البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

إلى أنه مرفوع على فعل أمر محذوف يمكن رفعه الظاهر ، فيكون من عطف الجمل التقدير : فاذهب وليذهب ربك. وذهب بعض الناس إلى أن الواو واو الحال ، وربك مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف. أو تكون الجملة دعاء والتقدير فيهما : وربك يعينك ، وهذا التأويل فاسد بقوله فقاتلا.

(إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) هذا دليل على أنهم خارت طباعهم فلم يقدروا على النهوض معه للقتال ، ولا على الرجوع من حيث جاءوا ، بل أقاموا حيث كانت المحاورة بين موسى وبينهم. وها من قوله هاهنا للتنبيه ، وهنا ظرف مكان للقريب ، والعامل فيه قاعدون. ويجوز في مثل هذا التركيب أن يكون الخبر الظرف وما بعده حال فينتصب ، وأن يكون الخبر الاسم والظرف معمول له. وهو أفصح.

(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) لما عصوا أمر الله وتمردوا على موسى وسمع منهم ما سمع من كلمة الكفر وسوء الأدب مع الله ولم يبق معه من يثق به إلا هارون قال ذلك ، وهذا من الكلام المنطوي صاحبه على الالتجاء إلى الله والشكوى إليه ، ورقة القلب التي تستجلب الرّحمة وتستنزل النصرة ونحوه قول يعقوب : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) (١) وعن علي أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال المنافقين فما أجابه إلا رجلان ، فتنفس الصعداء ودعا لهما وقال : أين تتبعان مما أريد؟ والظاهر إنّ وأخي معطوف على نفسي ، ويحتمل أن يكون وأخي مرفوعا بالابتداء ، والخبر محذوف لدلالة ما قبله عليه أي : وأخي لا يملك إلا نفسه ، فيكون قد عطف جملة غير مؤكدة على جملة مؤكدة ، أو منصوبا عطفا على اسم إنّ أي : وإن أخي لا يملك إلا نفسه ، والخبر محذوف ، ويكون قد عطف الاسم والخبر على الخبر نحو : إن زيدا قائم وعمرا شاخص ، أي : وإنّ عمرا شاخص. وأجاز ابن عطية والزمخشري أن يكون وأخي مرفوعا عطفا على الضمير المستكن في أملك ، وأجاز ذلك للفصل بينهما بالمفعول المحصور. ويلزم من ذلك أنّ موسى وهارون عليهما‌السلام لا يملكان إلا نفس موسى فقط ، وليس المعنى على ذلك ، بل الظاهر أنّ موسى يملك أمر نفسه وأمر أخيه فقط. وجوز أيضا أن يكون مجرورا معطوفا على ياء المتكلم في نفسي ، وهو ضعيف على رأي البصريين. وكأنه في هذا الحصر لم يثق بالرجلين اللذين قالا : ادخلوا عليهم الباب ، ولم يطمئن إلى ثباتهما لما عاين من أحوال

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٨٦.

٢٢١

قومه وتلونهم مع طول الصحبة ، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في ثباته. قيل : أو قال ذلك على سبيل الضجر عند ما سمع منهم تعليلا لمن يوافقه ، أو أراد بقوله : وأخي ، من يوافقني في الدين لا هارون خاصة. وقرأ الحسن : إلا نفسي وأخي بفتح الياء فيهما.

(فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ظاهره أنه دعا بأن يفرق الله بينهما وبينهم بأن يفقد وجوههم ولا يشاهد صورهم إذا كانوا عاصين له مخالفين أمر الله تعالى ، ولذلك نبه على العلة الموجبة للتفرقة بينهم وبين الفسق. فالمطيع لا يريد صحبة الفاسق ولا يؤثرها لئلا يصيبه بالصحبة ما يصيبه ، (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (١) «أنهلك وفينا الصالحون» وقبل الله دعاءه فلم يكونا معهم في التيه ، بل فرق بينه وبينهم ، لأن التيه كان عقابا خص به الفاسقون العاصون. وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما : المعنى فافصل بيننا بحكم يزيل هذا الاختلاف ويلمّ الشعث. وقيل : المعنى فافرق بيننا وبينهم في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق. وقال الزمخشري : فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق ، وعليهم بما يستحقون ، وهو في معنى الدعاء عليهم ، ولذلك وصل به قوله : فإنها محرمة عليهم ، على وجه التشبيه. وقرأ عبيد بن عمير ويوسف بن داود : فافرق بكسر الراء وقال الراجز :

يا رب فافرق بينه وبيني

أشدّ ما فرّق بين اثنين

وقرأ ابن السميفع : ففرق. والفاسقون هنا قال ابن عباس : العاصون. وقال ابن زيد : الكاذبون. وقال أبو عبيد : الكافرون.

(قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أي قال الله تعالى فأضمر في قال وضمير ، فإنها إلى الأرض المقدّسة محرّمة عليهم ، أي محرم دخولها وتملكهم إياها وتقدّم الكلام على انتظام قوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) (٢) مع قوله محرمة عليهم ، ودل هذا على أنهم بعد الأربعين لا تكون محرمة عليهم. فروي أن موسى وهارون عليهما‌السلام كانا معهم في التيه عقوبة لهم وروحا وسلاما لهما ، لا عقوبة ، كما كانت النار لابراهيم ولملائكة العذاب. فروي أن موسى سار بعد الأربعين بمن بقي من بني إسرائيل ، وكان يوشع وكالب على مقدمته ، ففتح أريحا وقتل عوج بن عنق ، وذكروا من وصف عوج وكيفية قتل موسى له ما لا يصح. وأقام موسى فيها ما شاء الله ثم قبض. وقيل : مات هارون في

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٢٥.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٢١.

٢٢٢

التيه. قال ابن عطية : ولم يختلف في هذا. وروي : أنّ موسى مات في التيه بعد هارون بثمانية أعوام. وقيل : بستة أشهر ونصف. وقيل : بسنة ونبأ الله يوشع بعد كمال الأربعين سنة فصدقه بنو إسرائيل ، وأخبرهم أن الله تعالى أمره بقتال الجبابرة فصدّقوه وبايعوه ، وسار فيهم إلى أريحا وقتل الجبارين وأخرجهم ، وصار الشام كله لبني إسرائيل. وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين ، وقد ألمّ بذكر وقوف الشمس ليوشع أبو تمام في شعره فقال :

فردت علينا الشمس والليل راغم

بشمس بدت من جانب الخدر تطلع

نضا ضوؤها صبغ الدجنة وانطوى

لبهجتها ثوب السماء المجزع

فو الله ما أدري أأحلام نائم

ألمت بنا أم كان في الركب يوشع

والظاهر أن العامل في قوله : أربعين محرمة ، فيكون التحريم مقيدا بهذه المدة ، ويكون يتيهون مستأنفا أو حالا من الضمير في عليهم. ويجوز أن يكون العامل يتيهون أي : يتيهون هذه المدة في الأرض ، ويكون التحريم على هذا غير مؤقت بهذه المدة ، بل يكون إخبارا بأنهم لا يدخلونها ، وأنهم مع ذلك يتيهون في الأرض أربعين سنة يموت فيها من مات. وروي أنه من كان جاوز عشرين سنة لم يعش إلى الخروج من التيه ، وأنّ من كان دون العشرين عاشوا ، كأنه لم يعش المكلفون العصاة ، أشار إلى ذلك الزجاج ، ولذلك ذهب إلى أن العامل في أربعين محرمة. وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون العامل في أربعين مضمرا يدل عليه يتيهون المتأخر انتهى. ولا أدري ما الحامل له على قوله : إن العامل مضمر كما ذكر؟ بل الذي جوز الناس في ذلك أن يكون العامل فيه يتيهون نفسه ، لا مضمر يفسره قوله : يتيهون في الأرض. والأرض التي تاهوا فيها على ما حكى طولها ثلاثون ميلا ، في عرض ستة فراسخ ، وهو ما بين مصر والشام. وقال ابن عباس : تسعة فراسخ ، قال مقاتل : هذا عرضها ، وطولها ثلاثون فرسخا. وقيل : ستة فراسخ في طول اثنى عشر فرسخا ، وقيل : تسعة فراسخ. وتظافرت أقوال المفسرين على أن هذا التيه على سبيل خرق العادة ، فإنه عجيب من قدرة الله تعالى ، حيث جاز على جماعة من العقلاء أن يسيروا فراسخ يسيرة ولا يهتدون للخروج منها. روي أنهم كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع ، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي ابتدأوا منه ، ويسيرون النهار جادين حتى إذا أمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، فيكون سيرهم تحليقا. قال مجاهد

٢٢٣

وغيره : كانوا يسيرون النهار أحيانا والليل أحيانا ، فيمسون حيث أصبحوا ، ويصبحون حيث يمسون ، وذلك في مقدار ستة فراسخ ، وكانوا في سيارة لا قرار لهم انتهى. وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتلين ، وذكروا أنّ حكمة التيه هو أنهم لما قالوا : (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (١) عوقبوا بالقعود ، فصاروا في صورة القاعدين وهم سائرون ، كلما ساروا يوما أمسوا في المكان الذي أصبحوا فيه. وذكروا أن حكمة كون المدّة التي تاهوا فيها أربعين سنة هي كونهم عبدوا العجل أربعين يوما ، جعل عقاب كل يوم سنة في التيه. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة ، وقلة اجتماع الرأي ، وأنه تعالى رماهم بالاختلاف ، وعلموا أنها حرّمت عليهم أربعين سنة ، فتفرّقت منازلهم في ذلك الفحص ، وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع حتى كملت هذه المدة ، وأذن الله تعالى بخروجهم ، وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر. والآخر الذي ذكره مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى.

(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الظاهر أن الخطاب من الله تعالى لموسى عليه‌السلام.

قال ابن عباس : ندم موسى على دعائه على قومه وحزن عليهم انتهى. فهذه مسلاة لموسى عليه‌السلام عن أن يحزن على ما أصاب قومه ، وعلل كونه لا يحزن بأنهم قوم فاسقون بهوت أحقاء بما نالهم من العقاب. وقيل : الخطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بالفاسقين معاصروه أي : هذه فعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردّهم عليك فإنها سجية خبيثة موروثة عندهم.

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ

٢٢٤

مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)

الغراب : طائر معروف ويجمع في القلة على أغربة ، وفي الكثرة على غربان. وغراب اسم جنس وأسماء الأجناس إذا وقعت على مسمياتها من غير أن تكون منقولة من شيء ، فإن وجد فيها ما يمكن اشتقاقه حمل على أنه مشتق ، إلا أنّ ذلك قليل جدّا ، بل الأكثر أن تكون غير مشتقة نحو : تراب ، وحجر ، وماء. ويمكن غراب أن يكون مأخوذا من الاغتراب ، فإن العرب تتشاءم به وتزعم أنه دال على الفراق. وقال حران العود :

وأما الغراب فالغريب المطوّح. وقال الشنفري :

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢٤.

٢٢٥

غراب لاغتراب من النوى

وبالباذين من حبيب تعاشره

البحث في الأرض نبش التراب وإثارته ، ومنه سميت براءة بحوث. وفي المثل : لا تكن كالباحث عن الشفرة. السوأة : العورة. العجز : عدم الإطاقة ، وماضيه على فعل بفتح العين ، وهي اللغة الفاشية. وحكى الكسائي فيه : فعل بكسر العين. الندم : التحسر يقال منه : ندم يندم. الصلب معروف وهو إصابة صلبه بجذع ، أو حائط كما تقول : عانه أي أصاب عينه ، وكيده أصاب كيده. الخلاف : المخالفة ، ويقال : فرس به شكال من خلاف إذا كان في يده. نفاه : طرده فانتفى ، وقد لا يتعدّى نفي. قال القطامي : فأصبح جاراكم قتيلا ونافيا. أي منفيا.

الوسيلة الواسلة ما يتقرب منه. يقال : وسله وتوسل إليه ، واستعيرت الوسيلة لما يتقرب به إلى الله تعالى من فعل الطاعات. وقال لبيد :

أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم

ألا كل ذي لب إلى الله واسل

وأنشد الطبري :

إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا

وعاد التصابي بيننا والوسائل

السارق اسم فاعل من سرق يسرق سرقا والسرق والسرقة الاسم كذا قال بعضهم وربما قالوا سرقة مالا. قال ابن عرفة السارق عند العرب من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له. (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر تمرّد بني إسرائيل وعصيانهم ، أمر الله تعالى في النهوض لقتال الجبارين ، ذكر قصة ابني آدم وعصيان قابيل أمر الله ، وأنهم اقتفوا في العصيان أول عاص لله تعالى ، وأنهم انتهوا في خور الطبيعة وهلع النفوس والجبن والفزع إلى غاية بحيث قالوا لنبيهم الذي ظهرت على يديه خوارق عظيمة ، وقد أخبرهم أن الله كتب لهم الأرض المقدسة : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (١) وانتهى قابيل إلى طرف نقيض منهم من الجسارة والعتوّ وقوة النفس وعدم المبالاة ؛ بأن أقدم على أعظم الأمور وأكبر المعاصي بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها ، بحيث كان

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢٤.

٢٢٦

أول من سنّ القتل ، وكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة ، فاشتبهت القصتان من حيث الجبن عن القتل والإقدام عليه ، ومن حيث المعصية بهما. وأيضا فتقدم قوله أوائل الآيات (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) (١) وبعده (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) (٢) وقوله : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (٣) ثم قصة محاربة الجبارين ، وتبين أنّ عدم اتباع بني إسرائيل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما سببه الحسد هذا مع علمهم بصدقه.

وقصة ابني آدم انطوت على مجموع هذه الآيات من بسط اليد ، ومن الأخبار بالمغيب ، ومن عدم الانتفاع بالقرب ، ودعواه مع المعصية ، ومن القتل ، ومن الحسد. ومعنى واتل عليهم : أي اقرأ واسرد ، والضمير في عليهم ظاهره أنه يعود على بني إسرائيل إذ هم المحدث عنهم أولا ، والمقام عليهم الحجج بسبب همهم ببسط أيديهم إلى الرسول. والمؤمنين فاعلموا بما هو في غامض كتبهم الأول التي لا تعلق للرسول بها إلا من جهة الوحي ، لتقوم الحجة بذلك عليهم ، إذ ذلك من دلائل النبوّة. والنبأ : هو الخبر. وابنا آدم في قول الجمهور عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهما : هما قابيل وهابيل ، وهما ابناه لصلبه. وقال الحسن : لم يكونا ولديه لصلبه ، وإنما هما أخوان من بني إسرائيل. قال : لأن القربان إنما كان مشروعا في بني إسرائيل ، ولم يكن قبل ، ووهم الحسن في ذلك. وقيل عليه كيف يجهل الدفن في بني إسرائيل حتى يقتدي فيه بالغراب؟ وأيضا فقد قال الرسول عنه : «إنه أول من سن القتل» وقد كان القتل قبل في بني إسرائيل.

ويحتمل قوله : بالحق ، أن يكون حالا من الضمير في : واتل أي : مصحوبا بالحق ، وهو الصدق الذي لا شك في صحته ، أو في موضع الصفة لمصدر محذوف أي : تلاوة ملتبسة بالحق ، والعامل في إذ نبأ أي حديثهما وقصتهما في ذلك الوقت. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون بدلا من النبأ أي : اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف انتهى. ولا يجوز ما ذكر ، لأن إذ لا يضاف إليها إلا الزمان ، ونبأ ليس بزمان.

وقد طول المفسرون في سبب تقريب هذا القربان وملخصه : أنّ حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى ، وكان آدم يزوّج ذكر هذا البطن أنثى ذلك البطن ، وأنثى هذا ذكر

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١١.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ١٥.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ١٨.

٢٢٧

ذلك ، ولا يحل للذكر نكاح توءمته ، فولد مع قابيل أخت جميلة اسمها اقليميا ، وولد مع هابيل أخت دون تلك اسمها لبوذا ، فأبى قابيل إلا أن يتزوّج توءمته لا توءمة هابيل وأن يخالف سنة النكاح إيثارا لجمالها ، ونازع قابيل هابيل في ذلك ، فقيل : أمرهما آدم بتقريب القربان. وقيل : تقربا من عند أنفسهما ، إذ كان آدم غائبا توجه إلى مكة لزيارة البيت بإذن ربه. والقربان الذي قرباه : هو زرع لقابيل ، وكان صاحب زرع ، وكبش هابل وكان صاحب غنم ، فتقبل من أحدهما وهو هابيل ، ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل. أي : فتقبل القربان ، وكانت علامة التقبل أكل النار النازلة من السماء القربان المتقبل ، وترك غير المتقبل. وقال مجاهد : كانت النار تأكل المردود ، وترفع المقبول إلى السماء. وقال الزمخشري : يقال : قرب صدقة وتقرب بها ، لأن تقرب مطاوع قرب انتهى. وليس تقرّب بصدقة مطاوع قرب صدقة ، لاتحاد فاعل الفعلين ، والمطاوعة يختلف فيها الفاعل ، فيكون من أحدهما فعل ، ومن الآخر انفعال نحو : كسرته فانكسر ، وفلقته فانفلق ، وليس قربت صدقة وتقربت بها من هذا الباب فهو غلط فاحش.

(قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) هذا وعيد وتهديد شديد ، وقد أبرز هذا الخبر مؤكدا بالقسم المحذوف أي : لأقتلنك حسدا على تقبل قربانك ، وعلى فوزك باستحقاق الجميلة أختي. وقرأ زيد بن علي : لأقتلنك بالنون الخفيفة.

(قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) قال ابن عطية : قبله كلام محذوف تقديره : لم تقتلني وأنا لم أجن شيئا ولا ذنب لي في قبول الله قرباني؟ أما أني أتقيه؟ وكتب علي : لأحب الخلق إنما يتقبل الله من المتقين ، وخطب الزمخشري هنا فقال : (فإن قلت) : كيف كان قوله : إنما يتقبل الله من المتقين ، جوابا لقوله : لأقتلنك؟ (قلت) : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له : إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى ، لا من قبلي ، فلم تقتلني؟ وما لك لا تعاقب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول ، فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق ، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم. وعن عامر بن عبد الله : أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له : ما يبكيك فقد كنت وكنت : قال : إني أسمع الله يقول : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (١) انتهى

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢٧.

٢٢٨

كلامه. ولم يخل من دسيسة الاعتزال على عادته ، يحتاج الكلام في فهمه إلى هذه التقديرات ، والذي قدرناه أولا كاف وهو : أنّ المعنى لأقتلنك حسدا على تقبل قربانك ، فعرض له بأن سبب قبول القربان هو التقوى وليس متقيا ، وإنما عرض له بذلك لأنه لم يرض بسنة النكاح التي قرّرها الله تعالى ، وقصد خلافها ونازع ، ثم كانت نتيجة ذلك أن برزت في أكبر الكبائر بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرمها الله. قال ابن عطية : وأجمع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاه الشرك ، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة. وقال عدي بن ثابت وغيره : قربان هذه الأمة الصلاة. وقول من زعم أن قوله : إنما يتقبل الله من المتقين ، ليس من كلام المقتول ، بل هو من كلام الله تعالى للرسول اعتراضا بين كلام القاتل والمقتول ، والضمير عائد في قال على الله ليس بظاهر.

(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) قال ابن عباس : المعنى ما أنا بمنتصر لنفسي. وقال عكرمة : المعنى ما كنت لأبتدئك بالقتل. وقال مجاهد والحسن : لم يكن الدفع عن النفس في ذلك الوقت جائزا. وقال عبد الله بن عمرو وابن عباس والجمهور : كان هابيل أشد قوّة من قابيل ، ولكنه تحرج من القتل ، وهذا يدل على أن القاتل ليس بكافر وإنما هو عاص ، إذ لو كان كافرا لما تحرّج هابيل من قتله ، وإنما استسلم له كما استسلم عثمان بن عفان. وقيل : إنما ترك الدفع عن نفسه لأنه ظهرت له مخيلة انقضاء عمره فبنى عليها ، أو بإخبار أبيه ، وكما جرى لعثمان إذ بشره الرسول بالجنة على بلوى تصيبه ، ورآه في اليوم الذي قتل في النوم وهو يقول : «إنك تفطر الليلة عندنا» فترك الدفع عن نفسه حتى قتل ، وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الق على وجهك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل». وقيل : إنّ هابيل لاحت له أمارات غلبة الظن من قابيل على قتله ، ولكن لم يتحقق ذلك ، فذكر له هذا الكلام قبل الإقدام على القتل ليزدجر عنه وتقبيحا لهذا الفعل ، ولهذا يروى أنّ قابيل صبر حتى نام هابيل فضرب رأسه بحجر كبير فقتله. وقال ابن جرير : ليس في الآية دليل على أنّ المقتول علم عزل القاتل على قتله ، ثم ترك الدفع عن نفسه. قال الزمخشري : (فإن قلت) : لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل ، وهو قوله : لئن بسطت ما أنا بباسط؟ (قلت) : ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع ، ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي انتهى. وأورد أبو عبد الله الرازي هذا السؤال والجواب ولم ينسبه للزمخشري ، وهو كلام فيه انتقاد. وذلك أن قوله : ما أنا بباسط ، ليس جزاء بل هو جواب للقسم المحذوف قبل اللام في لئن المؤذنة بالقسم

٢٢٩

والموطئة للجواب ، لا للشرط. وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، ولو كان جوابا للشرط لكان بالفاء ، فإنه إذا كان جواب الشرط منفيا بما فلابد من الفاء كقوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) (١) ما كان حجتهم إلا أن قالوا : ولو كان أيضا جوابا للشرط للزم من ذلك خرم القاعدة النحوية من أنه إذا تقدم القسم على الشرط فالجواب للقسم لا للشرط. وقد خالف الزمخشري كلامه هذا بما ذكره في البقرة في قوله : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) (٢). فقال : ما تبعوا جواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط ، وتكلمنا معه هناك فينظر.

(إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) هذا ذكر لعلة الامتناع في بسط يده إليه للقتل ، وفيه تنبيه على أن القاتل لا يخاف الله.

(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) ذهب قوم إلى أنّ الإرادة هنا مجاز لا محبة إيثار شهوة ، وإنما هي تخيير في شرين كما تقول العرب : في الشر خيار ، والمعنى : إن قتلتني وسبق بذلك قدر ، فاختياري أن أكون مظلوما ينتصر الله لي في الآخرة. وذهب قوم إلى أنّ الإرادة هنا حقيقة لا مجاز ، لا يقال : كيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه بالنار ، لأن جزاء الظالم حسن أن يراد ، وإذا جاز أن يريده الله تعالى جاز أن يريده العبد لأنه لا يريد إلا ما هو حسن قاله الزمخشري ، وفيه دسيسة الاعتزال. وقال ابن كيسان : إنما وقعت الإرادة بعد ما بسط يده للقتل وهو مستقبح ، فصار بذلك كافرا لأن من استحل ما حرم الله فقد كفر ، والكافر يريد أن يراد به الشر. وقيل : المعنى أنه لما قال : لأقتلنك استوجب النار بما تقدم في علم الله ، وعلى المؤمن أن يريد ما أراد الله ، وظاهر الآية أنهما آثمان. قال ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن وقتادة : تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي ، فحذف المضاف ، هذا قول عامة المفسرين. وقال الزجاج : بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك ، وهو راجع في المعنى إلى ما قبله. وقيل : المعنى بإثمي إن لو قاتلتك وقتلتك ، وإثم نفسك في قتالي وقتلي ، وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار». قيل : يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه» فكأنّ هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك ، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي.

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ١٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٤٥.

٢٣٠

قال الزمخشري (فإن قلت) : كيف يحتمل إثم قتله له (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١)؟ (قلت) : المراد بمثل إثمي على الاتساع في الكلام كما تقول : قرأت قراءة فلان ، وكتبت كتابته ، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره. (فإن قلت) : فحين كف هابيل عن قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظورا في شريعته من الدفع ، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله ، فيجتمع عليه الإثمان؟ (قلت) : هو مقدّر فهو يتحمل مثل الإثم المقدر ، كأنه قال : إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي انتهى. وقيل : بإثمي ، الذي يختص بي فيما فرط لي ، أي : يؤخذ من سيئآتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي ، وتبوء بإثمك في قتلي. ويعضد هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف ، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه» وتلخص من قوله بإثمي وإثمك وجهان : أحدهما : بإثمي اللاحق لي ، أي : بمثل إثمي اللاحق لي على تقدير وقوع قتلي لك ، وإثمك اللاحق لك بسبب قتلي. الثاني : بإثمي اللاحق لك بسبب قتلي ، وأضافه إليه لما كان سببا له ، وإثمك اللاحق لك قبل قتلي. وهذان الوجهان على إثبات الإرادة المجازية والحقيقية. وقيل المعنى على النفي ، التقدير : إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كقوله : (رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (٢) أي أن لا تميد ، وأن تضلوا أي : لا تضلوا ، فحذف لا. وهذا التأويل فرار من إثبات إرادة الشرّ لأخيه المؤمن ، وضعف القرطبي هذا الوجه بقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، لأنه أول من سن القتل» فثبت بهذا أنّ إثم القاتل حاصل انتهى. ولا يضعف هذا القول بما ذكره القرطبي ، لأن قائل هذا لا يلزم من نفي إرادته القتل أن لا يقع القتل ، بل قد لا يريده ويقع. ونصر تأويل النفي الماوردي وقال : إن القتل قبيح ، وإرادة القبيح قبيحة ، ومن الأنبياء أقبح. ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ إني أريد ، أي كيف أريد؟ ومعناه استبعاد الإرادة ولهذا قال ، بعض المفسرين : إنّ هذا استفهام على جهة الإنكار ، أي : أني ، فحذف الهمزة لدلالة المعنى عليه ، لأن إرادة القتل معصية حكاه القشيري انتهى. وهذا كله خروج عن ظاهر اللفظ لغير ضرورة وقد تقدم إيضاح الإرادة ، وجواز ورودها هنا ، واستدل بقوله : فتكون من أصحاب النار ، على أنّ قابيل كان كافرا لأنّ هذا اللفظ إنما ورد في

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٦٤.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ١٥.

٢٣١

القرآن في الكفار ، وعلى هذا القول ففيه دليل على أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، ولا يقوي هذا الاستدلال لأنّه يكنى عن المقام في النار مدة بالصحبة.

(وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي وكينونتك من أصحاب النار جزاؤك ، لأنك ظالم في قتلي. ونبه بقوله : الظالمين ، على السبب الموجب للقتل ، وأنه قتل بظلم لا بحق. والظاهر أنه من كلام هابيل نبهه على العلة ليرتدع. وقيل : هو من كلام الله تعالى ، لا حكاية كلام هابيل ، بل إخبار منه تعالى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) قال ابن عباس : بعثته على قتله. وقال أيضا هو ومجاهد : شجعته. وقال قتادة : زينت له. وقال الأخفش : رخصت. وقال المبرد : من الطوع ، والعرب تقول : طاع له كذا أي أتاه طوعا. وقال ابن قتيبة : تابعته وانقادت له. وقال الزمخشري : وسعته له ويسرته ، من طاع له المرتع إذا اتسع. وهذه أقوال متقاربة في المعنى ، وهو فعل من الطوع وهو الانقياد ، كأن القتل كان ممتنعا عليه متعاصيا. وأصله : طاع له قتل أخيه أي انقاد له وسهل ، ثم عدي بالتضعيف فصار الفاعل مفعولا والمعنى : أنّ القتل في نفسه مستصعب عظيم على النفوس ، فردّته هذه النفس اللحوح الأمارة بالسوء طائعا منقادا حتى أوقعه صاحب هذه النفس.

وقرأ الحسن وزيد بن علي والجراح ، والحسن بن عمران ، وأبو واقد : فطاوعته ، فيكون فاعل فيه الاشتراك نحو : ضاربت زيدا ، كان القتل يدعوه بسبب الحسد إصابة قابيل ، أو كان النفس تأبى ذلك ويصعب عليها ، وكل منهما يريد أن يطيعه الآخر ، إلى أن تفاقم الأمر وطاوعت النفس القتل فوافقته. وقال الزمخشري : فيه وجهان : أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل ، وأن يراد أن قتل أخيه ، كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع ، وله لزيادة الربط كقولك : حفظت لزيد ماله انتهى. فأما الوجه الثاني فهو موافق لما ذكرناه ، وأما الوجه الأول فقد ذكر سيبويه : ضاعفت وضعفت مثل : ناعمت ونعمت. وقال : فجاءوا به على مثال عاقبته ، وقال : وقد يجيء فاعلت لا يريد بها عمل اثنين ، ولكنهم بنوا عليه الفعل كما بنوه على أفعلت ، وذكر أمثلة منها عافاه الله. وهذا المعنى وهو أنّ فاعل بمعنى فعل ، أغفله بعض المصنفين من أصحابنا في التصريف : كابن عصفور ، وابن مالك ، وناهيك بهما جمعا واطلاعا ، فلم يذكرا أنّ فاعل يجيء بمعنى فعل ، ولا فعل بمعنى فاعل. وقوله : وله لزيادة الربط ، يعني : في قوله فطوعت له نفسه ، يعني : أنه لو جاء

٢٣٢

فطوعت نفسه قتل أخيه لكان كلاما تاما جاريا على كلام العرب ، وإنما جيء به على سبيل زيادة الربط للكلام ، إذ الربط يحصل بدونه. كما إنك لو قلت : حفظت مال زيد كان كلاما تاما فقتله ، أخبر تعالى أنه قتله وتكلم المفسرون في أشياء من كيفيته ، ومكان قتله ، وعمره حين قتل ، ولهم في ذلك اختلاف ، ولم تتعرض الآية لشيء من ذلك.

(فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أصبح : بمعنى صار. وقال ابن عطية : أقيم بعض الزمان مقام كله ، وخص الصباح بذلك لأنه بدء النهار والانبعاث إلى الأمور ومظنة النشاط ، ومنه قول الربيع : أصبحت لا أحمل السلاح ولا. وقول سعد : ثم أصبحت بنو سعد تعززني على الإسلام ، إلى غير ذلك من استعمال العرب لما ذكرناه انتهى. وهذا الذي ذكره من تعليل كون أصبح عبارة عن جميع أوقاته ، وأقيم بعض الزمان مقام كله بكون الصباح خص بذلك لأنه بدء النهار ، ليس بجيد. ألا ترى أنهم جعلوا أضحى وظل وأمسى وبات بمعنى صار ، وليس منها شيء بدء النهار؟ فكما جرت هذه مجرى صار كذلك أصبح لا للعلة التي ذكرها ابن عطية. قال ابن عباس : خسر في الدنيا بإسخاط والديه وبقائه بغير أخ ، وفي الآخرة بإسخاط ربه وصيرورته إلى النار. وقال الزجاج : من الخاسرين للحسنات. وقال القاضي أبو يعلى : من الخاسرين أنفسهم بإهلاكهم إياها. وقال مجاهد : خسرانه أن علقت إحدى رجلي القاتل لساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت عليه في الصيف حظيرة من نار وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج. قال القرطبي : ولعلّ هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر ، فيكون خسرانه في الدنيا. وقيل : من الخاسرين باسوداد وجهه ، وكفره باستحلاله ما حرم من قتل أخيه ، وفي الآخرة بعذاب النار. وثبت في الحديث : «ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ، وذلك لأنه أول من سن القتل». وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال : إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة في العذاب عليه شطر عذابهم.

(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) روي أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض ، ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به ، فخاف السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح ، وعكفت عليه السباع ، فبعث الله غرابين فاقتتلا ، فقتل أحدهما الآخر ، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فقال : يا ويلتى أعجزت. وقيل : حمله مائة سنة. وقيل : طلب في ثاني يوم إخفاء قتل أخيه فلم يدر ما يصنع. وقيل : بعث الله غرابا إلى غراب ميت ، فجعل يبحث في الأرض ويلقي التراب

٢٣٣

على الغراب الميت. وقيل : بعث الله غرابا واحدا فجعل يبحث ويلقي التراب على هابيل. وروي أنه أول ميت مات على وجه الأرض ، وكذلك جهل سنة المواراة. والظاهر أنه غراب بعثه الله يبحث في الأرض ليرى قابيل كيف يواري سوءة هابيل ، فاستفاد قابيل ببحثه في الأرض أن يبحث هو في الأرض فيستر فيه أخاه ، والمراد بالسوءة هنا قيل : العورة ، وخصت بالذكر مع أنّ المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها ، ولأن سترها أوكد. وقيل : جميع جيفته. قيل : فإن الميت كله عورة ، ولذلك كفن بالأكفان. قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالسوءة هذه الحالة التي تسوء الناظر بمجموعها ، وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة ، لا على جهة الغض منه ، بل الغض لا حق للقاتل وهو الذي أتى بالسوءة انتهى. والسوءة الفضيحة لقبحها قال الشاعر :

يا لقومي للسوءة السواء

أي للفضيحة العظيمة. قالوا : ويحتمل إن صح أنه قتل غراب غرابا أو كان ميتا ، أن يكون الضمير في أخيه عائدا على الغراب ، أي : ليرى قابيل كيف يواري الغراب سوءة أخيه وهو الغراب الميت ، فيتعلم منه بالأداة كيف يواري قابيل سوءة هابيل ، وهذا فيه بعد. لأن الغراب لا تظهر له سوءة ، والظاهر أنّ الإرادة هنا من جعله يرى أي : يبصر ، وعلق ليريه عن المفعول الثاني بالجملة التي فيها الاستفهام في موضع المفعول الثاني ، وكيف معمولة ليواري. وليريه متعلق بيبحث. ويجوز أن يتعلق بقوله : فبعث ، وضمير الفاعل في ليريه الظاهر أنه عائد على الله تعالى ، لأن الإراءة حقيقة هي من الله ، إذ ليس للغراب قصد الإراءة وإرادتها. ويجوز أن يعود على الغراب أي : ليريه الغراب ، أي : ليعلمه لأنه لما كان سبب تعليمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز ، ويظهر أن الحكمة في أن كان هذا المبعوث غرابا دون غيره من الحيوان ومن الطيور كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب ، وذلك مناسب لهذه القصة. وقيل : فبعث جملة محذوفة دل عليها المعنى تقديره : فجهل مواراته فبعث.

(قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) استقصر إدراكه وعقله في جهله ما يصنع بأخيه حتى يعلم ، وهو ذو العقل المركب فيه الفكر والرؤية والتدبير من طائر لا يعقل. ومعنى هذا الاستفهام : الإنكار على نفسه ، والنعي أي : لا أعجز عن كوني مثل هذا الغراب ، وفي ذلك هضم لنفسه واستصغار لها بقوله : مثل هذا الغراب.

٢٣٤

وأصل النداء أن يكون لمن يعقل ، ثم قد ينادي ما لا يعقل على سبيل المجاز كقولهم : يا عجبا ويا حسرة ، والمراد بذلك التعجب. كأنه قال : انظروا لهذا العجب ولهذه الحسرة ، فالمعنى : تنبهوا لهذه الهلكة. وتأويله هذا أوانك فاحصري. وقرأ الجمهور : يا ويلتا بألف بعد التاء ، وهي بدل من ياء المتكلم ، وأصله يا ويلتي بالياء ، وهي قراءة الحسن. وأمال حمزة والكسائي وأبو عمر وألف ويلتي. وقرأ الجمهور : أعجزت بفتح الجيم. وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، وفياض ، وطلحة ، وسليمان : بكسرها وهي لغة شاذة ، وإنما مشهور الكسر في قولهم : عجزت المرأة إذا كبرت عجيزتها. وقرأ الجمهور : فأواري بنصب الياء عطفا على قوله : أن أكون. كأنه قال : أعجزت أن أواري سوءة أخي. وقال الزمخشري : فأواري بالنصب على جواب الاستفهام انتهى. وهذا خطأ فاحش ، لأن الفاء الواقعة جوابا للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية والجواب شرط وجزاء ، وهنا تقول : أتزورني فأكرمك ، والمعنى : إن تزرني أكرمك. وقال تعالى : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) (١) أي إن يكن لنا شفعاء يشفعوا. ولو قلت هنا : إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوار سوءة أخي لم يصح ، لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب. وقرأ طلحة بن مصرف ، والفياض بن غزوان : فأواري بسكون الياء ، فالأولى أن يكون على القطع أي : فأنا أواري سوءة أخي ، فيكون أواري مرفوعا. وقال الزمخشري : وقرئ بالسكون على فأنا أواري ، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى. يعني : أنه حذف الحركة وهي الفتحة تخفيفا استثقلها على حرف العلة. وقال ابن عطية : هي لغة لتوالي الحركات انتهى. ولا ينبغي أن يخرج على النصب ، لأن نصب مثل هذا هو بظهور الفتحة ، ولا تستثقل الفتحة فتحذف تخفيفا كما أشار إليه الزمخشري ، ولا ذلك لغة كما زعم ابن عطية ، ولا يصلح التعليل بتوالي الحركات ، لأنه لم يتوال فيه الحركات. وهذا عند النحويين ـ أعني النصب ـ بحذف الفتحة ، لا يجوز إلا في الضرورة ، فلا تحمل القراءة عليها إذا وجد حملها على وجه صحيح ، وقد وجد وهو الاستئناف أي : فأنا أواري. وقرأ الزهري : سوة أخي بحذف الهمزة ، ونقل حركتها إلى الواو. ولا يجوز قلب الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، لأن الحركة عارضة كهي في سمول وجعل. وقرأ أبو حفص : سوة بقلب الهمزة واوا ، وأدغم الواو فيه ، كما قالوا في شيء شي ، وفي سيئة سية. قال الشاعر :

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٥٣.

٢٣٥

وإن رأوا سية طاروا بها فرحا

مني وما علموا من صالح دفنوا

(فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) قيل : هذه جملة محذوفة تقديره : فوارى سوءة أخيه. والظاهر أن ندمه كان على قتل أخيه لما لحقه من عصيان وإسخاط أبويه ، وتبشيره أنه من أصحاب النار. وهذا يدل على أنه كان عاصيا لا كافرا. قيل : ولم ينفعه ندمه ، لأن كون الندم توبة خاص بهذه الأمة. وقيل : من النادمين على حمله. وقيل : من النادمين خوف الفضيحة. وقال الزمخشري : من النادمين على قتله لما تعب فيه من حمله ، وتحيره في أمر ، وتبين له من عجزه وتلمذته للغراب ، واسوداد لونه ، وسخط أبيه ، ولم يندم ندم التائبين انتهى.

وقد اختلف العلماء في قابيل ، أكان كافرا أم عاصيا؟ وفي الحديث : «إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرها ودعوا شرها» وحكى المفسرون عجائب مما جرى بقتل هابيل من رجفان الأرض سبعة أيام ، وشرب الأرض دمه ، وإيسال الشجر ، وتغير الأطعمة ، وحموضة الفواكه ، ومرارة الماء ، واغبرار الأرض ، وهرب قابيل بأخته إقليميا إلى عدن من أرض اليمن ، وعبادته النار ، وانهماك أولاده في اتخاذ آلات اللهو وشرب الخمر والزنا والفواحش حتى أغرقهم الله بالطوفان ، والله أعلم بصحة ذلك. قال الزمخشري. وروي أن آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك ، وأنه رثاه بشعر. وهو كذب بحت ، وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال : من قال إنّ آدم قال شعرا فهو كذب ، ورمى ردم بما لا يليق بالنبوّة ، لأن محمدا والأنبياء عليهم‌السلام ، كلهم في النفي عن الشعر سواء. قال الله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) (١) ولكنه كان ينوح عليه ، وهو أول شهيد كان على وجه الأرض ويصف حزنه عليه نثرا من الكلام شبه المرثية ، فتناسخته القرون وحفظوا كلامه ، فلما وصل الى يعرب بن قحطان وهو أول من خط بالعربية فنظمه فقال :

تغيرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبر قبيح

وذكر بعد هذا البيت ستة أبيات ، وأنّ إبليس أجابه في الوزن والقافية بخمسة أبيات. وقول الزمخشري في الشعر : إنه ملحون ، يشير فيه إلى البيت وهو الثاني :

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٦٩.

٢٣٦

تغير كل ذي لون وطعم

وقل بشاشة الوجه المليح

يرويه بشاشة الوجه المليح على الإقواء ، ويروى بنصب بشاشة من غير تنوين ، ورفع الوجه المليح. وليس بلحن ، قد خرجوه على حذف التنوين من بشاشة ، ونصبه على التمييز ، وحذف التنوين لالتقاء الألف واللام. قد جاء في كلامهم قرئ : (أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) (١) وروي ولا ذاكر الله بحذف التنوين (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) الجمهور على أنّ من أجل ذلك متعلق بقوله : كتبنا. وقال قوم بقوله : من النادمين ، أي ندم من أجل ما وقع. ويقال : أجل الأمر أجلا وآجلا إذا اجتناه وحده. قال زهير :

وأهل خباء صالح ذات بينهم

قد احتربوا في عاجل أنا آجله

أي جانبه ، ونسب هذا البيت ابن عطية إلى جواب ، وهو في ديوان زهير. والمعنى : بسبب ذلك. وإذا قلت : فعلت ذلك من أجلك ، أردت أنك جنيت ذلك وأوجبته. ومعناه ومعنى من جراك واحد أي : من جريرتك. وذلك إشارة إلى القتل أي : من جني ذلك القتل كتبنا على بني إسرائيل. ومن لابتداء الغاية أي : ابتداء الكتب ، ونشأ من أجل القتل ، ويدخل على أجل اللام لدخول من ، ويجوز حذف حرف الجر واتصال الفعل إليه بشرطه في المفعول له. ويقال : فعلت ذلك من أجلك ولأجلك ، وتفتح الهمزة أو تكسر. وقرأ ابن القعقاع : بكسرها وحذفها ونقل حركتها إلى الساكن قبلها ، كما قرأ ورش بحذفها وفتحها ونقل الحركة إلى النون. ومعنى كتبنا أي : كتب بأمرنا في كتب منزلة عليهم تضمنت فرض ذلك ، وخص بنو إسرائيل بالذكر ، وإن كان قبلهم أمم حرم عليهم قتل النفس وكان القصاص فيهم ، لأنهم على ما روي أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس ، وغلظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء ، ولتظهر مذمتهم في أن كتب عليهم هذا ، وهم مع ذلك لا يرعوون ولا يفقهون ، بل هموا بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظلما. ومعنى بغير نفس : أي بغير قتل نفس فيستحق القتل. وقد حرّم الله نفس المؤمن إلا بإحدى موجبات قتله. وقوله : أو فساد ، هو معطوف على نفس أي : وبغير فساد ، والفساد قيل : الشرك بالله. وقيل : قطع الطريق ، وقطع الأشجار ، وقتل الدواب إلا لضرورة ، وحرق الزرع وما يجري مجراه ، وهو

__________________

(١) سورة الإخلاص : ١١٢ / ١ ـ ٢.

٢٣٧

الفساد المشار إليه بعد هذه الآية. وقال ابن عطية : لم يتخلص التشبيه إلى طرفي شيء من هذه الأقوال ، والذي أقول : إنّ التشبيه بين قاتل النفس وقاتل الكل لا يطرد من جميع الجهات ، لكن الشبه قد يحصل من ثلاث جهات. إحداها : القود فإنه واحد. والثانية : الوعيد ، فقد وعد الله قاتل النفس بالخلود في النار ، وتلك غاية العذاب. فإن ترقبناه يخرج من النار بعد ذلك بسبب التوحيد ، فكذلك قاتل الجميع أن لو اتفق ذلك. والثالثة : انتهاك الحرمة فإن نفسا واحدة في ذلك وجميع الأنفس سواء ، والمنتهك في واحدة ملحوظ بعين منتهك الجميع. ومثال ذلك رجلان حلفا على شجرتين أن لا يطعما من ثمرتيهما شيئا ، فطعم أحدهما واحدة من ثمرة شجرته ، وطعم الآخر ثمر شجرتيه كله ، فقد استويا في الحنث انتهى. وقال غيره : قيل المشابهة في الإثم ، والمعنى : أن عليه إثم من قتل الناس جميعا قاله : الحسن والزجاج. وقيل : التشبيه في العذاب ومعناه أنه يصلى النار بقتل المسلم ، كما لو قال قتل الناس قاله : مجاهد وعطاء ، وهذا فيه نظر. لأن العذاب يخفف ويثقل بحسب الجرائم. وقيل : التشبيه من حيث القصاص قاله : ابن زيد. وتقدم. وقيل : التشبيه من جهة الإنكار على قبح الفعل والمعنى : أنه ينبغي لجميع الناس أن يعينوا وليّ المقتول حتى يقيدوه منه ، كما لو قتل أولياءهم جميعا ذكره : القاضي أبو يعلى. وهذا الأمر كان مختصا ببني إسرائيل ، غلظ عليهم كما غلظ عليهم بقتل أنفسهم. قاله بعض العلماء. وقال قوم : هذا عام فيهم وفي غيرهم. قال سليمان بن عليّ : قلت : للحسن يا أبا سعيد هي لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ قال : أي والذي لا إله غيره ، ما كان دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا. وقيل في قوله : ومن أحياها أي : استنقذها من الهلكة. قال عبد الله ، والحسن ، ومجاهد أي من غرق أو حرق أو هلاك. وقيل من عضد نبيا أو إماما عادلا ، لأن نفعه عائد على الناس جميعا. وقيل : من ترك قتل النفس المحرمة فكأنما أحيا الناس بكفه أذاه عنهم. وقيل : من زجر عن قتل النفس ونهى عنه. وقيل : من أعان على استيفاء القصاص لأنه قال : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (١). قال الحسن : وأعظم إحيائها أن يحييها من كفرها ، ودليله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) (٢) انتهى والإحياء هنا مجاز ، لأنّ الإحياء حقيقة هو لله تعالى ، وإنما المعنى : ومن استسقاها ولم يتلفها ، ومثل هذا المجاز قول محاج ابراهيم : أنا أحيي سمي الترك إحياء.

(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٩.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٢.

٢٣٨

أخبر تعالى أنّ الإسراف والفساد فيهم هذا مع مجيء الرسل بالبينات من الله ، وكان مقتضى مجيء رسل الله بالحجج الواضحة أن لا يقع منهم إسراف وهو المجاوزة في الحد ، فخالفوا هذا المقتضى. والعامل في بعد ، والمتعلق به في الأرض خبر إن ، ولم تمنع لام الابتداء من العمل في ذلك وإن كان متقدما ، لأنّ دخولها على الخبر ليس بحق التأصل ، والإشارة بذلك إلى مجيء الرسل بالبينات ، والمراد بالأرض أي : حيث ما حلوا أسرفوا. وظاهر الإسراف أنه لا يتقيد. وقيل لمسرفون أي : قاتلون بغير حق كقوله : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (١). وقيل : هو طلبهم الكفاءة في الحسب حتى يقتل بواحد عدة من قتلتهم.

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) قال أنس بن مالك ، وجرير بن عبد الله ، وعبد الله بن عمر ، وابن جبير ، وعروة : نزلت في عكل وعرينة وحديثه مشهور. وقال ابن عباس فيما رواه عكرمة عنه : نزلت في المشركين ، وبه قال : الحسن وعطاء. وقال ابن عباس في رواية والضحاك : نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين الرسول عهد فنقضوه ، وأفسدوا في الدّين. وقيل : نزلت في قوم أبي بردة هلال بن عامر قتلوا قوما مرّوا بهم من بني كنانة يريدون الإسلام ، وأخذوا أموالهم ، وكان بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أبي بردة موادعة أن لا يعين عليه ، ولا يهيج من أتاه مسلما ففعل ذلك قومه ولم يكن حاضرا ، والجمهور على أنّ هذه الآية ليست ناسخة ولا منسوخة. وقيل : نسخت ما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعرنيين من المثلة ، ووقف الحكم على هذه الحدود.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لما ذكر في الآية قبلها تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ولا فساد في الأرض ، أتبعه ببيان الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ما هو ، فإن بعض ما يكون فسادا في الأرض لا يوجب القتل ، ولا خلاف بين أهل العلم أنّ حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام. ومذهب مالك وجماعة : أن المحارب هو من حمل السّلاح على الناس في مصر أو برية ، فكادهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثائرة ، ولا دخل ولا عداوة. ومذهب أبي حنيفة وجماعة : أن المحاربين هم قطاع الطريق خارج المصر ، وأمّا في المصر فيلزمه حدّ ما اجترح من قتل أو سرقة أو غصب ونحو ذلك ، وأدنى الحرابة إخافة الطريق ثم أخذ المال مع الإخافة ، ثم الجمع بين الإخافة وأخذ المال والقتل

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٣٣.

٢٣٩

ومحاربة الله تعالى غير ممكنة ، فيحمل على حذف مضاف أي : محاربون أولياء الله ورسوله ، وإلا لزم أن يكون محاربة الله ورسوله جمعا بين الحقيقة والمجاز. فإذا جعل ذلك على حذف مضاف ، أو حملا على قدر مشترك اندفع ذلك ، وقول ابن عباس : المحاربة هنا الشرك ، وقول عروة : الارتداد ، غير صحيح عند الجمهور ، وقد أورد ما يبطل قولهما.

وفي قوله : يحاربون الله ورسوله ، تغليظ شديد لأمر الحرابة ، والسعي في الأرض فسادا يحتمل أن يكون المعنى بمحاربتهم ، أو يضيفون فسادا إلى المحاربة. وانتصب فسادا على أنه مفعول له ، أو مصدر في موضع الحال ، أو مصدر من معنى يسعون في الأرض معناه : يفسدون ، لمّا كان السعي للفساد جعل فسادا. أي : إفسادا. والظاهر في قوله : العقوبات الأربع أن الإمام مخير بين إيقاع ما شاء منها بالمحارب في أي رتبة كان المحارب من الرتب على قدّمناها ، وبه قال : النخعي ، والحسن ، في رواية وابن المسيب ، ومجاهد ، وعطاء ، وهو : مذهب مالك ، وجماعة. وقال مالك : استحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقاب ، ولا سيما : أن لم يكن ذا شرور معروفة ، وأما إن قتل فلابد من قتله.

وقال ابن عباس ، وأبو مجلز ، وقتادة ، والحسن أيضا وجماعة : لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب ، فمن قتل قتل ، ومن أخذ المال ولم يقتل فالقطع من خلاف ، ومن أخاف فقط فالنفي ، ومن جمعها قتل وصلب. والقائلون بهذا الترتيب اختلفوا ، فقال : أبو حنيفة ، ومحمد ، والشافعي ، وجماعة ، وروي عن مالك : يصلب حيا ويطعن حتى يموت. وقال جماعة : يقتل ثم يصلب نكالا لغيره ، وهو قول الشافعي. والقتل إما ضربا بالسيف للعنق ، وقيل : ضربا بالسيف أو طعنا بالرمح أو الخنجر ، ولا يشترط في قتله مكافأة لمن قتل. وقال الشافعي : تعتبر فيه المكافأة في القصاص. ومدة الصلب يوم أو ثلاثة أيام ، أو حتى يسيل صديده ، أو مقدار ما يستبين صلبه. وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ ، والرجل الشمال من المفصل. وروي عن علي : أنه من الأصابع ويبقى الكف ، ومن نصف القدم ويبقى العقب. وهذا خلاف الظاهر ، لأن الأصابع لا تسمى يدا ، ونصف الرجل لا يسمى رجلا. وقال مالك : قليل المال وكثيره سواء ، فيقطع المحارب إذا أخذه. وقال أصحاب الرأي والشافعي لا يقطع إلا من أخذ ما يقطع فيه السارق. وأما النفي فقال السدي : هو أن يطالب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله ويخرج من دار الإسلام. وروي عن ابن عباس وأنس : نفيه أن يطلب ، وروي ذلك عن الليث ومالك ، إلا أن مالكا قال : لا يضطر

٢٤٠