البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

تريده ، الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء ، وقرأت جماعة فإنك أنت الغفور الرحيم على ما يقتضيه قوله (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) قال عياض بن موسى : وليست من المصحف. وقال أبو بكر بن الأنباري : وقد طعن على القرآن. من قال : إن قوله : (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لا يناسب قوله (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) لأن المناسب فإنك أنت الغفور الرحيم. والجواب : أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله تعالى ومتى نقل إلى ما قال هذا الطاعن ضعف معناه ، فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلق وهو ما أنزله الله تعالى وأجمع على قراءته المسلمون معذوق بالشرطين كلاهما أولهما وآخرهما ، إذ تلخيصه إن تعذبهم فأنت عزيز حكيم وإن تغفر لهم فأنت العزيز الحكيم في الأمرين كلاهما من التعذيب والغفران ، فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه ، وأنه يجمع الشرطين ولم يصلح الغفور الرحيم أن يحتمل ما احتمله العزيز الحكيم ؛ انتهى. وأما قول من ذهب إلى أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره إن تعذبهم فإنك أنت العزيز وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ، فليس بشيء وهو قول من اجترأ على كتاب الله بغير علم. روى النسائي عن أبي ذر قال : قام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أصبح بهذه الآية (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) قرأ الجمهور هذا يوم بالرفع على أن هذا مبتدأ ويوم خبره والجملة محكية بقال وهي في موضع المفعول به ، لقال : أي هذا الوقت وقت نفع الصادقين وفيه إشارة إلى صدق عيسى عليه‌السلام. وقرأ نافع (هذا يَوْمُ) بفتح الميم وخرّجه الكوفيون على أنه مبني خبر لهذا وبني لإضافته إلى الجملة الفعلية ، وهم لا يشترطون كون الفعل مبنيا في بناء الظرف المضاف إلى الجملة ، فعلى قولهم تتحد القراءتان في المعنى. وقال البصريون : شرط هذا البناء إذا أضيف الظرف إلى الجملة الفعلية أن يكون مصدرا بفعل مبني ، لأنه لا يسري إليه البناء إلّا من المبني الذي أضيف إليه ، والمسألة مقررة في علم النحو فعلى قول البصريين : هو معرب لا مبني وخرج نصبه على وجهين ذكرهما الزمخشري وغيره أحدهما : أن يكون ظرفا لقال وهذا إشارة إلى المصدر فيكون منصوبا على المصدرية ، أي : قال الله هذا القول أو إشارة إلى الخبر أو القصص ، كقولك : قال زيد شعرا أو قال زيد : خطبة فيكون إشارة إلى مضمون الجملة ، واختلف في نصبه أهو على المصدرية أو ينتصب مفعولا به؟ فعلى هذا الخلاف ينتصب إذا كان إشارة إلى الخبر أو القصص نصب المصدر أو نصب المفعول به. قال ابن عطية :

٤٢١

وانتصابه على الظرف وتقديره (قالَ اللهُ هذا) القصص أو الخبر (يَوْمُ يَنْفَعُ) معنى يزيل وصف الآية وبهاء اللفظ والمعنى ، والوجه الثاني أن يكون ظرفا خبر (هذا) و (هذا) مرفوع على الابتداء والتقدير ، هذا الذي ذكرناه من كلام عيسى واقع يوم ينفع ويكون هذا يوم ينفع جملة محكية يقال. قال الزمخشري : وقرأ الأعمش يوما ينفع بالتنوين كقوله (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي) (١). وقال ابن عطية : وقرأ الحسن بن عياش الشامي (هذا يَوْمُ) بالرفع والتنوين. وقرأ الجمهور (صِدْقُهُمْ) بالرفع فاعل ينفع وقرئ بالنصب ، وخرج على أنه مفعول له أي لصدقهم أو على إسقاط حرف الجر أي بصدقهم أو مصدر مؤكد ، أي الذين يصدقون صدقهم أو مفعول به أي يصدقون الصدق كما تقول : صدقته القتال والمعنى يحققون الصدق.

قال الزمخشري (فإن قلت) : إن أريد (صِدْقُهُمْ) في الآخرة فليست بدار عمل ، وإن أريد في الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه ، لأنه في معنى الشهادة لعيسى عليه‌السلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة.

(قلت) : معناه الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم انتهى ، وهذا بناء على قول من قال : إن هذا القول يكون من الله تعالى في الآخرة وقد اتبع الزمخشري الزجاج في قوله : هذا حقيقته الحكاية ومعنى (يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) الذي كان في الدنيا ينفعهم في القيامة ، لأن الآخرة ليست بدار عمل ولا ينفع أحدا فيها ما قال وإن حسن ، ولو صدق الكافر وأقرّ بما عمل فقال : كفرت وأسأت ما نفعه ، وإنما الصادق الذي ينفعه صدقه الذي كان فيه في الدنيا والآخرة ؛ انتهى. والظاهر أنه ابتداء كلام من الله تعالى. وقال السدي : هذا فصل من كلام عيسى عليه‌السلام أي : يقول عيسى يوم القيامة : قال الله تعالى : واختلف في هذا اليوم ، فقيل : يوم القيامة كما ذكرناه وخص بالذكر لأنه يوم الجزاء الذي فيه تجنى ثمرات الصدق الدائمة الكاملة ، وإلا فالصدق ينفع في كل يوم وكل وقت. وقيل : هو يوم من أيام الدنيا فإن العمل لا ينفع إلا إذا كان في الدنيا والصادقون هنا النبيون وصدقهم تبليغهم ، أو المؤمنون وصدقهم إخلاصهم في إيمانهم أو صدق عهودهم أو صدقهم في العمل لله تعالى ، أو صدقهم تركهم الكذب على الله وعلى رسله أو صدقهم في الآخرة في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ أو شهدوا به على أنفسهم من أعمالهم ، ويكون وجه

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٤٢.

٤٢٢

النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم أقوال ستة ، والظاهر العموم فكل صادق ينفعه صدقه.

(لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) هذا كأنه جواب سائل ما لهم جزاء على الصدق؟ فقيل : لهم جنات.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً) إشارة إلى تأييد الديمومية في الجنة.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) قيل : بقبول حسناتهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بما آتاهم من الكرامة. وقيل : بطاعتهم ورضوا عنه في الآخرة بثوابه. وقال الترمذي : بصدقهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بوفاء حقهم. وقيل : في الدنيا ورضوا عنه في الآخرة. وقال أبو عبد الله الرازي : في قوله (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) هو إشارة إلى التعظيم هذا على ظاهر قول المتكلمين ، وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال الله تعالى فتحت قوله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها ؛ انتهى. وهو كلام عجيب شبيه بكلام أهل الفلسفة والتصوّف.

(ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ذلك إشارة إلى ما تقدم من كينونة الجنة لهم على التأييد وإلى رضوان الله عنهم ، لأن الجنة بما فيها كالعدم بالنسبة إلى رضوان الله وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يطلع الله على أهل الجنة فيقول : يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : يا ربنا وكيف لا نرضى وقد بعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك ، فيقول الله تعالى : ولكم عندي أفضل من ذلك فيقولون : وما أفضل من ذلك؟ فيقول الله عزوجل : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعدها أبدا».

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لما ادّعت النصارى في عيسى وأمه الألوهية اقتضت الدعوى أن يكونا مالكين قادرين فردّ الله عليهم. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مما يقال يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون مقطوعا من ذلك مخاطبا به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمّته ؛ انتهى. وقيل : هذا جواب سائل من يعطيهم (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فقيل الذي له ملك السموات والأرض.

وقال الزمخشري (فإن قلت) : ما في السموات والأرض العقلاء وغيرهم ، فهل غلب العقلاء فقيل ومن فيهنّ ، (قلت) : ما تتناول الأجناس كلها تناولا عامّا ألا تراك تقول : إذا رأيت شبحا من بعيد ما هو قبل أن تعرف أعاقل هو أم غير عاقل؟ فكان أولى بإرادة العموم ؛

٤٢٣

انتهى كلامه. وقال أبو عبد الله الرازي : غلب غير العقلاء تنبيها على أن كل المخلوقات مسخرين في قبضة قهره وقدره وقضائه وقدرته وهم في ذلك التسخير كالجمادات التي لا قدرة لها وكالبهائم التي لا عقل لها ، فعل الكل بالنسبة إلى علمه كلا علم وقدرة الكل بالنسبة إلى قدرته كلا قدرة وقال أيضا : مفتتح السورة ، كان بذكر العهد المنعقد بين الربوبية والعبودية ، فيشرع العبد في العبودية وينتهي إلى الفناء المحض عن نفسه بالكلية ، فالأول هو الشريعة وهو البداية ، والآخر هو الحقيقة وهو النهاية فمفتتح السورة من الشريعة ومختتمها بذكر الله عزوجل وكبريائه تعالى وعزته وقهره وعلوه ، وذلك هو الوصول إلى مقام الحقيقة فما أحسن المناسبة بين ذلك المفتتح وهذا المختتم ؛ انتهى كلامه ، وليست الحقيقة والشريعة والتمييز بينهما لا من كلام الصحابة رضي‌الله‌عنهم ولا من كلام التابعين ، وإنما ذلك من ألفاظ الصوفية واصطلاحاتهم ولهم في ذلك كلام طويل والله أعلم بالصواب.

٤٢٤

سورة الأنعام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)

الطين : معروف ، يقال : منه طان الكتان يطينه وطنه يا هذا.

٤٢٥

القرن الأمة المقترنة في مدّة من الزمان ، ومنه خير القرون قرني وأصله الارتفاع عن الشيء ومنه قرن الجبل ، فسموا بذلك لارتفاع السنّ. وقيل : هو من قرنت الشيء بالشيء جعلته بجانبه أو مواجها له ، فسموا بذلك لكون بعضهم يقرن ببعض. وقيل : سموا بذلك لأنهم جمعهم زمان له مقدار هو أكثر ما يقرن فيه أهل ذلك الزمان ، وهو اختيار الزجاج ومدة القرن مائة وعشرون سنة قاله : زرارة بن أوفى وإياس بن معاوية ، أو مائة سنة قاله الجمهور ، وقد احتجوا لذلك بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن بشر : «تعيش قرنا» فعاش مائة وقال : «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد». قال ابن عمر : يؤيد أنها انخرام ذلك القرن أو ثمانون سنة رواه أبو صالح عن ابن عباس ، أو سبعون سنة حكاه الفرّاء أو ستون سنة لقوله عليه‌السلام : معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين أو أربعون قاله ابن سيرين ، ورفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذا حكاه الزهراوي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو ثلاثون. روي عن أبي عبيدة أنه قال : يرون أن ما بين القرنين ثلاثون ، وحكاه النقاش أو عشرون حكاه الحسن البصري أو ثمانية عشر عاما أو المقدار الوسط في أعمار أهل ذلك الزمان وهذا حسن ، لأن الأمم السالفة كان فيهم من يعيش أربعمائة عام وثلاثمائة وما بقي عام وما فوق ذلك وما دونه ، وهكذا الاختلاف الإسلامي والله أعلم. كأنه نظر إلى الطرف الأقصى والطرف الأدنى ، فمن نظر إلى الغاية قال : من الستين فما فوقها إلى مائة وعشرين ومن نظر إلى الأدنى قال : عشرون وثلاثون وأربعون. وقال ابن عطية : القرن أن يكون وفاة الأشياخ ثم ولادة الأطفال ، ويظهر ذلك من قوله : (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) وهذه يشير ابن عطية إلى من حدد بأربعين فما دونها طبقات وليست بقرون. وقيل : القرن القوم المجتمعون ، قلت : السنون أو كثرت لقوله : خير القرون قرني يعني أصحابه وقال قس :

في الذاهبين الأوّلين

من القرن لنا بصائر

وقال آخر :

إذا ذهب القوم الذي كنت فيهم

وخلفت في قوم فأنت غريب

وقيل : القرن الزمان نفسه فيقدر قوله من قرن من أهل قرن. التمكن ضد التعذر والتمكين من الشيء ما يصح به الفعل من الآيات والقوى وهو أتم من الأقدار ، لأن الأقدار إعطاء القدرة خاصة والقادر على الشيء قد يتعذر عليه الفعل لعدم الآلة. وقيل : التمكين من الشيء إزالة الحائل بين المتمكن والممكن منه. وقال الزمخشري : مكن له في الأرض

٤٢٦

جعل له مكانا ونحوه أرض له ، وتمكينه في الأرض إثباته فيها. المدرار المتتابع يقال : مطر مدرار وعطاء مدرار وهو في المطر أكثر ، ومدرار مفعال من الدر للمبالغة كمذكار ومئناث ومهذار للكثير ذلك منه. الإنشاء : الخلق والإحداث من غير سبب ، وكل من ابتدأ شيئا فقد أنشأه ، والنشأ الأحداث واحدهم ناشئ كقولك : خادم وخدم. القرطاس اسم لما يكتب عليه من رق وورق وغير ذلك ، قال الشاعر وهو زهير :

لها أخاديد من آثار ساكنها

كما تردد في قرطاسه القلم

ولا يسمى قرطاسا إلا إذا كان مكتوبا وإن لم يكن مكتوبا فهو طرس وكاغذ وورق ، وكسر القاف أكثر استعمالا وأشهر من ضمها وهو أعجمي وجمعه قراطيس. حاق يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا أي : أحاط ، قاله الضحاك : ولا يستعمل إلا في الشر. قال الشاعر :

فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم

وحاق بهم من بأس ضبة حائق

وقال الفرّاء : حاق به عاد عليه وبال مكره. وقال النضر : وجب عليه. وقال مقاتل : دار. وقيل : حلّ ونزل ومن جعله مشتقا من الحوق وهو ما استدار بالشيء فليس قوله بصحيح ، لاختلاف المادتين وكذلك من قال : أصله حق فأبدلت القاف الواحدة ياء كما قالوا : في تظننت : تظنيت لأنها دعوى لا دليل على صحتها. سخر منه : هزأ به والسخرى والاستهزاء والتهكم معناها متقارب. عاقبة الشيء : منتهاه وما آل اليه.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) هذه السورة مكية كلها. وقال الكسائي : إلا آيتين نزلتا بالمدينة وهما (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ) (١) وما يرتبط بها.

وقال ابن عباس : نزلت ليلا بمكة حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح ، إلا ست آيات (قُلْ : تَعالَوْا أَتْلُ وَما قَدَرُوا اللهَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى). (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ). (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ). (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) ، انتهى. وعنه أيضا وعن مجاهد والكلبي إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) إلى قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وقال قتادة : إلا (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) ، وذكر ابن العربي أن قوله (قُلْ لا أَجِدُ) نزل بمكة يوم عرفة.

ومناسبة افتتاح هذه السورة لآخر المائدة أنه تعالى لما ذكر ما قالته النصارى في عيسى وأمه

__________________

(١) سورة الأنعام : ١ / ٩١.

٤٢٧

من كونهما إلهين من دون الله ، وجرت تلك المحاورة وذكر ثواب ما للصادقين ، وأعقب ذلك بأن له ملك السموات والأرض وما فيهنّ وأنه قادر على كل شيء ، ذكر بأن الحمد له المستغرق جميع المحامد فلا يمكن أن يثبت معه شريك في الإلهية فيحمد ، ثم نبه على العلة المقتضية لجميع المحامد والمقتضية ، كون ملك السموات والأرض وما فيهنّ له بوصف (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لأن الموجد للشيء المنفرد باختراعه له الاستيلاء والسلطنة عليه.

ولما تقدّم قولهم في عيسى وكفرهم بذلك وذكر الصادقين وجزاءهم أعقب (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) فكان ذلك مناسبا للكافر والصادق ، وتقدّم تفسير (الْحَمْدُ لِلَّهِ) في أول الفاتحة وتفسير (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) في قوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) في البقرة وجعل هنا. قال ابن عطية : لا يجوز غير ذلك وتأمل لم خصت السموات والأرض بخلق والظلمات والنور بجعل. وقال الزمخشري (جَعَلَ) يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كقوله : (جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٢) والفرق بين الخلق والجعل ، أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التصيير كإنشاء من شيء أو تصيير شيء شيئا أو نقله من مكان إلى مكان ، ومن ذلك (... وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) (٣) (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار وجعلناكم أزواجا أجعل الآلهة إلها واحدا ؛ انتهى. وما ذكره من أن جعل بمعنى صير في قوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ) لا يصح لأنهم لم يصيروهم إناثا ، وإنما قال بعض النحويين : إنها بمعنى سمى وقول الطبري (جَعَلَ) هنا هي التي تتصرف في طرف الكلام كما تقول : جعلت أفعل كذا فكأنه قال : وجعل إظلامها وإنارتها تخليط ، لأن تلك من أفعال المقاربة تدخل على المبتدأ والخبر وهذه التي في الآية تعدت إلى مفعول واحد ، فهما متباينان معنى واستعمالا وناسب عطف الصلة الثانية بمتعلقها من جمع الظلمات وإفراد النور على الصلة الأولى المتعلقة بجمع السموات وإفراد الأرض ، وتقدّم في البقرة الكلام على جمع السموات وإفراد الأرض وجمع الظلمات وإفراد النور واختلف في المراد هنا ب (الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) فقال قتادة والسدّي والجمهور : الليل والنهار. وقال ابن عباس : الشرك والنفاق والكفر والنور الإسلام والإيمان والنبوّة واليقين. وقال الحسن : الكفر

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٦٤.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ١٩.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٩.

٤٢٨

والإيمان ، وهو تلخيص قول ابن عباس واستدل لهذا بآية البقرة. وقال قتادة أيضا : الجنة والنار خلق الجنة وأرواح المؤمنين من نور ، والنار وأرواح الكافرين من ظلمة ، فيوم القيامة يحكم لأرواح المؤمنين بالجنة لأنهم من النور خلقوا ، وللكافرين بالنار لأنهم من الظلمة خلقوا. وقيل : الأجساد والأرواح. وقيل : شهوات النفوس وأسرار القلوب. وقيل : الجهل والعلم. وقال مجاهد : المراد حقيقة الظلمة والنور ، لأن الزنادقة كانت تقول : الله يخلق الضوء وعلى شيء حسن ، وإبليس يخلق الظلمة وكل شيء قبيح فأنزلت ردا عليهم. وقال أبو عبد الله الرازي : فيه قولان أحدهما : أنهما الأمران المحسوسان وهذا هو الحقيقة. والثاني ما نقل عن ابن عباس والحسن قبل وهو مجاز. وقال الواحدي : يحمل على الحقيقة. والمجاز معا لا يمكن حمله عليهما انتهى ملخصا.

وقال أبو عبد الله الرازي : ليست الظلمة عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور ، والدليل عليه أنه إذا جلس اثنان بقرب السراج وآخر بالبعد منه ، فالبعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافيا مضيئا والقريب لا يرى البعيد. ويرى ذلك الهواء مظلما ، فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية وإذا ثبت ذلك ، فنقول : عدم المحدثات متقدم على وجودها فالظلمة متقدمة في التحقيق على النور فوجب تقديمها عليه في اللفظ ، ومما يقوي ذلك ما روي في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره.

وروى ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم النور ، فمن أصابه يومئذ من ذلك النور اهتدى ومن أخطأ ضل». انتهى.

وقال أبو عبد الله بن أبي الفضل : قوله في الظلمة خطأ بل هي عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور ، والدليل على ذلك قوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) والعدم لا يقال فيه جعل (ثُمَ) كما تقرر في اللسان العربي أصلها للمهلة في الزمان. وقال ابن عطية : (ثُمَ) دالة على قبح فعل (الَّذِينَ كَفَرُوا) لأن المعنى : أن خلقه (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وغيرها قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ، ثم تشتمني أي بعد وضوح هذا كله ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو ، لم يلزم التوبيخ كلزومه ب (ثُمَ) انتهى.

٤٢٩

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : فما معنى ثم؟ (قلت) : استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته وكذلك (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) استبعاد لأن تمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم ؛ انتهى. وهذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أن (ثُمَ) للتوبيخ ، والزمخشري من أن (ثُمَ) للاستبعاد ليس بصحيح لأن (ثُمَ) لم توضع لذلك ، وإنما التوبيخ أو الاستبعاد مفهوم من سياق الكلام لا من مدلول ، ثم ولا أعلم أحدا من النحويين ذكر ذلك بل (ثُمَ) هنا للمهلة في الزمان وهي عاطفة جملة اسمية على جملة اسمية ، أخبر تعالى بأن الحمد له ونبه على العلة المقتضية للحمد من جميع الناس وهي خلق السموات والأرض والظلمات والنور ثم أخبر أن الكافرين به (يَعْدِلُونَ) فلا يحمدونه.

وقال الزمخشري (فإن قلت) : علام عطف قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا).

(قلت) : إما على قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق ، لأنه ما خلقه إلا نعمة (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فيكفرون نعمه وإما على قوله (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) على معنى أنه خلق ما خلق ، مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه ؛ انتهى. وهذا الوجه الثاني الذي جوزه لا يجوز ، لأنه إذ ذاك يكون معطوفا على الصلة والمعطوف على الصلة صلة ، فلو جعلت الجملة من قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) صلة لم يصح هذا التركيب لأنه ليس فيها رابط يربط الصلة بالموصول ، إلا إن خرج على قولهم أبو سعيد الذي رويت عن الخدري يريد رويت عنه فيكون الظاهر قد وقع موقع المضمر ، فكأنه قيل : ثم الذين كفروا به يعدلون وهذا من الندور ، بحيث لا يقاس عليه ولا يحمل كتاب الله عليه مع ترجيح حمله على التركيب الصحيح الفصيح ، و (الَّذِينَ كَفَرُوا) الظاهر فيه العموم فيندرج فيه عبدة الأصنام وأهل الكتاب ، عبدت النصارى المسيح واليهود عزيرا واتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله والمجوس عبدوا النار والمانوية عبدوا النور ، ومن خصص الذين كفروا بالمانوية كقتادة أو بعبدة الأصنام أو بالمجوس حيث قالوا : الموت من أهرمن والحياة من الله ، أو بأهل الكتاب كابن أبي أبزى فلا يظهر له دليل على التخصيص والباء في (بِرَبِّهِمْ) يحتمل أن تتعلق ب (يَعْدِلُونَ) وتكون الباء بمعنى عن أي : يعدلون عنه إلى غيره مما لا يخلق ولا يقدر ، أو يكون المعنى يعدلون به غيره أي : يسوون به غيره في اتخاذه ربا وإلها وفي الخلق والإيجاد وعدل الشيء بالشيء التسوية به ، وفي الآية رد على القدرية في قولهم : الخير من الله والشر من الإنسان فعدلوا به غيره في الخلق والإيجاد.

٤٣٠

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) ظاهره أنا مخلوقون من طين ، وذكر ذلك المهدوي ومكي والزهراوي عن فرقة فالنطفة التي يخلق منها الإنسان أصلها (مِنْ طِينٍ) ثم يقلبها الله نطفة. قال ابن عطية : وهذا يترتب على قول من يقول : يرجع بعد التولد والاستحالات الكثيرة نطفة وذلك مردود عند الأصوليين ؛ انتهى. وقال النحاس : يجوز أن تكون النطفة خلقها الله (مِنْ طِينٍ) على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها ؛ انتهى. وقد روي أبو نعيم الحافظ عن بريد بن مسعود حديثا في الخلق آخره : «ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته» ، فذلك قوله تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ) (١) الآية. وخرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مولود يولد إلّا وقد در عليه من تراب حفرته». وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث المتولدين من الأغذية ، والأغذية حيوانية والقول في كيفية تولدها ، كالقول في الإنسان أو نباتية فثبت تولد الإنسان من النباتية وهي متولدة من الطين فكل إنسان متولد. (مِنَ الطِّينِ) وهذا الوجه أقرب إلى الصواب ؛ انتهى. وهذا الذي ذكر أنه عنده وجه آخر وهو أقرب إلى الصواب ، هو بسط ما حكاه المفسرون عن فرقة. وقال فيه ابن عطية : هو مردود عند الأصوليين يعني القول : بالتوالد والاستحالات والذي هو مشهور عند المفسرين ، أن المخلوق (مِنَ الطِّينِ) هنا هو آدم. قال قتادة ومجاهد والسدي وغيرهم : المعنى خلق آدم (مِنْ طِينٍ) والبشر من آدم فلذلك قال : (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) وذكر ابن سعد في الطبقات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الناس ولد آدم وآدم من تراب». وقال بعض شعراء الجاهلية :

إلى عرق الثرى وشجت عروقي

وهذا الموت يسلبني شبابي

وفسره الشراح بأن عرق الثرى هو آدم ، فعلى هذا يكون التأويل على حذف مضاف إما في (خَلَقَكُمْ) أي خلق أصلكم ، وإما في (مِنْ طِينٍ) أي من عرق طين وفرعه.

(ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ قَضى) إن كانت هنا بمعنى قدر وكتب ، كانت (ثُمَ) هنا للترتيب في الذكر لا في الزمان لأن ذلك سابق على خلقنا ، إذ هي صفة ذات وإن كانت بمعنى أظهر ، كانت للترتيب الزماني على أصل وضعها ، لأن ذلك متأخر عن خلقنا فهي صفة فعل والظاهر من تنكير الأجلين أنه تعالى أبهم أمرهما. وقال

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٥٥.

٤٣١

الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف وقتادة : الأول أجل الدنيا من وقت الخلق إلى الموت ، والثاني أجل الآخرة لأن الحياة في الآخرة لا انقضاء لها ، ولا يعلم كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى ، وروي عن ابن عباس أن الأول هو وفاته بالنوم والثاني بالموت. وقال أيضا : الأول أجل الدنيا والثاني الآخرة. وقال مجاهد أيضا : الأول الآخرة. والثاني الدنيا. وقال ابن زيد : الأول هو في وقت أخذ الميثاق على بني آدم حين استخرجهم من ظهر آدم ، والمسمى في هذه الحياة الدنيا. وقال أبو مسلم : الأول أجل الماضين ، والثاني أجل الباقين ، ووصفه بأنه مسمى عنده لأنه تعالى مختص به بخلاف الماضين ، فإنهم لما ماتوا علمت آجالهم. وقيل : الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين الموت والبعث ، وهو البرزخ. وقيل : الأول مقدار ما انقضى من عمر كل إنسان ، والثاني مقدار ما بقي. وقيل : الأول أجل الأمم السالفة ، والثاني أجل هذه الأمة. وقيل : الأول ما علمناه أنه لا نبي بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والثاني من الآخرة ، وقيل : الأول ما عرف الناس من آجال الأهلة والسنين والكوائن ، والثاني قيام الساعة. وقيل : الأول من أوقات الأهلة وما أشبهها ، والثاني موت الإنسان. وقال ابن عباس ومجاهد أيضا (قَضى أَجَلاً) بانقضاء الدنيا والثاني لابتداء الآخرة. وروي عن ابن عباس أنه قال : لكل أحد أجلان ، فإن كان تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر ، وإن كان بالعكس نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث. وقال أبو عبد الله الرازي : لكل إنسان أجلان الطبيعي والاخترامي. فالطبيعي : هو الذي لو بقي ذلك المزاج مصونا عن العوارض الخارجة لانتهت مدة بقائه إلى الأوقات الفلكية. والاخترامي : هو الذي يحصل بسبب الأسباب الخارجية كالحرق والغرق ولدغ الحشرات ، وغيرها من الأمور المنفصلة ، انتهى. وهذا قول المعتزلة وهو نقله عنهم وقال : هذا قول حكماء الإسلام ، انتهى ومعنى (مُسَمًّى عِنْدَهُ) معلوم عنده أو مذكور في اللوح المحفوظ ، وعنده مجاز عن علمه ولا يراد به المكان.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب تقديمه فلم جاز تقديمه في قوله : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ).

(قلت) : لأنه تخصيص بالصفة فقارب المعرفة ، كقوله : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) (١) انتهى. وهذا الذي ذكره من مسوغ الابتداء بالنكرة لكونها وصفت لا يتعين هنا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢١.

٤٣٢

أن يكون هو المسوغ ، لأنه يجوز أن يكون المسوغ هو التفصيل لأن من مسوغات الابتداء بالنكرة ، أن يكون الموضع موضع تفصيل نحو قوله :

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له

بشق وشق عندنا لم يحول

وقد سبق كلامنا على هذا البيت وبينا أنه لا يجوز أن يكون عندنا في موضع الصفة ، بل يتعين أن يكون في موضع الخبر.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : الكلام السائر أن يقال : عندي ثوب جيد ولي عبد كيس وما أشبه ذلك.

(قلت) : أوجبه أن المعنى وأي (أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) تعظيما لشأن الساعة فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم ؛ انتهى. وهذا لا يجوز لأنه إذا كان التقدير وأي (أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) كانت أي صفة لموصوف محذوف تقديره وأجل أي (أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت أيا ولا حذف موصوفها وإبقاؤها ، فلو قلت مررت بأي رجل تريد برجل أيّ رجل لم يجز ، و (تَمْتَرُونَ) معناه تشكون أو تجادلون جدال الشاكين ، والتماري المجادلة على مذهب الشك قاله بعض المفسرين. والكلام في (ثُمَ) هنا كالكلام فيها في قوله (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) والذي يظهر لي أن قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) على جهة الخطاب ، هو التفات من الغائب الذي هو قوله (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وإن كان الخلق وقضاء الأجل ليس مختصا بالكفار إذ اشترك فيه المؤمن والكافر ، لكنه قصد به الكافر تنبيها له على أصل خلقه وقضاء الله تعالى عليه وقدرته ، وإنما قلت إنه من باب الالتفات لأن قوله (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) لا يمكن أن يندرج في هذا الخطاب من اصطفاه الله بالنبوة والإيمان.

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) لما تقدم ما يدل على القدرة التامة والاختيار ، ذكر ما يدل على العلم التام فكان في التنبيه على هذه الأوصاف دلالة على كونه تعالى قادرا مختارا عالما بالكليات والجزئيات وإبطالا لشبه منكر المعاد ، والظاهر أن (هُوَ) ضمير عائد على ما عادت عليه الضمائر قبله ، (وَهُوَ اللهُ) وهذا قول الجمهور قاله الكرماني. وقال أبو علي : (هُوَ) ضمير الشأن و (اللهُ) مبتدأ خبره ما بعده ، والجملة مفسرة لضمير الشأن وإنما فر إلى هذه لأنه إذا لم يكن ضمير الشأن ، كان عائدا على الله تعالى فيصير التقدير الله و (اللهُ) فينعقد مبتدأ وخبر من اسمين متحدين لفظا ومعنى لا نسبة بينهما إسنادية ، وذلك لا يجوز فلذلك والله أعلم تأول. أبو علي الآية على

٤٣٣

أن الضمير ضمير الأمر و (اللهُ) خبره يعلم (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) متعلق بيعلم والتقدير الله يعلم (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ).

ذهب الزجاج إلى أن قوله : (فِي السَّماواتِ) متعلق بما تضمنه اسم الله من المعاني ، كما يقال : أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب. قال ابن عطية : وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازا لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه وإيثار قدرته وإحاطته واستيلائه ، ونحو هذه الصفات فجمع هذه كلها في قوله (وَهُوَ اللهُ) أي الذي له هذه كلها (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) كأنه قال : وهو الخالق الرازق والمحيي المحيط في السموات وفي الأرض كما تقول : زيد السلطان في الشام والعراق ، فلو قصدت ذات زيد لقلت محالا وإذا كان مقصد قولك زيد السلطان الآمر الناهي الناقض المبرم الذي يعزل ويولي في الشام والعراق ، فأقمت السلطان مقام هذه كلها كان فصيحا صحيحا فكذلك في الآية أقام لفظة (اللهُ) مقام تلك الصفات المذكورة ؛ انتهى. وما ذكره الزجاج وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث المعنى ، لكن صناعة النحو لا تساعد عليه لأنهما زعما أن (فِي السَّماواتِ) متعلق بلفظ (اللهُ) لما تضمنه من المعاني ولا تعمل تلك المعاني جميعها في اللفظ ، لأنه لو صرح بها جميعها لم تعمل فيه بل العمل من حيث اللفظ لواحد منها ، وإن كان (فِي السَّماواتِ) متعلقا بها جميعها من حيث المعنى ، بل الأولى أن يعمل في المجرور ما تضمنه لفظ (اللهُ) من معنى الألوهية وإن كان لفظ (اللهُ) علما لأن الظرف والمجرور قد يعمل فيهما العلم بما تضمنه من المعنى كما قال : أنا أبو المنهال بعض الأحيان. فبعض منصوب بما تضمنه أبو المنهال كأنه قال أنا المشهور بعض الأحيان.

وقال الزمخشري نحوا من هذا قال : (فِي السَّماواتِ) متعلق بمعنى اسم الله ، كأنه قيل : وهو المعبود فيهما ومنه قوله (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (١) أي : وهو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها ، أو هو الذي يقال له : الله فيها لا يشرك في هذا الاسم ؛ انتهى ، فانظر تقاديره كلها كيف قدر العامل واحدا من المعاني لا جميعها ، وقالت فرقة (هُوَ) على تقدير صفة حذفت وهي مرادة في المعنى ، كأنه قيل : هو الله المعبود (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) وقدرها بعضهم وهو الله المدبر (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) ، وقالت فرقة : (وَهُوَ اللهُ) تم الكلام هنا. ثم استأنف ما بعده وتعلق المجرور ب (يَعْلَمُ)

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٨٤.

٤٣٤

وقالت فرقة : (وَهُوَ اللهُ) تام و (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) متعلق بمفعول (يَعْلَمُ) وهو (سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) والتقدير يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ، وهذا يضعف لأن فيه تقديم مفعول المصدر الموصول عليه والعجب من النحاس حيث قال : هذا من أحسن ما قيل فيه ، وقالت فرقة : هو ضمير الأمر والله مرفوع على الابتداء وخبره (فِي السَّماواتِ) والجملة خبر عن ضمير الأمر وتم الكلام. ثم استأنف فقال : (وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) أي : ويعلم في الأرض.

وقال ابن جرير نحوا من هذا إلا أن (هُوَ) عائد على ما عادت عليه الضمائر قبل وليس ضمير الأمر. وقيل : يتعلق (فِي السَّماواتِ) بقوله : (تَكْسِبُونَ) هذا خطأ ، لأن (ما) موصولة ب (تَكْسِبُونَ) وسواء كانت حرفا مصدريا أم اسما بمعنى الذي ، فإنه لا يجوز تقديم معمول الصلة على الموصول. وقيل (فِي السَّماواتِ) حال من المصدر الذي هو (سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) تقدم على ذي الحال وعلى العامل. وقال الزمخشري : يجوز أن يكون (اللهُ فِي السَّماواتِ) خبرا بعد خبر على معنى أنه الله وأنه في السموات والأرض بمعنى أنه عالم بما فيهما ، لا يخفى عليه شيء منه كأن ذاته فيها وهو ضعيف ، لأن المجرور بفي لا يدل على وصف خاص إنما يدل على كون مطلق وعلى هذه الأقوال ينبني إعراب هذه الآية ، وإنما ذهب أهل العلم إلى هذه التأويلات والخروج عن ظاهر (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) لما قام عليه دليل العقل من استحالة حلول الله تعالى في الأماكن ومماسة الاجرام ومحاذاته لها وتحيزه في جهة ، قال معناه وبعض لفظه ابن عطية وفي قوله : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) إلى آخره خبر في ضمنه تحذير وزجر. قال أبو عبد الله الرازي : المراد بالسرّ صفات القلوب وهو الدواعي والصوارف وبالجهر أعمال الجوارح وقدم السرّ لأن ذكر المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي ، فالداعية التي هي من باب السرّ هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر ، وقد ثبت أن العلم بالعلة علة العلم بالمعلول والعلة متقدّمة على المعلول والمقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ ، انتهى.

وقال التبريزي : معناه يعلم ما تخفونه من أعمالكم ونياتكم وما تظهرون من أعمالكم وما تكسبون ، عام لجميع الاعتقادات والأقوال والأفعال وكسب كل إنسان عمله المفضي به إلى اجتلاب نفع أو دفع ضرّ ولهذا لا يوصف به الله تعالى. وقال أبو عبد الله الرازي : وفي أول كلامه شيء من معنى كلام الزمخشري يجب حمل قوله : (ما تَكْسِبُونَ) على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب ، فهو محمول على المكتسب كما يقال هذا

٤٣٥

المال كسب فلان أي مكتسبه ، ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه وفي هذه الآية رد على المعطلة والثنوية والحشوية والفلاسفة ؛ انتهى.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف موقع قوله (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) (قلت) : إن أراد المتوحد بالإلهية كان تقريرا له ، لأن الذي استوى في علمه السرّ والعلانية ، هو الله وحده وكذلك إذا جعلت (فِي السَّماواتِ) خبرا بعد خبر وإلا فهو كلام مبتدأ أو خبر ثالث ، انتهى ، وهذا على مذهب من يجيز أن يكون للمبتدأ أخبار متعددة.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ مِنْ) الأولى زائدة لاستغراق الجنس ، ومعنى الزيادة فيها أن ما بعدها معمول لما قبلها فاعل بقوله (تَأْتِيهِمْ) فإذا كانت النكرة بعدها مما لا يستعمل إلا في النفي العام ، كانت (مِنْ) لتأكيد الاستغراق نحو ما في الدار من أحد ، وإذا كانت مما يجوز أن يراد بها الاستغراق ، ويجوز أن يراد بها نفي الوحدة أو نفي الكمال كانت (مِنْ) دالة على الاستغراق نحو ما قام من رجل ، و (مِنْ) الثانية للتبعيض. قال الزمخشري : يعني وما يظهر لهم قط دليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار إلا كانوا عنه (مُعْرِضِينَ) تاركين للنظر ، لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأسا لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب ؛ انتهى. واستعمال الزمخشري قط مع المضارع في قوله : وما يظهر لهم قط دليل ليس بجيد ، لأن قط ظرف مختص بالماضي إلا إن كان أراد بقوله : وما يظهر وما ظهر ولا حاجة إلى استعمال ذلك. وقيل : الآية هنا العلامة على وحدانية الله وانفراده بالألوهية. وقيل : الرسالة. وقيل : المعجز الخارق. وقيل : القرآن ومعنى (عَنْها) أي : عن قبولها أو سماعها ، والإعراض ضد الإقبال وهو مجاز إذ حقيقته في الأجسام ، والجملة من قوله : (كانُوا) ومتعلقها في موضع الحال فيكون (تَأْتِيهِمْ) ماضي المعنى لقوله : (كانُوا) أو يكون (كانُوا) مضارع المعنى لقوله : (تَأْتِيهِمْ) وذو الحال هو الضمير في (تَأْتِيهِمْ) ، ولا يأتي ماضيا إلا بأحد شرطين أحدهما : أن يسبقه فعل كما في هذا الآية ، والثاني أن تدخل على ذلك الماضي قد نحو ما زيد إلا قد ضرب عمرا ، وهذا التفات وخروج من الخطاب إلى الغيبة والضمير عائد على (الَّذِينَ كَفَرُوا). وتضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء (الَّذِينَ كَفَرُوا) بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم ، ولما تقدّم الكلام أولا في التوحيد وثانيا في المعاد وثالثا في تقرير هذين المطلوبين ، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بتقرير النبوة وبين فيه أنهم أعرضوا عن تأمل الدلائل ، ويدل ذلك على أن التقليد باطل وأن التأمل في الدلائل واجب ولذلك ذموا بإعراضهم عن الدلائل.

(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) الحق القرآن أو الإسلام أو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو انشقاق

٤٣٦

القمر أو الوعد أو الوعيد ، أقوال والذي يظهر أنه الآية التي تأتيهم وكأنه قيل : (فَقَدْ كَذَّبُوا) بالآية التي تأتيهم وهي الحق فأقام الظاهر مقام المضمر ، لما في ذلك من وصفه بالحق وحقيقته كونه من آيات الله تعالى ، وظاهر قوله (فَقَدْ كَذَّبُوا) أن الفاء للتعقيب وأن إعراضهم عن الآية أعقبه التكذيب. وقال الزمخشري : (فَقَدْ كَذَّبُوا) مردود على كلام محذوف كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات. (فَقَدْ كَذَّبُوا) بما هو أعظم آية وأكبرها وهو الحق ، لما جاءهم يعني القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه ؛ انتهى. ولا ضرورة تدعو إلى شرط محذوف إذ الكلام منتظم بدون هذا التقدير.

(فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) هذا يدل على أنهم وقع منهم الاستهزاء ، فيكون في الكلام معطوف محذوف دل عليه آخر الآية وتقديره واستهزؤوا به ، (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ) وهذه رتب ثلاث صدرت من هؤلاء الكفار ، الإعراض عن تأمل الدلائل ثم أعقب الإعراض التكذيب ، وهو أزيد من الإعراض إذ المعرض قد يكون غافلا عن الشيء ثم أعقب التكذيب الاستهزاء ، وهو أزيد من التكذيب إذ المكذب قد لا يبلغ إلى حدّ الاستهزاء وهذه هي المبالغة في الإنكار ، والنبأ الخبر الذي يعظم وقعه وفي الكلام حذف مضاف أي : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ) مضمن (أَنْباءُ) فقال قوم : المراد ما عذبوا به في الدنيا من القتل والسبي والنهب والإجلاء وغير ذلك ، وخصص بعضهم ذلك بيوم بدر. وقيل : هو عذاب الآخرة ، وتضمنت هذه الجملة التهديد والزجر والوعيد كما تقول : اصنع ما تشاء فسيأتيك الخبر ، وعلق التهديد بالاستهزاء دون الإعراض والتكذيب لتضمنه إياهما ، إذ هو الغاية القصوى في إنكار الحق. وقال الزمخشري : وهو القرآن أي أخباره وأحواله بمعنى سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وسيظهر لهم أنه لم يكن موضع استهزاء ، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته ؛ انتهى. وهو على عادته في الإسهاب وشرح اللفظ والمعنى مما لا يدلان عليه ، وجاء هنا تقييد الكذب بالحق والتنفيس بسوف وفي الشعراء (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ) (١) لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء ، فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو مرادا حالة على الأول وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس ، فجاء بالسين والظاهر أن ما في قوله : (ما كانُوا) موصولة اسمية بمعنى الذي والضمير في (بِهِ) عائد عليها. وقال ابن عطية : يصح أن تكون مصدرية التقدير (أَنْباءُ) كونهم مستهزئين فعلى هذا يكون الضمير في (بِهِ) عائدا

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٦.

٤٣٧

على الحق لا على (ما) لا على مذهب الأخفش حيث زعم أن (ما) المصدرية اسم لا حرف ، ولا ضرورة تدعو إلى كونها مصدرية.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) لما هددهم وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم ، أتبع ذلك بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة ، وحض على الاعتبار بالقرون الماضية و (يَرَوْا) هنا بمعنى يعلموا ، لأنهم لم يبصروا هلاك القرون السالفة و (كَمْ) في موضع المفعول ب (أَهْلَكْنا) و (يَرَوْا) معلقة والجملة في موضع مفعولها ، و (مِنْ) الأولى لابتداء الغاية و (مِنْ) الثانية للتبعيض ، والمفرد بعدها واقع موقع الجمع ووهم الحوفي في جعله (مِنْ) الثانية بدلا من الأولى وظاهر الإهلاك أنه حقيقة ، كما أهلك قوم نوح وعادا وثمود غيرهم ويحتمل أن يكون معنويا بالمسخ قردة وخنازير ، والضمير في (يَرَوْا) عائد على من سبق من المكذبين المستهزئين و (لَكُمْ) خطاب لهم فهو التفات ، والمعنى أن القرون المهلكة أعطوا من البسطة في الدنيا والسعة في الأموال ما لم يعط هؤلاء الذين حضوا على الاعتبار بالأمم السالفة وما جرى لهم ، وفي هذا الالتفات تعريض بقلة تمكين هؤلاء ونقصهم عن أحوال من سبق ، ومع تمكين أولئك في الأرض فقد حل بهم الهلاك ، فكيف لا يحل بكم على قلتكم وضيق خطتكم؟ فالهلاك إليكم أسرع من الهلاك إليهم. وقال ابن عطية : والمخاطبة في (لَكُمْ) هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم وسائر الناس كافة ، كأنه قال : (ما لَمْ نُمَكِّنْ) يا أهل هذا العصر لكم ويحتمل أن يقدر معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال يا محمد قل لهم ا لم يروا كم أهلكنا (١) الآية. وإذا أخبرت أنك قلت لو قيل له أو أمرت أن يقال له فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها ، فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ ذكر غائب دون مخاطبة ، انتهى. فتقول : قلت لزيد ما أكرمك وقلت لزيد ما أكرمه ، والضمير في (مَكَّنَّاهُمْ) عائد على (كَمْ) مراعاة لمعناها ، لأن معناها جمع والمراد بها الأمم. وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يعود على (قَرْنٍ) وذلك ضعيف لأن (مِنْ قَرْنٍ) تمييز (لَكُمْ) فكم هي المحدث عنها بالإهلاك فتكون هي المحدث عنها بالتمكين ، فما بعده إذ (مِنْ قَرْنٍ) جرى مجرى التبيين ولم يحدث عنه.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٦.

٤٣٨

وأجاز أبو البقاء أن يكون (كَمْ) هنا ظرفا وأن يكون مصدرا ، أي : كم أزمنة أهلكنا؟ أو كم إهلاكا أهلكنا؟ ومفعول أهلكنا من قرن على زيادة من وهذا الذي أجازه لا يجوز ، لأنه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع بل تدل على المفرد ، لو قلت : كم أزمانا ضربت رجلا أو كم مرة ضربت رجلا؟ لم يكن مدلوله مدلول رجال ، لأن السؤال إنما هو عن عدد الأزمان أو المرات التي ضرب فيها رجل ، ولأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة (مِنْ) لأنها لا تزاد إلا في الاستفهام المحض أو الاستفهام المراد به النفي ، والاستفهام هنا ليس محضا ولا يراد به النفي.

والظاهر أن قوله (مَكَّنَّاهُمْ) جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ما كان من حالهم؟ فقيل : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ). وقال أبو البقاء : (مَكَّنَّاهُمْ) في موضع خبر صفة (قَرْنٍ) وجمع على المعنى وما قاله أبو البقاء ممكن ، و (ما) في قوله : (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) جوزوا في إعرابها أن تكون بمعنى الذي ويكون التقدير التمكين ، الذي (لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) فحذف المنعوت وأقيم النعت مقامه ، ويكون الضمير العائد على (ما) محذوفا أي ما لم نمكنه لكم وهذا لا يجوز ، لأن (ما) بمعنى الذي لا يكون نعتا للمعارف وإن كان مدلولها مدلول الذي ، بل لفظ الذي هو الذي يكون نعتا للمعارف لو قلت ضربت الضرب ما ضرب زيد تريد الذي ضرب زيد لم يجز ، فلو قلت : الضرب الذي ضربه زيد جاز وجوزوا أيضا أن يكون نكرة صفة لمصدر محذوف تقديره تمكينا لم نمكنه لكم ، وهذا أيضا لا يجوز لأن (ما) النكرة الصفة لا يجوز حذف موصوفها ، لو قلت : قمت ما أو ضربت ما وأنت تريد قمت قياما ما وضربت ضربا ما لم يجز ، وهذان الوجهان أجازهما الحوفي وأجاز أبو البقاء أن يكون (ما) مفعولا به بنمكن على المعنى ، لأن المعنى أعطيناهم ما لم نعطكم ، وهذا الذي أجازه تضمين والتضمين لا ينقاس ، وأجاز أيضا أن تكون (ما) مصدرية والزمان محذوف أي مدة (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) ويعني مدة انتفاء التمكين لكم ، وأجاز أيضا أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها أي شيئا لم نمكنه لكم ، وحذف العائد من الصفة على الموصوف وهذا أقرب إلى الصواب وتعدى مكن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر ، والأكثر تعديته باللام (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) (١) (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) (٢) أو لم نمكن لهم. وقال أبو عبيد مكناهم ومكنا لهم لغتان فصيحتان ، كنصحته ونصحت له والإرسال والإنزال متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من رسل اللبن ، وهو ما ينزل من الضرع متتابعا

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢١ و ٥٦.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٨٤.

٤٣٩

و (السَّماءَ) السماء المظلة قالوا : لأن المطر ينزل منها إلى السحاب ، ويكون على حذف مضاف أي مطر (السَّماءَ) ويكون (مِدْراراً) حالا من ذلك المضاف المحذوف. وقيل : (السَّماءَ) المطر وفي الحديث : «في أثر سماء كانت من الليل» ، وتقول العرب : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم ، يريدون المطر وقال الشاعر :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رغيناه وإن كانوا غضبانا

و (مِدْراراً) على هذا حال من نفس (السَّماءَ). وقيل : (السَّماءَ) هنا السحاب ويوصف بالمدرار ، فمدرارا حال منه و (مِدْراراً) يوصف به المذكر والمؤنث وهو للمبالغة في اتصال المطر ودوامة وقت الحاجة ، لا إنها ترفع ليلا ونهارا فتفسد قاله ابن الأنباري. ولأن هذه الأوصاف إنما ذكرت لتعديد النعم عليهم ومقابلتها بالعصيان ، (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) تقدّم ذكر كيفية جريان الأنهار من التحت في أوائل البقرة. وقد أعرب من فسر (الْأَنْهارَ) هنا بالخيل كما قيل في قوله : (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) (١) وإذا كان الفرس سريع العدو واسع الخطو وصف بالبحر وبالنهر ، والمعنى أنه تعالى مكنهم التمكين البالغ ووسع عليهم الرزق فذكر سببه وهو تتابع الأمطار على قدر حاجاتهم وإمساك الأرض ذلك الماء ، حتى صارت الأنهار تجري من تحتهم فكثر الخصب فأذنبوا فأهلكوا بذنوبهم ، والظاهر أن الذنوب هنا هي كفرهم وتكذيبهم برسل الله وآياته ، والإهلاك هنا لا يراد به مجرد الإفناء والإماتة بل المراد الإهلاك الناشئ عن الذنوب والأخذ به كقوله تعالى : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) (٢) ، لأن الإهلاك بمعنى الإماتة مشترك فيه الصالح والطالح ، وفائدة ذكر إنشاء قرن (آخَرِينَ) بعدهم ، إظهار القدرة التامّة على إفناء ناس وإنشاء ناس فهو تعالى لا يتعاظمه أن يهلك (قَرْناً) ويخرب بلاده وينشئ مكانه آخر يعمر بلاده وفيه تعريض للمخاطبين ، بإهلاكهم إذا عصوا كما أهلك من قبلهم ووصف قرنا ب (آخَرِينَ) وهو جمع حملا على معنى قرن ، وكان الحمل على المعنى أفصح لأنها فاصلة رأس آية.

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) سبب نزولها اقتراح عبد الله بن أبي أمية وتعنته إذ قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء ، ثم نزل بكتاب فيه من ربّ العزة إلى عبد الله بن أبي أمية يأمرني

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٥١.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٠.

٤٤٠