البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

للإنسان دون ذكر الجماد ودون ذكر ما يعمها من حيث قسوة المماثلة في الشعور بالأشياء والاهتداء إلى كثير من المصالح بخلاف الجماد ، وإن كانت القدرة متعلقة بجميع المخلوقات ودابة تقدّم شرحها ، وهي هنا في سياق النفي مصحوبة بمن التي تفيد استغراق الجنس ، فهي عامّة تشمل كل ما يدبّ فيندرج فيها الطائر ، فذكر الطائر بعد ذكر الدابة تخصيص بعد تعميم وذكر بعض من كلّ وصار من باب التجريد كقوله : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (١) بعد ذكر الملائكة. وإنما جرد الطائر لأن تصرفه في الوجود دون غيره من الحيوان أبلغ في القدرة وأدل على عظمها من تصرف غيره من الحيوان في الأرض ، إذ الأرض جسم كثيف يمكن تصرف الأجرام عليها ، والهواء جسم لطيف لا يمكن عادة تصرف الأجرام الكثيفة فيها إلا بباهر القدرة الإلهية ، ولذلك قال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) (٢) وجاء قوله في الأرض إشارة إلى تعميم جميع الأماكن لما كان لفظ (مِنْ دَابَّةٍ) وهو المتصرف أتى بالمتصرف فيه عاما وهو (الْأَرْضِ) ، ويشمل الأرض البر والبحر ، ويطير بجناحيه تأكيد لقوله (وَلا طائِرٍ) لأنه لا طائر إلا يطير بجناحيه ، وليرفع المجاز الذي كان يحتمله قوله (وَلا طائِرٍ) لو اقتصر عليه ، ألا ترى إلى استعارة الطائر للعمل في قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (٣) وقولهم : «طار لفلان كذا في القسمة» أي سهمه ، و «طائر السعد والنحس» وفيه تنبيه على تصور هيئته على حالة الطيران واستحضار لمشاهدة هذا الفعل الغريب. وجاء الوصف بلفظ «يطير» لأنه مشعر بالديمومة والغلبة ، لأن أكثر أحوال الطائر كونه يطير ، وقلّ ما يسكن ، حتى إن المحبوس منها يكثر ولوعه بالطيران في المكان الذي حبس فيه من قفص وغيره.

وقرأ ابن أبي عبلة (وَلا طائِرٍ) بالرفع ، عطفا على موضع (دَابَّةٍ). وجوزوا أن يكون (فِي الْأَرْضِ) في موضع رفع صفة على موضع (دَابَّةٍ) ، وكذلك يقتضي أن يكون (يَطِيرُ) ويتعين ذلك في قراءة ابن أبي عبلة ، والباء في (بِجَناحَيْهِ) للاستعانة كقوله : «كتبت بالقلم» و (إِلَّا أُمَمٌ) هو خبر المبتدأ الذي هو (مِنْ دَابَّةٍ وَلا طائِرٍ) وجمع الخبر وإن كان المبتدأ مفردا حملا على المعنى لأن المفرد هنا للاستغراق والمثلية هنا.

قال الزمخشري أمثالكم مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم انتهى.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٨.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٧٩.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ١٣.

٥٠١

وقال ابن عطية مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر.

وقال الطبري وغيره وهو مرويّ عن أبي هريرة واختيار الزجاج المماثلة في أنها تجازى بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض ، على ما روي في الأحاديث.

وقال مكيّ في أنها تعرف الله تعالى وتعبده. وهذا قول أبي عبيدة ، قال معناه إلا أجناس يعرفون الله ويعبدونه. ونقله الواحدي عن ابن عباس أن المماثلة حصلت من حيث إنهم يعرفون الله ويوحدونه ويحمدونه ويسبحونه. وإليه ذهبت طائفة من المفسرين محتجين بقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (١) وبقوله في صفة الحيوان (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (٢) وبما به خاطب النمل وخاطب الهدهد.

قال ابن عطية في قول مكي وهذا قول خلف انتهى.

وقال ابن عطية ويحتمل أن تكون المماثلة في كونها أمما لا غير. كما تريد بقولك : مررت برجل مثلك أي أي انه رجل. ويصح في غير ذلك من الأوصاف إلا أن الفائدة في هذه أن تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمما.

وقال مجاهد إلا أصناف مصنفة.

وقال أبو صالح عن ابن عباس : المماثلة وقعت بينها وبين بني آدم من قبل أن بعضهم يفقه عن بعض.

وقال ابن عيسى أمثالكم في الحاجة إلى مدبر يدبرهم فيما يحتاجون إليه من قوت يقوتهم وإلى لباس يسترهم ، وإلى كنّ يواريهم. وروي عن أبي الدرداء أنه قال : أبهمت عقول البهم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء : الإله سبحانه وتعالى وطلب الرزق ، ومعرفة الذكر والأنثى ، وتهيؤ كل واحد منهما لصاحبه.

وقيل المماثلة في كونها جماعات مخلوقة يشبه بعضها بعضا ، ويأنس بعضها ببعض وتتوالد كالإنس.

وروى أبو سليمان الخطابي عن سفيان بن عيينة أنه قرأ هذه الآية وقال ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم ، فمنهم من يقدم إقدام الأسد ومنهم من يعدو عدو

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٤٤.

(٢) سورة النور : ٢٤ / ٤١.

٥٠٢

الذئب ، ومنهم من ينبح نباح الكلاب ، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس ، ومنهم من يشره شره الخنزير.

وفي رواية منهم من يشبه الخنزير إذا ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل من رجيعه ولغ فيه. وكذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ منها واحدة. فإن أخطأت واحدة حفظها ولم يجلس مجلسا إلا رواها عنك (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي ما تركنا وما أغفلنا والكتاب اللوح المحفوظ. والمعنى وما أغفلنا فيه من شيء لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت ، قاله الزمخشري ولم يذكر غيره ، أو القرآن وهو الذي يقتضيه سياق الآية والمعنى وبدأ به عن ابن عطية وذكر اللوح المحفوظ ، فعلى هذا يكون قوله : من شيء على عمومه ، وعلى القول الأول يكون من العام الذي يراد به الخاص فالمعنى من شيء على عمومه ، وعلى القول الأول يكون من العام الذي يراد به الخاص فالمعنى من شيء يدعو إلى معرفة الله وتكاليفه ، وكثيرا ما يستدل بعض الظاهرية بقوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) يشير إلى أن الكتاب تضمن الأحكام التكليفية كلها ، والتفريط التقصير فحقه أن يتعدى بفي كقوله (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (١) وإذا كان كذلك فيكون قد ضمن ما أغفلنا وما تركنا ويكون (مِنْ شَيْءٍ) في موضع المفعول به و (مِنْ) زائدة ، والمعنى : ما تركنا وما أغفلنا في الكتاب شيئا يحتاج إليه من دلائل الإلهية والتكاليف ، ويبعد جعل (مِنْ) هنا تبعيضية وأن يكون التقدير ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المكلف ، وإن قاله بعضهم. وجعل أبو البقاء هنا (مِنْ شَيْءٍ) واقعا موقع المصدر ، أي تفريطا. قال : وعلى هذا التأويل لا يبقى في الآية حجة لمن ظن أنّ الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء تصريحا ونظير ذلك لا يضركم كيدهم شيئا أي ضررا انتهى. وما ذكره من أنه لا يبقى على هذا التأويل حجة لمن ذكر ليس كما ذكر لأنه إذا تسلط النفي على المصدر كان المصدر منفيا على جهة العموم ، ويلزم من نفي هذا العموم نفي أنواع المصدر ونوع مشخصاته ، ونظير ذلك لا قيام فهذا نفي عام فينتفي منه جميع أنواع القيام ومشخصاته كقيام زيد وقيام عمرو وما أشبه ذلك فإذا نفى التفريط على طريقة العموم كان ذلك نفيا لجميع أنواع التفريط ومشخصاته ومتعلقاته ، فيلزم من ذلك أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء. وقرأ الأعرج وعلقمة (ما فَرَّطْنا) بتخفيف الراء والمعنى واحد. وقال النقاش : معنى (فَرَّطْنا) مخففة ، أخرنا كما قالوا : فرط الله عنك المرض أي أزاله.

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٥٦.

٥٠٣

(ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) الظاهر في الضمير أنه عائد على ما تقدم وهو الأمم كلها من الطير والدواب. وقال قوم : هو عائد على الكفار لا على أمم وما تخلل بينهما كلام معترض وإقامة وحجج ويرجح هذا القول كونه جاء بهم وبالواو التي هي للعقلاء ، ولو كان عائدا على أمم الطير والدواب لكان التركيب ثم إلى ربها تحشر ويجاب عن هذا بأنها لما كانت ممتثلة ما أراد الله منها ، أجريت مجرى العقلاء وأصل الحشر الجمع ومنه فحشر فنادى والظاهر أنه يراد به البعث يوم القيامة وهو قول الجمهور ، فتحشر البهائم والدواب والطير وفي ذلك حدّيث يرويه يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله عزوجل يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول : كوني ترابا فذلك قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (١). وقال ابن عباس والحسن في آخرين : حشر الدواب موتها لأن الدواب لا تكليف عليها ولا ترجو ثوابا ولا تخاف عقابا ولا تفهم خطابا ؛ انتهى. ومن ذهب هذا المذهب تأول حديث أبي هريرة على معنى التمثيل في الحساب والقصاص حتى يفهم كل مكلف أنه لا بد له منه ولا محيص وأنه العدل المحض. قال ابن عطية : والقول في الأحاديث المتضمنة أن الله يقتص للجماء من القرناء ، أنها كناية عن العدل وليست بحقيقة قول مرذول ينحو إلى القول بالرموز ونحوها ؛ انتهى.

وقال ابن فورك : القول بحشرها مع بني آدم أظهر ؛ انتهى. وعلى القول بحشر البهائم مع الناس اختلفوا في المعنى الذي تحشر لأجله ، فذهب أهل السنة أنها لإظهار القدرة على الإعادة وفي ذلك تخجيل لمن أنكر ذلك فقال : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٢) وقالت المعتزلة : يحشر الله البهائم والطير لإيصال الأعواض إليها وكذلك قال الزمخشري ، فيعوضها وينصف بعضها من بعض كما روي أنه يأخذ للجماء من القرناء ؛ انتهى. وطول المعتزلة في إيصال التعويض عن آلام البهائم وضررها وأن ذلك واجب على الله تعالى. وفرعوا فروعا واختلفوا في العوض أهو منقطع أم دائم؟ فذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه منقطع فبعد توفية العوض يجعلها ترابا ، وقال أبو القاسم البلخي : يجب كون العوض دائما. وقيل : تدخل البهائم الجنة وتعوض عن ما نالها من الآلام وكل ما قالته المعتزلة مبناه على أن الله تعالى يجب عليه إيصال الأعواض إلى البهائم عن الآلام التي حصلت لها في الدّنيا ، ومذهب أهل السنة أن الإيجاب على الله تعالى محال.

__________________

(١) سورة النبإ : ٧٨ / ٤٠.

(٢) سورة يس : ٣٦ / ٧٨.

٥٠٤

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) قال النقاش : نزلت في بني عبد الدار ثم انسحبت على سواهم ؛ انتهى. ومناسبة هذه لما قبلها أنه لما تقدم قوله : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) أخبر أن المكذبين بالآيات صم لا يسمعون من ينبههم ، فلا يستجيب أحد منهم ولما كان قوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ) الآية منبها على عظيم قدرة الله تعالى ولطيف صنعه وبديع خلقه ، ذكر أن المكذب بآياته هو أصم عن سماع الحق أبكم عن النطق به ، والآيات هنا القرآن أو ما ظهر على يدي الرسول من المعجزات أو الدلائل والحجج ثلاثة أقوال والإخبار عنهم بقوله : (صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) الظاهر أنه استعارة عن عدم الانتفاع الذهني بهذه الحواس لا أنهم (صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) حقيقة وجاء قوله : (فِي الظُّلُماتِ) كناية عن عمى البصيرة ، فهو ينظر كقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (١) لكن قوله : (فِي الظُّلُماتِ) أبلغ من قوله : (عُمْيٌ) إذ جعلت ظرفا لهم وجمعت لاختلاف جهات الكفر ، كما قيل في قوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (٢) على أحد الأقوال وفي قوله : (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) (٣). وقال الجبائي : الإخبار عنهم بأنهم (صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) حقيقة وذلك يوم القيامة يجعلهم صما وبكما في الظلمات يضلهم بذلك عن الجنة ويصيرهم إلى النار ، ويعضد هذا التأويل قوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) (٤) الآية. وقال الكعبيّ : (صُمٌّ وَبُكْمٌ) محمول على الشتم والإهانة على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة ؛ انتهى. و (الظُّلُماتِ) ظلمات الكفر أو حجب تضرب على القلب فيظلم وتحول بينه وبين نور الإيمان ، أو ظلمات يوم القيامة ومنه قيل : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا أو الشدائد لأن العرب كانت تعبر عن الشدة بالظلمة يقولون يوم مظلمة إذا لقوا فيه شدة ومنه قوله :

بني أسد هل تعلمون بلاءنا

إذا كان يوم ذو كواكب مظلم

أربعة أقوال : رابعها قاله الليث. (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) مفعول (يَشَأِ) محذوف تقديره من يشأ الله إضلاله (يُضْلِلْهُ) ومن يشأ هدايته (يَجْعَلْهُ) ولا يجوز في (مَنْ) فيهما أن يكون مفعولا بيشأ للتعاند الحاصل بين المشيئتين ، (فإن قلت) : يكون مفعولا بيشأ على حذف مضاف تقديره إضلال من يشاء الله وهداية من

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٨ ، ١٧١.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٧.

(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٧.

٥٠٥

يشاء الله ، فحذف وأقيم من مقامه ودل فعل الجواب على هذا المفعول. فالجواب : أن ذلك لا يجوز لأن أبا الحسن الأخفش حكى عن العرب أن اسم الشرط غير الظرف والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود على اسم الشرط أو المضاف إليه ، والضمير في (يُضْلِلْهُ) إما أن يكون عائدا على إضلال المحذوف أو على من لا جائز أن يعود على إضلال فيكون كقوله (يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ) (١) إذ الهاء تعود على ذي المحذوفة من قوله : أو كظلمات إذ التقدير أو كذي ظلمات لأنه يصير التقدير إضلال (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) أي يضلل الإضلال وهذا لا يصحّ ولا جائز أن يعود على من الشرطية لأنه إذ ذاك تخلو الجملة الجزائية من ضمير يعود على المضاف إلى اسم الشرط وذلك لا يجوز.

(فإن قلت) : يكون التقدير من يشأ الله بالإضلال فيكون على هذا مفعولا مقدما لأن شاء بمعنى أراد ويقال أراده الله بكذا. قال الشاعر :

أرادت عرار بالهوان ومن يرد

عرار العمرى بالهوان فقد ظلم

فالجواب : أنه لا يحفظ من كلام العرب تعدية شاء بالباء لا يحفظ شاء الله بكذا ولا يلزم من كون الشيء في معنى الشيء أن يعدى تعديته ، بل قد يختلف تعدية اللفظ الواحد باختلاف متعلقه ألا ترى أنك تقول : دخلت الدار ودخلت في غمار الناس ، ولا يجوز دخلت غمار الناس فإذا كان هذا واردا في الفعل الواحد فلأن يكون في الفعلين أحرى ، وإذا تقرّر هذا فإعراب من يحتمل وجهين أحدهما وهو الأولى أن يكون مبتدأ جملة الشرط خبره والثاني أن يكون مفعولا بفعل محذوف متأخر عنه يفسره فعل الشرط من حيث المعنى ، وتكون المسألة من باب الاشتغال التقدير من يشق الله يشأ إضلاله ومن يسعد يشأ هدايته (يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وظاهر الآية يدل على مذهب أهل السنة في أن الله تعالى هو الهاديّ وهو المضل ، وأن ذلك معذوق بمشيئته لا يسأل عما يفعل وقد تأولت المعتزلة هذه الآية كما تأولوا غيرها فقالوا : معنى (يُضْلِلْهُ) يخذله ويخبله وضلاله لم يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف ، ومعنى (يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يلطف به لأن اللطف يجري عليه وهذا على قول الزمخشري. وقال غيره : يضلله عن طريق الجنة و (يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة ، قالوا : وقد

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٤٠.

٥٠٦

ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الضلال إلا لمن يستحق العقوبة كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) هذا ابتداء احتجاج على الكفار الذين يجعلون لله شركاء. قال الكرماني : (أَرَأَيْتَكُمْ) كلمة استفهام وتعجب وليس لها نظير. وقال ابن عطية : والمعنى : أرأيتكم إن خفتم عذاب الله أو خفتم هلاكا أو خفتم الساعة أتدعون أصنامكم وتلجئون إليها في كشف ذلك إن كنتم صادقين في قولكم إنها آلهة بل تدعون الله الخالق الرازق فيكشف ما خفتموه إن شاء وتنسون أصنامكم أي تتركونهم؟ فعبر عن الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ذهول وإغفال ، فكيف يجعل إلها من هذه حاله في الشدائد؟ و (أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) أتاكم خوفه وأماراته وأوائله مثل الجدب والبأساء والأمراض التي يخاف منها الهلاك كالقولنج ويدعو إلى هذا التأويل إنا لو قدرنا إتيان العذاب وحلوله لم يترتب أن يقول بعد ذلك : فيكشف ما تدعون لأن ما قد صح حلوله ومضى لا يصح كشفه ، ويحتمل أن يريد بالساعة في هذه الآية ساعة موت الإنسان ؛ انتهى. ولا يضطر إلى هذا التأويل الذي ذكره بل إذا حل بالإنسان العذاب واستمر عليه لا يدعو إلا الله وقوله : لأن ما صح حلوله ومضى لا يصح كشفه ليس كما ذكر ، لأن العذاب الذي يحل بالإنسان هو جنس منه ما مرّ وانقضى فذلك لا يصح كشفه ومنه ما هو ملتبس بالإنسان في الحال فيصح كشفه وإزالته بقطع الله ذلك عن الإنسان ، وهذه الآية تنظر إلى قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) (١) فما انقضى من الضر الذي مسه لا يصح كشفه ، وما هو ملتبس به كشفه الله تعالى فالضر جنس كما أن العذاب هنا جنس. وقال مقاتل : عذاب الله هو العذاب الذي كان يأتي الأمم الخالية. وقال ابن عباس : هو الموت ويعني والله أعلم مقدّماته من الشدائد والجمهور على أن (السَّاعَةُ) هي القيامة وأ رأيت الهمزة فيها للاستفهام فإن كانت البصرية أو التي لإصابة الرؤية أو العلمية الباقية على بابها لم يجز فيها إلا تحقيق الهمزة أو تسهيلها بين بين ولا يجوز حذفها ، وتختلف التاء باختلاف المخاطب ولا يجوز إلحاق الكاف بها وإن كانت العلمية التي هي بمعنى أخبرني جاز أن تحقق الهمزة ، وبه قرأ الجمهور في (أَرَأَيْتَكُمْ) وأرأيتم وأ رأيت وجاز أن تسهل بين بين وبه

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ١٢.

٥٠٧

قرأ نافع وروي عنه إبدالها ألفا محضة ويطول مدّها لسكونها وسكون ما بعدها ، وهذا البدل ضعيف عند النحويين إلا أنه قد سمع من كلام العرب حكاه قطرب وغيره وجاز حذفها وبه قرأ الكسائي وقد جاء ذلك في كلام العرب. قال الراجز :

أريت إن جاءت به أملودا

بل قد زعم الفراء أنها لغة أكثر العرب ، قال الفراء : للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان أحدهما أن تسأل الرجل أرأيت زيدا أي بعينك فهذه مهموزة ، وثانيهما أن تقول : أرأيت وأنت تقول أخبرني فهاهنا تترك الهمزة إن شئت وهو أكثر كلام العرب تومئ إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين ؛ انتهى. وإذا كانت بمعنى أخبرني جاز أن تختلف التاء باختلاف المخاطب وجاز أن تتصل بها الكاف مشعرة باختلاف المخاطب ، وتبقى التاء مفتوحة كحالها للواحد المذكر ومذهب البصريين أن التاء هي الفاعل وما لحقها حرف يدل على اختلاف المخاطب وأغنى اختلافه عن اختلاف التاء ومذهب الكسائي أن الفاعل هو التاء وإن أداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول ، ومذهب الفراء أن التاء هي حرف خطاب كهي في أنت وإن أداة الخطاب بعده هي في موضع الفاعل ، استعيرت ضمائر النصب للرفع والكلام على هذه المذاهب إبدالا وتصحيحا مذكور في علم النحو ، وكون أرأيت وأ رأيتك بمعنى أخبرني نص عليه سيبويه والأخفش والفراء والفارسي وابن كيسان وغيرهم. وذلك تفسير معنى لا تفسير إعراب قالوا : فتقول العرب أرأيت زيدا ما صنع فالمفعول الأول ملتزم فيه النصب ، ولا يجوز فيه الرفع على اعتبار تعليق أرأيت وهو جائز في علمت ورأيت الباقية على معنى علمت المجردة من معنى أخبرني لأن أخبرني لا تعلق ، فكذلك ما كان بمعناها والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني. قال سيبويه : وتقول أرأيتك زيدا أبو من هو وأ رأيتك عمرا أعندك هو أم عند فلان لا يحسن فيه إلا النصب في زيد ألا ترى أنك لو قلت أرأيت أبو من أنت وأ رأيت أزيد ثم أم فلان ، لم يحسن لأن فيه معنى أخبرني عن زيد. ثم قال سيبويه : وصار الاستفهام في موضع المفعول الثاني وقد اعترض كثير من النحاة على سيبويه وخالفوه ، وقالوا : كثيرا ما تعلق أرأيت وفي القرآن من ذلك كثير منه (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) (١) (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ) (٢). وقال الشاعر :

أرأيت إن جاءت به أملودا

مرجّلا ويلبس البرودا

__________________

(١) سورة العلق : ٩٦ / ٩.

(٢) سورة العلق : ٩٦ / ١٣.

٥٠٨

أقائلن أحضروا الشهودا

وذهب ابن كيسان إلى أن الجملة الاستفهامية في أرأيت زيدا ما صنع بدل من أرأيت ، وزعم أبو الحسن أن (أَرَأَيْتَكَ) إذا كانت بمعنى أخبرني فلابد بعدها من الاسم المستخبر عنه وتلزم الجملة التي بعده الاستفهام ، لأن أخبرني موافق لمعنى الاستفهام وزعم أيضا أنها تخرج عن بابها بالكلية وتضمن معنى أما أو تنبه وجعل من ذلك قوله تعالى : قال (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) (١) وقد أمعنا الكلام على أرأيت ومسائلها في كتابنا المسمى بالتذييل في شرح التسهيل وجمعنا فيه ما لا يوجد مجموعا في كتاب فيوقف عليه فيه ، ونحن نتكلم على كل مكان تقع فيه أرأيت في القرآن بخصوصيته. فنقول الذي نختاره أنها باقية على حكمها من التعدّي إلى اثنين فالأول منصوب والذي لم نجده بالاستقراء إلا جملة استفهامية أو قسمية ، فإذا تقرر هذا فنقول : المفعول الأول في هذه الآية محذوف والمسألة من باب التنازع تنازع (أَرَأَيْتَكُمْ) والشرط على عذاب الله فأعمل الثاني وهو (أَتاكُمْ) فارتفع عذاب به ، ولو أعمل الأول لكان التركيب عذاب بالنصب ونظيره اضرب إن جاءك زيد على إعمال جاءك ، ولو نصب لجاز وكان من إعمال الأول وأما المفعول الثاني فهي الجملة الاستفهامية من (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول محذوف تقديره (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) لكشفه والمعنى : قل أرأيتكم عذاب الله إن أتاكم أو الساعة إن أتتكم أغير الله تدعون لكشفه أو كشف نوازلها ، وزعم أبو الحسن أن (أَرَأَيْتَكُمْ) في هذه الآية بمعنى أما.

قال وتكون أبدا بعد الشرط وظروف الزمان والتقدير أما إن أتاكم عذابه والاستفهام جواب أرأيت لا جواب الشرط وهذا إخراج لأرأيت عن مدلولها بالكلية ، وقد ذكرنا تخريجها على ما استقر فيها فلا نحتاج إلى هذا التأويل البعيد ، وعلى ما زعم أبو الحسن لا يكون لأرأيت مفعولان ولا مفعول واحد ، وذهب بعضهم إلى أن مفعول (أَرَأَيْتَكُمْ) محذوف دل عليه الكلام تقديره أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم عند مجيء الساعة؟ ودل عليه قوله : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ). وقال آخرون لا تحتاج هنا إلى جواب مفعول لأن الشرط وجوابه قد حصلا معنى المفعول وهذان القولان ضعيفان ، وأما جواب الشرط فذهب الحوفي إلى أن جوابه (أَرَأَيْتَكُمْ) قدّم لدخول ألف الاستفهام عليه وهذا لا يجوز عندنا ، وإنما يجوز

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٦٣.

٥٠٩

تقديم جواب الشرط عليه في مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد وذهب غيره إلى أنه محذوف فقدره الزمخشري فقال : إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون؟ وإصلاحه بدخول الفاء أي فمن تدعون؟ لأن الجملة الاستفهامية إذا وقعت جوابا للشرط فلابد فيها من الفاء؟ وقدره غيره إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة دعوتم الله ودل عليه الاستفهام في قوله : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ).

وقال الزمخشري : ويجوز أن يتعلق الشرط بقوله : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) كأنه قيل أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله ؛ انتهى. فلا يجوز أن يتعلق الشرط بقوله : (أَغَيْرَ اللهِ) لأنه لو تعلق به لكان جوابا للشرط ، فلا يجوز أن يكون جوابا للشرط لأن جواب الشرط إذا كان استفهاما بالحرف لا يكون إلا بهل مقدما عليها الفاء نحو إن قام زيد فهل تكرمه؟ ولا يجوز ذلك في الهمزة لا تتقدم الفاء على الهمزة ولا تتأخر عنها ، فلا يجوز إن قام زيد فأتكرمه ولا أفتكرمه ولا أتكرمه ، بل إذا جاء الاستفهام جوابا للشرط لم يكن إلا بما يصح وقوعه بعد الفاء لا قبلها هكذا نقله الأخفش عن العرب ، ولا يجوز أيضا من وجه آخر لأنا قد قرّرنا أن أرأيتك متعد إلى اثنين أحدهما في هذه الآية محذوف وأنه من باب التنازع والآخر وقعت الجملة الاستفهامية موقعة فلو جعلتها جوابا للشرط لبقيت (أَرَأَيْتَكُمْ) متعدّية إلى واحد ، وذلك لا يجوز وأيضا التزام العرب في الشرط الجائي بعد أرأيت مضى الفعل دليل على أن جواب الشرط محذوف ، لأنه لا يحذف جواب الشرط إلا عند مضيّ فعله قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً) (١) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ) (٢) (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) (٣) (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ) (٤) إلى غير ذلك من الآيات ، وقال الشاعر :

أرأيت إن جاءت به أملودا

وأيضا فمجيء الجمل الاستفهامية مصدرة بهمزة الاستفهام دليل على أنها ليست جواب الشرط ، إذ لا يصح وقوعها جوابا للشرط.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : إن علقت الشرطية يعني بقوله : (غَيْرَ اللهِ) فما تصنع بقوله : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) مع قوله : (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) وقوارع الساعة

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٥٠.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٧١.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٠٥.

(٤) سورة العلق : ٩٦ / ١٣.

٥١٠

لا تكشف عن المشركين. (قلت) : قد اشترط في الكشف المشيئة وهو قوله : إن شاء إيذانا بأنه إن فعل كان له وجه من الحكمة إلا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه ؛ انتهى. وهذا مبني على أنه يجوز أن يتعلق الشرط بقوله (أَغَيْرَ اللهِ) وقد استدل للفاعل أن ذلك لا يجوز وتلخص في جواب الشرط أقوال :

أحدها : أنه مذكور وهو (أَرَأَيْتَكُمْ) المتقدّم والآخر أنه مذكور وهو (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ).

والثالث : أنه محذوف تقديره من تدعون.

والرابع : أنه محذوف تقديره دعوتم الله ، هذا ما وجدناه منقولا والذي نذهب إليه غير هذه الأقوال وهو أن يكون محذوفا لدلالة (أَرَأَيْتَكُمْ) عليه وتقديره (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) فأخبروني عنه أتدعون غير الله لكشفه ، كما تقول : أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به؟

التقدير إن جاءك فأخبرني فحذف الجواب لدلالة أخبرني عليه ، ونظير ذلك أنت ظالم إن فعلت التقدير فأنت ظالم فحذف فأنت ظالم وهو جواب الشرط لدلالة ما قبله عليه ، وهذا التقدير الذي قدرناه هو الذي تقتضيه قواعد العربية و (غَيْرَ اللهِ) عنى به الأصنام التي كانوا يعبدونها ، وتقديم المفعول هنا بعد الهمزة يدل على الإنكار عليهم دعاء الأصنام إذ لا ينكر الدعاء إنما ينكر أن الأصنام تدعي كما تقول : أزيدا تضرب لا تنكر الضرب ولكن تنكر أن يكون محله زيدا. قال الزمخشري : بكتهم بقوله : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) بمعنى أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ أم تدعون الله دونها؟ انتهى. وقدره بمعنى أتخصون لأن عنده تقديم المفعول مؤذن بالتخصيص والحصر ، وقد تكلمنا فيما سبق في ذلك وأنه لا يدل على الحصر والتخصيص ، وهذه الآية عند علماء البيان من باب استدراج المخاطب وهو أن يلين الخطاب ويمزجه بنوع من التلطف والتعطف حتى يوقع المخاطب في أمر يعترف به فتقوم الحجة عليه ، والله تعالى خاطب هؤلاء الكفار بلين من القول وذكر لهم أمرا لا ينازعون فيه وهو أنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله لا غيره وجواب (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) محذوف تقديره إن كنتم صادقين في دعواكم إن غير الله إله فهل تدعونه لكشف ما يحل بكم من العذاب؟.

(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ إِيَّاهُ) ضمير

٥١١

نصب منفصل وتقدم الكلام عليه في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (١) مستوفى. وقال ابن عطية : هنا (إِيَّاهُ) اسم مضمر أجري مجرى المظهرات في أنه يضاف أبدا ؛ انتهى ، وهذا مخالف لمذهب سيبويه ، لأن مذهب سيبويه إن ما اتصل بأيا من دليل تكلم أو خطاب أو غيبة وهو حرف لا اسم أضيف إليه أيا لأن المضمر عنده لا يضاف لأنه أعرف المعارف ، فلو أضيف لزم من ذلك تنكره حتى يضاف ويصير إذ ذاك معرفة بالإضافة لا يكون مضمرا وهذا فاسد ، ومجيئه هنا مقدما على فعله دليل على الاعتناء بذكر المفعول وعند الزمخشري إن تقديمه دليل على الحصر والاختصاص ، ولذلك قال : بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة ، والاختصاص عندنا والحصر فهم من سياق الكلام لا من تقديم المفعول على العامل و (بَلْ) هنا للإضراب والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال لما تضمنه الكلام السابق من معنى النفي لأن معنى الجملة السابقة النفي وتقديرها ما تدّعون أصنامكم لكشف العذاب وهذا كلام حق لا يمكن فيه الإضراب يعني الإبطال ، و (ما) من قوله (ما تَدْعُونَ) الأظهر أنها موصولة أي فيكشف الذي تدعون. قال ابن عطية : ويصح أن تكون ظرفية ؛ انتهى. ويكون مفعول يكشف محذوفا أي فيكشف العذاب مدة دعائكم أي ما دمتم داعيه وهذا فيه حذف المفعول وخروج عن الظاهر لغير حاجة ، ويضعفه وصل (ما) الظرفية بالمضارع وهو قليل جدّا إنما بابها أن توصل بالماضي تقول ألا أكلمك ما طلعت الشمس ولذلك علة ، أما ذكرت في علم النحو ، قال ابن عطية : ويصح أن تكون مصدرية على حذف في الكلام. وقال الزجاج : وهو مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢) ؛ انتهى. ويكون تقدير المحذوف فيكشف موجب دعائكم وهو العذاب ، وهذه دعوى محذوف غير متعين وهو خلاف الظاهر والضمير في (إِلَيْهِ) عائد على (ما) الموصولة أي إلى كشفه ودعا بالنسبة إلى متعلق الدعاء يتعدى بإلى قال الله تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ) (٣) الآية. وقال الشاعر :

وإن دعوت إلى جلّى ومكرمة

يوما سراة كرام الناس فادعينا

وتتعدى باللام أيضا قال الشاعر :

وإن أدع للجلى أكن من حماتها

__________________

(١) سورة الفاتحة : ١ / ٥.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٨٢.

(٣) سورة النور : ٢٤ / ٥١.

٥١٢

وقال آخر :

دعوت لما نابني مسورا

وقال ابن عطية : والضمير في (إِلَيْهِ) يحتمل أن يعود إلى الله بتقدير فيكشف ما تدعون فيه إلى الله ؛ انتهى. وهذا ليس بجيد لأن دعا بالنسبة إلى مجيب الدعاء إنما يتعدّى لمفعول به دون حرف جر قال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١) (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) (٢) ومن كلام العرب دعوت الله سميعا ولا تقول بهذا المعنى دعوت إلى الله بمعنى دعوت الله إلا أنه يمكن أن يصحح كلامه بدعوى التضمين ضمن يدعون معنى يلجؤون ، كأنه قيل فيكشف ما يلجؤون فيه بالدّعاء إلى الله لكن التضمين ليس بقياس ولا يضار إليه إلا عند الضرورة ، ولا ضرورة عنا تدعو إليه وعذق تعالى الكشف بمشيئته فإن شاء أن يتفضل بالكشف فعل وإن لم يشأ لم يفعل لا يجب عليه شيء. قال الزمخشري : إن شاء إن أراد أن يتفضل عليكم ولم تكن مفسدة ؛ انتهى. وفي قوله : ولم تكن مفسدة دسيسة الاعتزال ، وظاهر قوله : (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) النسيان حقيقة والذهول والغفلة عن الأصنام لأن الشخص إذا دهمه ما لا طاقة له بدفعه تجرد خاطره من كل شيء إلا من الله الكاشف لذاك الداهم ، فيكاد يصير كالملجأ إلى التعلق بالله والذهول عن من سواه فلا يذكر غير الله القادر على كشف ما دهم. وقال الزمخشري : (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) وتكرهون آلهتكم وهذا فيه بعد. وقال ابن عطية : تتركونهم وتقدم قوله هذا وسبقه إليه الزجاج فقال : تتركونهم لعلمكم أنهم في الحقيقة لا يضرون ولا ينفعون. وقال النحاس : هو مثل قوله (لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) (٣). وقيل : يعرضون إعراض الناسي لليأس من النجاة من قبله ، و (ما) موصولة أي وتنسون الذي تشركون. وقيل : (ما) مصدرية أي وتنسون إشراككم ومعنى هذه الجمل بل لا ملجأ لكم إلا الله تعالى وأصنامكم مطرحة منسية قاله ابن عطية.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) هذا تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن عادة الأمم مع رسلهم التكذيب والمبالغة في قسوة القلوب حتى هم إذا أخذوا بالبلايا لا يتذللون لله ولا يسألونه كشفها ، وهؤلاء الأمم الذين بعث الله تعالى إليهم الرسل أبلغ انحرافا وأشد شكيمة وأجلد من الذين بعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٦٠.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٨٦.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ١١٥.

٥١٣

خاطبهم تعالى بقوله (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) الآية. وأخبر أنهم عند الأزمات لا يدعون لكشفها إلا الله تعالى ، وفي الكلام حذف التقدير ولقد أرسلنا الرسل إلى أمم من قبلك فكذبوا فأخذناهم وتقدم تفسير البأساء والضراء والترجي هنا بالنسبة إلى البشر أي لو رأى أحد ما حل بهم لرجا تضرعهم وابتهالهم إلى الله في كشفه ، والأخذ الإمساك بقوة وبطش وقهر وهو هنا مجاز عن متابعة العقوبة والملازمة والمعنى لعاقبناهم في الدنيا.

(فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) لو لا هنا حرف تحضيض يليها الفعل ظاهرا أو مضمرا ويفصل بينهما بمعمول الفعل من مفعول به وظرف كهذه الآية ، فصل بين (فَلَوْ لا) و (تَضَرَّعُوا) بإذ وهي معمولة لتضرعوا ، والتحضيض يدل على أنه لم يقع تضرعهم حين جاء البأس فمعناه إظهار معاتبة مذنب غائب وإظهار سوء فعله ليتحسر عليه المخاطب وإسناد المجيء إلى البأس مجاز عن وصوله إليهم والمراد أوائل البأس وعلاماته.

(وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي صلبت وصبرت على ملاقاة العذاب لما أراد الله من كفرهم ، ووقوع (لكِنْ) هنا حسن لأن المعنى انتفاء التذلل عند مجيء البأس ووجود القسوة الدالة على العتو والتعزز فوقعت (لكِنْ) بين ضدين وهما اللين والقسوة ، وكذا إن كانت القسوة عبارة عن الكفر فعبر بالسبب عن المسبب والضراعة عبارة عن الإيمان فعبر بالسبب عن المسبب كانت أيضا واقعة بين ضدين تقول : قسا قلبه فكفر وآمن فتضرع.

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يحتمل أن تكون الجملة داخلة تحت الاستدراك ويحتمل أن تكون استئناف إخبار ، والظاهر الأول فيكون الحامل على ترك التضرع قسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي كان الشيطان سببا في تحسينها لهم.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) أي فلما تركوا الاتعاظ والازدجار بما ذكروا به من البأس استدرجناهم بتيسير مطالبهم الدنيوية وعبر عن ذلك بقوله : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) إذ يقتضي شمول الخيرات وبلوغ الطلبات.

(حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) معنى هذه الجمل معنى قوله (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) (١) وفي الحديث الصحيح عن عقبة بن عامر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم» ثم تلا (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) الآية ،

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٧٨.

٥١٤

والأبواب استعارة عن الأسباب التي هيأها الله لهم المقتضية لبسط الرزق عليهم والإبهام في هذا العموم لتهويل ما فتح عليهم وتعظيمه وغيا الفتح بفرحهم بما أوتوا وترتب على فرحهم أخذهم بغتة أي إهلاكهم فجأة وهو أشد الإهلاك إذ لم يتقدم شعور به فتتوطن النفس على لقائه ، ابتلاهم أولا بالبأساء والضراء فلم يتعظوا ثم نقلهم إلى ما أوجب سرورهم من إسباغ النعم عليهم فلم يجد ذلك عندهم ولا قصدوا الشكر ولا أصغوا إلى إنابة بل لم يحصلوا إلا على فرح بما أسبغ عليهم. قال محمد بن النضر الحارثي : أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة.

(فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) أي باهتون بائسون لا يخبرون جوابا. وقرأ ابن عامر فتحنا بتشديد التاء والتشديد لتكثير الفعل وإذا هي الفجائية وهي حرف على مذهب الكوفيين وظرف مكان ، ونسب إلى سيبويه وظرف زمان وهو مذهب الرياشي والعامل فيها إذا قلنا بظرفيتها هو خبر المبتدإ أي ، ففي ذلك المكان (هُمْ مُبْلِسُونَ) أي مكان إقامتهم وذلك الزمان (هُمْ مُبْلِسُونَ) وأصل الإبلاس الإطراق لحلول نقمة أو زوال نعمة. قال الحسن : مكتئبون. وقال السدي : هالكون. وقال ابن كيسان وقطرب : خاشعون. وقال ابن عباس : متحيرون. وقال الزجاج : متحسرون. وقال ابن جرير : الساكت عند انقطاع الحجة.

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) عبارة عن استئصالهم بالهلاك والمعنى : فقطع دابرهم ونبه على سبب الاستئصال بذكر الوصف الذي هو الظلم ، وهو هنا الكفر والدابر التابع للشيء من خلفه يقال : دبر الوالد الولد يدبره ، وفلان دبر القوم دبورا ودبرا إذا كان آخرهم. وقال أمية بن أبي الصلت :

فاستؤصلوا بعذاب خص دابرهم

فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا

قال أبو عبيدة : (دابِرُ الْقَوْمِ) آخرهم الذي يدبرهم. وقال الأصمعي : الدابر الأصل يقال : قطع الله دابره أي أذهب أصله ، وقرأ عكرمة (فَقُطِعَ دابِرُ) بفتح القاف والطاء والراء أي فقطع الله وهو التفات إذ فيه الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب.

(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال الزمخشري : إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة وأنه من أجل النعم وأجزل القسم ؛ انتهى. والذي يظهر أنه تعالى لما أرسل الرسل إلى هؤلاء الأمم كذبوهم وآذوهم فابتلاهم الله تارة بالبلاء ، وتارة بالرخاء فلم يؤمنوا فأهلكهم واستراح الرسل من شرهم وتكذيبهم وصار ذلك نعمة في حق الرسل إذ أنجز الله وعده على لسانهم بهلاك المكذبين فناسب هذا الفعل كله الختم بالحمدلة.

٥١٥

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) لما ذكر أولا تهديدهم بإتيان العذاب أو الساعة كان ذلك أعظم من هذا التهديد ، فأكد خطاب الضمير بحرف الخطاب فقيل أرأيتكم ولما كان هذا التهديد أخف من ذلك لم يؤكد به ، بل اكتفى بخطاب الضمير فقيل (أَرَأَيْتُمْ) وفي تلك وهذه الاستدلال على توحيد الله تعالى وأنه المتصرف في العالم الكاشف للعذاب والراد لما شاء بعد الذهاب ، وأن آلهتهم لا تغني عنهم شيئا والظاهر من قوله (أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) أنه ذهاب الحاسة السمعية والبصرية فيكون أخذا حقيقيا. وقيل : هو أخذ معنوي والمراد إذهاب نور البصر بحيث يحصل العمى ، وإذهاب سمع الأذن بحيث يحصل الصمم ، وتقدم الكلام على إفراد السمع وجمع الأبصار وعلى الختم على القلوب في أول البقرة فأغنى عن إعادته. ومفعول (أَرَأَيْتُمْ) الأول محذوف والتقدير قل أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله ، والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية كما تقول : أرأيتك زيدا ما يصنع وقد قررنا أن ذلك من باب الأعمال أعمل الثاني وحذف من الأول وأوضحنا كيفية ذلك في الآية قبل هذه ، والضمير في (بِهِ) أفرده إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل تأتيكم بذلك أو يكون التقدير بما أخذ وختم عليه. وقيل : يعود على السمع بالتصريح وتدخل فيه القلوب والأبصار. وقيل : هو عائد على الهدى الذي يدل عليه المعنى لأن أخذ السمع والبصر والختم على القلوب سبب الضلال وسد لطرق الهداية ، و (مَنْ إِلهٌ) استفهام معناه توقيفهم على أنه ليس ثم سواه فالتعلق بغيره لا ينفع. قال الحوفي : وحرف الشرط وما اتصل به في موضع نصب على الحال والعامل في الحال (أَرَأَيْتُمْ) كقوله : اضربه إن خرج أي خارجا ، وجواب الشرط ما تقدم مما دخلت عليه همزة الاستفهام ؛ انتهى ، وهذا الإعراب تخليط.

(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) روى أبو قرة المسيبي عن نافع به (انْظُرْ) بضم الراء وهي قراءة الأعرج ، وانظر خطاب للسامع وتصريف الآيات قال مقاتل : نخوفهم بأخذ الأسماع والأبصار والقلوب وبما صنع بالأمم السالفة. وقال ابن فورك : تصريفها مرة تأتي بالنقمة ومرة تأتي بالنعمة ومرة بالترغيب ومرة بالترهيب. وقيل : تتابع لهم الحجج وتضرب لهم الأمثال. وقيل : نوجهها إلى الإنشاء والإفناء والإهلاك. وقيل : الآيات على صحة توحيده وصدق نبيه والصدف والصدوف الإعراض والنفور. قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والسدي : (يَصْدِفُونَ) يعرضون ولا يعتبرون. وقرأ بعض القراء كيف نصرف من صرف ثلاثيا.

٥١٦

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) هذا تهديد ثالث فالأول بأحد أمرين : العذاب والساعة ، والثاني : بالأخذ والختم ، والثالث : بالعذاب فقط. قيل : (بَغْتَةً) فجأة لا يتقدم لكم به علم وجهرة تبدو لكم مخايلة ثم ينزل. وقال الحسن : (بَغْتَةً) ليلا و (جَهْرَةً) نهارا. وقال مجاهد : (بَغْتَةً) فجأة آمنين و (جَهْرَةً) وهم ينظرون ، ولما كانت البغتة تضمنت معنى الخفية صح مقابلتها للجهرة وبدئ بها لأنها أردع من الجهرة ، والجملة من قوله (هَلْ يُهْلَكُ) معناها النفي أي ما يهلك (إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) ولذلك دخلت (إِلَّا) وهي في موضع المفعول الثاني لأرأيتكم والرابط محذوف أي هل يهلك به؟ والأول من مفعولي (أَرَأَيْتَكُمْ) محذوف من باب الإعمال لما قررناه ، ولما كان التهديد شديدا جمع فيه بين أداتي الخطاب والخطاب لكفار قريش والعرب وفي ذكر الظلم تنبيه على علة الإهلاك والمعنى هل يهلك إلا أنتم لظلمكم؟ وقرأ ابن محيصن : (هَلْ يُهْلَكُ) مبنيا للفاعل.

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي (مُبَشِّرِينَ) بالثواب (وَمُنْذِرِينَ) بالعقاب وانتصب (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) على الحال وفيهما معنى العلية ، أي أرسلناهم للتبشير والإنذار لا لأن تقترح عليهم الآيات بعد وضوح ما جاؤوا به وتبيين صحته.

(فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ) أي من صدق بقلبه وأصلح في عمله.

(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) جعل (الْعَذابُ) ماسا كأنه ذو حياة يفعل بهم ما شاء من الآلام. وقرأ علقمة : نمسهم العذاب بالنون من أمس وأدغم الأعمش العذاب بما كأبي عمرو. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش (يَفْسُقُونَ) بكسر السين.

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) قال الزمخشري : أي لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله وهي قسمة بين الخلق وأرزاقه وعلم الغيب ، وإني من الملائكة الذين هم أشرف جنس خلقه الله وأفضله وأقربه منزلة منه ، أي لم أدع الألوهية ولا الملكية لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة حتى تستبعدون دعواي وتستنكرونها ، وإنما أدّعي ما كان مثله لكثير من البشر وهو النبوة ، انتهى. وما قاله : من أن المعنى إني أقول لكم إني لست بإله فأنصف بصفاته من كينونة خزائنه عندي وعلم الغيب ، وهو قول الطبري ، والأظهر

٥١٧

أنه يريد أنه بشر لا شيء عنده من خزائن الله ولا من قدرته ولا يعلم شيئا مما غاب عنه قاله ابن عطية. وأما قول الزمخشري في الملائكة هم أشرف جنس خلقه الله وأفضله وأقربه منزلة فهو جار على مذهب المعتزلة من أن الملك أفضل خلق الله ، وقد استدل الجبائي بهذه الآية على أن الملائكة أفضل من الأنبياء قال : لأن معنى الآية لا أدّعي منزله فوق منزلتي فلولا أن الملك أفضل لم يصح ذلك. قال القاضي : إن كان الغرض مما نفى طريقة التواضع فالأقرب أن يدل على أن الملك أفضل وإن كان نفى قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على كونهم أفضل ؛ انتهى.

وقد تكلمنا على ذلك عند قوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (١). وقال ابن عطية : وتعطى قوة اللفظ في هذه الآية أن الملك أفضل من البشر وليس ذلك بلازم من هذا الموضع ، وإنما الذي يلزم منه أن الملك أعظم موقعا في أنفسهم وأقرب إلى الله والتفضيل يعطيه المعنى عطاء خفيا وهو ظاهر من آيات أخر وهي مسألة خلاف ، و (ما يُوحى) يريد به القرآن وسائر ما يأتي به الملك أي في ذلك عبر وآيات لمن تأمل ونظر ؛ انتهى. وقال الكلبي : (خَزائِنُ اللهِ) مقدوراته من إغناء الفقير وإفقار الغني. وقال مقاتل : الرحمة والعذاب. وقيل : آياته. وقيل : مجموع هذا لقوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) (٢). قيل : وهذه الثلاث جواب لما سأله المشركون ، فالأول جواب لقولهم : إن كنت رسولا فاسأل الله حتى يوسع علينا خزائن الدنيا ، والثاني : جواب لقولهم إن كنت رسولا فأخبرنا بما يقع في المستقبل من المصالح والمضار فنستعد لتحصيل تلك ودفع هذه ، والثالث : جواب قولهم : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ انتهى.

وقال الزمخشري (فإن قلت) : أعلم الغيب ما محله من الإعراب؟ قلت : النصب عطفا على محل قوله : (خَزائِنُ اللهِ) لأنه من جملة المقول كأنه قال : لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول ؛ انتهى. ولا يتعين ما قاله ، بل الظاهر أنه معطوف على لا أقول لا معمول له فهو أمر أن يخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو قل وغاير في متعلق النفي فنفى قوله : (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) وقوله : (إِنِّي مَلَكٌ) ونفى علم الغيب ولم يأت التركيب. ولا أقول : إني أعلم الغيب لأن كونه ليس عنده (خَزائِنُ اللهِ) من أرزاق العباد وقسمهم معلوم ذلك للناس كلهم فنفى ادعاءه ذلك وكونه بصورة البشر معلوم

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٦.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٢١.

٥١٨

أيضا لمعرفتهم بولادته ونشأته بين أظهرهم ، فنفى أيضا ادعاءه ذلك ولم ينفهما من أصلهما لأن انتفاء ذلك من أصله معلوم عندهم ، فنفى أن يكابرهم في ادعاء شيء يعلمون خلافه قطعا. ولما كان علم الغيب أمرا يمكن أن يظهر على لسان البشر بل قد يدعيه كثير من الناس كالكهان وضراب الرمل والمنجمين ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أخبر بأشياء من المغيبات وطابقت ما أخبر به نفي علم الغيب من أصله فقال : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) تنصيصا على محض العبودية والافتقار. وإن ما صدر عنه من إخبار بغيب إنما هو من الوحي الوارد عليه لا من ذات نفسه ، فقال : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) كما قال فيما حكى الله عنه (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) (١) وكما أثر عنه عليه‌السلام «لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمني ربي» ، وجاء هذا النفي على سبيل الترقي فنفى أولا ما يتعلق به رغبات الناس أجمعين من الأرزاق التي هي قوام الحياة الجسمانية ، ثم نفى ثانيا ما يتعلق به وتتشوف إليه النفوس الفاضلة من معرفة ما يجهلون وتعرّف ما يقع من الكوائن ثم نفى ثالثا ما هو مختص بذاته من صفة الملائكة التي هي مباينة لصفة البشرية فترقى في النفي من عام إلى خاص إلى أخص ، ثم حصر ما هو عليه في أحواله كلها بقوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي أنا متبع ما أوحى الله غير شارع شيئا من جهتي ، وظاهره حجة لنفاة القياس.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي لا يستوي الناظر المفكر في الآيات والمعرض الكافر الذي يهمل النظر. قال ابن عباس : الكافر والمؤمن. وقال ابن جبير : الضال والمهتدي. وقيل : الجاهل والعالم. وقال الزمخشري : مثل للضلّال والمهتدين ويجوز أن يكون مثلا لمن اتبع ما يوحى إليه ومن لم يتبع أو لمن ادعى المستقيم ، وهو النبوة والمحال وهو الألوهية والملكية.

(أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) هذا عرض وتحضيض معناه الأمر أي ففكروا ولا تكونوا ضالين أشباه العمي أو فكروا فتعلمون ، أي لا أتبع إلا ما يوحى إليّ أو فتعلمون إني لا أدّعي ما لا يليق بالبشر.

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) لما أخبر أنه لا يتبع إلا ما يوحى إليه أمره الله تعالى أن ينذر به فقال : (وَأَنْذِرْ بِهِ) أي بما أوحي إليك. وقيل : يعود على الله أي بعذاب الله. وقيل : يعود على الحشر وهو مأمور بإنذار الخلائق كلهم وإنما خص بالإنذار هنا من خاف الحشر لأنه مظنة الإيمان ، وكأنه قيل : الكفرة المعرضون دعهم ورأيهم وأنذر

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٨.

٥١٩

بالقرآن من يرجى إيمانه. وروى أبو صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في الموالي منهم بلال وصهيب وخباب وعمار ومهجع وسلمان وعامر بن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة ، وظاهر قوله : (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) عموم من خاف الحشر وآمن بالبعث من مسلم ويهودي ونصراني فلا يتخصص بالمسلمين المقرين بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه لعلهم يتقون ، أي يدخلون في زمرة أهل التقوى ولا بأهل الكتاب ولا بناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقا فيهلكوا ، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار دون المتمردين منهم و (يَخافُونَ) باق على حقيقته أي يخافون ما يترتب على الحشر من مؤاخذتهم بذنوبهم ، وأما الحشر فمتحقق. وقال الطبري : (يَخافُونَ) هنا يعلمون ومعنى (إِلى رَبِّهِمْ) أي إلى جزاء ربهم أي موعوده وقد تعلق بهذه الآية المجسمة بأن الله في حيز ومكان مختص وجهة معينة لأن كلمة إلى لانتهاء الغاية.

(لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) ، قال الزمخشري : في موضع الحال من (يُحْشَرُوا) بمعنى (يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا) غير منصورين ولا مشفوعا لهم ولا بد من هذه الحال ، لأن كلّا محشور فالخوف إنما هو الحشر على هذه الحال. وقال ابن عطية : إن جعلناه داخلا في الخوف كان في موضع الحال أي (يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا) في حال من لا ولي له ولا شفيع فهي مختصة بالمؤمنين المسلمين لأن اليهود والنصارى يزعمون أن لهم شفعاء وأنهم أبناء الله ونحو هذا من الأباطيل وإن جعلناه إخبارا من الله عن صفة الحال يومئذ فهي عامة للمسلمين وأهل الكتاب.

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ترجئة لحصول تقواهم إذا حصل الإنذار.

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) قال سعد بن أبي وقاص : نزلت فينا ستة فيّ وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال قالت قريش : إنا لا نرضى أن نكون لهؤلاء تبعا فاطردهم عنك فنزلت. وقال خباب بن الأرت : فينا نزلت كنا ضعفاء عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا بالغداة والعشي ما ينفعنا ، فقال الأقرع بن حابس وعيينة بن حصين : إنا من أشراف قومنا وإنا نكره أن يرونا معهم فاطردهم إذا جالسناك فنزلت ، فأتيناه وهو يقول : سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته وهذا فيه بعد ، لأن الآية مكية وهؤلاء الأشراف لم ينذروا إلا بالمدينة.

٥٢٠