البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

وفي رواية عن خباب فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) (١) الآية. فكان يقعد معنا فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه قمنا وتركناه حتى يقوم. وروى العوفي عن ابن عباس إن ناسا من الأشراف قالوا : نؤمن بك وإذا صلينا خلفك فأخر هؤلاء الذين معك فيصلوا خلفنا فيكون الطرد تأخرهم من الصف لا طردهم من المجلس. ورويت هذه الأسباب بزيادة ونقص ومضمونها أن ناسا من أشراف العرب سألوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرد فقراء المؤمنين عنه فنزلت ، ولما أمر تعالى بإنذار غير المتقين (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أردف ذلك بتقريب المتقين وإكرامهم ونهاه عن طردهم ووصفهم بموافقة ظاهرهم لباطنهم من دعاء ربهم وخلوص نياتهم ، والظاهر من قوله تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) يسألونه ويلجأون إليه ويقصدونه بالدعاء والرغبة (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) كناية عن الزمان الدائم ولا يراد بهما خصوص زمانهما كما تقول : الحمد لله بكرة وأصيلا تريد في كل حال فكنى بالغداة عن النهار وبالعشي عن الليل ، أو خصهما بالذكر لأن الشغل فيهما غالب على الناس ومن كان في هذين الوقتين يغلب عليه ذكر الله ودعاؤه كان في وقت الفراغ أغلب عليه. وقيل : المراد بالدعاء الصلاة المكتوبة. فقال الحسن ومقاتل : هي الصلاة بمكة التي كانت مرتين في اليوم بكرة وعشيا. وقال قتادة ومجاهد : في رواية عنه هي صلاة الصبح والعصر. وقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد في رواية وابراهيم : هي الصلوات الخمس. وقال بعض القصاص : إنه الاجتماع إليهم غدوة وعشيا فأنكر ذلك ابن المسيب وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهما ، وقالوا : إلا الآية في الصلوات في الجماعة. وقال أبو جعفر : هي قراءة القرآن وتعلمه. وقال الضحاك : العبادة. وقال ابراهيم في رواية : ذكر الله. وقال الزجاج : دعاء الله تعالى بالتوحيد والإخلاص وعبادته.

وقرأ الجمهور (بِالْغَداةِ). وقرأ ابن عامر وأبو عبد الرحمن ومالك بن دينار والحسن ونصر بن عاصم وأبو رجاء العطاردي بالغدوة. وروي عن أبي عبد الرحمن أيضا بالغدوّ بغير هاء. وقرأ ابن أبي عبلة : بالغدوات والعشيات بالألف فيهما على الجمع ، والمشهور في غدوة أنها معرفة بالعلمية ممنوعة الصرف. قال الفرّاء : سمعت أبا الجرّاح يقول : ما رأيت كغدوة قط يريد غداة يومه ، قال : ألا ترى أن العرب لا تضيفها فكذا لا تدخلها الألف واللام إنما يقولون : جئتك غداة الخميس ؛ انتهى. وحكى سيبويه والخليل أن بعضهم ينكرها فيقول : رأيته غدوة بالتنوين وعلى هذه اللغة قرأ ابن عامر ومن ذكر معه وتكون إذ ذاك كفينة.

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٢٨.

٥٢١

حكى أبو زيد : لقيته فينة غير مصروف ولقيته الفينة بعد الفينة أي الحين بعد الحين ولما خفيت هذه اللغة على أبي عبيد أساء الظن بمن قرأ هذه القراءة فقال : إنما نرى ابن عامر والسلمي قرآ تلك القراءة اتباعا للخط وليس في إثبات الواو في الكتاب دليل على القراءة بها ، لأنهم كتبوا الصلاة والزكاة بالواو ولفظهما على تركها وكذلك الغداة على هذا وجدنا العرب ؛ انتهى. وهذا من أبي عبيد جهل بهذه اللغة التي حكاها سيبويه والخليل وقرأ بها هؤلاء الجماعة وكيف يظن بهؤلاء الجماعة القرّاء أنهم إنما قرؤوا بها لأنها مكتوبة في المصحف بالواو والقراءة إنما هي سنة متبعة وأيضا فابن عامر عربي صريح كان موجودا قبل أن يوجد اللحن لأنه قرأ القرآن على عثمان بن عفان ونصر بن عاصم أحد العرب الأئمة في النحو ، وهو ممن أخذ علم النحو عن أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو والحسن البصري من الفصاحة بحيث يستشهد بكلامه فكيف يظن بهؤلاء إنهم لحنوا؟ انتهى. واغتروا بخط المصحف ولكن أبو عبيدة جهل هذه اللغة وجهل نقل هذه القراءة فتجاسر على ردها عفا الله عنه ، والظاهر أن العشي مرادف للعشية ألا ترى قوله : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) (١). وقيل : هو جمع عشية ومعنى (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) يخلصون نياتهم له في عبادتهم ويعبر عن ذات الشيء وحقيقته بالوجه. وقال ابن عباس : يطلبون ثواب الله والجملة في موضع الحال وقد استدل بقوله : (وَجْهَهُ) من أثبت الأعضاء لله تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قال الحسن والجمهور : الحساب هنا حساب الأعمال. وقيل : حساب الأرزاق أي لا ترزقهم ولا يرزقونك حكاه الطبري. وقال الزمخشري : كقوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) (٢) وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم فقال : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بعد شهادته لهم بالإخلاص وبإرادة وجه الله تعالى في أعمالهم وإن كان الأمر كما يقولون عند الله ، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك ، كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم كقوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٣) ؛ انتهى. ولا يمكن ما ذكره من الترديد في قوله : وإن كان الأمر إلى آخره لأنه تعالى قد أخبر بأنهم (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) وإخبار الله

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٣١.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ١١٣.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ١٦٤.

٥٢٢

تعالى هو الصدق الذي لا شك فيه فلا يقال فيهم وإن كان الأمر كما يقولون وإن كان لهم باطن غير مرضي لأنه فرض مخالف لما أخبر الله تعالى به من خلوص بواطنهم ونياتهم له تعالى.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : ما كفى قوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) حتى ضم إليه (ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (قلت) : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصدهما مؤدّى واحد وهو المعنى في قوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعا كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه ؛ انتهى. وقوله : كأنه قيل لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه تركيب غير عربي ، لا يجوز عود الضمير هنا غائبا ولا مخاطبا لأنه إن أعيد غائبا فلم يتقدّم له اسم مفرد غائب يعود عليه ، إنما يتقدّم قوله : ولاهم ولا يمكن العود إليه على اعتقاد الاستغناء بالمفرد عن الجمع لأنه يصير التركيب بحساب صاحبهم وإن أعيد مخاطبا فلم يتقدّم له مخاطب يعود عليه إنما تقدم قوله : لا تؤاخذ أنت ، ولا يمكن العود إليه لأنه مخاطب فلا يعود عليه غائبا ولو أبرزته مخاطبا لم يصح التركيب أيضا وإصلاح هذا التركيب أن يقال : لا يؤاخذ كل واحد منك ولا منهم بحساب صاحبه أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك ، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم فتغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وزيد تضربان ، والظاهر أن الضمائر كلها عائدة على (الَّذِينَ يَدْعُونَ). وقيل : الضمير في (مِنْ حِسابِهِمْ) وفي (عَلَيْهِمْ) عائد على المشركين وتكون الجملتان اعتراضا بين النهي وجوابه ، قال الزمخشري : والمعنى لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الضمير في (حِسابِهِمْ) و (عَلَيْهِمْ) للكفار الذين أرادوا طرد المؤمنين أي ما عليك منهم آمنوا ولا كفروا فتطرد هؤلاء رعيا بذلك ، والضمير في تطردهم عائد على الضعفة من المؤمنين ويؤيد هذا التأويل أن ما بعد الفاء أبدا سبب ما قبلها وذلك لا يبين إذا كانت الضمائر كلها للمؤمنين. وحكى الطبري أن الحساب هنا إنما هو في رزق الدنيا أي لا ترزقهم ولا يرزقونك ، قال : فعلى هذا تجيء الضمائر كلها للمؤمنين ؛ انتهى.

و (مِنْ) في (مِنْ حِسابِهِمْ) وفي (مِنْ حِسابِكَ) مبعضة في موضع نصب على الحال في (مِنْ حِسابِهِمْ) وذو الحال هو (مِنْ شَيْءٍ) لأنه لو تأخر من حسابهم لكان في موضع النعت لشيء فلما تقدّم انتصب على الحال و (عَلَيْكَ) في موضع الخبر لما إن كانت حجازية ، وأجزنا توسط خبرها إذا كانت ظرفا أو مجرورا وفي موضع خبر

٥٢٣

المبتدإ إن لم نجز ذلك أو اعتقدنا أن ما تميمية وأما في (مِنْ حِسابِكَ) فقيل : هو في موضع نصب على الحال ويضعف ذلك بأن الحال إذا كان العامل فيها معنى الفعل لم يجز تقديمها عليه خصوصا إذا تقدمت على العامل وعلى ذي الحال. وقيل : يجوز أن يكون الخبر (مِنْ حِسابِكَ) و (عَلَيْهِمْ). صفة لشيء تقدّمت عليه فانتصب على الحال وهذا ضعيف ، لأن (عَلَيْهِمْ) هو محطّ الفائدة فترجح أن يكون هو الخبر ويكون (مِنْ حِسابِكَ) على هذا تنبيا لا حالا ولا خبرا وانظر إلى حسن اعتنائه تعالى بنبيه وتشريفه بخطابه حيث بدأ به في الجملتين معا فقال : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ثم قال : (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) فقدم خطابه في الجملتين وكان مقتضى التركيب الأول لو لوحظ أن يكون التركيب الثاني وما عليهم من حسابك من شيء لكنه قدم خطاب الرسول وأمره تشريفا له عليهم واعتناء بمخاطبته وفي هاتين الجملتين رد العجز على الصدر ، ومنه قول الشاعر :

وليس الذي حللته بمحلل

وليس الذي حرمته بمحرّم

(فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) الظاهر أن قوله : (فَتَطْرُدَهُمْ) جواب لقوله (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) يكون النصب هنا على أحد معنى النصب في قولك : ما تأتينا فتحدّثنا لأن أحد معنى هذا ما تأتينا محدثا إنما تأتي ولا تحدث ، وهذا المعنى لا يصح في الآية والمعنى الثاني ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ أي لا يقع هذا فكيف يقع هذا وهذا المعنى هو الذي يصح في الآية أن لا يكون حسابهم عليك فيكون وقع الطرد ، وأطلقوا جواب أن يكون (فَتَطْرُدَهُمْ) جوابا للنفي ولم يبينوا كيفية وقوعه جوابا والظاهر في قوله : (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) أن يكون معطوفا على (فَتَطْرُدَهُمْ) والمعنى الإخبار بانتفاء حسابهم وانتفاء الطرد والظلم المتسبب عن الطرد ، وجوّزوا أن يكون (فَتَكُونَ) جوابا للنهي في قوله : (وَلا تَطْرُدِ) كقوله : (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) (١) وتكون الجملتان وجواب الأولى اعتراضا بين النهي وجوابه ، ومعنى (مِنَ الظَّالِمِينَ) من الذين يضعون الشيء في غير مواضعه.

وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٦١.

٥٢٤

كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) الكاف للتشبيه في موضع نصب والإشارة بذلك إلى فتون سابق وقد تقدم ذكر أمم رسل وإرسالهم مبشرين ومنذرين ، وتقسيم أممهم إلى مؤمن ومكذب فدل ذلك على أن اتباع الرسل مختلفون وواقع فيهم الفتون لا محالة ؛ كما وقع في هذه الأمة فشبه تعالى ابتلاء هذه الأمة واختبارها بابتلاء الأمم السالفة أي حال هذه الأمّة حال الأمم السابقة في فتون بعضهم ببعض والفتون بالغني والفقر أو بالشرف والوضاعة والقوّة والضعف. قال الزمخشري : ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناس ببعض أي ابتليناهم به وذلك أن المشركين كانوا يقولون للمسلمين (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء إنكارا لأن يكون أمثالهم على الحق وممنونا عليهم من بيننا بالخير نحوا (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) (١) (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (٢) ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك خذلانهم فافتتنوا حتى كان افتتانهم سببا لهذا القول لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذول متقوّل ؛ انتهى. وآخر كلامه على طريقة المعتزلة من تأويل الفتنة التي نسبها تعالى إليه بالخذلان لأن جريا على عادته. قال ابن عطية : ابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى ، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوما لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيهم قدرا

__________________

(١) سورة القمر : ٥٤ / ٥٢.

(٢) سورة الأحقاف : ٤٦ / ١١.

٥٢٥

ومنزلة ، والإشارة بذلك إلى من ذكر من ظلمهم أن تطرد الضعفة ؛ انتهى. ولا ينتظم هذا التشبيه إذ يصير التقدير ومثل ذلك أي طلب الطرد (فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) والذي يتبادر إليه الذهن أنك إذا قلت : ضربت مثل ذلك إنما يفهم منه مثل ذلك الضرب لا إنه تقع المماثلة في غيره واللام في (لِيَقُولُوا) الظاهر أنها لام كي أي هذا الابتلاء لكي يقولوا : هذه المقالة على سبيل الاستفهام لأنفسهم والمناجاة لها ، ويصير المعنى ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سببا للنظر لمن هدى ومن أثبت أن اللام تكون للصيرورة ، جوز هنا أن تكون للصيرورة ويكون قولهم على سبيل الاستحقاق (وَهَؤُلاءِ) إشارة إلى المؤمنين و (مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي بزعمهم أن دينهم منه تعالى.

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) هذا استفهام معناه التقرير والردّ على أولئك القائلين أي الله أعلم بمن يشكر فيضع فيه هدايته دون من يكفر فلا يهديه ، وجاء لفظ الشكر هنا في غاية من الحسن إذ تقدم من قولهم : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي أنعم عليهم فناسب ذكر الإنعام لفظ الشكر؟ والمعنى أنه تعالى عالم بهؤلاء المنعم عليهم الشاكرين لنعمائه وتضمن العلم معنى الثواب والجزاء لهم على شكرهم فليسوا موضع استخفافكم ولا استعجابكم. وقيل : بالشاكرين من منّ عليهم بالإيمان دون الرؤساء الذين علم منهم الكفر. وقيل : من يشكر على الإسلام إذا هديته. وقيل : بمن يوفق للإيمان كبلال ومن دونه. وقال الزمخشري : أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق ؛ انتهى. وهو على طريقة الاعتزال.

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) الجمهور أنها نزلت في الذين نهى الله عن طردهم فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال : الحمد لله الذي جعل في أمتي من أبدأهم بالسلام. وقيل : الذين صوّبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة. وقال الفضيل بن عياض : قال قوم : قد أصبنا ذنوبا فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت. وقيل : نزلت في عمر حين أشار بإجابة الكفرة ولم يعلم أنها مفسدة ، وعلى هذه الأسباب يكون تفسير (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) فإن كان عنى بهم الستة الذين نهى عن طردهم فيكون من باب العام أريد به الخاص ويكون قوله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أمرا بإكرامهم وتنبيها على خصوصية تشريفهم بهذا النوع من الإكرام وإن كان عنى عمر حين اعتذر واستغفر وقال : ما أردت بذلك إلا الخير كان من إطلاق الجمع على الواحد المعظم ، والظاهر أنه يراد به المؤمنون من غير تخصيص لا بالستة ولا بغيرهم وإنها استئناف إخبار من الله تعالى بعد تقصي خبر

٥٢٦

أولئك الذين نهى عن طردهم ولو كانوا إياهم لكان التركيب الأحسن ، وإذا جاؤوك والآيات هنا آيات القرآن وعلامات النبوة. وقال أبو عبد الله الرازي : آيات الله آيات وجوده وآيات صفات جلاله وإكرامه وكبريائه ووحدانيته وما سوى الله لا نهاية له ، ولا سبيل للعقول إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار ، ولما كان لا نهاية لها فكذلك ، لا نهاية في ترقي العبد في معارج تلك الآيات وهذا مشرع جملي لا نهاية لتفاصيله ، ثم إن العبد إذا كان موصوفا بهذه الصفات فعندها أمر الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم سلام عليكم فيكون هذا التسليم بشارة بحصول الكرامة عقيب تلك السلامة والنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخافات وموضع التغييرات والتبديلات ، وأما الكرامة بالوصول إلى الباقيات الصالحات المجردات المقدسات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال ؛ انتهى كلامه وهو تكثير لا طائل تحته طافح بإشارات أهل الفلسفة بعيد من مناهج المتشرّعين وعن مناحي كلام العرب ومن غلب عليه شيء حتى في غير مظانه ولله در القائل يغري منصور الموحدين بأهل الفلسفة من قصيدة :

وحرق كتبهم شرقا وغربا

ففيها كامن شرّ العلوم

يدب إلى العقائد من أذاها

سموم والعقائد كالجسوم

وقال المبرد : السّلام في اللغة اسم من أسماء الله تعالى وجمعه سلامة ومصدر واسم شجر. وقال الزجاج : مصدر لسلم تسليما وسلاما كالسراح من سرّح والأداء من أدى. وقال عكرمة والحسن : أمر بابتداء السّلام عليهم تشريفا لهم. وقال ابن زيد : أمر بإبلاغ السّلام عليهم من الله ، وقيل : معنى السّلام هنا الدعاء من الآفات. وقال أبو الهيثم : السّلام والتحية بمعنى واحد ومعنى السّلام عليكم حياكم الله. وقال الزمخشري : إما أن يكون أمر بتبليغ سلام الله إليهم وإما أن يكون أمر بأن يبدأهم بالسلام إكراما لهم وتطييبا لقلوبهم ؛ انتهى. وترديده إما وأما الأول قول ابن زيد ، والثاني قول عكرمة. وقال ابن عطية : لفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت ؛ انتهى. والتخصيص الذي يعنيه النحاة في النكرة التي يبتدأ بها هو أن يتخصص بالوصف أو العمل أو الإضافة ، وسلام ليس فيه شيء من هذه التخصيصات وقد رام بعض النحويين أن يجعل جواز الابتداء بالنكرة راجعا إلى التخصيص والتعميم والذي

٥٢٧

يظهر من كلام ابن عطية أنه يعني بقوله إذ قد تخصصت أي استعملت ، في الدعاء فلم تبق النكرة على مطلق مدلولها الوصفي إذ قد استعملت يراد بها أحد ما تحتمله النكرة.

(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجبها والبارئ تعالى لا يجب عليه شيء عقلا إلا إذا أعلمنا أنه حتم بشيء فذلك الشيء واجب. وقيل : (كَتَبَ) وعد والكتب هنا في اللوح المحفوظ. وقيل : في كتاب غيره ، وفي صحيح البخاري «إن الله تعالى كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي» ، وهذه الجملة مأمور بقولها تبشيرا لهم بسعة رحمة الله وتفريحا لقلوبهم.

(أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) السوء : قيل : الشرك. وقيل المعاصي ، وتقدم تفسير عمل السوء بجهالة في قوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) (١) فأغنى عن إعادته.

(ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي من بعد عمل السوء (وَأَصْلَحَ) شرط استدامة الإصلاح في الشيء الذي تاب منه. قرأ عاصم وابن عامر أنه بفتح الهمزتين فالأولى بدل من الرحمة والثانية خبر مبتدأ محذوف تقديره فأمره أنه أي أن الله غفور رحيم له ، ووهم النحاس فزعم أن قوله (فَأَنَّهُ) عطف على أنه وتكرير لها لطول الكلام وهذا كما ذكرناه وهم ، لأن (مَنْ) مبتدأ سواء كان موصولا أو شرطا فإن كان موصولا بقي بلا خبر وإن كان شرطا بقي بلا جواب. وقيل : إنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره عليه أنه من عمل. وقيل : فإنه بدل من أنه وليس بشيء لدخول الفاء فيه ولخلو (مَنْ) من خبر أو جواب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والاخوان بكسر الهمزة فيهما الأولى على جهة التفسير للرحمة والثانية في موضع الخبر أو الجواب. وقرأ نافع بفتح الأولى على الوجهين السابقين وكسر الثانية على وجهها أيضا ، وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية حكاها الزهراوي عن الأعرج. وحكى سيبويه عنه مثل قراءة نافع. وقال الداني : قراءة الأعرج ضد قراءة نافع و (بِجَهالَةٍ) في موضع نصب على الحال أي وهو جاهل وما أحسن مساق هذا المقول أمره أولا أن يقول للمؤمنين سلام عليكم فبدأ أولا بالسلامة والأمن لمن آمن ثم خاطبهم ثانيا بوجوب الرحمة وأسند الكتابة إلى ربهم أي كتب الناظر لكم في مصالحكم والذي يربيكم ويملككم الرحمة فهذا تبشير بعموم الرحمة ، ثم أبدل منها شيئا خاصا وهو غفرانه ورحمته لمن تاب وأصلح ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٧.

٥٢٨

ولو ذهب ذاهب إلى أن الرحمة مفعول من أجله وأن أنه في موضع نصب لكتب أي لأجل رحمته إياكم لم يبعد ولكن الظاهر أن الرحمة مفعول (كَتَبَ) واستدل المعتزلة بقوله : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (١) أنه لا يخلق الكفر في الكافر لأن الرحمة تنافي ذلك وتنافي تعذيبه أبد الآباد.

(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) الكاف للتشبيه وذلك إشارة إلى التفصيل الواقع في هذه السورة أي ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه ومن ترى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده. وقيل : المعنى كما فصلنا في هذه السورة دليل على صحة التوحيد والنبوة والقضاء والقدر نفصل لك دليلنا وحججنا في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل. وقيل : إشارة إلى التفصيل للأمم السابقة ومثل ذلك التفصيل لمن كان قبلكم نفصل لكم. وقال التبريزي : معناه كما بينا للشاكرين والكافرين. وقال ابن قتيبة : تفصيلها إتيانها متفرقة شيئا بعد شيء. وقال تاج القراء : الفصل بون ما بين الشيئين والتفصيل التبيين بين المعاني الملتبسة. وقال ابن عطية : والإشارة بقوله : (وَكَذلِكَ) إلى ما تقدم من النهي عن طرد المؤمنين وبيان فساد منزع المعارضين لذلك ، وتفصيل الآيات تبيينها وشرحها وإظهارها ؛ انتهى. واستبان يكون لازما ومتعدّيا وتميم وأهل نجد يذكرون السبيل وأهل الحجاز يؤنثونها.

وقرأ العربيان وابن كثير وحفص (وَلِتَسْتَبِينَ) بالتاء (سَبِيلُ) بالرفع. وقرأ الأخوان وأبو بكر وليستبين بالياء (سَبِيلُ) بالرفع فاستبان هنا لازمة أي ولتظهر سبيل المجرمين. وقرأ نافع (وَلِتَسْتَبِينَ) بتاء الخطاب (سَبِيلُ) بالنصب فاستبان هنا متعدية. فقيل : هو خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل له ظاهرا والمراد أمته لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان استبانها وخص (سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) لأنه يلزم من استبانتها استبانة سبيل المؤمنين أو يكون على حذف معطوف لدلالة المعنى عليه التقدير سبيل المجرمين والمؤمنين. وقيل : خص (سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) لأنهم الذين أثاروا ما تقدم من الأقوال وهم أهم في هذا الموضع لأنها آيات رد عليهم ، وظاهر المجرمين العموم وتأوله ابن زيد على أنه عنى بالمجرمين الآمرون بطرد الضعفة واللام في (وَلِتَسْتَبِينَ) متعلقة بفعل متأخر أي (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) فصلناها لكم أو قبلها

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٥٤.

٥٢٩

علة محذوفة وهو قول الكوفيين التقدير لنبين لكم ولتستبين. وقال الزمخشري : لنستوضح سبيلهم فتعامل كلّا منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أمره تعالى أن يجاهرهم بالتبري من عبادتهم غير الله ، ولما ذكر تعالى تفصيل الآيات لتستبين سبيل المبطل من المحق نهاه عن سلوك سبيلهم ومعنى نهيت زجرت. قال الزمخشري : بما ركب في من أدلة العقل وبما أوتيت من أدلة السمع والذين يدعون هم الأصنام ، عبر عنها بالذين على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل و (تَدْعُونَ). قال ابن عباس : معناه تعبدون. وقيل : تسمونهم آلهة من دعوت ولدي زيدا سميته. وقيل : تدعون في أموركم وحوائجكم وفي قوله : (تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه على غير بصيرة ، ولفظة (نُهِيتُ) أبلغ من النفي بلا (أَعْبُدَ) إذ فيه ورود تكليف.

(قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) أي ما تميل إليه أنفسكم من عبادة غير الله ولما كانت أصنامهم مختلفة كان لكل عابد صنم هوى يخصه فلذلك جمع ، و (أَهْواءَكُمْ) عام وغالب ما يستعمل في غير الخير ويعم عبادة الأصنام وما أمروا به من طرد المؤمنين الضعفاء وغير ذلك مما ليس بحق وهي أعم من الجملة السابقة وأنص على مخالفتهم ، وفي قوله (أَهْواءَكُمْ) تنبيه على السبب الذي حصل منه الضلال وتنبيه لمن أراد اتباع الحق ومجانبة الباطل كما قال ابن دريد :

وآفة العقل الهوى فمن علا

على هواه عقله فقد نجا

(قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) المعنى إن اتبعت أهواءكم ضللت وما اهتديت والجملة من قوله : (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) مؤكدة لقوله (قَدْ ضَلَلْتُ) وجاءت تلك فعلية لتدل على التجدد وهذه اسمية لتدل على الثبوت فحصل نفي تجدد الضلال وثبوته وجاءت رأس آية. وقرأ السلمي وابن وثاب وطلحة (ضَلَلْتُ) بكسر فتحة اللام وهي لغة ، وفي التحرير قرأ يحيى وابن أبي ليلى هنا في السجدة في أئذا صللنا بالصاد غير معجمة ويقال صل اللحم أنتن ويروى ضللنا أي دفنا في الضلة وهي الأرض الصلبة رواه أبو العباس عن مجاهد بن الفرات في كتاب الشواذ له. (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على شريعة واضحة وملة صحيحة. وقيل : البينة هي المعجزة التي تبين صدقي وهي القرآن ، قالوا :

٥٣٠

ويجوز أن تكون التاء في (بَيِّنَةٍ) للمبالغة والمعنى على أمر بين لما نفى أن يكون متبعا للهوى نبه على ما يجب اتباعه وهو الأمر الواضح من الله تعالى.

(وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) إخبار منه عنهم أنهم كذبوا به والظاهر عود الضمير على الله أي وكذبتم بالله. وقيل : عائد على (بَيِّنَةٍ) لأن معناه على أمر بيّن. وقيل : على البيان الدال عليه بينة. وقيل : على القرآن.

(ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) الذي استعجلوا به قيل الآيات المقترحة قاله الزجاج. وقيل : العذاب ورجح بأن الاستعجال لم يأت في القرآن إلا للعذاب لأنهم لم يستعجلوا بالآيات المقترحة وبأن لفظ (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) يتضمن أنكم واقعتم ما أنتم تستحقون به العذاب إلا أن ذلك ليس لي. قال الزمخشري : يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) (١).

(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي الحكم لله على الإطلاق وهو الفصل بين الخصمين المختلفين بإيجاب الثواب والعقاب. وقيل : القضاء بإنزال العذاب وفيه التفويض العام لله تعالى. يقضي الحق هي قراءة العربيين والأخوين أي يقضي القضاء الحق في كل ما يقضي فيه من تأخير أو تعجيل ، وضمن بعضهم يقضي معنى ينفذ فعداه إلى مفعول به. وقيل : يقضي بمعنى يصنع أي كل ما يصنعه فهو حق قال الهذلي :

وعليهما مسدودتان قضاهما

داود أو صنع السوابغ تبع

أي صنعهما وقيل حذف الباء والأصل بالحق ، ويؤيده قراءة عبد الله وأبي وابن وثاب والنخعي وطلحة والأعمش يقضي بالحق بياء الجر وسقطت الباء خطأ لسقوطها لفظا لالتقاء الساكنين. وقرأ مجاهد وابن جبير يقضي بالحق.

(وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) وفي مصحف عبد الله وهو أسرع الفاصلين. وقرأ ابن عباس والحرميان وعاصم (يَقُصُّ الْحَقَ) من قص الحديث كقوله (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (٢) أو من قص الأثر أي اتبعه. وحكي أن أبا عمرو بن العلاء سئل أهو يقص الحق أو يقضي الحق؟ فقال : لو كان يقص لقال وهو خير القاصين أقرأ أحد بهذا وحيث قال (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) فإنما يكون الفصل في القضاء ؛ انتهى. ولم يبلغ أبا عمرو أنه قرئ بها ويدل على ذلك قوله : أقرأ بها أحد ولا يلزم ما قال ، فقد جاء الفصل في القول قال

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٣٢.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٣.

٥٣١

تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) (١) وقال : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) (٢) ، وقال : (نُفَصِّلُ الْآياتِ) (٣) فلا يلزم من ذكر الفاصلين أن يكون معينا ليقضي و (خَيْرُ) هنا أفعل التفضيل على بابها. وقيل : ليست على بابها لأن قضاءه تعالى لا يشبه قضاء ولا يفصل كفصله أحد وهذا الاستدلال يدل على أنها بابها.

(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي لو كان في قدرتي الوصول إلى ما تستعجلون به من اقتراح الآيات أو من حلول العذاب لبادرت إليه ووقع الانفصال بيني وبينكم. وروي عن عكرمة في (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي لقامت القيامة وما روي عن ابن جريج من أن المعنى لذبح الموت لا يصح ولا له هنا معنى. وقال الزمخشري و (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من العذاب لأهلكنكم عاجلا غضبا لربي وامتعاضا من تكذيبكم به ولتخلصت منكم سريعا ؛ انتهى. وهو قول ابن عباس لم أمهلكم ساعة ولأهلكنكم. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) الظاهر أن المعنى والله أعلم بكم فوضع الظاهر المشعر بوصفهم بالظلم موضع المضمر ومعنى (أَعْلَمُ) بهم أي بمجازاتهم ففيه وعيد وتهديد. وقيل : بتوقيت عقابهم وقيل : بما آل أمرهم من هداية بعض واستمرار بعض. وقيل : بمن ينبغي أن يؤخذ وبمن يمهل. وقيل : بما تقتضيه الحكمة من عذابهم.

وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ

__________________

(١) سورة الطارق : ٨٦ / ١٣.

(٢) سورة هود : ١١ / ١.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٥٥ وغيرها.

٥٣٢

الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)

السقوط : الوقوع من علو. الورقة : واحدة الورق من النبات والكاغد وهي معروفة.

الرطب واليابس معروفان يقال رطب فهو رطب ورطيب ويبس ويبيس ، وشذ فيه يبس بحذف الياء وكسر الباء. الكرب الغم يأخذ بالنفس كربت الرجل فهو مكروب. قال الشاعر :

ومكروب كشفت الكرب عنه

بطعنة فيصل لما دعاني

الشيعة : الفرقة تتبع الأخرى ويجمع على أشياع ، وشيعت فلانا اتبعته وتقول : العرب

٥٣٣

شاعكم السّلام أي اتبعكم وأشاعكم الله السلم أي اتبعكم. الإبسال : تسليم المرء نفسه للهلاك ويقال أبسلت ولدي أرهنته ، قال الشاعر :

وإبسالي بني بغير جرم

بعوناه ولا بدم مراق

بعوناه جنيناه والبعو الجناية. الحميم : الماء الحار. الحيرة : التردد في الأمر لا يهتدى إلى مخرج منه ومنه تحير الماء في الغيم يقال حار يحار حيرة وحيرا وحيرانا وحيرورة. الصور : جمع صورة والصور القرن بلغة أهل اليمن. قال :

نحن نطحناهم غداة الجمعين

بالشامخات في غبار النقعين

نطحا شديدا لا كنطح الصورين

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) لما قال تعالى : إن الحكم إلا لله وقال هو أعلم بالظالمين بعد قوله (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) انتقل من خاص إلى عام وهو علم الله بجميع الأمور الغيبية ، واستعارة للقدرة عليها المفاتح لما كانت سببا للوصول إلى الشيء فاندرج في هذا العام ما استعجلوا وقوعه وغيره. والمفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهي الآية التي يفتح بها ما أغلق. قال الزهراوي : ومفتح أفصح من مفتاح ويحتمل أن يكون جمع مفتاح لأنه يجوز في مثل هذا أن لا يؤتى فيه بالياء قالوا : مصابح ومحارب وقراقر في جميع مصباح وقرقور. وقرأ ابن السميفع : مفاتيح بالياء وروي عن بعضهم مفتاح الغيب على التوحيد. وقيل : جمع مفتح بفتح الميم ويكون للمكان أي أماكن الغيب ومواضعها يفتح عن المغيبات ويؤيده ما روي عن ابن عباس إنها خزائن المطر والنبات ونزول العذاب. وقال السدي وغيره : خزائن الغيب. وروي عن ابن عمر عنه عليه‌السلام أنه قال : «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله» ، (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (١) إلى آخر السورة. وقيل : (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) الأمور التي يستدلّ بها على الغائب فتعلم حقيقته من قولك : فتحت على الإمام إذا عرّفته ما نسي. وقال أبو مسعود : أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتح الغيب. وروي عن ابن عباس أنها خزائن غيب السموات والأرض من الأقدار والأرزاق. وقال عطاء : ما غاب من الثواب والعقاب وما تصير إليه الأمور. وقال الزجاج : الوصلة إلى علم الغيب إذا استعلم. وقيل : عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال. وقيل : ما لم يكن هل يكون أم لا يكون؟ وما يكون كيف يكون وما لا يكون إن كان كيف يكون؟ و (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) حصر أنه لا يعلم

__________________

(١) سورة لقمان : ٣١ / ٣٤.

٥٣٤

تلك المفاتح ولا يطلع عليها غيره تعالى ، ولقد يظهر من هؤلاء المنتسبة إلى الصوف أشياء من ادعاء علم المغيبات والاطلاع على علم عواقب أتباعهم وأنهم معهم في الجنة مقطوع لهم ولأتباعهم بها يخبرون بذلك على رؤوس المنابر ولا ينكر ذلك أحد هذا مع خلوهم عن العلوم يوهمون أنهم يعلمون الغيب. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي‌الله‌عنها ومن زعم أن محمدا يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (١) وقد كثرت هذه الدّعاوى والخرافات في ديار مصر وقام بها ناس صبيان العقول يسمون بالشيوخ عجزوا عن مدارك العقل والنقل وأعياهم طلاب العلوم :

فارتموا يدعون أمرا عظيما

لم يكن للخليل لا والكليم

بينما المرء منهم في انسفال

أبصر اللوح ما به من رقوم

فجنى العلم منه غضا طريا

ودرى ما يكون قبل الهجوم

إن عقلي لفي عقال إذا ما

أنا صدقت بافتراء عظيم

(وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) لما كان ذكره تعالى (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) أمرا معقولا أخبر تعالى باستئثاره بعلمه واختصاصه به ذكر تعلق علمه بهذا المحسوس على سبيل العموم ثم ذكر علمه بالورقة والحبة والرطب واليابس على سبيل الخصوص ، فتحصل إخباره تعالى بأنه عالم بالكليات والجزئيات مستأثر بعلمه وما نعلمه نحن وقدم (الْبَرِّ) لكثرة مشاهدتنا لما اشتمل عليه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والحيوان والنبات والمعادن أو على سبيل الترقي إلى ما هو أعجب في الجملة ، لأن ما فيه من أجناس الحيوانات أعجب وطوله وعرضه أعظم والبر مقابل البحر. وقيل : (الْبَرِّ) القفار (وَالْبَحْرِ) المعروف فالمعنى ويعلم ما في البر من نبات ودواب وأحجار وأمدار وغير ذلك ، وما في البحر من حيوان وجواهر وغير ذلك. وقال مجاهد : (الْبَرِّ) الأرض القفار التي لا يكون فيها الماء (وَالْبَحْرِ) كل قرية وموضع فيه الماء. وقيل : لم يرد ظاهر البرّ والبحر وإنما أراد أن علمه تعالى محيط بنا وبما أعد لمصالحنا من منافعهما وخصا بالذكر لأنهما أعظم مخلوق يجاوزنا.

(وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها مِنْ) زائدة لاستغراق جنس الورقة و (يَعْلَمُها)

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٦٥.

٥٣٥

مطلقا قبل السقوط ومعه وبعده. قال الزجاج : (يَعْلَمُها) ساقطة وثابتة كما تقول : ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه ليس تأويله في حال مجيئه فقط. وقيل : يعلم متى تسقط وأين تسقط وكم تدور في الهواء. وقيل : يعلمها كيف انقلبت ظهرا لبطن إلى أن وقعت على الأرض ، و (يَعْلَمُها) في موضع الحال من (وَرَقَةٍ) وهي حال من النكرة. كما تقول : ما جاء أحد إلا راكبا.

(وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) قيل : تحت الأرض السابعة. وقيل : تحت التراب. وقيل : الحب الذي يزرع يخفيها الزرّاع تحت الأرض. وقيل : تحت الصخرة في أسفل الأرضين. وقيل : ولا حبة إلا يعلم متى تنبت ومن يأكلها ، وانظر إلى حسن ترتيب هذه المعلومات بدأ أولا بأمر معقول لا ندركه نحن بالحس وهو قوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) ثم ثانيا بأمر ندرك كثيرا منه بالحس وهو (يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) وفيه عموم ثم ثالثا بجزأين لطيفين أحدهما علوي وهو سقوط ورقة من علوّ إلى أسفل ، والثاني سفلي وهو اختفاء حبة في بطن الأرض. ودلت هذه الجمل على أنه تعالى عالم بالكليات والجزئيات وفيها ردّ على الفلاسفة في زعمهم أن الله لا يعلم الجزئيات ومنهم من يزعم أنه تعالى لا يعلم الكليات ولا الجزئيات حتى هو لا يعلم ذاته تعالى الله عن ذلك.

(وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الرطب واليابس وصفان معروفان والمراد العموم في المتصف بهما ، وقد مثل المفسرون ذلك بمثل. فقيل : ما ينبت وما لا ينبت. وقيل : لسان المؤمن ولسان الكافر. وقيل : العين الباكية من خشية الله والعين الجامدة للقسوة ، وأما ما حكاه النقاش عن جعفر الصادق أن الورقة هي السقط من أولاد بني آدم والحبة يراد بها الذي ليس بسقط ، والرّطب المراد به الحيّ واليابس يراد به الميت فلا يصح عن جعفر وهو من تفسير الباطنية لعنهم الله. وقال مقاتل (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) : هو اللوح المحفوظ. وقال الزجاج : كناية عن علم الله المتيقن وهذا الاستثناء جار مجرى التوكيد لأن قوله : ولا حبة (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) معطوف على قوله (مِنْ وَرَقَةٍ) والاستثناء الأول منسحب عليها كما تقول : ما جاءني من رجل إلا أكرمته ولا امرأة ، فالمعنى إلا أكرمتها ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد وحسنه كونه فاصلة رأس آية. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن السميفع (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) بالرفع فيهما والأولى أن يكونا معطوفين على موضع (مِنْ وَرَقَةٍ) ويحتمل الرفع على الابتداء وخبره (إِلَّا فِي كِتابٍ

٥٣٦

مُبِينٍ).

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر استئثاره بالعلم التام للكليات والجزئيات ذكر استئثاره بالقدرة التامّة تنبيها على ما تختص به الإلهية وذكر شيئا محسوسا قاهرا للأنام وهو التوفي بالليل والبعث بالنهار وكلاهما ليس للإنسان فيه قدرة ، بل هو أمر يوقعه الله تعالى بالإنسان والتوفي عبارة في العرف عن الموت وهنا المعني به النوم على سبيل المجاز للعلاقة التي بينه وبين الموت وهي زوال إحساسه ومعرفته وفكره. ولما كان التوفي المراد به النوم سببا للراحة أسنده تعالى إليه وما كان بمعنى الموت مؤلما قال : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) (١) و (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (٢) ، والظاهر أن الخطاب عام لكل سامع. وقال الزمخشري : الخطاب للكفرة وخص الليل بالنوم والبعث بالنهار وإن كان قد ينام بالنهار ويبعث بالليل حملا على الغالب ، ومعنى (جَرَحْتُمْ) كسبتم ومنه جوارح الطير أي كواسبها واجترحوا السيئات اكتسبوها والمراد منها أعمال الجوارح ومنه قيل للأعضاء جوارح. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون من الجرح كأن الذنب جرح في الدين والعرب تقول : وجرح اللسان كجرح اليد. وقال مكي : أصل الاجتراح عمل الرجل بجارحة من جوارحه يده أو رجله ثم كثر حتى قيل لكل مكتسب مجترح وجارح ، وظاهر قوله : (ما جَرَحْتُمْ) العموم في المكتسب خيرا كان أو شرا. وقال الزمخشري : ما كسبتم من الآثام ؛ انتهى ، وهو قول ابن عباس.

وقال قتادة : ما عملتم. وقال مجاهد : ما كسبتم والبعث هنا هو التنبه من النوم والضمير في (فِيهِ) عائد على (بِالنَّهارِ) قاله مجاهد وقتادة والسدي ، عاد عليه لفظا والمعنى في يوم آخر كما تقول : عندي درهم ونصفه وقال عبد الله بن كثير يعود على التوفي أي يوقظكم في التوفي أي في خلاله وتضاعيفه. وقيل : يعود على الليل. وقال الزمخشري : ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ، ومن أجله ، كقولك : فيم دعوتني فتقول : في أمر كذا ؛ انتهى. وحمله على البعث من القبور ينبو عنه قوله : (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) لأن المعنى والله أعلم أنه تعالى يحييهم في هاتين الحالتين من النوم واليقظة ليستوفوا ما قدر لهم من الآجال والأعمار المكتوبة ، وقضاء الأجل فصل مدّة العمر من غيرها ومسمى في علم الله أو في

__________________

(١) سورة السجدة : ٣٢ / ١١.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٢٨ ، ٣٢.

٥٣٧

اللوح المحفوظ أو عند تكامل الخلق ونفخ الروح ، ففي الصحيح أن الملك يقول عند كمال ذلك. فما الرزق فما الأجل. وقال الزمخشري : هو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) هو المرجع إلى موقف الحساب (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في ليلكم ونهاركم ؛ انتهى. وقال غيره : كابن جبير : مرجعكم بالموت الحقيقي. ولما ذكر تعالى النوم واليقظة كان ذلك تنبيها على الموت والبعث وإن حكمهما بالنسبة إليه تعالى واحد فكما أنام وأيقظ يميت ويحيي. وقرأ طلحة وأبو رجاء ليقضي أجلا مسمى بنى الفعل للفاعل ونصب أجلا أي ليتم الله آجالهم كقوله : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) (١) وفي قراءة الجمهور ، ويحتمل أن يكون الفاعل المحذوف ضميره أو ضميرهم.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) تقدم الكلام في تفسير (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ). قال هنا ابن عطية : (الْقاهِرُ) أن أخذ صفة فعل أي مظهر القهر بالصواعق والرياح والعذاب ، فيصح أن تجعل (فَوْقَ) ظرفية للجهة لأن هذه الأشياء إنما تعاهدها للعباد من فوقهم وإن أخذ (الْقاهِرُ) صفة ذات بمعنى القدرة والاستيلاء ففوق لا يجوز أن يكون للجهة وإنما هو لعلو القدر والشأن ، كما تقول : الياقوت فوق الحديد ؛ انتهى. وظاهر (وَيُرْسِلُ) أن يكون معطوفا على (وَهُوَ الْقاهِرُ) عطف جملة فعلية على جملة اسمية وهي من آثار القهر. وجوز أبو البقاء أن تكون معطوفة على قوله : (يَتَوَفَّاكُمْ) وما بعده من الأفعال وأن يكون معطوفا على (الْقاهِرُ) التقدير وهو الذي يقهر ويرسل ، وأن يكون حالا على إضمار مبتدإ أي وهو يرسل وذو الحال إما الضمير في (الْقاهِرُ) وإما الضمير في الظرف وهذا أضعف هذه الأعاريب ، (وَعَلَيْكُمْ) ظاهره أنه متعلق بيرسل كقوله : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ) (٢) ولفظة على مشعرة بالعلو والاستعلاء لتمكنهم منا جعلوا كان ذلك علينا ويحتمل أن يكون متعلقا بحفظة أي ويرسل حفظة عليكم أي يحفظون عليكم أعمالكم ، كما قال : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) (٣) كما تقول : حفظت عليك ما تعمل. وجوّزوا أن يكون حالا لأنه لو يتأخر لكان صفة أي حفظه كائنة عليكم أي مستولين عليكم و (حَفَظَةً) جمع حافظ وهو جمع منقاس لفاعل وصفا مذكرا صحيح اللام عاقلا وقل فيما لا يعقل. قال الزمخشري : أي ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون ؛ انتهى. وقال ابن عطية : المراد بذلك

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٢٩.

(٢) سورة الرحمن : ٥٥ / ٣٥.

(٣) سورة الانفطار : ٨٢ / ١٠.

٥٣٨

الملائكة الموكلون بكتب الأعمال ؛ انتهى. وما قالاه هو قول ابن عباس وظاهر الجمع أنه مقابل الجمع ولم تتعرض الآية لعدد ما على كل واحد ولا لما يحفظون عليه. وعن ابن عباس : ملكان مع كل إنسان أحدهما عن يمينه للحسنات ، والآخر عن شماله للسيئات وإذا عمل سيئة قال من على اليمين : انتظره لعله يتوب منها فإن لم يتب كتبت عليه. وقيل : ملكان بالليل وملكان بالنهار أحدهما يكتب الخير والآخر يكتب الشر ، فإذا مشى كان أحدهما بين يديه والآخر وراءه وإذا جلس فأحدهما عن يمينه والآخر عن شماله. وقيل : خمسة من الملائكة اثنان بالليل واثنان بالنهار ، وواحد لا يفارقه ليلا ولا نهارا والمكتوب الحسنة والسيئة. وقيل : الطاعات والمعاصي والمباحات. وقيل : لا يطلعون إلا على القول والفعل لقوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١) ولقوله : (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (٢) وأما أعمال القلوب فعلمه لله تعالى. وقيل : يطلعون عليها على الإجمال لا على التفصيل فإذا عقد سيئة خرجت من فيه ريح خبيثة أو حسنة خرجت ريح طيبة.

وقال الزمخشري (فإن قلت) : الله غني بعلمه عن كتب الكتبة فما فائدتها؟ (قلت) : فيها لطف للعباد لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم ، والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة ، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد من السوء ؛ انتهى. وقوله : والملائكة الذين هم أشرف خلقه هو جار على مذهب المعتزلة في الملائكة ، ولا تتعين هذه الفائدة إذ يحتمل أن تكون الفائدة فيها أن توزن صحائف الأعمال يوم القيامة لأن وزن الأعمال بمجردها لا يمكن ، وهذه الفائدة جارية على مذهب أهل السنة ، وأما المعتزلة فتأولوا الوزن والميزان ولا يشعر قوله : (حَفَظَةً) أن ذلك الحفظ بالكتابة كما فسروا بل قد قيل : هم الملائكة الذي قال فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» قاله قتادة والسدّي. وقيل : يحفظون الإنسان من كل شيء حتى يأتي أجله.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) أي أسباب الموت (تَوَفَّتْهُ) قبضت روحه (رُسُلُنا) جاء جمعا. فقيل : عنى به ملك الموت عليه‌السلام وأطلق عليه الجمع تعظيما. وقيل : ملك الموت وأعوانه والأكثرون على أن (رُسُلُنا) عين الحفظة يحفظونهم مدة الحياة ، وعند مجيء أسباب الموت يتوفونهم ولا تعارض بين قوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ

__________________

(١) سورة ق : ٥٠ / ١٨.

(٢) سورة الانفطار : ٨٢ / ١٢.

٥٣٩

حِينَ مَوْتِها) (١) وبين قوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) (٢) وبين قوله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) لأن نسبة ذلك إلى الله تعالى بالحقيقة ولغيره بالمباشرة ، ولملك الموت لأنه هو الآمر لأعوانه وله ولهم بكونهم هم المتولون قبض الأرواح. وعن مجاهد جعلت الأرض له كالطست يتناول منه من يتناوله وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين. وقرأ حمزة : توفاه بألف ممالة وظاهره أنه فعل ماض كتوفته إلا أنه ذكر على معنى الجمع ، ومن قرأ توفته أنث على معنى الجماعة ويحتمل أن يكون مضارعا وأصله تتوفاه فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في تعيين المحذوفة. وقرأ الأعمش يتوفاه بزيادة ياء المضارعة على التذكير.

(وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) جملة حالية والعامل فيها توفته أو استئنافية أخبر عنهم بأنهم لا يفرطون في شيء مما أمروا به من الحفظ والتوفي ومعناه : لا يقصرون. وقرأ الأعرج وعمرو بن عبيد (لا يُفَرِّطُونَ) بالتخفيف أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به. قال الزمخشري : فالتفريط التولي والتأخر عن الحد والإفراط مجاوزة الحد أي لا ينقصون مما أمروا به ولا يزيدون فيه ؛ انتهى ، وهو معنى كلام ابن جني. وقال ابن بحر : (يُفَرِّطُونَ) لا يدعون أحدا يفرط عنهم أي يسبقهم ويفوتهم. وقيل : يجوز أن تكون قراءة التخفيف معناها لا يتقدّمون على أمر الله وهذا لا يصح إلا إذا نقل أن أفرط بمعنى فرط أي تقدم. وقال الحسن : إذا احتضر الميت احتضره خمسمائة ملك يقبضون روحه فيعرجون بها.

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) الظاهر عود الضمير على العباد ، وجاء عليكم على سبيل الالتفات لما في الخطاب من تقريب الموعظة من السامعين ، ويحتمل أن يعود الضمير في (رُدُّوا) على أحدكم على المعنى لأنه لا يريد ب (أَحَدَكُمُ) ظاهره من الإفراد إنما معناه الجمع وكأنه قيل : حتى إذا جاءكم الموت ، وقرئ (رُدُّوا) بكسر الراء نقل حركة الدال التي أدغمت إلى الراء والراد المحذر من الله أو بالبعث في الآخرة أو الملائكة ردّتهم بالموت إلى الله. وقيل : الضمير يعود على (رُسُلُنا) أي الملائكة يموتون كما يموت بنو آدم ويردّون إلى الله تعالى وعوده على العباد أظهر و (مَوْلاهُمُ) لفظ عام لأنواع الولاية التي تكون بين الله وبين عبيده من الملك والنصرة والرزق والمحاسبة وغير ذلك ، وفي الإضافة إشعار برحمته لهم وظاهر الاخبار بالرد إلى الله أنه يراد به البعث والرجوع إلى حكم الله وجزائه يوم القيامة ويدل عليه آخر الآية. وقال أبو عبد الله الرازي : صريح الآية يدل على

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٤٢.

(٢) سورة السجدة : ٣٢ / ١١.

٥٤٠