذا كله لا يصلح ولا يحب ولا يحسن له عاقبة والطيب ولو قل نافع جيد العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ) (١) الآية. والخبيث فاسد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب خلاف ذلك وقد خصص بعض المتقدمين هنا الخبيث والطيب ببعض ما يقتضيه عموم اللفظ ، فقال ابن عباس والحسن هو الحلال والحرام ، وقال السدي هو المؤمن والكافر وذكر الماوردي قولا أنه المطيع والعاصي وقولا آخر أنه الجيد والرديء ، وقيل : الطيب المعرفة والطاعة والخبيث الجهل والمعصية والأحسن حمل هذه الأقوال على أنها تمثيل للطيب والخبيث لأقصر اللفظ عليها ، وقوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) ظاهره أنه من جملة المأمور بقوله ووجه كاف الخطاب في قوله (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) أن المعنى ولو أعجبك أيها السامع أو أيها المخاطب وأما أن لا يكون

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٥٨.

٣٧٥

من جملة ما أمر بقوله ويكون خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد ذكر بعضهم أنه يحتمل ذلك والأولى القول الأول أو يحمل على أنه خطاب له في الظاهر والمراد غيره.

(فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي اتقوه في إيثار الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر ، قال الزمخشري ومن حق هذه الآية أن يكفح بها المجبرة إذا افتخروا بالكثرة. قال شاعرهم :

وكاثر بسعد إنّ سعدا كثيرة

ولا ترج من سعد وفاء ولا نصرا

وقال آخر :

لا يدهمنك من دهمائهم عدد

فإنّ جلّهم بل كلّهم بقر

وهو على عادته من تسمية أهل السنة مجبرة وذمهم وخص تعالى الخطاب والنداء بأولي الألباب لأنهم المتقدمون في تمييز الطيب والخبيث فلا ينبغي لهم إهمال ذلك. قال ابن عطية وكأن الإشارة إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالجبلة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد انتهى.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ

٣٧٦

شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨) يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤)

(أَشْياءَ) مذهب سيبويه والخليل أنها لفعاء مقلوبة من فعلاء ، والأصل شيئا من مادة شيء ، وهو اسم جمع كطرفاء وحلفاء ومذهب غيرهما أنها جمع. واختلفوا فقال الكسائي وأبو حاتم ، هو جمع شيء كبيت وأبيات ، وقال الكسائي لم تنصرف أشياء لشبه آخرها بآخر حمراء ولكثرة استعمالها والعرب تقول أشياوان كما تقول حمراوان. ذهب الفراء والأخفش

٣٧٧

إلى أنها جمع على وزن أفعلاء ، قال الفراء شيء مخفف من شيء كما قالوا هونا في جمع هين المخفف من هين ، وقال الأخفش ليس مخففا من شيء بل هو فعل جمع على أفعلاء فاجتمع في هذين القولين همزتان لام الكلمة وهمزة التأنيث فقلبت الهمزة التي هي لام الكلمة ياء لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء التي هي عين الكلمة استخفافا ، وذهب قوم إلى أن وزن شيء في الأصل شيء كصديق وأصدقاء ، ثم حذفت الهمزة الأولى وفتحت ياء المد لكون ما بعدها ألفا ، قال ووزنها في هذا القول إلى أفياء وفي القول الذي قبله أفلاء ، وتقرير هذه المذاهب صحة وإبطالا مذكور في علم التصريف.

البحيرة فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة بمعنى المنطوحة ، قال أبو عبيدة هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن في آخرها ذكر شقوا أذنها وخلوا سبيلها لا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن ماء ولا مرعى ، وروي نحوه عن ابن عباس إلا أنه لم يذكر عنه آخرها ذكر ، وقال قتادة وينظر في الخامس فإذا كان ذكرا ذبحوه وأكلوه وإن كانت أنثى شقوا أذن الأنثى وقالوا هي بحيرة ، فلم تركب ولم تطرد عن ماء ولا مرعى وإذا لقيها ألمعي لم يركبها تحرّجا وتخورا منه روي عن عكرمة وزاد ، حرم على النساء لحمها ولبنها فإذا ماتت حلت للنساء ، وقال ابن سيده البحيرة هي التي خليت بلا راع ، وقال مجاهد البحيرة ما نتجت السائبة من أنثى شق أذنها وخلّى سبيلها مع أمها في الفلالم تركب ولم تحلب كما فعل بأمها ، وقال ابن المسيب هي التي تمنع درها للطواغيت فلا يحلبها ، وقيل هي الناقة إذا ولدت خمسا أو سبعا شقوا أذنها. وقال ابن عطية إذا نتجت الناقة عشرة أبطن شقوا أذنها نصفين طولا فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع منها بشيء ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحل للرّجال ، وقيل البحيرة السقب وإذا ولد يحزوا أذنه ، وقالوا اللهم إن عاش فعفي وإن مات فذكي فإذا مات أكل ، ويظهر من اختلاف هذه النقول أن العرب كانت تختلف طرائقها في البحيرة فصار لكلّ منها في ذلك طريقة وهي كلها ضلال.

السائبة فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض يقال : ساب الماء وسابت الحية ، وقيل هي السبيبة اسم الفاعل بمعنى المفعول نحو قولهم (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (١) أي مرضية ، قال أبو عبيدة كان الرجل إذا قدم من سفر أو نذر نذرا أو شكر نعمة سيب بعيرا فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حلوا لها ، وقال الفراء إذا ولدت الناقة عشرة أبطن إناث سيبت فلم تركب ولم تحلب ولم يجزّ لها وبر ولم يشرب لها لبن إلا ولد أو ضيف ، وقال ابن عباس السائبة هي

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ٢١.

٣٧٨

التي تسيب للأصنام أي تعتق ، وكان الرجل يسبب من ماله شيئا فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها للسبيل ، وقال الشافعي كانوا ينذرون تسبيب الناقة ليحج حجة عليها ، وقيل السائبة العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث.

الوصيلة هي في الغنم على قول الأكثرين ، روى أبو صالح عن ابن عباس أنها الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم تنتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فيأكلها الرّجال والنساء وإن كان ذكرا ، ونحوه أكلوه جميعا. فإذا كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك مع أخيها فلا تذبح ومنافعها للرّجال دون النساء فإذا ماتت اشترك الرّجال والنساء فيها ، وقال ابن قتيبة إن كان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال دون النساء وقالوا خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كانت ذكرا وأنثى فكما في قول ابن عباس ، وقال ابن إسحاق هي الشاة تنتج عشرة أبطن متواليات في خمسة أبطن وما ولدت بعد ذلك فللذكور دون الإناث ، وقال الفراء هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين فإذا ولدت في سابعها عناقا وجديا قيل وصلت أخاها فجرت مجرى السائبة ، وقال الزجاج هي الشاة التي تلد أنثى فلهم أو ذكرا فلآلهتهم ، وقال أبو عبيدة نحوه وزاد إذا ولدت ذكرا وأنثى معا قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها ، وروى الزهري عن ابن المسيب أنها الناقة البكر تبتكر في أول النتاج بالأنثى ثم تثنى بالأنثى فيستقونها لطواغيتهم ويقولون وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر ، وقيل هي الشاة تلد ثلاثة أبطن أو خمسة فإن كان آخرها جديا ذبحوه لآلهتهم أو عناقا استحيوها وقالوا هذه العناق وصلت أخاها فمنعته من الذبح.

الحامي اسم فاعل من حمى وهو الفحل من الإبل ، قال ابن مسعود وابن عباس واختاره أبو عبيدة والزجاج هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فيقولون قد حمى ظهره فيسيبونه لأصنامهم فلا يحمل عليه شيء ، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس واختاره الفراء أنه الفحل يولد لولد ولده ، وقال عطاء هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فيظهر من بين أولاده عشرة إناث من بناته وبنات بناته ، وقال ابن زيد هو الذي ينتج له سبع إناث متواليات وذكر الماوردي عن الشافعي أنه يضرب في إبل الرجل عشر سنين.

الحبس المنع من التصرف يقال حبست أحبس واحتبست فرسا في سبيل الله فهو محبس وحبيس وقفته للغزو.

وعثر على الرجل اطلع عليه مشتق من العثرة التي هي الوقوع وذلك أن العاثر إنما

٣٧٩

يعثر بشيء كان لا يراه فلما عثر به اطلع عليه ونظر ما هو فلذلك قيل لكل من اطلع على أمر كان خفيّا عليه قد عثر عليه ويقال قد عثر عليه وقد أعثر عليه إذا أطلعه عليه ومنه (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) (١) أي اطلعنا ، وقال الليث عثر يعثر عثورا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره وعثر عثرة وقع على شيء.

المائدة الخوان الذي عليه طعام فإذا لم يكن عليه طعام فليس بمائدة ، قال أبو عبد الله هي فاعلة بمعنى مفعولة وهي من العطاء والممتاد المطلوب منه العطاء ماده أعطاه وامتاده استعطاه.

وقال الزجاج هي فاعلة من ماد يميد تحرك فكأنها تميد بما عليها ، وقال ابن قتيبة المائدة الطعام من ماده يميده أعطاه كأنها تميد الآكلين أي تطعمهم وتكون فاعلة بمعنى مفعول بها أي ميد بها الآكلون. وقيل من الميد وهو الميل وهذا قريب من قول الزجاج.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) روى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أنس قال : قال رجل : يا رسول الله من أبي قال : «أبوك فلان» ونزلت الآية. وفي حديث أنس أيضا أن رجلا قال : أين مدخلي يا رسول الله؟ قال : «النار» وإن السائل من أبي هو عبد الله بن حذافة وفي غير حديث أنس ، فقام آخر فقال من أبي فقال «أبوك سالم مولى شيبة» ، وقيل نزلت بسبب سؤالهم عن الحج أفي كل عام؟ فسكت فقال أفي كل عام؟ قال : «لا ولو قلت نعم لوجبت». روي هذا عن عليّ وأبي هريرة وأبي أمامة وابن عباس ، وقيل السائل سراقة بن مالك ، وقيل عكاشة بن محصن الأسدي ، وقيل محصن ، وقيل رجل من بني أسد. وقيل الأقرع بن حابس ، وقال الحسن : سألوا عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه ، وقال ابن جبير ورواه مجاهد عن ابن عباس : سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ولذلك جاء ذكرها بعدها وروي عن عكرمة أنهم سألوا الآيات والمعجزات. وذكر أبو سليمان الدمشقي أنها نزلت في تسهيم الفرائض ، وروي أنه تعالى لما بيّن أمر الكعبة والهدي والقلائد وأعلم أن حرمتها هو تعالى الذي شرعها إذ هي أمور قديمة من لدن إبراهيم عليه‌السلام ، ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية هل تلحق بذلك أم لا؟ إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة لا يفرقون بين ما هو من عند الله وما هو من تلقاء الشيطان ، والظاهر من الروايات أن الأعراب ألحوا عليه بأنواع من السؤالات فزجروا عن ذلك بهذه الآية ، وقيل نزلت في

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٢١.

٣٨٠