البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

الرِّجْسَ) يلقى الله أو يصير الله العذاب والرجس بمعنى العذاب قاله أهل اللغة. وتعدية (يَجْعَلْ) بعلى يحتمل أن يكون معناه نلقي كما تقول : جعلت متاعك بعضه على بعض وأن تكون بمعنى يصير و (عَلَى) في موضع المفعول الثاني. وقال الزمخشري : (يَجْعَلُ اللهُ) يعني الخذلان ومنع التوفيق وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب أو أراد الفعل المؤدّي إلى الرجس وهو العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب ؛ انتهى. وهو على طريقة الاعتزالي ونقيض الطيب النتن الرائحة الكريهة ، و (الرِّجْسَ) والنجس بمعنى واحد قاله بعض أهل الكوفة. وقال مجاهد : (الرِّجْسَ) كل ما لا خير فيه. وقال عطاء وابن زيد وأبو عبيدة : (الرِّجْسَ) العذاب في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج : اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وقيل : (الرِّجْسَ) السخط. وقال إسماعيل الضرير : (الرِّجْسَ) التعذيب وأصله النتن النجس وهو رجاسة الكفر.

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) الإشارة بقوله : (وَهذا) إلى القرآن والشرع الذي جاء به الرسول قاله ابن عباس ، أو القرآن قاله ابن مسعود ، أو التوحيد قاله بعضهم ، أو ما قرره في الآيات المتقدّمة في هذه الآية وفي غيرها من سبل الهدى وسبل الضلالة. وقال الزمخشري : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ) طريقه الذي اقتضته الحكمة وعادته في التوفيق والخذلان ونحو منه قول إسماعيل الضرير يعني هذا صنع ربك و (هذا) إشارة إلى الهدى والضلال ، وأضيف الصراط إلى الرب على جهة أنه من عنده وبأمره (مُسْتَقِيماً) لا عوج فيه وانتصب (مُسْتَقِيماً) على أنه حال مؤكدة.

(قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي بيناها ولم نترك فيها إجمالا ولا التباسا.

(لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) يتدبرون بعقولهم وكأن الآيات كانت شيئا غائبا عنهم لم يذكروها فلما فصلت تذكروها.

لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ

٦٤١

آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)

٦٤٢

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لهم الجنة و (السَّلامِ) اسم من أسماء الله تعالى كما قيل في الكعبة بيت الله قاله ابن عباس وقتادة وأضيفت إليه تشريفا أو دار السلامة من كل آفة والسّلام والسلامة بمعنى كاللذاد واللذاذة والضلال والضلالة قاله الزجاج ، أو (دارُ السَّلامِ) بمعنى التحية لأن تحية أهلها فيها سلام قاله أبو سليمان الدمشقي ، ومعنى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في نزله وضيافته كما تقول : نحن اليوم عند فلان أي في كرامته وضيافته قاله قوم ، أو في الآخرة بعد الحشر قاله ابن عطية ، أو في ضمانه كما تقول لفلان : عليّ حق لا ينسى أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها لقوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١) قاله قوم منهم الزمخشري أو على حذف مضاف ، أو عند لقاء ربهم قاله قوم أو في جواره كما جاء في جوار الرحمن في جنة عدن على الظرفية المجازية الدالة على شرف الرتبة والمنزلة ، كما قاله في صفة الملائكة (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) (٢) ، وكما قال (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٣) وكما قال (ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) (٤) وهو وليهم أي مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم أو متوليهم بالجزاء على أعمالهم.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) جميعا (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) الظاهر العموم في الثقلين لتقدم ذكر الشياطين وهم الجنّ والكفرة أولياؤهم والمؤمنون الذين (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) قال معناه الزمخشري وابن عطية ، قال ابن عطية : ويدل عليه التأكيد العام بقوله : (جَمِيعاً). وقال التبريزي : وهذا النداء يدل على أن الضمير في يحشرهم دخل فيه الجنّ حين حشرهم ثم ناداهم ، أما الثقلان فحسب أو هما وغيرهما من الخلائق ؛ انتهى. ومن جعل ويوم معطوفا على (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ويوم نحشرهم فالعامل في الظرف وليهم وكان الضمير خاصا بالمؤمنين وهو بعيد ، والأولى أن يكون الظرف معمولا لفعل القول المحكي به النداء أي ويوم نحشرهم نقول يا معشر الجن وهو أولى مما أجاز بعضهم من نصبه باذكر مفعولا به لخروجه عن الظرفية ومما أجاز الزمخشري من نصبه بفعل مضمر غير فعل القول واذكر تقديره عنده (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) وقلنا (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) كان ما لا يوصف لفظاعته لاستلزامه حذف جملتين من الكلام جملة وقلنا وجملة العامل ، وقدر الزجاج فعل القول المحذوف مبنيا للمفعول التقدير فيقال لهم لأنه يبعد أن يكلمهم الله شفاها بدليل قوله

__________________

(١) سورة السجدة : ٣٢ / ١٧.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٩.

(٣) سورة القمر : ٥٤ / ٥٥.

(٤) سورة التحريم : ٦٦ / ١١.

٦٤٣

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) (١) ونداؤهم نداء شهرة وتوبيخ على رؤوس الأشهاد والمعشر الجماعة ويجمع على معاشر كما جاء نحن معاشر الأنبياء لا نورث. وقال الأفوه :

فينا معاشر لن يبنوا لقومهم

وإن بنى قومهم ما أفسدوا وعادوا

ومعنى الاستكثار هنا إضلالهم منهم كثيرا وجعلهم أتباعهم كما تقول : استكثر فلان من الجنود واستكثر فلان من الأشياع. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : أفرطتم في إضلالهم وإغوائهم. وقرأ حفص يحشرهم بالياء وباقي السبعة بالنون.

(وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) وقال : أولياء الجن أي الكفار من الإنس (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ) انتفع (بَعْضُنا بِبَعْضٍ) فانتفاع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى التوصلات إليها ، وانتفاع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم في إغوائهم روي هذا المعنى عن ابن عباس وبه قال محمد بن كعب والزجاج. وقال ابن عباس أيضا ومقاتل : استمتاع الإنس بالجن قول بعضهم : أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله إذا بات بالوادي في سفره ، واستمتاع الجن بالإنس افتخارهم على قومهم وقولهم : قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا. قال الكرماني : كانوا يعتقدون أن الأرض مملوءة جنا وأن من لم يدخله جني في جواره خبله الآخرون ، وكذلك كانوا إذا قتلوا صيد استعاذوا بهم لأنهم يعتقدون أن هذه البهائم للجن منها مراكبهم. وقيل : في كون عظامهم طعاما للجن وأرواث دوابهم علفا واستمتاع الإنس بالجن استعانتهم بهم على مقاصدهم حين يستخدمونهم بالعزائم ، أو يلقون إليهم بالمودة ؛ انتهى. ووجوه الاستمتاع كثيرة تدخل هذه الأقوال كلها تحتها فينبغي أن يعتقد في هذه الأقوال أنها تمثيل في الاستمتاع لا حصر في واحد منها ، وظاهر قوله : (اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي بعض الإنس بالجن وبعض الجن بالإنس. وقيل : المعنى استمتع بعض الإنس ببعضه وبعض الجن ببعضه ، جعل الاستمتاع لبعض الصنف لبعض والقول السابق بعض الصنفين ببعض الصنفين والأجل الذي بلغوه الموت قاله الجمهور وابن عباس والسدي وغيرهما. وقيل : البعث والحشر ولم يذكر الزمخشري غيره. وقيل : هو الغاية التي انتهى إليها جميعهم من الاستمتاع وهذا القول منهم اعتذار عن الجن في كونهم استكثروا منهم وإشارة إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل واعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام وتحسر على حالهم. وقرئ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٤.

٦٤٤

آجالنا على الجمع الذي على التذكير والإفراد. قال أبو علي : هو جنس أوقع الذي موقع التي ؛ انتهى. وإعرابه عندي بدل كأنه قيل : الوقت الذي وحينئذ يكون جنسا ولا يكون إعرابه نعتا لعدم المطابقة وفي قوله : (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) دليل على المعتزلة في قولهم : بالأجلين لأنهم أقروا بذلك وفيهم المعقول وغيره.

(قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي مكان نوائكم أي إقامتكم قال الزجاج وقال أبو علي : هو عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي (خالِدِينَ) والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون عاملا والتقدير النار ذات ثوائكم ؛ انتهى. ويصح قول الزجاج على إضمار يدل عليه (مَثْواكُمْ) أي يثوون (خالِدِينَ فِيها) والظاهر أن هذا الاستثناء من الجملة التي يليها الاستثناء. وقال أبو مسلم : هو من قوله : (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) أي إلا من أهلكته واخترمته. قيل : الأجل الذي سميته لكفره وضلاله وهذا ليس بجيد ، لأنه لو كان على ما زعم لكان التركيب إلا ما شئت ، ولأن القول بالأجلين أجل الاخترام والأجل الذي سماه الله باطل والفصل بين المستثنى منه والمستثنى بقوله : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها) وفي ذلك تنافر التركيب ، والظاهر أن هذا الاستثناء مراد حقيقة وليس بمجاز. وقال الزمخشري : أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يخرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عنه خناقه أهلكني الله إن نفّست عنك إلا إذا شئت ، وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد الوعيد مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع ؛ انتهى.

وإذا كان استثناء حقيقة فاختلفوا في الذي استثني ما هو؟ فقال قوم : هو استثناء أشخاص من المخاطبين وهم من آمن في الدنيا بعذاب كان من هؤلاء الكفرة ، ولما كان هؤلاء صنفا ساغ في العبارة عنهم ما فصار كقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) (١) حيث وقعت على نوع من يعقل وهذا القول بعد لأن هذا خطاب للكفار يوم القيامة فكيف يصح الاستثناء فيمن آمن منهم في الدنيا وشرط من أخرج بالاستثناء اتحاد زمانه وزمان المخرج منه. فإذا قلت : قام القوم إلا زيدا فمعناه إلا زيدا فإنه ما قام ، ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا فإنه ما يقوم في المستقبل وكذلك سأضرب القوم إلا زيدا معناه إلا زيدا فإني لا أضربه في المستقبل ، ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا فإني ضربته أمس إلا إن

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٣.

٦٤٥

كان الاستثناء منقطعا فإنه يسوغ ، كقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (١) أي لكن الموتة الأولى في الدنيا فإنهم ذاقوها. وقال قوم : المستثنى هم العصاة الذين يدخلون النار من أهل التوحيد أي إلا النوع الذي دخلها من العصاة فإنهم لا يخلدون في النار. وقال قوم : الاستثناء من الأزمان أي (خالِدِينَ فِيها) أبدا إلا الزمان الذي شاء الله أن لا يخلدون فيها ، واختلف هؤلاء في تعيين الزمان. فقال الطبري : هي المدّة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار وساغ هذا من حيث العبارة بقوله : (النَّارُ مَثْواكُمْ) لا يخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره. وقال الزمخشري : إلا ما شاء الله أي يخلدون في عذاب الأبد كله إلا ما شاء الله أي الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير ، فقد روي أنهم يدخلون واديا من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم. وقال الحسن : إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب وهذا راجع إلى الزمان أي إلا الزمان الذي كانوا فيه في الدنيا بغير عذاب ، ويرد على هذا القول ما يرد على من جعله استثناء من الأشخاص الذين آمنوا في الدنيا. وقال الفراء : إلا بمعنى سواء والمعنى سواء ما يشاء من زيادة في العذاب ويجيء إلى هذا الزجاج. وقال غيره : إلا ما شاء الله من النكال والزيادة على العذاب وهذا راجع إلى الاستثناء من المصدر الذي يدل عليه معنى الكلام ، إذ المعنى تعذبون بالنار (خالِدِينَ فِيها) إلا ما شاء من العذاب الزائد على النار فإنه يعذبكم به ويكون إذ ذاك استثناء منقطعا إذ العذاب الزائد على عذاب النار لم يندرج تحت عذاب النار ، والظاهر أن هذا الاستثناء هو من تمام كلام الله للمخاطبين وعليه جاءت تفاسير الاستثناء. وقال ابن عطية : ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، وليس مما يقال يوم القيامة والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله كأنه لما أخبرهم أنه يقال للكفار (مَثْواكُمْ) استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يومئذ كافرا ويقع ما على صفة من يعقل ، ويؤيد هذا التأويل اتصال قوله : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي من يمكن أن يؤمن منهم ؛ انتهى ، وهو تأويل حسن.

وروي عن ابن عباس أنه قال : هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار. قيل : ومعنى ذلك أنها توجب الوقف فيمن لم يمت إذ قد يسلم وروي عنه أيضا أنه قال : جعل أمرهم في مبلغ عذابهم ومدّته إلى مشيئته حتى لا يحكم الله في خلقه ، وعنه أيضا أنه قال في هذه الآية : أنه

__________________

(١) سورة الدخان : ٤٤ / ٥٦.

٦٤٦

لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارا. قال ابن عطية : الإجماع على التخليد الأبدي في الكفار ولا يصح هذا عن ابن عباس ؛ انتهى. وقد تعلق قوم بظاهر هذا الاستثناء فزعموا أن الله يخرج من النار كل بر وفاجر ومسلم وكافر وأن النار تخلو وتخرب ، وقد ذكر هذا عن بعض الصحابة ولا يصح ولا يعتبر خلاف هؤلاء ولا يلتفت إليه. (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) قال الزمخشري : لا يفعل شيئا إلا بموجب الحكمة عليهم بأن الكفار يستوجبون عذاب الأبد ؛ انتهى. وهذا على مذهبه الاعتزالي. وقال ابن عطية : صفتان مناسبتان بهذه الآية لأن تخليد هؤلاء الكفرة في النار صادر عن حكمة ، وقال التبريزي : (حَكِيمٌ) في تدبير المبدإ والمعاد (عَلِيمٌ) بما يؤول إليه أمر العباد. وقال إسماعيل الضرير : (حَكِيمٌ) حكم عليهم بالخلود (عَلِيمٌ) بهم وبعقوبتهم. وقال البغوي : (عَلِيمٌ) بالذي استثناه وبما في قلوبهم من البر والتقوى. وقال القرطبي : (حَكِيمٌ) في عقوبتهم (عَلِيمٌ) بمقدار مجازاتهم. (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) لما ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين بمعنى أنه يحفظهم وينصرهم على أن الكافرين بعضهم أولياء بعض في الظلم والخزي. قال قتادة : يجعل بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم ، يريد ما تقدّم من ذكر الجنّ والإنس واستمتاع بعضهم ببعض. وقال قتادة أيضا : يتبع بعضهم بعضا في دخول النار أي يجعل بعضهم يلي بعضا في الدخول. وقال ابن زيد : معناه نسلط (بَعْضَ الظَّالِمِينَ) على بعض ونجعلهم أولياء النقمة منهم ، وهذا تأويل بعيد وحين قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد الأشدق قال عبد الله بن الزبير : وصعد المنبر إن فم الذئاب قتل لطيم الشيطان وتلا (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) الآية. وقال ابن عباس : تفسيرها أن الله إذا أراد بقوم شرا ولى عليهم شرارهم أو خيرا ولى عليهم خيارهم ، وفي بعض الكتب المنزلة أفني أعدائي بأعدائي ثم أفنيهم بأوليائي. وقال إسماعيل الضرير : نترك المشركين إلى بعضهم في النصرة والمعونة والحاجة. وقال الزمخشري : نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضا كما فعل الشياطين وغواة الإنس ، أو يجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة وقرناءهم كما كانوا في الدنيا (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الكفر والمعاصي ؛ انتهى. وقوله : نخليهم هو على طريقه الاعتزالي.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) هذا النداء أيضا يوم القيامة والاستفهام للتوبيخ والتقريع ، حيث أعذر الله إليهم بإرسال الرسل فلم يقبلوا منهم ، والظاهر أن من الجنّ رسلا إليهم كما أن من الإنس

٦٤٧

رسلا لهم. فقيل : بعث الله رسولا واحدا من الجنّ إليهم اسمه يوسف. وقيل : رسل الجنّ هم رسل الإنس فهم رسل الله بواسطة إذ هم رسل رسله ، ويؤيده قوله : (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (١) قاله ابن عباس والضحاك. وروي أن قوما من الجنّ استمعوا إلى الأنبياء ثم عادوا إلى قومهم فأخبروهم كما جرى لهم مع الرسول ، فيقال لهم رسل الله وإن لم يكونوا رسله حقيقة وعلى هذين القولين يكون الضمير عائدا على (الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وقد تعلق قوم بهذا الظاهر فزعموا أن الله تعالى بعث إلى الجنّ رسلا منهم ولم يفرقوا بين مكلفين ومكلفين أن يبعث إليهم رسول من جنسهم لأنهم به آنس وآلف. وقال مجاهد والضحاك وابن جريج والجمهور : والرسل من الإنس دون الجن ولكن لما كان النداء لهما والتوبيخ معا جرى الخطاب عليهما على سبيل التجوز المعهود في كلام العرب تغليبا للإنس لشرفهم ، وتأوّله الفراء على حذف مضاف أي من أحدكم كقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢) أي من أحدهما وهو الملح وكقوله : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) (٣) أي في إحداهن وهي سماء الدنيا (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) (٤) أراد بالذكر التكبير وبالأيام المعلومات العشر أي في أحد أيام وهو يوم النحر. وقال الكلبي : كان الرسل يبعثون إلى الإنس وبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجن والإنس. وروي هذا أيضا عن ابن عباس ومعنى قصص الآيات الإخبار بما أوحى إليهم من التنبيه على مواضع الحج والتعريف بأدلة التوحيد والامتثال لأوامره والاجتناب بمناهيه ، والإنذار الإعلام بالمخوف و (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي يوم القيامة والإنذار بما يكون فيه من الأهوال والمخاوف وصيرورة الكفار المكذبين إلى العذاب الأبدي. وقرأ الأعرج ألم تأتكم على تأنيث لفظ الرسل بالتاء.

(قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) الظاهر أن هذه حكاية لتصديقهم وإلجائهم قوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) لأن الهمزة الداخلة على نفي إتيان الرسل للإنكار فكان تقريرا لهم والمعنى قالوا : شهدنا على أنفسنا بإتيان الرسل إلينا وإنذارهم إيانا هذا اليوم ، وهذه الجملة نابت مناب بلى هنا وقد صرح بها في قوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) قالوا : بلى أقروا بأن حجة الله لازمة لهم وأنهم محجوجون بها. وقال ابن عطية : وقوله : (شَهِدْنا) إقرار منهم بالكفر واعتراف أي (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) بالتقصير ؛

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٢٩.

(٢) سورة الرحمن : ٥٥ / ٢٢.

(٣) سورة نوح : ٧١ / ١٦.

(٤) سورة الحج : ٢٢ / ٢٨.

٦٤٨

انتهى. والظاهر في (شَهِدْنا) شهادة كل واحد على نفسه. وقيل : شهد بعضنا على بعض بإنذار الرسل.

(وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) هذا إخبار عنهم من الله تعالى وتنبيه على السبب الموجب لكفرهم وإفصاح لهم بأذم الوجوه الذي هو الخداع. وقيل : يحتمل أن يكون من غر الطائر فرخه أي أطعمهم وأشبعهم والتوسيع في الرزق والبسط سبب للبغي ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض.

(وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) ظاهره شهادة كل واحد على نفسه بالكفر. وقيل : شهد بعضهم على بعض. وقيل : شهدت جوارحهم عليهم بعد إنكارهم والختم على أفواههم وهو بعيد من سياق الآية ، وتنافى بين قوله : (شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) وبين الآيات التي تدل على الإنكار لاحتمال أن يكون ذلك من طوائف طائفة تشهد وطائفة تنكر ، أو من طائفة واحدة لاختلاف الأحوال ومواطن القيامة في ذلك المتطاول فيقرون في بعض ويجحدون في بعض. وقال التبريزي : (وَشَهِدُوا) أقروا على أنفسهم اضطرارا لا اختيارا ولو أرادوا أن يقولوا غيره ما طاوعتهم أنفسهم. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ (قلت) : الأولى حكاية لقولهم : كيف يقولون ويعترفون ، والثانية ذمّ لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة ، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستنجاز عذابه ، وإنما قال ذلك تحذيرا للسامعين مثل حالهم ؛ انتهى. ونقول لم تتكرر الشهادة لاختلاف المخبر ومتعلقها فالأولى إخبارهم عن أنفسهم والثانية : إخباره تعالى عنهم أنهم شهدوا على أنفسهم بالكفر فهذه الشهادة غير الأولى.

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) الإشارة بذلك إلى أقرب مذكور دل عليه الكلام وهو إتيان الرسل قاصين الآيات ومنذرين بالحشر والحساب والجزاء بسبب انتفاء إهلاك القرى بظلم وأهلها لم ينتهوا ببعثة الرسل إليهم والإعذار إليهم والتقدم بالأخبار بما يحل بهم ، إذا لم يتبعوا الرسل وفي الحديث : «ليس أحد أحب إليه العذر من الله». فمن أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل. وقال الزجاج قريبا من هذا أي ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وأمر عذاب من كذب لأنه لم يكن كذا أي لا يهلكهم حتى يبعث إليهم رسولا. وقيل : الإشارة بذلك إلى السؤال وهو (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أن لم يكن أي لبيان أن لم يكن حكاه التبريزي. وقال الماتريدي : الإشارة إلى ما وجد منهم

٦٤٩

من التكذيب والمعاصي ويحتمل أن يشار به إلى الهلاك الذي كان بالأمم الخالية ؛ انتهى. ولا يستقيم هذان القولان مع قوله (أَنْ لَمْ يَكُنْ) لأن المعاصي أو الإهلاك ليس معللا بأن لم يكون وجوّزوا في ذلك الرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي ذلك الأمر ، وخبر محذوف المبتدأ أي الأمر ذلك والنصب على فعلنا ذلك وإن لم يكن تعليل ويحتمل أن تكون أن الناصبة للمضارع والمخففة من الثقيلة أي لأن الشأن لم يكن ربك وأجاز الزمخشري أن لا يكون (أَنْ لَمْ يَكُنْ) تعليلا فأجاز فيه أن يكون بدلا من ذلك كقوله : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) (١) فإذا كان تعليلا فهو على إسقاط حرف العلة على الخلاف أموضعه نصب أو جر وإن كان بدلا فهو في موضع رفع ، لأن الزمخشري لم يذكر في ذلك إلا أنه مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وبظلم يحتمل أن يكون مضافا إلى الله أي ظالما لهم كقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (٢) ومعنى (وَأَهْلُها غافِلُونَ) أي دون أن يتقدم إليهم بالنذارة (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٣) ويحتمل أن يكون مضافا إلى القرى أي ظالمة دون أن ينذرهم وهذا معنى قول القشيري أي لا يهلكهم بذنوبهم ما لم يبعث إليهم الرسل وهذا الوجه أليق لأن الأول يوهم أنه تعالى لو آخذهم قبل بعثة الرسل كان ظالما وليس الأمر كذلك عندنا لأنه تعالى يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد ، وعند المعتزلة لو أهلكهم وهم غافلون لم ينتهوا بكتاب ولا رسول لكان ظالما وهو متعال عن الظلم وعن كل قبيح. وقيل : (بِظُلْمٍ) بشرك من أشرك منهم فهو مثل (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٤). وقال الماتريدي : أي لم يكن يهلكهم بظلم أنفسهم إهلاك استئصال وتعذيب إلا بعد تقدم وعيد أو سؤالهم العذاب ، ولا يهلكهم مع الغفلة عن الظلم والعصيان لأنه يجوز له ذلك بل سنته هكذا لئلا يقولوا : لولا أرسلت إلينا وكل ذلك فضل منه ورحمة. وقال مجاهد : لا يهلكهم بظلم بعضهم بعضا وقيل : بظلم واحد منهم. وقيل : بجنس الظلم حتى يرتكبوا مع الظلم غيره مما لا يرضاه الله من سائر القبائح ذكره التبريري. ومعنى (وَأَهْلُها غافِلُونَ) أي لا يبين لهم كيفية الحال ولا يزيل عددهم وليس المعنى أنهم غافلون عما يوعظون به.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي ولكل من المكلفين مؤمنهم وكافرهم درجات متفاوتة من جزاء أعمالهم وتفاوتها بنسبة بعضهم إلى بعض أو بنسبة عمل كل عامل فيكون

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٦٦.

(٢) سورة هود : ١١ / ١١٧.

(٣) سورة فصلت : ٤١ / ٤٦.

(٤) سورة فاطر : ٣٥ / ١٨.

٦٥٠

هو في درجة فيترقى إلى أخرى كاملة ثم إلى أكمل ، والظاهر اندراج الجن في العموم في الجزاء كما اندرجوا في التكليف وفي إرسال الرسل إليهم. قال الضحاك : مؤمنو الجن في الجنة كمؤمني الإنس. وقيل : لا يدخلون الجنة ولا النار يقال لهم كونوا ترابا فيصيرون ترابا كالبهائم. وقال ابن عباس : جزاء مؤمني الجن إجارتهم من النار. وقال أبو حنيفة : ليس للجن ثواب لأن الثواب فضل من الله فلا يقال به لهم إلا ببيان من الله ولم يذكر الله في حقهم إلا عقوبة عاصيهم لا ثواب طائعهم وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا : لهم ثواب على الطاعات وعقاب على المعاصي ودليلهما عموم الكتاب والسنة. وقيل : ولكل من المؤمنين خاصة. وقال الماتريدي : ولكل من الكفار خاصة درجات دركات ومراتب من العقاب مما عملوا من الكفر والمعاصي ، لأنه جاء عقيب خطاب الكفار فيكون راجعا عليهم.

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) أي ليس بساه بخفيّ عليه مقادير الأعمال وما يترتب عليها من الأجور وفي ذلك تهديد ووعيد. وقرأ ابن عامر : تعملون بالتاء على الخطاب.

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) لما ذكر تعالى من أطاع ومن عصى والثواب والعقاب ذكر أنه هو الغني من جميع الجهات لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية ، ومع كونه غنيا هو ذو الرحمة أي التفضل التام. قال ابن عباس : (ذُو الرَّحْمَةِ) بأوليائه وأهل طاعته. وقيل : بكل خلقه ومن رحمته تأخير الانتقام من العصاة. وقيل : (ذُو الرَّحْمَةِ) جاعل نفع الخلائق بعضهم ببعض. وقال الزمخشري : (ذُو الرَّحْمَةِ) يترحم عليهم بالتكليف ليعرضهم للمنافع الدائمة.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) هذا فيه إظهار القدرة التامة والغنى المطلق والخطاب عام للخلق كلهم ، كما قال : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أيها الناس ويأت بآخرين فالمعنى إن يشأ إفناء هذا العالم واستخلاف ما يشاء من الخلق غيرهم فعل ، والإذهاب هنا الإهلاك إهلاك الاستئصال لا الإماتة ناسا بعد ناس لأن ذلك واقع فلا يعلق الواقع على (إِنْ يَشَأْ). وقيل : الخطاب لأهل مكة. وقال عطاء : يعني الأنصار والتابعين. وقيل : (يُذْهِبْكُمْ) أيها العصاة (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) من النوع الطائع و (كَما أَنْشَأَكُمْ) في موضع مصدر على غير الصدر لقوله : (وَيَسْتَخْلِفْ) لأن معناه وينشئ والمعنى إن يشأ الإذهاب والاستخلاف يذهبكم ويستخلف فكل من الإذهاب والاستخلاف معذوق بمشيئته و (مِنْ) لابتداء الغاية. وقال ابن عطية : للتبعيض. وقال

٦٥١

الطبري : وتبعه مكي هي بمعنى أخذت من ثوبي دينارا بمعنى عنه وعوضه ؛ انتهى ، يعني إنها بدلية والمعنى من أولاد قوم متقدّمين أصلهم آدم عليه‌السلام. وقال الزمخشري : من أولاد (قَوْمٍ آخَرِينَ) لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح ؛ انتهى. ويعني أنكم (مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ) صالحين فلو شاء أذهبكم أيها العصاة ويستخلف بعدكم طائعين ، كما أنكم عصاة أنشأكم من قوم طائعين وما في قوله : (ما يَشاءُ) قيل بمعنى من والأولى أنه إن كان المقدار استخلافه من غير العاقل فهي واقعة موقعها وإن كان عاقلا فيكون قد أريد بها النوع. وقرأ زيد بن ثابت (ذُرِّيَّةِ) بفتح الذال وكذا في آل عمران وأبان بن عثمان (ذُرِّيَّةِ) بفتح الذال وتخفيف الراء المكسورة وعند (ذُرِّيَّةِ) على وزن ضربة وتضمنت هذه الآية التحذير من بطش الله في التعجيل بذلك.

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) ظاهر ما العموم في كل ما يوعد به. وقال الحسن : من مجيء الساعة لأنهم كانوا يكذبون بها. وقيل : من الوعد والوعيد. وقيل : من النصر للرسول لكائن. وقيل : من العذاب (لَآتٍ) يوم القيامة. وقيل : من الوعد يوم القيامة لقرينة (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) والإشارة إلى هذا الوعيد المتقدّم خصوصا وإما أن يكون للعموم مطلقا فذلك يتضمن إنفاذ الوعيد والعقائد ترى ذلك ؛ انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي : الوعد مخصوص بالإخبار عن الثواب فهو آت لا محالة ، فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدل على أن جانب الوعيد ليس كذلك ويقوي هذا الوجه أنه قال : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي لا تخرجون عن قدرتنا وحكمتنا فلما ذكر الوعد جزم ، ولما ذكر الوعيد ما زاد على (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) وذلك يدل على أن جانب الرحمة غالب فتلخص في قوله : (ما تُوعَدُونَ) العموم ويخرج منه ما خرج بالدليل أو يراد به الخصوص من الحشر أو النصر أو الوعيد أو الوعد أي بلازمهما من الثواب أو العقاب أو مجموعهما ستة أقوال. وكتبت أن مفصولة من ما وما بمعنى الذي وفي هذه الجملة إشعار بقصر الأمل وقرب الأجل والمجازاة على العمل.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي فائتين أعجزني الشيء : فاتني أي لا يفوتنا عن ما أردنا بكم. قال ابن عطية : معناه بناجين وهنا تفسير باللازم.

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) قرأ أبو بكر على مكاناتكم على الجمع حيث وقع فمن جمع قابل

٦٥٢

جمع المخاطبين بالجمع ومن أفرد فعلى الجنس والمكانة ، مصدر مكن فالميم أصلية وبمعنى المكان ويقال : المكان والمكانة مفعل ومفعلة من الكون فالميم زائدة فيحتمل أن يكون المعنى على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، قال معناه الزجاج ، ويحتمل أن يكون المعنى على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ، يقال : على مكانتك يا فلان إذا أمرته أن يثبت على حاله أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه. وقال ابن عباس : على ناحيتكم والمعنى ما تنحون أي ما تقصدون من صالح وطالح. وقال ابن زيد : على حالكم. وقال يمان : على مذاهبكم. وقال إسماعيل الضرير : على دينكم في منازلكم لهلاكي خطابا لكفار مكة (إِنِّي عامِلٌ) لهلاككم ؛ انتهى. وهي ألفاظ متقاربة وهذا الأمر أمر تهديد ووعيد كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (١) وهي التخلية والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه ، ومعنى (إِنِّي عامِلٌ) أي على مكانتي التي أنا عليها. قال الزمخشري : اثبتوا على كفركم وعداوتكم فيّ فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم ؛ انتهى.

والظاهر أن (مَنْ) مفعول (تَعْلَمُونَ) وأجازوا أن يكون مبتدأ اسم استفهام وخبره (تَكُونُ) والفعل معلق والجملة في موضع المفعول إن كان يعلمون معدّى إلى واحد أو في موضع المفعولين إن كان يتعدّى إلى مفعولين ، و (عاقِبَةُ الدَّارِ) مآلها وما تنتهي إليه والدار يظهر منه أنها دار الآخرة. قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد مآل الدنيا بالنصر والظهور ففي الآية إعلام بغيب. وقال الزمخشري : العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف في المقال وأدب حسن مع تضمن شدّة الوعيد والوثوق بأن المنذر محق وأن المنذر مبطل. وقيل : معنى (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي من له النصرة في دار الإسلام ومن له الدار الآخرة أي الجنة وفي قوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) من التهديد والوعيد ما لا يخفى كقوله : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (٢) (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ) (٣) وقال الشاعر :

إذا ما التقينا والتقى الرسل بيننا

فسوف ترى يا عمرو ما الله صانع

وقال آخر :

ستعلم ليلى أي دين تداينت

وأي غريم للتقاضي غريمها

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٤٠.

(٢) سورة الرحمن : ٥٥ / ٣١.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٥٤.

٦٥٣

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يفوزون قاله الضحاك. وقال عكرمة : لا يبقون. وقال عطاء : لا يسعد من كفر نعمتي. وقيل : لا يأمنون ولا ينجون من العذاب وفيه إشعار بأنهم هم الظالمون الذين لا يفلحون ، وفي قوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) ترديد بينه عليه‌السلام وبينهم ، ومعلوم أن هذا التهديد والوعيد مختص بهم وأن عاقبة الدار الحسنى هي له عليه‌السلام ولكنه أجرى مجرى قوله : فشركما لخيركما الفداء. وقوله :

فأيّي ما وأيك كان شرا

فسيق إلى المقادة في هوان

وقد علم ما هو شر وما هو خير ولكنه أبرز في صورة الترديد إظهارا لصورة الإنصاف ورميا بالكلام على جهة الاشتراك اتكالا على فهم المعنى. وقرأ حمزة والكسائي من يكون بالياء على التذكير وكذا في القصص.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) روي عن ابن عباس ومجاهد والسدّي أن العرب كانت تجعل من غلاتها وزروعها وأثمارها وأنعامها جزءا تسميه لله وجزءا تسميه لأصنامها وكانت عادتها تبالغ وتجتهد في إخراج نصيب الأصنام أكثر منها في نصيب الله ، إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر وليس ذلك بالله فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت من الذي لله إلى الذي لشركائهم تركوه ولم يردوه إلى نصيب الله ويفعلون عكس هذا ، وإذا تفجر من سقي ما جعلوه لله في نصيب شركائهم تركوه وبالعكس سدوه وإذا لم ينجح شيء من نصيب آلهتهم جعلوا نصيب الله لها ، وكذا في الأنعام. وإذا أجدبوا أكلوا نصيب الله وتركوا نصيبها لما ذكر تعالى قبح طريقة مشركي العرب في إنكارهم البعث ذكر أنواعا من جهالاتهم تنبيها على ضعف عقولهم وفي قوله تعالى : (مِمَّا ذَرَأَ) أنه تعالى كان أولى أن يجعل له الأحسن والأجود وأن يكون جانبه تعالى هو الأرجح ، إذ كان تعالى هو الموجد لما جعلوا له منه نصيبا والقادر على تنميته دون أصنامهم العاجزة عن ما يحل بها فضلا عن أن تخلق شيئا أو تنميه وفي قوله (مِمَّا) بمن التبعيضية دليل على قسم ثالث وهو ما بقي لهم من غير النصيبين ، وفي الكلام حذف دل عليه التقسيم أي ونصيبا (لِشُرَكائِهِمْ) ألا ترى إلى قولهم (هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) و (الْحَرْثِ) قيل هنا : الزرع. وقيل : الزرع والأشجار وما يكون من الأرض ، (وَالْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم يتقربون بذبح ذلك. وقيل : إنه البحيرة والسائبة والوصيلة

٦٥٤

والحامي. وقيل : النصيب من الأنعام هو النفقة عليها وفي قوله : (فَقالُوا) تأكيد للفعل الذي هو الجعل بالقول ليتطابق ويتظافر الفعل بالقول ، ثم إنهم أخلفوا ذلك واعترض أثناء الكلام قوله : (بِزَعْمِهِمْ) وجاء أثر قولهم : (هذا لِلَّهِ) لأنه إخبار كذب حيث أخلف ما جعلوه وأكدوه بالقول ولم يأت ذلك إثر قولهم : (وَهذا لِشُرَكائِنا) لتحقيق ما لشركائهم أنه لهم والزعم في أكثر كلام العرب أقرب إلى غير اليقين والحق نبه على أنهم فعلوا ذلك من غير أن يأمرهم الله بذلك ولا أن يشرعه لهم ، وذلك جرى على عادتهم في شرع أحكام لم يأذن فيها ولم يشرعها.

وقرأ الكسائي : (بِزَعْمِهِمْ) فيهما بضم الزاي وهي لغة بني أسد والفتح لغة الحجاز وبه قرأ باقي السبعة وهما مصدران. وقيل : الفتح في المصدر والضم في الاسم. وقرأ ابن أبي عبلة : بفتح الزاي والعين فيهما والسكر لغة لبعض قيس وتميم ، ولم يقرأ به ويتعلق (بِزَعْمِهِمْ) بقالوا. وقيل : بما تعلق به (لِلَّهِ) من الاستقرار وشركاؤهم آلهتهم والشركاء من الشرك والإضافة إضافة تخصيص أي : الشركاء الذين أشركوا بينهم وبين الله في القربة وليس معناه الإضافة إلى فاعل ولا مفعول. وقيل : سموا شركاء لأنهم نزلوها منزلة الشركاء في أموالهم فتكون إضافة إما إلى الفاعل فالتقدير وهذا لأصنامنا التي تشركنا في أموالنا ، وإما إلى المفعول فالتقدير التي شركناها في أموالنا. وقال ابن عطية : سموهم شركاء على معتقدهم فيهم أنهم يساهمونهم في الخير والشر ، ومعنى (فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ) أي لا يقع موقع ما يصرف في وجوه البر من الصدقة على المساكين وزوّار بيت الله ونحوها ، ولو فعلوا ذلك لم ينفع لأنهم أشركوا أو لا يصل البتة إلى تلك الوجوه المقصود بها التقرب إلى الله. وقال الحسن : كانوا إذا هلك الذي لأوثانهم أخذوا بدله مما لله ولا يفعلون مثل ذلك لله. وقيل : كانوا يصرفون مما جعلوه لله إلى سدنة الأصنام ولا يتصدّقون بشيء مما جعلوه للأوثان ، ومعنى (فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) بإنفاق عليها بذبح نسائك عندها والآخر للنفقة على سدنتها. وقال ابن عطية : جمهور المتأوّلين أن المراد بقوله : (فَلا يَصِلُ) وقوله : (يَصِلُ) ما قدمنا ذكره من حمايتهم نصيب آلهتهم في هبوب الريح وغير ذلك. وقال ابن زيد : إنما ذلك في أنهم كانوا إذا ذبحوا لله وذكروا آلهتهم على ذلك الذبح ، وإذا ذبحوا لآلهتهم لم يذكروا الله قال : (فَلا يَصِلُ) إلى ذكر وقال : (فَهُوَ يَصِلُ) إلى ذكر الله ؛ انتهى. وظاهر الآية يدل على أن ما جعلوه نصيبا لشركائهم فلا يصرف منه شيء في وجوه البر الذي يقتضيها وجهه ، وما جعلوه نصيبا لله أنفق في مصاريف آلهتهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) هذا ذمّ بالغ عام لأحكامهم فيندرج فيه حكمهم هذا السابق وغيره.

٦٥٥

وقال الزمخشري : في إيثارهم آلهتهم على الله وعملهم ما لم يشرع لهم. وقال الماتريدي : أي بئس الحكم حكمهم حيث قرنوا حقي بحق الأصنام وبخسوني. وقيل : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) لأنفسهم ، والظاهر أن (ساءَ) هنا مجراة مجرى بئس في الذمّ كقوله : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ) (١) والخلاف الجاري في (بِئْسَما) وإعراب ما جار هنا وتقدم ذلك مستوفى في قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) (٢) في البقرة وعلى أن حكمها حكم (بِئْسَمَا) فسرها الماتريدي فقال : بئس الحكم حكمهم وأعربها الحوفي وجعل ما موصولة بمعنى الذي قال والتقدير ساء الذي يحكمون حكمهم ، فيكون حكمهم رفعا بالابتداء وما قبله الخبر وحذف لدلالة (يَحْكُمُونَ) عليه. ويجوز أن يكون ما تمييزا على مذهب من يجيز ذلك في (بِئْسَمَا) فيكون في موضع نصب التقدير (ساءَ) حكما حكمهم ولا يكون (يَحْكُمُونَ) صفة لما لأن الغرض الإبهام ولكن في الكلام حذف يدل ما عليه والتقدير ساما (ما يَحْكُمُونَ). وقال ابن عطية : و (ما) في موضع رفع كأنه قال : ساء الذي يحكمون ولا يتجه عندي أن تجري هنا (ساءَ) مجرى نعم وبئس لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة ، وإنما اتجه أن يجري مجرى بئس في قوله : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) (٣) لأن المفسر ظاهر في الكلام ؛ انتهى. وهذا قول من شدا يسيرا من العربية ولم يرسخ قدمه فيها بل إذا جرى ساء مجرى نعم وبئس كان حكمها حكمها سواء لا يختلف في شيء البتة من فاعل مضمر أو ظاهر وتمييز ، ولا خلاف في جواز حذف المخصوص بالمدح والذمّ والتمييز فيها لدلالة الكلام عليه فقوله : لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق النحاة إلى آخره كلام ساقط ودعواه الاتفاق مع أن الاتفاق على خلاف ما ذكر عجب عجاب.

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي ومثل تزيين قسمة القربان بين الله وآلهتهم وجعلهم آلهتهم شركاء لله في ذلك. قال الزمخشري : أو مثل ذلك التزيين البليغ الذي علم من الشياطين وقال ابن الأنباري : ويجوز أن يكون (وَكَذلِكَ) مستأنفا غير مشار به إلى ما قبله فيكون المعنى وهكذا زين ؛ انتهى. و (لِكَثِيرٍ) يراد به من كان من مشركي العرب. قال مجاهد : (شُرَكاؤُهُمْ) شياطينهم أمروهم أن يدفنوا بناتهم أحياء خشية العيلة. وقال الكلبي : (شُرَكاؤُهُمْ) سدنتهم وخزنتهم التي لآلهتهم كانوا يزينون لهم دفن البنات أحياء. وقيل : رؤساؤهم كانوا يقتلون الإناث

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٩٠.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٧٧.

٦٥٦

تكبرا والذكور خوف الفقر. وقال الزمخشري : (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) بالوأد أو بنحرهم للآلهة ، وكان الرجل يحلف في الجاهلية لئن ولد لي كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب. وقرأ الجمهور : (زَيَّنَ) مبنيا للفاعل ونصب (قَتْلَ) مضافا إلى (أَوْلادِهِمْ) ورفع (شُرَكاؤُهُمْ) فاعلا بزين وإعراب هذه القراءة واضح ، وقرأت فرقة منهم السلمي والحسن وأبو عبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر (زَيَّنَ) مبنيا للمفعول (قَتْلَ) مرفوعا مضافا إلى (أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) مرفوعا على إضمار فعل أي زينه شركاؤهم هكذا خرجه سيبويه ، أو فاعلا بالمصدر أي (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) كما تقول : حبب لي ركوب الفرس زيد هكذا خرجه قطرب ، فعلى توجيه سيبويه الشركاء مزينون لا قاتلون كما ذلك في القراءة الأولى ، وعلى توجيه قطرب الشركاء قاتلون. ومجازه أنهم لما كانوا مزينين القتل جعلوا هم القاتلين وإن لم يكونوا مباشري القتل ، وقرأت فرقة كذلك إلا أنهم خفضوا شركائهم وعلى هذا الشركاء هم الموءودون لأنهم شركاء في النسب والمواريث ، أو لأنهم قسيمو أنفسهم وأبعاض منها. وقرأ ابن عامر : (كَذلِكَ) إلا أنه نصب (أَوْلادِهِمْ) وجر شركائهم فصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل بالمفعول وهي مسألة مختلف في جوازها ، فجمهور البصريين يمنعونها متقدموهم ومتأخروهم ولا يجيزون ذلك إلا في ضرورة الشعر ، وبعض النحويين أجازها وهو الصحيح لوجودها في هذه القراءة المتواترة المنسوبة إلى العربي الصريح المحض ابن عامر الآخذ القرآن عن عثمان بن عفان قبل أن يظهر اللحن في لسان العرب ، ولوجودها أيضا في لسان العرب في عدة أبيات قد ذكرناها في كتاب منهج السالك من تأليفنا ولا التفات إلى قول ابن عطية وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب ، وذلك أنه أضاف الفعل إلى الفاعل وهو لشركاء ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في الشعر كقوله :

كما خط الكتاب بكف يوما

يهودي يقارب أو يزيل

فكيف بالمفعول في أفصح كلام ولكن وجهها على ضعفها أنها وردت شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش :

فزججته بمزجة

زج القلوس أبي مزاده

وفي بيت الطرماح وهو قوله :

٦٥٧

يطفن بحوزي المراتع لم يرع

بواديه من قرع القسيّ الكنائن

انتهى كلام ابن عطية ، ولا التفات أيضا إلى قول الزمخشري : إن الفصل بينهما يعني بين المضاف والمضاف إليه فشا لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر أكان سمجا مردودا فكيف به في القرآن المعجز لحسن نظمه وجزالته؟ والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوبا بالياء ، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب ؛ انتهى ما قاله. وأعجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة موجود نظيرها في لسان العرب في غير ما بيت وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقا وغربا ، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم ولا التفات أيضا لقول أبي علي الفارسي : هذا قبيح قليل في الاستعمال ولو عدل عنها يعني ابن عامر كان أولى لأنهم لم يجيزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظرف وإنما أجازوه في الشعر ؛ انتهى. وإذا كانوا قد فصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالجملة في قول بعض العرب هو غلام إن شاء الله أخيك فالفصل بالمفرد أسهل ، وقد جاء الفصل في اسم الفاعل في الاختيار. قرأ بعض السلف : مخلف وعده رسله بنصب وعده وخفض رسله وقد استعمل أبو الطيب الفصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل بالمفعول اتباعا لما ورد عن العرب فقال :

بعثت إليه من لساني حديقة

سقاها الحيا سقي الرياض السحائب

وقال أبو الفتح : إذا اتفق كل شيء من ذلك نظر في حال العربي وما جاء به فإن كان فصيحا وكان ما أورده يقبله القياس فالأولى أن يحسن به الظن ، لأنه يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها. وقال أبو عمرو بن العلاء : ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير ونحوه ما روى ابن سيرين عن عمر بن الخطاب أنه حفظ أقل ذلك وذهب عنهم كثيره يعني الشعر في حكاية فيها طول. وقال أبو الفتح : فإذا كان الأمر كذلك لم نقطع على الفصيح إذا سمع منه ما يخالف الجمهور بالخطأ ؛ انتهى ، ملخصا مقتصرا على بعض ما قاله. وقرأ بعض أهل الشام ورويت عن ابن عامر (زَيَّنَ) بكسر الزاي وسكون الياء على القراءة المتقدمة من الفصل بالمفعول ، ومعنى (لِيُرْدُوهُمْ) ليهلكوهم من الردى وهو الهلاك (وَلِيَلْبِسُوا)

٦٥٨

ليخلطوا و (دِينَهُمْ) ما كانوا عليه من دين إسماعيل حتى زلوا عنه إلى الشرك. وقيل (دِينَهُمْ) الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل : معناه وليوقعوهم في دين ملتبس. وقرأ النخعي (وَلِيَلْبِسُوا) بفتح الياء. قال أبو الفتح : استعارة من اللباس عبارة عن شدة المخالطة واللام متعلقة ب (زَيَّنَ). وقال الزمخشري : إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل ، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) الظاهر عود الضمير على القتل لأنه المصرّح به والمحدّث عنه والواو في (فَعَلُوهُ) عائد على الكثير. وقيل : الهاء للتزيين والواو للشركاء. وقيل : الهاء للبس وهذا بعيد. وقيل : لجميع ذلك إن جعلت الضمير جار مجرى الإشارة وهذه الجملة ردّ على من زعم أنه يخلق أفعاله. وقال الزمخشري : (وَلَوْ شاءَ اللهُ) مشيئة قسر ؛ انتهى ، وهو على مذهبه الاعتزالي.

(فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) أي ما يختلقون من الإفك على الله والأحكام التي يشرعونها وهو أمر تهديد ووعيد.

(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ) أعلم تعالى بأشياء مما شرعوها وتقسيمات ابتدعوها والتزموها على جهة الفرية والكذب منهم على الله ، أفردوا من أنعامهم وزروعهم وثمارهم شيئا وقالوا : هذا حجر أي حرام ممنوع. وقرأ أبان بن عثمان : نعم على الإفراد. وقرأ باقي السبعة بكسر الحاء وسكون الجيم والحجر بمعنى المحجور كالذبح والطحن يستوي في الوصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات قاله الزمخشري. وقرأ الحسن وقتادة والأعرج بضم الحاء وسكون الجيم. وقال القرطبي : قرأ الحسن وقتادة بفتح الحاء وإسكان الجيم ، وعن الحسن أيضا (حِجْرٌ) بضم الحاء. وقرأ أبان بن عثمان وعيسى بن عمر بضم الحاء والجيم ، وقال هارون : كان الحسن يضم الحاء من (حِجْرٌ) حيث وقع إلا وحجرا محجورا فيكسرها وقرأ أبيّ وعبد الله وابن عباس وابن الزبير وعكرمة وعمرو بن دينار والأعمش حرج بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم وسكونها ، وخرج على القلب فمعناه معنى (حِجْرٌ) أو من الحرج وهو التضييق (لا يَطْعَمُها) لا يأكلها (إِلَّا مَنْ نَشاءُ) وهم الرجال دون النساء ، أو سدنة الأصنام (بِزَعْمِهِمْ) أي بتقولهم الذي هو أقرب إلى الباطل منه إلى الحق.

(وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) هي البحائر والسوائب والحوامي وتقدّم تفسيرها في المائدة.

٦٥٩

(وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) أي عند الذبح. وقال أبو وائل : وجماعة لا يحجون عليها ولا يلبون كانت تركب في كل وجه إلا في الحج.

(افْتِراءً عَلَيْهِ) اختلاقا وكذبا على الله حيث قسموا هذه الأنعام هذا التقسيم ونسبوا ذلك إلى الله وانتصب (افْتِراءً) على أنه مفعول من أجله أو مصدر على إضمار فعل ، أي يفترون أو مصدر على معنى وقالوا : لأنه في معنى افتروا أو مصدر في موضع الحال.

(سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) تهديد شديد ووعيد.

(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) الذي في بطونها هو الأجنة قاله السدّي. وقال الزمخشري : كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب ما ولد منها حيا فهو خالص لذكورنا ولا تأكل منه الإناث ، وما ولد ميتا اشترك فيه الذكور والإناث. وقال ابن عباس وقتادة والشعبي : الذي في بطونها هو اللبن. وقال الطبري : اللفظ يعم الأجنة واللبن ؛ انتهى. والظاهر الأجنة لأنها التي في البطن حقيقة ، وأما اللبن : ففي الضرع لا في البطن إلا بمجاز بعيد. وقرأ عبد الله وابن جبير وأبو العالية والضحاك وابن أبي عبلة : خالص بالرفع بغير تاء وهو خبر ما و (لِذُكُورِنا) متعلق به. وقرأ ابن جبير فيما ذكر ابن جني خالصا بالنصب بغير تاء ، وانتصب على الحال من الضمير الذي تضمنته الصلة أو على الحال من ما على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها ؛ انتهى ملخصا. ويعني بقوله : على الحال من (ما) أي من ضمير (ما) الذي تضمنه خبر (ما) وهو (لِذُكُورِنا) ويعني بقوله : في إجازته إلى آخره على العامل فيها إذا كان ظرفا أو مجرورا نحو زيد قائما في الدار ، وخبر (ما) على هذه القراءة هو (لِذُكُورِنا). وقرأ ابن عباس والأعرج وقتادة وابن جبير أيضا خالصة بالنصب وإعرابها كإعراب خالصا بالنصب وخرّج ذلك الزمخشري على أنه مصدر مؤكد كالعافية. وقرأ ابن عباس أيضا وأبو رزين وعكرمة وابن يعمر وأبو حيوة والزهري خالصة على الإضافة وهو بدل من (ما) أو مبتدأ خبره (لِذُكُورِنا) والجملة خبر ما. وقرأ الجمهور (خالِصَةٌ) بالرفع وبالتاء وهل التاء للمبالغة كراوية أو حملا على معنى ما لأنها أجنة والعام أو هو مصدر يبنى على فاعلة كالعافية والعافية أي ذو خلوص؟ أقوال : وكان قد سبق لنا أن شيخنا علم الدين العراقي رحمه‌الله ذكر أنه لم يوجد في القرآن حمل على المعنى أولا ثم حمل على اللفظ بعده إلا في هذه الآية ، ووعدنا أن نحرر ذلك في مكان وما ذكره قاله مكي ، قال : الآية في

٦٦٠