البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

والمفعول محذوف والتقدير ومن بلغ الحلم ، ويحتمل أن يكون (مَنْ) في موضع رفع عطفا على الضمير المستكن في (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) وجاز ذلك للفصل بينه وبين الضمير بضمير المفعول وبالجار والمجرور أي ولينذر به من بلغه القرآن.

(أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) قرئ (إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ) بصورة الإيجاب فاحتمل أن يكون خبرا محضا واحتمل الاستفهام على تقدير حذف أداته ويبين ذلك قراءة الاستفهام ، فقرئ بهمزتين محققتين وبإدخال ألف بينهما وبتسهيل الثانية وبإدخال ألف بين الهمزة الأولى والهمزة المسهلة ، روى هذه القراءة الأخيرة الأصمعي عن أبي عمرو ونافع ، وهذا الاستفهام معناه التقريع لهم والتوبيخ والإنكار عليهم فإن كان الخطاب لأهل مكة فالآلهة الأصنام فإنهم أصحاب أوثان ، وإن كان لجميع المشركين فالآلهة كل ما عبد غير الله تعالى من وثن أو كوكب أو نار أو آدمي وأخرى صفة لآلهة وصفة جمع ما لا يعقل كصفة الواحدة المؤنثة ، كقوله : (مَآرِبُ أُخْرى) و (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (١) ولما كانت الآلهة حجارة وخشبا أجريت هذا المجرى.

(قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أمره تعالى أن يخبرهم أنه لا يشهد شهادتهم وأمره ثانيا أن يفرد الله تعالى بالإلهية ، وأن يتبرأ من إشراكهم وما أبدع هذا الترتيب أمر أولا بأن يخبرهم بأنه لا يوافقهم في الشهادة ولا يلزم من ذلك إفراد الله بالألوهية فأمر به ثانيا ليجتمع مع انتفاء موافقتهم إثبات الوحدانية لله تعالى ، ثم أخبر ثالثا بالتبرؤ من إشراكهم وهو كالتوكيد لما قبله ، ويحتمل أن لا يكون ذلك داخلا تحت القول ويحتمل وهو الظاهر أن يكون داخلا تحته فأمر بأن يقول الجملتين ، فظاهر الآية يقتضي أنها في عبدة الأصنام وذكر الطبري أنها نزلت في قوم من اليهود وأسند إلى ابن عباس قال جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب ومجزئ بن عمرو فقالوا : يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره فقال : لا إله إلا الله بذلك أمرت فنزلت الآية فيهم.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) تقدم شرح الجملة الأولى في البقرة وشرح الثانية في هذه السورة من قريب ، وقالوا هنا الضمير في (يَعْرِفُونَهُ) عائد على الرسول قاله قتادة والسدي وابن جريج والجمهور ، ومنهم عمر بن الخطاب ، أو على التوحيد وذلك لقرب قوله : (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) وفيه استشهاد على كفرة قريش والعرب بأهل الكتاب أو على القرآن قاله فرقة

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٠.

٤٦١

لقوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ). وقيل يعود على جميع هذه الأشياء من التوحيد والرسول والقرآن ، كأنه ذكر أشياء ثم قال أهل الكتاب (يَعْرِفُونَهُ) أي يعرفون ما قلنا وما قصصنا. وقيل : يعود على كتابهم أي : يعرفون كتابهم وفيه ذكر نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل :

يعود على الدين والرسول فالمعنى يعرفون الإسلام أنه دين الله وأن محمد رسول الله و (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هنا لفظه عام ويراد به الخاص ، فإن هذا لا يعرفه ولا يقربه إلا من آمن منهم أو من أنصف و (الْكِتابَ) التوراة والإنجيل ووحد ردا إلى الجنس. وقيل : (الْكِتابَ) هنا القرآن والضمير في (يَعْرِفُونَهُ) عائد عليه ذكره الماوردي.

وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : إن كان المكتوب في التوراة والإنجيل خروج نبي في آخر الزمان فقط ، فلا يتعين أن يكون هو محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو معينا زمانه ومكانه ونسبه وحليته وشكله ، فيكونون إذ ذاك عالمين به بالضرورة ولا يجوز الكذب على الجمع العظيم ولأنا نعلم بالضرورة أن كتابهم لم يشتمل على هذه التفاصيل التامة وعلى هذين التقديرين ، فكيف يصح أن يقال : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) ، وأجاب بأنهم كانوا أهلا للنظر والاستدلال وكانوا شاهدوا ظهور المعجزات على يد الرسول فعرفوا بالمعجزات كونه رسولا من عند الله ، فالمقصود تشبيه معرفته بمعرفة أبنائهم بهذا القدر الذي ذكرناه ؛ انتهى. ولا يلزم ذلك التقسيم الذي ذكره لأنه لم يقل يعرفونه بالتوراة والإنجيل إنما ذكر (يَعْرِفُونَهُ) فجاز أن تكون هذه المعرفة مسندة إلى التوراة والإنجيل من أخبار أنبيائهم ونصوصهم ، فالتفاصيل عندهم من ذلك لا من التوراة والإنجيل فيكون معرفتهم إياه مفصلة واضحة بالأخبار لا بالنظر في المعجزات (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) وأيضا فلا نسلم له حصر التقسيم فيما ذكره لأنه يحتمل قسما آخر وهو أن يكون التوراة والإنجيل يدلان على خروج نبي في آخر الزمان ، وعلى بعض أوصافه لا على جميع الأوصاف التي ذكرت من تعيين زمان ومكان ونسب وحلية وشكل ، ويدل على هذا القسم حديث عمر مع عبد الله بن سلام وقوله له : إن الله أنزل على نبيه بمكة إنكم تعرفونه كما تعرفون أبناءكم فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام : نعم أعرفه بالصفة التي وصفه الله بها في التوراة؟ فلا أشك فيه وأما ابني فلا أدري ما أحدثت أمه ، ومما يدل أيضا على أن معرفتهم إياه لا يتعين أن يكون مستندها التوراة والإنجيل فقط ، أسئلة عبد الله بن سلام حين اجتمع أول اجتماعه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أول ما يأكل أهل الجنة؟ الحديث. فحين أخبره بجواب تلك الأسئلة أسلم للوقت وعرف أنه الرسول الذي نبه عليه في التوراة ، وحديث زيد بن سعنة حين ذكر أنه عرف جميع أوصافه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير أنه لم يعرف أن حلمه يسبق غضبه فجرب ذلك منه ، فوجد هذه الصفة فأسلم. وأعرب (الَّذِينَ خَسِرُوا) مبتدأ

٤٦٢

والخبر (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) و (الَّذِينَ خَسِرُوا) على هذا أعم من أهل الكتاب الجاحدين ومن المشركين ، والخسران الغبن وروي أن لكل عبد منزلا في الجنة ومنزلا في النار ، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنة والكافرون ينزلون منازل أهل الجنة في النار ، فالخسارة والربح هنا وجوزوا أن يكون (الَّذِينَ خَسِرُوا) نعتا لقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) و (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) جملة معطوفة على جملة فيكون مساق (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) مساق الذم لا مقام الاستشهاد بهم على كفار قريش وغيرهم من العرب ، قالوا : لأنه لا يصح أن يستشهد بهم ويذموا في آية واحدة. وقال ابن عطية : يصح ذلك لاختلاف ما استشهد فيه بهم وما ذموا فيه وأن الذم والاستشهاد من جهة واحدة ؛ انتهى. ويكون (الَّذِينَ خَسِرُوا) إذ ذاك ليس عاما إذ التقدير الذين خسروا أنفسهم منهم أي من أهل الكتاب.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) تقدم الكلام على (وَمَنْ أَظْلَمُ) والافتراء الاختلاف ، والمعنى لا أحد أظلم ممن كذب على الله أو كذب بآيات الله. قال الزمخشري : جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ، وقالوا : والله أمرنا بها ، وقالوا : الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ونسبوا إليه تحريم السوائب والبحائر وكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا ولم يؤمنوا بالرسول ؛ انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال بقوله : حيث قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا. وقال ابن عطية : (مِمَّنِ افْتَرى) اختلق والمكذب بالآيات مفتري كذب ولكنهما من الكفر فلذلك نصا مفسرين ؛ انتهى. ومعنى (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا والآخرة ، بل يبقون في الحرمان والخذلان ونفي الفلاح عن الظالم فدخل فيه الأظلم والظالم غير الأظلم وإذا كان هذا لا يفلح فكيف يفلح الأظلم؟

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) قيل : (يَوْمَ) معمول لا ذكر محذوفة على أنه مفعول به قاله ابن عطية وأبو البقاء. وقيل : لمحذوف متأخر تقديره (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف قاله الزمخشري. وقيل : العامل انظر كيف كذبوا يوم نحشرهم. وقيل : هو مفعول به لمحذوف تقديره وليحذروا يوم نحشرهم. وقيل : هو معطوف على ظرف محذوف ، والعامل فيه العامل في ذلك الظرف والتقدير أنه لا يلفح الظالمون اليوم في

٤٦٣

الدنيا ويوم نحشرهم قاله الطبري.

وقرأ الجمهور (نَحْشُرُهُمْ ثُمَّ نَقُولُ) بالنون فيهما. وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء. وقرأ أبو هريرة (نَحْشُرُهُمْ) عائد على الذين افتروا على الله الكذب ، أو كذبوا بآياته وجاء (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) بمعنى ثم نقول لهم ولكنه نبه على الوصف المترتب عليه توبيخهم ويحتمل أن يعود على الناس كلهم وهم مندرجون في هذا العموم ثم تفرد بالتوبيخ المشركون. وقيل : الضمير عائد على المشركين وأصنامهم ألا ترى إلى قولهم (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) (١) (مِنْ دُونِ اللهِ) وعطف ب (ثُمَ) للتراخي الحاصل بين مقامات يوم القيامة في المواقف ، فإن فيه مواقف بين كل موقف وموقف تراخ على حسب طول ذلك اليوم ، و (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) سؤال توبيخ وتقريع وظاهر مدلول (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) غيبة الشركاء عنهم أي تلك الأصنام قد اضمحلت فلا وجود لها. وقال الزمخشري : ويجوز أن يشاهدوهم إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة فكأنهم غيب عنهم وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها فيروا مكان خزيهم وحسرتهم ، انتهى. والمعنى أين آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله؟ وأضيف الشركاء إليهم لأنه لا شركة في الحقيقة بين الأصنام وبين شيء ، وإنما أوقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة فأضيفت إليهم بهذه النسبة والزعم القول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر الكلام ، ولذلك قال ابن عباس : كل زعم في القرآن فهو بمعنى الكذب وإنما خص القرآن لأنه ينطلق على مجرد الذكر والقول ومنه قول الشاعر :

تقول هلكنا وإن هلكت وإنما

على الله أرزاق العباد كما زعم

وقال ابن عطية : وعلى هذا الحد يقول سيبويه : زعم الخليل ولكن ذلك يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله ؛ انتهى. وحذف مفعولا (يَزْعُمُونَ) اختصارا إذ دل ما قبله على حذفهما والتقدير تزعمونهم شركاء ، ويحسن أن يكون التقدير كما قال بعضهم : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنها تشفع لكم عند الله عزوجل.

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) تقدم مدلول الفتنة وشرحت هنا بحب الشيء والإعجاب به كما تقول : فتنت بزيد فعلى هذا يكون المعنى ، ثم

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ٢٢.

٤٦٤

لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها واتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبرؤ منها والإنكار لها ، وفي هذا توبيخ لهم كما تقول لرجل كان يدّعي مودّة آخر ثم انحرف عنه وعاداه يا فلان لم تكن مودّتك لفلان إلا أن عاديته وباينته والمعنى على (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) بمعنى مودّتهم وإعجابهم بالأصنام إلا البراءة منهم باليمين المؤكدة لبراءتهم ، وتكون الفتنة واقعة في الدنيا وشرحت أيضا بالاختبار والمعنى : ثم لم يكن اختبارنا إياهم إذ السؤال عن الشركاء وتوقيفهم اختبار لإنكارهم الإشراك وتكون الفتنة هنا واقعة في القيامة ، أي : ثم لم يكن جواب اختبار نالهم بالسؤال عن شركائهم إلا إنكار التشريك ؛ انتهى ، ملخصا من كلام ابن عطية مع بعض زيادة.

وقال الزمخشري : (فِتْنَتُهُمْ) كفرهم والمعنى ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به ، وقالوا : دين آبائنا إلا جحوده والتبرؤ منه والحلف على الانتفاء من التدين به ، ويجوز أن يراد ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا : فسمي فتنة لأنه كذب ؛ انتهى. والشرح الأول من شرح ابن عطية معناه للزجاج والأول من تفسير الزمخشري لفظه للحسن ، ومعناه لابن عباس والثاني لمحمد بن كعب وغيره. قال : التقدير ثم لم يكن جوابهم (إِلَّا أَنْ قالُوا) وسمي هذا القول فتنة لكونه افتراء وكذبا. وقال الضحاك : الفتنة هنا الإنكار أي ثم لم يكن إنكارهم. وقال قتادة : عذرهم. وقال أبو العالية : قولهم. وقال عطاء وأبو عبيدة : بينتهم وزاد أبو عبيدة التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة. وقيل : حجتهم ، والظاهر أن الضمير عائد على المشركين وأنه عام فيمن أشرك. وقال الحسن : هذا خاص بالمنافقين جروا على عادتهم في الدنيا ، وقيل : هم قوم كانوا مشركين ولم يعلموا أنهم مشركون فيحلفون على اعتقادهم في الدنيا. وقرأ الجمهور (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) وحمزة والكسائي بالياء وأبي وابن مسعود والأعمش وما كان فتنتهم ، وطلحة وابن مطرف ثم ما كان والابنان وحفص (فِتْنَتُهُمْ) بالرفع وفرقة ثم لم يكن بالياء ، و (فِتْنَتُهُمْ) بالرفع وإعراب هذه القراءات واضح والجاري منها على الأشهر قراءة ثم لم يكن (فِتْنَتُهُمْ) بالياء بالنصب ، لأن أن مع ما بعدها أجريت في التعريف مجرى المضمر وإذا اجتمع الأعرف وما دونه في التعريف فذكروا إن الأشهر جعل الأعرف هو الاسم وما دونه هو الخبر ، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) (١) و (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) (٢) ومن قرأ بالياء ورفع الفتنة فذكر الفعل لكون تأنيث الفتنة مجازيا أو

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٢٤.

(٢) سورة الجاثية : ٤٥ / ٢٥.

٤٦٥

لوقوعها من حيث المعنى على مذكر ، والفتنة اسم يكن والخبر (إِلَّا أَنْ قالُوا) جعل غير الأعرف الاسم والأعرف الخبر ومن قرأ (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) بالتاء ورفع الفتنة فأنث لتأنيث الفتنة والإعراب كإعراب ما تقدم قبله ، ومن قرأ (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) بالتاء (فِتْنَتُهُمْ) بالنصب فالأحسن أن يقدر (إِلَّا أَنْ قالُوا) مؤنثا أي (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) إلا مقالتهم. وقيل : ساغ ذلك من حيث كان الفتنة في المعنى. قال أبو علي : وهذا كقوله تعالى : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١) فأنث الأمثال لما كانت الحسنات في المعنى. وقال الزمخشري : وقرئ (تَكُنْ) بالتاء و (فِتْنَتُهُمْ) بالنصب وإنما أنث (أَنْ قالُوا) لوقوع الخبر مؤنثا كقوله : من كانت أمك ؛ انتهى. وتقدم لنا أن الأولى أن يقدر (أَنْ قالُوا) بمؤنث أي إلا مقالتهم. وكذا قدره الزجاج بمؤنث أي مقالتهم ، وتخريج الزمخشري ملفق من كلام أبي علي وأما من كانت أمك فإنه حمل اسم كان على معنى من ، لأن من لها لفظ مفرد ولها معنى بحسب ما تريد من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث وليس الحمل على المعنى لمراعاة الخبر ، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر نحو (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) (٢). ونكن مثل من يا ذئب يصطحبان. ومن تقنت في قراءة التاء فليست تأنيث كانت لتأنيث الخبر وإنما هو للحمل على معنى من حيث أردت به المؤنث وكأنك قلت أية امرأة كانت أمك.

وقرأ الأخوان (وَاللهِ رَبِّنا) بنصب الباء على النداء أي يا ربنا ، وأجاز ابن عطية فيه النصب على المدح وأجاز أبو البقاء فيه إضمار أعني وباقي السبعة بخفضها على النعت ، وأجازوا فيه البدل وعطف البيان. وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين (وَاللهِ رَبِّنا) برفع الاسمين. قال ابن عطية : وهذا على تقديم وتأخير أنهم قالوا : (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وَاللهِ رَبِّنا) ومعنى (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) جحدوا إشراكهم في الدنيا ، روي أنهم إذا رأوا إخراج من في النار من أهل الإيمان ضجوا فيوقفون ويقال لهم أين شركاؤكم؟ فينكرون طماعية منهم أن يفعل بهم ما فعل بأهل الإيمان وهذا الذي روي مخالف لظاهر الآية ، وهو (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) ثم نقول فظاهره أنه لا يتراخى القول عن الحشر هذا التراخي البعيد من دخول العصاة المؤمنين النار وإقامتهم فيها ما شاء الله وإخراجهم منها ، ثم بعد ذلك كله يقال لهم أين شركاؤكم؟ وأتى رجل إلى ابن عباس فقال : سمعت الله يقول : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) وفي أخرى (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٣) فقال ابن عباس : لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن قالوا : تعالوا فلنجحد وقالوا : (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثا.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٦٠.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٤٢.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٤٢.

٤٦٦

(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الخطاب للرسول عليه‌السلام والنظر قلبي و (كَيْفَ) منصوب ب (كَذَبُوا) والجملة في موضع نصب بالنظر لأن (انْظُرْ) معلقة و (كَذَبُوا) ماض وهو في أمر لم يقع لكنه حكاية عن يوم القيامة ولا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل تحقيقا لوقوعه ولا بد.

قال الزمخشري (فإن قلت) : كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور على أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته. (قلت) : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشا ، ألا تراهم يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١) وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه وقالوا : يا مالك ليقض علينا ربك وقد علموا أنه لا يقضي عليهم ، وأما قول من يقول معناه و (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) عند أنفسنا أو ما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا ، وحمل قوله : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) يعني في الدنيا فتحمل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عيّ وإفحام ، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا بمنطبق عليه ، وهو ناب عنه أشدّ النبوّ وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) (٢) بعد قوله : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٣) فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا ؛ انتهى. وقول الزمخشري. وأما قول من يقول فهو إشارة إلى أبي عليّ الجبائي والقاضي عبد الجبار ومن وافقهما أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واستدلوا بأشياء تؤول إلى مسألة القبح والحسن ، وبناء ما قالوه عليها ذكرها أبو عبد الله الرازي في تفسيره فتطالع هناك ، إذ مسألة التقبيح والتحسين خالفوا فيها أهل السنة وجمهور المفسّرين ، يقولون : إن الكفار يكذبون في الآخرة وظواهر القرآن دالة على ذلك وقد خالف الزمخشري هنا أصحابه المعتزلة ووافق أهل السنة.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) يحتمل أن تكون (ما) مصدرية وإليه ذهب ابن عطية قال : معناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكفرهم بادعائهم لله الشركاء. وقيل : من اليمين الفاجرة في الدار الآخرة وقيل عزب عنهم افتراؤهم للحيرة التي لحقتهم ، ويحتمل أن تكون

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٧.

(٢) سورة المجادلة : ٥٨ / ١٨.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٧٥.

٤٦٧

بمعنى الذي وإليه ذهب الزمخشري. قال : وغاب (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ألوهيته وشفاعته وهو معنى قول الحسن وأبي عليّ قالا : لم يغن عنهم شيئا ما كانوا يعبدون من الأصنام في الدنيا. وقيل : هو قولهم ما كنا (نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١) فذهب عنهم حيث علموا أن لا تقريب منهم ، ويحتمل أن يكون (وَضَلَ) عطف على كذبوا فيدخل في حيّز (انْظُرْ) ويحتمل أن يكون إخبارا مستأنفا فلا يدخل في حيزه ولا يتسلط النظر عليه.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً). روى أبو صالح عن ابن عباس أن أبا سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأمية وأبيا استمعوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ما يقول محمد فقال : ما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان صاحب أشعار جمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم وإسفنديار فكان يحدث قريشا فيستمعون له فقال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقول حقا. فقال أبو جهل : كلا لا تقر بشيء من هذا وقال الموت أهون من هذا ، فنزلت والضمير في (وَمِنْهُمْ) عائد على الذين أشركوا ، ووحد الضمير في (يَسْتَمِعُ) حملا على لفظ (مَنْ) وجمعه في (عَلى قُلُوبِهِمْ) حملا على معناها والجملة من قوله : (وَجَعَلْنا) معطوفة على الجملة قبلها عطف فعلية على اسمية فيكون إخبارا من الله تعالى أنه جعل كذا. وقيل : الواو واو الحال أي وقد جعلنا أي ننصت إلى سماعك وهم من الغباوة ، في حد من قلبه في كنان وأذنه صماء وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى ألقى ، فتتعلق على بها وبمعنى صير فتتعلق بمحذوف إذ هي في موضع المفعول الثاني ويجوز أن تكون بمعنى خلق ، فيكون في موضع الحال لأنها في موضع نعت لو تأخرت ، فلما تقدّمت صارت حالا والأكنة جمع كنان كعنان وأعنة والكنان الغطاء الجامع.

قال الشاعر :

إذا ما انتضوها في الوغى من أكنة

حسبت بروق الغيث هاجت غيومها

و (أَنْ يَفْقَهُوهُ) في موضع المفعول من أجله تقديره عندهم كراهة أن يفقهوه. وقيل : المعنى أن لا يفقهوه وتقدّم نظير هذين التقديرين. وقرأ طلحة بن مصرّف وقرأ بكسر الواو كأنه ذهب إلى أن (آذانِهِمْ) وقرت بالصمم كما توقر الدابة من الحمل ، والظاهر أن

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٣.

٤٦٨

الغطاء والصمم هنا ليسا حقيقة بل ذلك من باب استعارة المحسوس للمعقول حتى يستقر في النفس ، استعار الأكنة لصرف قلوبهم عن تدبر آيات الله ، والثقل في الأذن لتركهم الإصغاء إلى سماعه ألا تراهم قالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) (١) فلما لم يتدبروا ولم يصغوا كانوا بمنزلة من على قلبه غطاء وفي أذنه وقر. وقال قوم : ذلك حقيقة وهو لا يشعر به كمداخلة الشيطان باطن الإنسان وهو لا يشعر به ، ونحا الجبائي في فهم هذه الآية منحى آخر غير هذا فقال : كانوا يستمعون القراءة ليتوصلوا بسماعها إلى معرفة مكان الرسول بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه ، فعند ذلك كان الله يلقي على قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنة وتثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم وهو المراد بقوله : (فِي آذانِهِمْ وَقْراً). وقيل : إن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم الله قلبه بعلامة مخصوصة تستدل الملائكة برؤيتها على أنهم لا يؤمنون ، وإذا ثبت هذا فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان. وقيل : لما أصرّوا على الكفر صار عدولهم عن الإيمان كالكنان المانع عن الإيمان فذكر تعالى ذلك كناية عن هذا المعنى. وقيل : لما منعهم الإلطاف التي إنما تصلح أن يفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم وفوّضهم إلى أنفسهم ليسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه ، فيقول : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً). وقيل : يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم وقالوا : قلوبنا في أكنة وهذه الأقوال كلها تعزى إلى الجبائي وهي كلها فرار من نسبة الجعل إلى الله حقيقة فتأوّلوا ذلك على هذه المجازات البعيدة ، وقد نحا الزمخشري منحى بعض هذه الأقوال فقال : الأكنة على القلوب والوقر في الآذان تمثيل نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله : (وَجَعَلْنا) للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه ، أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) (٢) ؛ انتهى. وهو جار على مذهب أصحابه المعتزلة ، وأما عند أهل السنة فنسبة الجعل إلى الله حقيقة لا مجاز وهي مسألة خلق الأعمال يبحث فيها في أصول الدّين. قال ابن عطية : وهذه عبارة عن ما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلظ والبعد عن قبول الخير كأنهم لم يكونوا سامعين لأقواله.

(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) لما ذكر عدم انتفاعهم بعقولهم حتى كأن على

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٢٦.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٥.

٤٦٩

محالها أكنة ولا بسماعهم حتى كأن (فِي آذانِهِمْ وَقْراً) انتقل إلى الحاسة التي هي أبلغ من حاسة السماع ، فنفى ما يترتب على إدراكها وهو الإيمان والرؤية هنا بصرية والآية كانشقاق القمر ونبع الماء من أصابعه ، وحنين الجذع وانقلاب العصا سيفا والماء الملح عذبا وتصيير الطعام القليل كثيرا وما أشبه ذلك. وقال ابن عباس : (كُلَّ آيَةٍ) كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها لأجل ما جعل على قلوبهم أكنة ؛ انتهى. ومقصود هذه الجملة الشرطية الإخبار عن المبالغة التامّة والعناد المفرط في عدم إيمانهم حتى إن الشيء المرئي الدال على صدق الرسول حقيقة لا يرتبون عليه مقتضاه ، بل يرتبون عليه ضد مقتضاه.

(حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يُجادِلُونَكَ) أي يخاصمونك في الاحتجاج وبلغ تكذيبهم في الآيات إلى المجادلة ، وهذا إشارة إلى القرآن وجعلهم إياه من (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قدح في أنه كلام الله. قيل : كان النضر يعارض القرآن بإخبار إسفنديار ورستم. وقال ابن عباس : مجادلتهم قولهم : تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله ؛ انتهى. وهذا فيه بعد وظاهر المجادلة أنه في المسموع الذي هم يستمعون إلى الرسول بسببه وهو القرآن ، والمعنى أنهم في الاحتجاج ؛ انتهى. أمرهم إلى المجادلة والافتراء دون دليل ، ومجيء الجملة الشرطية ب (إِذا) بعد (حَتَّى) كثير جدّا في القرآن ، وأوّل ما وقعت فيه قوله : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) (١) وهي حرف ابتداء وليست هنا جارة لإذا ولا جملة الشرط جملة الجزاء في موضع جر وليس من شرط (حَتَّى) التي هي حرف ابتداء أن يكون بعدها المبتدأ ، بل تكون تصلح أن يقع بعدها المبتدأ ألا ترى أنهم يقولون في نحو ضربت القوم حتى زيدا ضربته أن حتى فيه حرف ابتداء وإن كان ما بعدها منصوبا و (حَتَّى) إذا وقعت بعدها (إِذا) يحتمل أن تكون بمعنى الفاء ويحتمل أن تكون بمعنى إلى أن فيكون التقدير فإذا (جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) يقول أو يكون التقدير (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي منعناهم من فهم القرآن وتدبره؟ إلى أن يقولوا : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في وقت مجيئهم مجادليك لأن الغاية لا تؤخذ إلا من جواب الشرط لا من الشرط ، وعلى هذين المعنيين يتخرج جميع ما جاء في القرآن من قوله تعالى (حَتَّى إِذا) وتركيب (حَتَّى إِذا) لا بد أن يتقدمه كلام ظاهر نحو هذه الآية ونحو قوله : فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال : أقتلت ، أو كلام مقدر يدل عليه سياق الكلام ، نحو قوله : (آتُونِي زُبَرَ

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٦.

٤٧٠

الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) (١) التقدير فأتوه بها ووضعها بين الصدفين (حَتَّى إِذا) ساوى بينهما قال : انفخوا فنفخه (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) بأمره وإذنه قال آتوني أفرغ ولهذا قال الفراء (حَتَّى إِذا) لا بد أن يتقدمها كلام لفظا أو تقديرا ، وقد ذكرنا في كتاب التكميل أحكام حتى مستوفاة ودخولها على الشرط ، ومذهب الفراء والكسائي في ذلك ومذهب غيرهما. وقال الزمخشري : هنا هي (حَتَّى) التي تقع بعدها الجمل والجملة قوله : (إِذا جاؤُكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) و (يُجادِلُونَكَ) في موضع الحال ؛ انتهى. وهذا موافق لما ذكرناه ، ثم قال : ويجوز أن تكون الجارة ويكون (إِذا جاؤُكَ) في محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم و (يُجادِلُونَكَ) حال وقوله : (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) تفسير والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات ، إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فيجعلون كلام الله وأصدق الحديث خرافات وأكاذيب وهي الغاية في التكذيب ؛ انتهى. وما جوّزه الزمخشري في (إِذا) بعد (حَتَّى) من كونها مجرورة أوجبه ابن مالك في التسهيل ، فزعم أن (إِذا) تجر ب (حَتَّى). قال في التسهيل : وقد تفارقها ، يعني (إِذا) الظرفية مفعولا بها ومجرورة ب (حَتَّى) أو مبتدأ وما ذهب إليه الزمخشري في تجويزه أن تكون (إِذا) مجرورة ب (حَتَّى) ، وابن مالك في إيجاب ذلك ولم يذكر قولا غيره خطأ وقد بينا ذلك في كتاب التذييل في شرح التسهيل ، وقد وفق الحوفي وأبو البقاء وغيرهما من المعربين للصواب في ذلك فقال هنا أبو البقاء (حَتَّى إِذا) في موضع نصب لجوابها وهو (يَقُولُ) وليس لحتى هاهنا عمل وإنما أفادت معنى الغاية ، كما لا تعمل في الجمل و (يُجادِلُونَكَ) حال من ضمير الفاعل في (جاؤُكَ) وهو العامل في الحال ، يقول جواب (إِذا) وهو العامل في إذا ؛ انتهى.

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) روي عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب ، كان ينهى المشركين أن يؤذوا الرسول وأتباعه وكانوا يدعونه إلى الإسلام فاجتمعت قريش بأبي طالب يريدون سوءا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقال أبو طالب :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسد في التراب دفينا

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٩٦.

٤٧١

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر وقر بذاك منك ع

يونا ودعوتني وزعمت أنك ناصح

ولقد صدقت وكنت ثم أ

مينا وعرضت دينا لا محالة أنه

من خير أديان البرية

دينا لولا الملامة أو حذار مسبة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

وقال محمد بن الحنفية والسدي والضحاك : نزلت في كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتباع الرسول ويتباعدون بأنفسهم عنه ، وهو قول ابن عباس في رواية الوالبي ، والظاهر أن الضمير في قوله : (وَهُمْ) يعود على الكفار وهو قول الجمهور ، واختاره الطبري وفي قوله : (عَنْهُ) يعود إلى القرآن وهو الذي عاد عليه الضمير المنصوب في (يَفْقَهُوهُ) وهو المشار إليه بقولهم (إِنْ هذا) وهو قول قتادة ومجاهد ، والمعنى أنهم (يَنْهَوْنَ) غيرهم عن اتباع القرآن وتدبره و (يَنْأَوْنَ) بأنفسهم عن ذلك. وقيل : الضمير في (عَنْهُ) عائد على الرسول إذ تقدم ذكره في قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) و (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) فيكون ذلك التفاتا وهو خروج من خطاب إلى غيبة ، والضمير في (وَهُمْ) عائد على الكفار المتقدم ذكرهم ، والمعنى أنهم جمعوا بين تباعدهم عن الرسول بأنفسهم ونهى غيرهم عن اتباعه فضلوا وأضلوا ، وتقدم أن هذا القول هو أحد ما ذكر في سبب النزول. وقيل : الضمير في (وَهُمْ) عائد على أبي طالب ومن وافقه على حماية الرسول والضمير في (عَنْهُ) عائد على الرسول ، والمعنى (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) من يريد إذايته ويبعدون عنه بترك إيمانهم به واتباعهم له فيفعلون الشيء وخلافه ، وهو قول ابن عباس وأيضا والقاسم بن محمد وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار ومقاتل وهذا القول أحد ما ذكر في سبب النزول ونسبة هذا إلى أبي طالب وتابعيه بلفظ (وَهُمْ) الظاهر عوده على جماعة الكفار وجماعتهم لم ينهوا عن إذاية الرسول هي نسبة لكل الكفار بما صدر عن بعضهم ، فخرجت العبارة عن فريق منهم بما يعم جميعهم لأن التوبيخ على هذه الصورة أشنع وأغلظ حيث ينهون عن إذايته ويتباعدون عن اتباعه وهذا كما تقول في التشنيع على جماعة منهم سراق ومنهم زناة ومنهم شربة خمر ، هؤلاء سراق وزناة وشربة خمر وحقيقته أن بعضهم يفعل ذا وبعضهم ذا وكان المعنى ومنهم من يستمع ومنهم من ينهى عن إذايته ويبعد عن هدايته وفي قوله : (يَنْهَوْنَ) و (يَنْأَوْنَ) تجنيس التصريف وهو أن تنفرد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهون انفردت بالهاء (وَيَنْأَوْنَ) انفردت بالهمزة ومنه (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ) (١) ويفرحون

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١٠٤.

٤٧٢

ويمرحون والخيل معقود في نواصيها الخير ، وفي كتاب التحبير سماه تجنيس التحريف وهو أن يكون الحرف فرقا بين الكلمتين. وأنشد عليه :

إن لم أشن على ابن هند غارة

لنهاب مال أو ذهاب نفوس

وذكر غيره أن تجنيس التحريف ، هو أن يكون الشكل فرقا بين الكلمتين كقول بعض العرب : وقد مات له ولد اللهم أني مسلم ومسلم. وقال بعض العرب : اللهى تفتح اللهى. وقرأ الحسن وينون بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على النون وهو تسهيل قياسي.

(وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) قبل هذا محذوف تقديره (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) أي عن الرسول أو القرآن قاصدين تخلّي الناس عن الرسول فيهلكونه وهم في الحقيقة يهلكون أنفسهم ، وليس المراد بالهلاك الموت بل الخلود في النار (وَإِنْ) نافية بمعنى ما ونفي الشعور عنهم بإهلاكهم أنفسهم مذمة عظيمة لأنه أبلغ في نفي العلم إذ البهائم تشعر وتحس فوبال ما راموا حل بأنفسهم ولم يتعد إلى غيرهم.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) لما ذكر تعالى حديث البعث في قوله (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) واستطرد من ذلك إلى شيء من أوصافهم الذميمة في الدنيا ، عاد إلى الأول وجواب (لَوْ) محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره لرأيت أمرا شنيعا وهولا عظيما وحذف جواب (لَوْ) لدلالة الكلام عليه جائز فصيح ومنه (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) (١) الآية. وقول الشاعر :

وجدّك لو شيء أتانا رسوله

سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

أي لو شيء أتانا رسوله سواك لدفعناه و (تَرى) مضارع معناه الماضي أي : ولو رأيت فإذ باقية على كونها ظرفا ماضيا معمولا لترى وأبرز هذا في صورة المضي وإن كان لم يقع بعد إجراء للمحقق المنتظر مجرى الواقع الماضي ، والظاهر أن الرؤية هنا بصرية وجوزوا أن تكون من رؤية القلب والمعنى ولو صرفت فكرك الصحيح إلى تدبر حالهم لازددت يقينا أنهم يكونون يوم القيامة على أسوإ حال ، فيجتمع للمخاطب في هذه الحالة الخبر الصدق الصريح والنظر الصحيح وهما مدركان من مدارك العلم اليقين والمخاطب ب (تَرى) الرسول أو السامع ، ومعمول (تَرى) محذوف تقديره (وَلَوْ تَرى) حالهم (إِذْ) وقفوا.

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ٣١.

٤٧٣

وقيل : (تَرى) باقية على الاستقبال و (إِذْ) معناه إذا فهو ظرف مستقبل فتكون (لَوْ) هنا استعملت استعمال أن الشرطية ، وألجأ من ذهب إلى هذا أن هذا الأمر لم يقع بعد. وقرأ الجمهور وقفوا مبنيا للمفعول ومعناه عند الجمهور حبسوا على النار. وقال ابن السائب : معناه أجلسوا عليها و (عَلَى) بمعنى في أو تكون على بابها ومعنى جلوسهم ، أن جهنم طبقات فإذا كانوا في طبقة كانت النار تحتهم في الطبقة الأخرى. وقال مقاتل : عرضوا عليها ومن عرض على شيء فقد وقف عليه. وقيل : عاينوها ومن عاين شيئا وقف عليه. وقيل : عرفوا مقدار عذابها كقولهم : وقفت على ما عند فلان أي فهمته وتبينته واختاره الزجاج. وقيل : جعلوا وقفا عليها كالوقوف المؤبدة على سبلها ذكره الماوردي. وقيل : وقفوا بقربها وفي الحديث : «أن الناس يوقفون على متن جهنم». وقال الطبري : أدخلوها ووقف في هذه القراءة متعدية. وقرأ ابن السميقع وزيد بن علي (وُقِفُوا) مبنيا للفاعل من وقف اللازمة ومصدر هذه الوقوف ومصدر تلك الوقف ، وقد سمع في المتعدية أوقف وهي لغة قليلة ولم يحفظها أبو عمرو بن العلاء قال : لم أسمع في شيء من كلام العرب أوقفت فلانا إلا أني لو لقيت رجلا واقفا فقلت له : ما أوقفك هاهنا لكان عندي حسنا ؛ انتهى. وإنما ذهب أبو عمرو إلى حسن هذا لأنه مقيس في كل فعل لازم أن يعدى بالهمزة ، نحو ضحك زيد وأضحكته.

(فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قرأ ابن عامر وحمزة وحفص (وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ) بالنصب فيهما وهذا النصب عند جمهور البصريين هو بإضمار أن بعد الواو فهو ينسبك من أن المضمرة ، والفعل بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم مقدر من الجملة السابقة والتقدير (يا لَيْتَنا) يكون لنا رد وانتفاء تكذيب وكون (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وكثيرا ما يوجد في كتب النحو أن هذه الواو المنصوب بعدها هو على جواب التمني كما قال الزمخشري ولا نكذب ونكون بالنصب بإضمار أن على جواب التمني ومعناه إن رددنا لم نكذب ونكن (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) انتهى ، وليس كما ذكر فإن نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب ، لأن الواو لا تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها ولا مما بعدها شرط وجواب وإنما هي واو الجمع يعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي واو العطف يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة وهي المعية ، ويميزها من الفاء ، تقدير شرط قبلها أو حال مكانها وشبهة من قال : إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب. وقال سيبويه : والواو تنصب ما بعدها في

٤٧٤

غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء والواو ومعناها ومعنى الفاء مختلفان ألا ترى. لا تنه عن خلق وتأتي مثله. لو أدخلت الفاء هنا لأفسدت المعنى ، وإنما أراد لا يجتمع النهي والإتيان وتقول : لا تأكل السمك وتشرب اللبن لو أدخلت الفاء فسد المعنى انتهى كلام سيبويه ملخصا. وبلفظه ويوضح لك أنها ليست بجواب انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما فيه من معنى الشرط ، إلا إذا نصبت بعد النفي وسقطت الفاء فلا ينجزم وإذا تقرر هذا فالأفعال الثلاثة من حيث المعنى متمناة على سبيل الجمع بينها لا أن كل واحد متمني وحده إذ التقدير كما قلنا يا ليتنا يكون لنا رد مع انتفاء التكذيب وكون من المؤمنين. قال ابن عطية : وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر (وَلا نُكَذِّبَ) بالرفع (وَنَكُونَ) بالنصب ويتوجه ذلك على ما تقدم ؛ انتهى. وكان قد قدم أن رفع ولا نكذب ونكون في قراءة باقي السبعة على وجهين أحدهما : العطف على (نُرَدُّ) فيكونان داخلين في التمني. والثاني الاستئناف والقطع ، فهذان الوجهان يسوغان في رفع (وَلا نُكَذِّبَ) على هذه القراءة وفي مصحف عبد الله فلا نكذب بالفاء وفي قراءة أبي فلا نكذب بآيات ربنا أبدا ونكون. وحكى أبو عمرو أن في قراءة أبي ونحن (نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وجوزوا في رفع (وَلا نُكَذِّبَ) و (نَكُونَ) أن يكون في موضع نصب على الحال فتلخص في الرّفع ثلاثة أوجه.

أحدها : أن يكون معطوفا على (نُرَدُّ) فيكون انتفاء التكذيب والكون من المؤمنين داخلين في التمني أي وليتنا لا نكذب ، وليتنا نكون من المؤمنين ، ويكون هذا الرفع مساويا في هذا الوجه للنصب لأن في كليهما العطف وإن اختلفت جهتاه ، ففي النصب على مصدر من الرد متوهم وفي الرّفع على نفس الفعل. (فإن قلت) : التمني إنشاء والإنشاء لا يدخله الصدق والكذب فكيف جاء قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) وظاهره أن الله أكذبهم في تمنيهم فالجواب من وجهين : أحدهما أن يكون قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) إخبارا من الله أن سجية هؤلاء الكفار هي الكذب ، فيكون ذلك حكاية وإخبارا عن حالهم في الدّنيا لا تعلق به بمتعلق التمني. والوجه الثاني : أن هذا التمني قد تضمن معنى الخبر والعدة فإذا كانت سجية الإنسان شيئا ثم تمنى ما يخالف السجية وما هو بعيد أن يقع منها ، صح أن يكذب على تجوز نحو ليت الله يرزقني مالا فأحسن إليك وأكافئك على صنيعك ، فهذا متمن في معنى الواعد والمخبر فإذا رزقه الله مالا ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب وكان تمنيه في حكم من قال : إن رزقني الله مالا كافأتك على إحسانك ، ونحو قول رجل شرير بعيد من أفعال الطاعات : ليتني أحج

٤٧٥

وأجاهد وأقوم الليل ، فيجوز أن يقال لهذا على تجوز كذبت أي أنت لا تصلح لفعل الخير ولا يصلح لك.

والثاني من وجوه الرّفع أن يكون رفع و (لا نُكَذِّبَ) و (نَكُونَ) على الاستئناف فأخبروا عن أنفسهم بهذا فيكون مندرجا تحت القول أي قالوا : يا ليتنا نرد وقالوا : نحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين فأخبروا أنهم يصدر عنهم ذلك على كل حال. فيصح على هذا تكذيبهم في هذا الإخبار ورجح سيبويه هذا الوجه وشبهه بقوله : دعني ولا أعود ، بمعنى وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني.

والثالث من وجوه الرّفع : أن يكون و (لا نُكَذِّبَ) و (نَكُونَ) في موضع نصب على الحال ، التقدير يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين ، فيكون داخلا قيدا في الرد المتمني وصاحب الحال هو الضمير المستكن في نرد ويجاب عن قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) بالوجهين اللذين ذكرا في إعراب (وَلا نُكَذِّبَ) و (نَكُونَ) إذا كانا معطوفين على نرد. وحكي أن بعض القراء قرأ (وَلا نُكَذِّبَ) بالنصب (وَنَكُونَ) بالرفع فالنصب عطف على مصدر متوهم والرفع في (وَنَكُونَ) عطف على (نُرَدُّ) أو على الاستئناف أي ونحن نكون وتضعف فيه الحال لأنه مضارع مثبت فلا يكون حالا بالواو إلا على تأويل مبتدأ محذوف نحو نجوت ، وأرهنهم مالكا وأنا أرهنهم مالكا والظاهر أنهم تمنوا الرّد من الآخرة إلى الدنيا. وحكى الطبري تأويلا في الرّد وهو أنهم تمنوا أن يردوا من عذاب النار إلى الوقوف على النار التي وقفوا عليها فالمعنى : يا ليتنا نوقف هذا الوقوف غير مكذبين بآيات ربنا كائنين من المؤمنين ، قال : ويضعف هذا التأويل من غير وجه ويبطله ، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولا يصح أيضا التكذيب في هذا التمني لأنه تمني ما قد مضى ، وإنما يصح التكذيب الذي ذكرناه قبل هذا على تجوز في تمني المستقبلات ؛ انتهى. وأورد بعضهم هنا سؤالا فقال : فإن قيل كيف يتمنون الرّد مع علمهم بتعذر حصوله ، وأجاب بقوله : قلنا لعلهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل ، والثاني : أن العلم بعدم الرد لا يمنع من الإرادة كقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) (١) و (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) (٢). انتهى. ولا يرد هذا السؤال لأن التمني هنا على الممتنع وهو أحد قسمي ما يكون التمني له في لسان العرب ، والأصح أن (يا) في قوله (يا لَيْتَ) حرف تنبيه لا حرف نداء والمنادى محذوف لأنّ في هذا حذف جملة النداء وحذف متعلقه رأسا وذلك إجحاف كثير.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٣٧.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٥٠.

٤٧٦

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ بَلْ) هنا للإضراب والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال لما سبق ، وهكذا يجيء في كتاب الله تعالى إذا كان ما بعدها من إخبار الله تعالى لا على سبيل الحكاية عن قوم ، تكون (بَلْ) فيه للإضراب كقوله (بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) (١) ومعنى (بَدا) ظهر. وقال الزجاج : (بَلْ) هنا استدراك وإيجاب نفي كقولهم : ما قام زيد بل قام عمرو ؛ انتهى. ولا أدري ما النفي الذي سبق حتى توجبه (بَلْ). وقال غيره : (بَلْ) رد لما تمنوه أي ليس الأمر على ما قالوه ؛ لأنهم لم يقولوا ذلك رغبة في الإيمان بل قالوه إشفاقا من العذاب وطمعا في الرحمة ؛ انتهى. ولا أدري ما هذا الكلام ، والظاهر أن الضمير في (لَهُمْ) عائد على من عاد عليه في وقفوا. قال أبو روق : وهم جميع الكافرين يجمعهم الله ويقول (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) الآية فيقولون (وَاللهِ رَبِّنا) الآية ، فتنطق جوارحهم وتشهد بأنهم كانوا يشركون في الدنيا وبما كتموا ، فذلك قوله (بَلْ بَدا لَهُمْ) فعلى هذا يكون من قبل راجعا إلى الآخرة أي من قبل بدوه في الآخرة. وقال قتادة : يظهر (ما كانُوا يُخْفُونَ) من شركهم. وقال ابن عباس : هم اليهود والنصارى ، وذلك أنهم لو سئلوا في الدّنيا هل تعاقبون على ما أنتم عليه؟ قالوا : لاثم ظهر لهم عقوبة شركهم في الآخرة فذلك قوله (بَلْ بَدا لَهُمْ). وقيل : كفار مكة ظهر لهم ما أخفوه من أمر البعث بقولهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) بعد الموت (٢) وقيل : المنافقون كانوا يخفون الكفر فظهر لهم وباله يوم القيامة. وقيل : الكفار الذين كانوا إذا وعظهم الرسول خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر بهم أتباعهم فيظهر ذلك لهم يوم القيامة. وقيل : اليهود والنصارى وسائر الكفار ويكون الذي يخفونه نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحواله والمعنى بدا لهم صدقك في النبوّة وتحذيرك من عقاب الله ، وهذه الأقوال على أن الضمير في (لَهُمْ) و (يُخْفُونَ) عائد على جنس واحد. وقيل : الضمير مختلف أي بدا للاتباع ما كان الرؤساء يخفونه عنهم من الفساد ، وروي عن الحسن نحو هذا. وقيل : بدا لمشركي العرب ما كان أهل الكتاب يخفونه عنهم من البعث ، وأمر النار لأنه سبق ذكر أهل الكتاب في قوله (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) (٣) يعرفونه. وقيل : (بَلْ بَدا لَهُمْ) أي لبعضهم ما كان يخفيه عنه بعضهم ، فأطلق كلّا على بعض مجازا. وقال الزهراوي : ويصح أن يكون مقصود الآية الإخبار عن هول يوم القيامة فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٥.

(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٣٧.

(٣) سورة القصص : ٢٨ / ٥٢.

٤٧٧

الدنيا من معاص وغيرها ، فكيف الظنّ على هذا بما كانوا يعلنون به من كفر ونحوه ، وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تعظيم شأن يوم القيامة (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (١). وقال الزمخشري : (ما كانُوا يُخْفُونَ) من الناس من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وشهادة جوارحهم عليهم ، فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجرا لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا ؛ انتهى.

(وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) أي (وَلَوْ رُدُّوا) إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار وتمنيهم الرد ، (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الكفر. قال الزمخشري : والمعاصي ؛ انتهى. فأدرج الفساق الذين لم يتوبوا في الموقوفين على النار المتمنين الردّ على مذهبه الاعتزالي وهذه الجملة إخبار عن أمر لا يكون كيف كان يؤخذ وهذا النوع مما استأثر الله بعلمه ، فإن أعلم بشيء منه علم وإلا لم يتكلم فيه. قال ابن القشيري : (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الشرك لعلم الله فيهم وإرادته أن لا يؤمنوا في الدنيا ، وقد عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند. وقال الواحدي : هذه الآية من الأدلة الظاهرة على المعتزلة على فساد قولهم ، وذلك أنه تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك ثم بين أنهم لو شاهدوا النار والعذاب ثم سألوا الرجعة وردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك وذلك للقضاء السابق فيهم ، وإلا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد ؛ انتهى. وأورد هنا سؤال وأظنه للمعتزلة وهو كيف يمكن أن يقال ولو ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر بالله وإلى معصيته وقد عرفوا الله بالضرورة وشاهدوا أنواع العقاب؟ وأجاب القاضي : بأن التقدير ولو ردّوا إلى حالة التكليف وإنما يحصل الردّ إلى هذه الحالة لو لم يحصل في القيامة معرفة الله بالضرورة ومشاهدة الأهوال وعذاب جهنم فهذا الشرط يكون مضمرا في الآية لا محالة ، وضعف جواب القاضي بأن المقصود من الآية غلوهم في الإصرار على الكفر وعدم الرغبة في الإيمان ، ولو قدرنا عدم معرفة الله في القيامة وعدم مشاهدة الأهوال يوم القيامة لم يكن في إصرار القوم على كفرهم مزيد تعجب ، لأن إصرارهم على الكفر يجري مجرى إصرار سائر الكفار على الكفر في الدنيا ، فعلمنا أن الشرط الذي ذكره القاضي لا يمكن اعتباره البتة ؛ انتهى. وإنما المعنى (وَلَوْ رُدُّوا) وقد عرفوا الله بالضرورة وعاينوا العذاب وهم مستحضرون ، ذلك ذاكرون له (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الكفر. وقرأ ابراهيم ويحيى بن وثاب والأعمش (وَلَوْ رُدُّوا) بكسر الراء على نقل حركة الدال من ردد إلى الراء.

__________________

(١) سورة الطارق : ٨٦ / ٩.

٤٧٨

(وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) تقدم الكلام على هذه الجملة وهل التكذيب راجع إلى ما تضمنته جملة التمني من الوعد بالإيمان أو ذلك إخبار من الله تعالى عن عادتهم ودينهم وما هم عليه من الكذب في مخاطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون ذلك منقطعا عما قبله من الكلام.

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) قال الزمخشري : (وَقالُوا) عطف على (لَعادُوا) أي لو ردوا لكفروا ولقالوا (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة ، ويجوز أن يعطف على قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) على معنى وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء ، وهم الذين (قالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) وكفى به دليلا على كذبهم ؛ انتهى. والقول الأول الذي قدّمه من كونه داخلا في جواب لو هو قول ابن زيد. وقال ابن عطية : وتوقيف الله لهم في الآية بعدها على البعث والإشارة إليه في قوله (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) رد على هذا التأويل ؛ انتهى. ولا يرده ما ذكره ابن عطية لاختلاف الموطنين لأن إقرارهم بحقية البعث هو في الآخرة ، وإنكارهم ذلك هو في الدنيا على تقدير عودهم وهو إنكار عناد فإقرارهم به في الآخرة لا ينافي إنكارهم له في الدنيا على تقدير العود ، ألا ترى إلى قوله (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (١) وقول أبي جهل. وقد علم أن ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق ما معناه أنه لا يؤمن به أبدا هذا وذلك في موطن واحد وهي الدنيا ، والقول الثاني الذي ذكره الزمخشري هو قول الجمهور وهو أن يكون قوله (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) كلاما منقطعا عما قبله ، وقالوا : إخبار عن ما صدر منهم في حالة الدنيا. قال مقاتل : لما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفار مكة بالبعث قالوا هذا ومعنى الآية إنكار الحشر والمعاد وبين في هذه الآية أن الذي كانوا يخفونه هو الحشر ، والمعاد على بعض أقوال المفسرين المتقدمة وإن هنا نافية ولم يكتفوا بالإخبار عن المحصور فيقولوا هي حياتنا الدنيا حتى أتوا بالنفي والحصر ، أي لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا فقط وهي ضمير الحياة وفسره الخبر بعده والتقدير وما الحياة إلا حياتنا الدنيا ، هكذا قال بعض أصحابنا انه يتقدم الضمير ولا ينوي به التأخير إذا جعل الظاهر خبرا للمبتدأ المضمر وعده مع الضمير المجرور برب نحو ربه رجلا أكرمت والمرفوع بنعم على مذهب البصريين نحو نعم رجلا زيد أو بأول المتنازعين على مذهب سيبويه نحو ضرباني وضربت الزيدين ، أو أبدل منه المفسر على مذهب الأخفش نحو مررت به زيد قال : أو جعل خبره ومثله بقوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) التقدير إن

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ١٤.

٤٧٩

الحياة إلا حياتنا الدنيا ، فإظهار الخبر يدل عليها ويبينها ولم يذكر غيره من أصحابنا هذا القسم أو كان ضمير الشأن عند البصريين وضمير المجهول عند الكوفيين نحو هذا زيد قائم خلافا لابن الطراوة في إنكار هذا القسم وتوضيح هذه المضمرات مذكور في كتب النحو والدنيا صفة لقوله : (حَياتُنَا) ولم يؤت بها على أنه صفة تزيل اشتراكا عارضا في معرفة لأنهم لا يقرون بأن ثم حياة غير دنيا ، بل ذلك وصف على سبيل التوكيد إذ لا حياة عندهم إلا هذه الحياة.

(وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) لما دل الكلام على نفي البعث بما تضمنه من الحصر صرحوا بالنفي المحض الدال على عدم البعث بالمنطوق ، وأكدوا ذلك بالباء الداخلة في الخبر على سبيل المبالغة في الإنكار وهذا يدل على أن هذه الآية في مشركي العرب ومن وافقهم في إنكار البعث.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا) جواب (لَوْ) محذوف كما حذف في قوله (وَلَوْ تَرى) أولا وذلك مجاز عن الحبس والتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه وقد تعلق بعض المشبهة بهذه الآية ، وقال : ظاهرها يدل على أن الله في حيز ومكان لأن أهل القيامة يقفون عنده وبالقرب منه ، وذلك يدل على كونه بحيث يحضر في مكان تارة ويغيب عنه أخرى. قال أبو عبد الله الرازي : وهذا خطأ لأن ظاهر الآية يدل على كونهم واقفين على الله كما يقف أحدنا على الأرض ، وذلك يدل على كونه مستعليا على ذات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وأنه باطل بالاتفاق فوجب المصير إلى التأويل ، فيكون المراد وقفوا على ما وعدهم ربهم من عذاب الكافرين وثواب المؤمنين وعلى ما أخبر به من أمر الآخرة ، أو يكون المراد وقوف المعرفة ؛ انتهى. وهذان التأويلان ذكرهما الزمخشري. وقال ابن عطية : على حكمه وأمره ؛ انتهى. وقيل : على مسألة ربهم إياهم عن أعمالهم. وقيل : المسألة ملائكة ربهم. وقيل : على حساب ربهم قال : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) الظاهر أن الفاعل بقال هو الله فيكون السؤال منه تعالى لهم. وقيل : السؤال من الملائكة ، فكأنه عائد على من وقفهم على الله من الملائكة أي قال : ومن وقفهم من الملائكة. وقال الزمخشري قال : مردود على قول قائل قال ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فقيل : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) وهذا تعبير من الله لهم على التكذيب وقولهم لما كانوا يسمعون من حديث البعث والجزاء ما هو بحق وما هو إلا باطل ؛ انتهى. ويحتمل عندي أن تكون الجملة حالية التقدير (إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) قائلا لهم (أَلَيْسَ هذا

٤٨٠