البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)

القسّ بفتح القاف تتبّع الشيء. قال رؤبة :

أصبحن عن قسّ الأذى غوافلا

يمشين هونا حرّدا بهاللا

ويقال قسّ الأثر تتبعه ، وقصه أيضا. والقسّ : رئيس النصارى في الدين والعلم ، وجمعه قسوس ، سمي بالمصدر لتتبعه العلم والدّين ، وكذلك القسّيس فعّيل كالشّرّيب ، وجمع القسّيس بالواو والنون ، وجمع أيضا على قساوسة ، قال أمية بن أبي الصلت :

لو كان منقلب كانت قساوسة

يحييهم الله في أيديهم الزّبر

قال الفرّاء : هو مثل مهالبة ، كثرت السينات فأبدلوا إحداهنّ واوا ، يعني أن قياسه قساسنة. وزعم ابن عطية أن القسّ بفتح القاف وكسرها ، والقسّيس اسم أعجمي عرّب.

الطمع قريب من الرجا ، يقال منه : طمع يطمع طمعا وطماعة وطماعية ؛ قال الشاعر :

طماعية أن يغفر الذنب غافر

واسم الفاعل طمع.

٣٤١

الرّجس اسم لكل ما يستقذر من عمل ، يقال : رجس الرجل يرجس رجسا إذا عمل عملا قبيحا ، وأصله من الرجس ، وهو شدّة الصوت بالرّعد ؛ قال الراجز :

من كلّ رجاس يسوق الرّجسا

وقال ابن دريد : الرجز الشر ، والرجز العذاب ، والركس العذرة والنتن ، والرجس يقال للأمرين.

الرمح معروف ، وجمعه في القلّة أرماح ، وفي الكثرة رماح ، ورمحه : طعنه بالرمح ، ورجل رامح : أي ذو رمح ولا فعل له من معنى ذي رمح ، بل هو كلابن وتامر ، وثور رامح : له قرنان ، قال ذو الرّمة :

وكائن ذعرناه من مهاة ورامح

بلاد الورى ليست لها ببلاد

والرّماح : الذي يتخذ الرمح وصنعة الرماحة.

الوبال : سوء العاقبة ، ومرعى وبيل : يتأذى به بعد أكله.

البرّ : خلاف البحر. وقال الليث : يستعمل نكرة ، يقال : جلست برّا وخرجت برّا ، وقال الأزهري : هي من كلام المولدين ، وفي حديث سلمان «إن لكل أمر جوانيّا وبرانيّا» كنى بذلك عن السرّ والعلانية ، وهو من تغيير النسب.

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا).

قال قتادة نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة مما جاء به عيسى ، آمنوا بالرسول ، فأثنى الله عليهم ، قيل هو النجاشي وأصحابه تلا عليهم جعفر بن أبي طالب حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع ، وقيل هم وفد النجاشي مع جعفر إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا سبعين بعثهم إلى الرسول عليهم ثياب الصوف ، اثنان وستون من الحبشة ، وثمانية من الشام ، وهم بحير الراهب وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن ، فقرأ عليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يس ، فبكوا وآمنوا وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى ، فأنزل الله فيهم هذه الآية.

وروي عن مقاتل والكلبي أنهم كانوا أربعين من بني الحارث بن كعب من نجران ، واثنين وثمانين من الحبشة ، وثمانية وستين من الشام.

٣٤٢

وروي عن ابن جبير قريب من هذا ، وظاهر اليهود العموم من كان بحضرة الرسول من يهود المدينة وغيرهم ، وذلك أنهم مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم وعلى العتوّ والمعاصي ، واستشعارهم اللعنة وضرب الذلة والمسكنة ، فتحرّرت عداوتهم وكيدهم وحسدهم وخبثهم ، وفي الحديث : «ما خلا يهوديان بمسلم إلا همّا بقتله» وفي وصف الله إياهم بأنهم أشدّ عداوة إشعار بصعوبة إجابتهم إلى الحق ، ولذلك قلّ إسلام اليهود.

وقيل (الْيَهُودَ) هنا هم يهود المدينة لأنهم هم الذين مالؤوا المشركين على المسلمين. وعطف (الَّذِينَ أَشْرَكُوا) على (الْيَهُودَ) جعلهم تبعا لهم في ذلك إذ كان اليهود أشدّ في العداوة ، إذ تباينوا هم والمسلمون في الشريعة لا في الجنس ، إذ بينهم وشائج متصلة من القرابات والأنساب القريبة فتعطفهم على كل حال الرحم على المسلمين ، ولأنهم ليسوا على شريعة من عند الله ، فهم أسرع للإيمان من كلّ أحد من اليهود والنصارى ، وعطفوا هنا كما عطفوا في قوله : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) (١) واللام في (لَتَجِدَنَ) هي الملتقى بها القسم المحذوف.

وقال ابن عطية : هي لام الابتداء ، وليس بمرضيّ ، و (النَّاسِ) هنا الكفار ، أي ولتجدن أشدّ الكفار عداوة.

(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) أي هم ألين عريكة وأقرب ودّا. ولم يصفهم بالودّ إنما جعلهم أقرب من اليهود والمشركين ، وهي أمّة لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكرها عمرو بن العاص في صحيح مسلم ، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه دينا وإيمانا ، ويبغضون أهل الفسق ، فإذا سالموا فسلمهم صاف ، وإذا حاربوا فحربهم مدافعة ، لأن شرعهم لا يأمرهم بذلك ، وحين غلب الروم فارس سرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغلبة أهل الكتاب لأهل عبادة النار ، ولإهلاك العدوّ الأكبر بالعدوّ الأصغر إذ كان مخوفا على أهل الإسلام ، واليهود ليسوا على شيء من أخلاق النصارى ، بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة ، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يترقب ما يغتالك به ألا ترى إلى ما حكى تعالى عنهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) (٢) وفي قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) إشارة إلى أنهم ليسوا متمسكين بحقيقة النصرانية ، بل ذلك قول منهم وزعم ، وتعلق (لِلَّذِينَ آمَنُوا) الأول بعداوة والثاني بمودة. وقيل هما في موضع

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٦.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ١٤.

٣٤٣

النعت ووصف العداوة بالأشد والمودّة بالأقرب دليل على تفاوت الجنسين بالنسبة إلى المؤمنين ، فتلك العداوة أشد العداوات وأظهرها ، وتلك المودة أقرب وأسهل ، وظاهر الآية يدلّ على أنّ النصارى أصلح حالا من اليهود وأقرب إلى المؤمنين مودة ، وعلى هذا الظاهر فسر الآية على من وقفنا على كلامه.

قال بعضهم : وليس على ظاهره وإنما المراد أنهم أكثر أسباب مودة من اليهود ، وذلك ذم لهم ، فإن من كثرت أسباب مودته كان تركه للمودة أفحش ، ولهذا قال أبو بكر الرازي : من الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحا للنصارى وإخبارا بأنهم خير من اليهود ، وليس كذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدل عليه ما ذكره في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول ، ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أنعم في مقالتي الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فسادا من مقالة اليهود ، لأن اليهود تقرّ بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مشبهة ببعض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه ؛ انتهى كلام أبي بكر الرازي والظاهر ما قاله المفسرون وغيره من أن النصارى على الجملة أصلح حالا من اليهود ، وقد ذكر المفسرون فيما تقدم ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق ، والدخول في الإسلام سريعا ، وليس الكلام واردا بسبب العقائد ، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين ، وأما قوله لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول ليس كما ذكر ، بل صدر الآية يقتضي العموم لأنه قال : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهاد ومتواضعين وسريعي استجابة للإسلام وكثيري بكاء عند سماع القرآن ، واليهود بخلاف ذلك والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين وبعد اليهود.

(ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) الإشارة بذلك إلى أقرب المودة عليه ، أي منهم علماء وعباد وأنهم قوم فيهم تواضع واستكانة ، وليسوا مستكبرين واليهود على خلاف ذلك لم يكن فيهم قط أهل ديارات ولا صوامع وانقطاع عن الدنيا ، بل هم معظمون متطاولون لتحصيلها حتى كأنهم لا يؤمنون بآخرة ولذلك لا يرى فيهم زاهد ، والرهبان جمع راهب كفارس وفرسان والرهب والرهبة الخشية. وقيل الرهبان مفرد كسلطان وأنشدوا :

٣٤٤

لو عاينت رهبان دير في القلل

تحدر الرهبان تمشي وتزل

ويروى ونزل ، والقسيس تقدم شرحه في المفردات. وقال ابن زيد : هو رأس الرهبان. وقيل : العالم. وقيل : رافع الصوت بالقراءة. وقيل : الصديق ، وفي هذا التعليل دليل على جلاله العلم ، وأنه سبيل إلى الهداية ، وعلى حسن عاقبة الانقطاع ، وأنه طريق إلى النظر في العاقبة على التواضع ، وأنه سبب لتعظيم الموحد إذ يشهد من نفسه ومن كل محدث أنه مفتقر للموجد فيعظم عند مخترع الأشياء البارئ (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) هذا وصف برقة القلوب والتأثر بسماع القرآن ، والظاهر أن الضمير يعود على قسيسين ورهبانا فيكون عامّا ، ويكون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم كما جرى للنجاشي حيث تلا عليه جعفر سورة مريم إلى قوله (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) (١) وسورة طه إلى قوله (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) (٢) فبكى وكذلك قومه الذين وفدوا على الرسول حين قرأ عليها يس فبكوا.

وقال ابن عطية ما معناه : صدر الآية عام في النصارى و (إِذا سَمِعُوا) عام في من آمن من القادمين من أرض الحبشة ، إذ ليس كل النصارى يفعل ذلك ، بل هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسمعوا ما عنده ، فلما رأوه وتلا عليهم القرآن فاضت أعينهم من خشية الله تعالى ، انتهى.

وقال السديّ : لما رجعوا إلى النجاشي آمن وهاجر بمن معه فمات في الطريق ، فصلى عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون واستغفروا له ، و (تَرى) من رؤية العين وأسند الفيض إلى الأعين وإن كان حقيقة للدموع كما قال :

ففاضت دموع العين مني صبابة

إقامة للمسبب مقام السبب ، لأن الفيض مسبب عن الامتلاء ، فالأصل ترى أعينهم تمتلئ من الدمع حتى تفيض ، لأن الفيض على جوانب الإناء ناشئ عن امتلائه ، قال الشاعر :

قوارض تأتيني ويحتقرونها

وقد يملأ الماء الإناء فيفعم

ويحتمل أنه أسند الفيض إلى الأعين على سبيل المبالغة في البكاء لما كانت تفاض

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٣٤.

(٢) سورة طه : ٢ / ٩.

٣٤٥

فيها جعلت الفائضة بأنفسها على سبيل المجاز والمبالغة ، و (مِنَ) في (مِنَ الدَّمْعِ) قال أبو البقاء : فيه وجهان أحدهما : أن من لابتداء الغاية أي فيضها من كثرة الدموع والثاني : أن يكون حالا ، والتقدير تفيض مملوءة من الدمع مما عرفوا من الحق ، ومعناها من أجل الذي عرفوه ، و (مِنَ الْحَقِ) حال من العائد المحذوف أو حال من ضمير الفاعل في (عَرَفُوا).

وقيل : (مِنَ) في (مِنَ الدَّمْعِ) بمعنى الباء أي بالدمع.

وقال الزمخشري : (مِنَ الدَّمْعِ) من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعا.

(فإن قلت) : أي فرق بين من ومن في قوله : (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) (قلت) : الأول لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق ، وكان من أجله وسببه ، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا ، ويحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم ، انتهى.

والجملة من قوله : (وَإِذا سَمِعُوا) تحتمل الاستئناف ، وتحتمل أن تكون معطوفة على خبر إنهم. وقرئ : (تَرى أَعْيُنَهُمْ) على البناء لما لم يسمّ فاعله (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) المراد بآمنا أنشأنا الإيمان الخاص بهذه الأمة الإسلامية. والشاهدون : قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما : هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا ذلك هم شهداء على سائر الأمم ، كما قال تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (١) قال الزمخشري : وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك ، انتهى. وقال الطبري : معناه ولو قيل معناه (مَعَ الشَّاهِدِينَ) بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان صوابا.

وقيل : مع الذين يشهدون بالحق.

وقال الزجاج المراد بالشاهدين الأنبياء ، والمؤمنون ، والكتابة في اللوح المحفوظ. وقيل : معناه أثبتنا من قولهم كتب فلان في الجند أي ثبت ، و (يَقُولُونَ) في موضع نصب على الحال ، قاله ابن عطية وأبو البقاء ، ولم يبينا ذا الحال ولا العامل فيها ، ولا جائز أن يكون حالا من الضمير في أعينهم لأنه مجرور بالإضافة لا موضع له من رفع ولا نصب إلا على مذهب من ينزل الخبر منزلة المضاف إليه ، وهو قول خطأ ، وقد بينا ذلك في كتاب

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٣.

٣٤٦

منهج السالك من تأليفنا ، ولا جائز أن يكون حالا من ضمير الفاعل في (عَرَفُوا) لأنها تكون قيدا في العرفان وهم قد عرفوا الحق في هذه الحال وفي غيرها ، فالأولى أن تكون مستأنفة ، أخبر تعالى عنهم بأنهم التبسوا بهذا القول ، والمعنى أنهم عرفوا الحق بقلوبهم ونطقت به وأقرت ألسنتهم.

(وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) هذا إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه وهو عرفان الحق. قال الزمخشري والتبريزي : وموجب الإيمان هو الطمع في دخولهم مع الصالحين ، والظاهر أن قولهم ذلك هو الظاهر لأنفسهم على سبيل المكالمة معها لدفع الوساوس والهواجس ، إذ فراق طريقة وسلوك أخرى لم ينشأ عليها مما يصعب ويشق ، أو قول بعض من آمن لبعض على سبيل التثبت أيضا ، أو قولهم ذلك على سبيل المحاجة لمن عارضهم من الكفار ، لما رجعوا إليهم ولا موهم على الإيمان أي ، وما يصدنا عن الإيمان بالله وحده. وقد لاح لنا الصواب وظهر الحق النير.

وروي عن ابن عباس أن اليهود أنكروا عليهم ولا موهم فأجابوهم بذلك و (لا نُؤْمِنُ) في موضع الحال ، وهي المقصودة وفي ذكرها فائدة الكلام ، وذلك كما تقول : جاء زيد راكبا جوابا لمن قال : هل جاء زيد ماشيا أو راكبا؟ والعامل فيها هو متعلق به الجار والمجرور ، أي : أي شيء يستقرّ لنا ويجعل في انتفاء الإيمان عنا ، وفي مصحف عبد الله وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل علينا ربنا ونطمع وينبغي أن يحمل ذلك على تفسير قوله تعالى (وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) لمخالفته ما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف.

(وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) الأحسن والأسهل أن يكون استئناف إخبار منهم بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم بدخولهم مع الصالحين ، فالواو عاطفة جملة على جملة ، و (ما لَنا لا نُؤْمِنُ لا) عاطفة على نؤمن أو على (لا نُؤْمِنُ) ولا على أن تكون الواو واو الحال ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه.

وقال الزمخشري : والواو في (وَنَطْمَعُ) واو الحال ، والعامل في الحال معنى الفعل العامل في لا نؤمن ، ولكن مقيدا بالحال الأولى لأنك لو أزلتها وقلت : وما لنا نطمع لم يكن كلاما ، انتهى.

وما ذكره من أن الحالين العامل فيهما واحد وهو ما في اللام من معنى الفعل ، كأنه قيل : أي شيء حصل لنا غير مؤمنين طامعين ليس بجيد ، لأن الأصح أنه لا يجوز أن يقضي

٣٤٧

العامل حالين لذي حال واحد لا بحرف عطف إلا أفعل التفضيل ، فالأصح أنه يجوز فيه ذلك ، وذو الحال هنا واحد وهو الضمير المجرور بلام لنا ، ولأنه أيضا تكون الواو دخلت على المضارع ، ولا تدخل واو الحال على المضارع إلا بتأويل ، فيحتاج أن يقدر : ونحن نطمع.

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون (وَنَطْمَعُ) حالا من (لا نُؤْمِنُ) على أنهم أنكروا على أنفسهم لأنهم لا يوحدون الله ، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين ، انتهى.

وهذا ليس بجيد لأن فيه دخول واو الحال على المضارع ويحتاج إلى تأويل.

وقال الزمخشري : وأن يكون معطوفا على (لا نُؤْمِنُ) على معنى وما لنا لا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين أو على معنى : وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين ، انتهى.

ويظهر لي وجه غير ما ذكروه وهو أن يكون معطوفا على نؤمن على أنه منفي كنفي نؤمن ، التقدير : وما لنا لا نؤمن ولا نطمع فيكون في ذلك إنكار لانتفاء إيمانهم وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين : الإيمان والطمع في الدخول مع الصالحين و (مَعَ) على بابها من المعية ، وقيل : بمعنى في والصالحون أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن عباس أو الرسول وأصحابه ، قاله ابن زيد ، أو المهاجرون الأولون ، قاله مقاتل. وقيل : التقدير أن يدخلنا الجنة (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) ظاهره أن الإثابة بما ذكر مترتبة على مجرد القول ، ولا بد أن يقترن بالقول الاعتقاد ويبين أنه مقترن به أنه قال : (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) فوصفهم بالمعرفة ، فدل على اقتران القول بالعلم ، وقال : (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) فإما أن يكون من وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على هذا الوصف بهم ، وأنهم أثيبوا لقيام هذا الوصف بهم ، وهو رتبة الإحسان ، وهي التي فسرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ولا إخلاص ولا علم أرفع من هذه الرتبة ، وإما أن يكون أريد به العموم فيكونون قد اندرجوا في المحسنين على أن هذه الإثابة لم تترتب على مجرد القول اللفظي ، ولذلك فسره الزمخشري بقوله بما قالوا بما تكلموا به من اعتقاد وإخلاص من قولك : هذا قول فلان أي اعتقاده وما يذهب إليه انتهى.

٣٤٨

وفسروا هذا القول بقولهم : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) والذي يظهر أنه عنى به قولهم (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) لأنه هو الصريح في إيمانهم ، وأما قوله : (لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) فليس فيه تصريح بإيمانهم ، وإنما هو إنكار على انتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه ، فلا تترتب عليه الإثابة.

وقرأ الحسن (فَآتاهُمُ) من الإيتاء بمعنى الإعطاء لا من الإثابة ، والإثابة أبلغ من الإعطاء ، لأنه يلزم أن يكون عن عمل بخلاف الإعطاء ، فإنه لا يلزم أن يكون عن عمل ولذلك جاء أخيرا (وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) نبه على أن تلك الإثابة هي جزاء ، والجزاء لا يكون إلا عن عمل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) اندرج في (الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا) اليهود والنصارى وغيرهم لما ذكر ما للمؤمن ذكر ما أعد للكافر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) ذكروا سبب نزولها في قصة طويلة ملخصها أن جماعة من الصحابة عزموا على التقشف المفرط والعبادة المفرطة الدائمة من الصيام الدائم وترك إتيان النساء واللحم والودك والطيب ولبس المسوح والسياحة في الأرض وجبّ المذاكير ، فنهاهم الرسول عن ذلك ونزلت.

وقيل : حرم عبد الله بن رواحة عشاه ليلة نزل به ضيف لكون امرأته انتظرته ولم تبادر إلى إطعام ضيفه ، فحرمته هي إن لم يذقه ، فحرمه الضيف ، فقال عبد الله : قربي طعامك ، كلوا بسم الله ، فأكلوا جميعا وأخبر الرسول بذلك ، فقال «أحسنت».

وقيل في سبب نزولها غير ذلك.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه تعالى لما مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهبانا وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ومستلذاتها أوهم ذلك ترغيب المسلمين في مثل ذلك التقشف والتبتل بيّن تعالى أنّ الإسلام لا رهبانية فيه ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء وأنال الطيب ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» وأكل صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدجاج والفالوذج وكان يعجبه الحلوى والعسل والطيبات هنا المستلذات من الحلال ومعنى لا تحرّموها لا تمنعوا أنفسكم منها لمنع التحريم ولا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدا منكم وتقشفا ، وهذا هو المناسب لسبب النزول.

٣٤٩

وقيل المعنى : لا تحرموا ما تريدون تحصيله لأنفسكم من الحلال بطريق غير مشروع كالغصب والربا والسرقة ، بل توصلوا بطريق مشروع من ابتياع واتهاب وغيرهما.

وقيل معناه لا تعتقدوا تحريم ما أحلّه الله لكم.

وقيل : لا تحرّموا على نفسكم بالفتوى.

وقيل لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين لقوله : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (١). وقيل :

خلط المغصوب بالمملوك خلطا لا يتميز منه فيحرم الجميع ويكون ذلك سببا لتحريم ما كان حلالا (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) هذا نهي عن الاعتداء فيدخل فيه جميع أنواع الاعتداء ولا سيما ما نزلت الآية بسببه.

قال الحسن : لا تجاوزوا ما حدّ لكم من الحلا إلى الحرام ، واتبعه الزمخشري فقال : ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم ، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وإبراهيم : لا تعتدوا بالخنا وتحريم النساء ، وقال عكرمة أيضا : لا تسيروا بغير سيرة الإسلام ، وقال السدي وعكرمة أيضا : هو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله ، فهو تأكيد لقوله (لا تُحَرِّمُوا) وقيل : ولا تعتدوا بالإسراف في تناول الطيبات كقوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (٢) (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) تقدم تفسير مثلها في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) (٣) (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) تأكيد للوصية بما أمر به وزاده تأكيدا بقوله : (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) لأن الإيمان به يحمل على التقوى في امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه.

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) تقدم الكلام في تفسير نظير هذه الجملة ، ومعنى (عَقَّدْتُمُ) وثقتم بالقصد والنية ، وقرأ الحرميان وأبو عمر بتشديد القاف ، وقرأ الأخوان وأبو بكر بتخفيفها ، وابن ذكوان بألف بين العين والقاف ، وقرأ الأعمش بما عقدت الأيمان جعل الفعل للأيمان فالتشديد إما للتكثير بالنسبة إلى الجمع ، وأما لكونه بمعنى المجرد نحو قدّر وقدر ، والتخفيف هو الأصل ، وبالألف بمعنى المجرد نحو جاوزت الشيء وجزته ، وقاطعته وقطعته ، أي هجرته. وقال أبو علي الفارسي :

__________________

(١) سورة التحريم : ٦٦ / ١.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٣١.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٦٣.

٣٥٠

عاقدتم يحتمل أمرين أحدهما أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص ، انتهى ، وليس مثله لأنك لا تقول طرقت النعل ولا عقبت اللص بغير ألف ، وهذا تقول فيه عاقدت اليمين وعقدت اليمين ، وقال الحطيئة :

قوم إذا عاقدوا عقدا لجارهم

فجعله بمعنى المجرد وهو الظاهر كما ذكرناه.

قال أبو علي : والأحرى أن يراد به فاعلت التي تقتضي فاعلين كأن المعنى بما عاقدتم عليه الأيمان عداه بعلى لما كان بمعنى عاهد ، قال : بما عاهد عليه الله كما عدى (نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) (١) بإلى ، وبابها أن تقول ناديت زيدا (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) (٢) لما كانت بمعنى دعوت إلى كذا قال ممن دعا إلى الله ثم اتسع فحذف الجار ونقل الفعل إلى المفعول ، ثم المضمر العائد من الصلة إلى الموصول ، إذ صار بما عاقدتموه الأيمان ، كما حذف من قوله (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) (٣) انتهى ، وجعل عاقد لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظا والاشتراك فيهما معنى بعيد إذ يصير المعنى أن اليمين عاقدته كما عاقدها إذ نسب ذلك إليه وهو عقدها هو على سبيل الحقيقة ، ونسبة ذلك إلى اليمين هو على سبيل المجاز لأنها لم تعقده بل هو الذي عقدها. وأما تقديره بما عاقدتم عليه وحذف حرف الجر ، ثم الضمير على التدريج الذي ذكره فهو أيضا بعيد ، وليس تنظيره ذلك بقوله (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) بسديد لأن أمر يتعدى بحرف الجر تارة وبنفسه تارة إلى المفعول الثاني وإن كان أصله الحذف تقول أمرت زيدا الخير ، وأمرته بالخير ، ولأنه لا يتعين في (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، بل يظهر أنها مصدرية فلا يحتاج إلى عائد ، وكذلك هنا الأولى أن تكون ما مصدرية ، ويقوي ذلك ويحسنه المقابلة بعقد اليمين للمصدر الذي هو باللغو في أيمانكم ، لأن اللغو مصدر ، فالأولى مقابلته بالمصدر لا بالموصول.

وقال الزمخشري : والمعنى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم ، فحذف وقت المؤاخذة ، لأنه كان معلوما عندهم أو بنكث ما عقدتم ، فحذف المضاف انتهى ؛ واليمين المنعقدة بالله أو بأسمائه أو صفاته.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥٨ / ٥.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٥٢.

(٣) سورة الحجر : ١٥ / ٩٤.

٣٥١

وقال الإمام أحمد : إذا حلف بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم انعقدت يمينه لأنه حلف بما لم يتم الإيمان إلا به ، وفي بعض الصفات تفصيل. وخلاف ذكر في الفقه.

(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) الكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها ، والضمير في (فَكَفَّارَتُهُ) عائد على ما إن كانت موصولة اسمية ، وهو على حذف مضاف كما تقدم ، وإن كانت مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من المعنى وهو إثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح لكن يقتضيه المعنى ، ومساكين أعمّ من أن يكونوا ذكورا أو إناثا أو من الصنفين ، والظاهر تعداد الأشخاص ، فلو أطعم مسكينا واحدا لكفارة عشرة أيام لم يجزه ، وبه قال مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة يجزئ ، وتعرّضت الآية لجنس ما يطعم منه وهو من أوسط ما تطعمون ولم تتعرض لمقدار ما يطعم كل واحد هذا الظاهر ، وقد رأى مالك وجماعة أن هذا التوسط هو في القدر ، وبه قال عمر وعليّ وابن عباس ومجاهد ، ورأى جماعة أنه في الصنف ، وبه قال ابن عمر والأسود وعبيدة والحسن وابن سيرين ، وقال ابن عطية : الوجه أن يطعم بلفظ الوسط القدر والصنف ؛ انتهى.

وروي عن زيد بن ثابت وابن عباس والحسن وعطاء وابن المسيب مدّ لكلّ مسكين بمدّ الرسول ، وبه قال مالك والشافعي ، وروي عن عمر وعليّ وعائشة نصف صاع من برّ أو صاع من تمر ، وبه قال أبو حنيفة ، والظاهر أنه لا يجزئ إلا الإطعام بما فيه كفاية وقتا واحدا يسدّ به الجوعة ، فإن غداهم وعشاهم أجزأه ، وبه قال عليّ ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك ، وقال ابن جبير والحكم والشافعي : من شرط صحة الكفارة تمليك الطعام للفقراء ، فإن غدّاهم وعشاهم لم يجزه ، والظاهر أنه لا يشترط الإدام ، وقال ابن عمر : أوسط ما يطعم الخبز والتمر والخبز والزبيب وخير ما نطعم أهلينا الخبز واللحم وعن غيره الخبز والسمن ، وأحسنه التمر مع الخبز ، وروي عن ابن مسعود مثله ، وقال ابن حبيب : لا يجزئ الخبز قفارا ولكن بإدام زيت أو لبن أو لحم ونحوه ، والظاهر أن المراعى ما يطعم أهليه الذين يختصون به ، أي من أوسط ما يطعم كل شخص شخص أهله ، وقيل المراعى عيش البلد ، فالمعنى من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة من مدينة أو صقع ، و (مِنْ أَوْسَطِ) في موضع مفعول ثان لإطعام ، والأول هو (عَشَرَةِ مَساكِينَ) أي طعاما من أوسط والعائد على

٣٥٢

(ما) من (تُطْعِمُونَ) في موضع محذوف أي تطعمونه ، وقرأ الجمهور (أَهْلِيكُمْ) وجمع أهل بالواو والنون شاذّ في القياس.

وقرأ جعفر الصادق أهاليكم جمع تكسير وبسكون الياء ، قال ابن جني : أهال بمنزلة ليال ، واحدها أهلاة وليلاة ، والعرب تقول : أهل وأهلة ومنه قوله :

وأهلة ودّ قد سريت بودّهم.

وقال الزمخشري والأهالي اسم جمع لأهل كالليالي في جمع ليلة والأراضي في جمع أرض ، وأما تسكين الياء في أهاليكم فهو كثير في الضرورة ، وقيل في السعة كما قال زهير :

يطيع العوالي ركبت كل لهدم

شبهت الياء بالألف فقدرت فيها جميع الحركات.

(أَوْ كِسْوَتُهُمْ) هذا معطوف على قوله (إِطْعامُ) والظاهر أن كسوة هي مصدر وإن كان يستعمل للثوب الذي يستر ، ولما لم يذكر مقدار ما يطعم له يذكر مقدار الكسوة وظاهره مطلق الكسوة وأجمعوا على أن القلنسوة بانفرادها لا تجزئ ، وقال بعضهم : الكسوة في الكفارة إزار وقميص ورداء ، وروي عن ابن عمر أو ثوبان لكل مسكين. قاله أبو موسى الأشعريّ وابن سيرين والحسن : وراعى قوم الزي والكسوة المتعارفة ، فقال بعضهم : لا يجزئ الثوب الواحد إلا إذا كان جامعا لما قد يتزين به كالكساء والملحفة ، وقال النخعي : ليس القميص والدرع والخمار ثوبا جامعا ، وقال الحسن والحكم : تجزئ عمامة يلف بها رأسه ، وقال مجاهد يجزئ كل شيء إلا التبان ، وقال عطاء وابن عباس وأبو جعفر ومنصور : الكسوة ثوب قميص أو رداء أو إزار ، وقال ابن عباس تجزئ العباءة أو الشملة ، وقال طاوس والحسن : ثوب لكل مسكين ، وعن ابن عمر إزار وقميص أو كساء ، وهل يجزئ إعطاء كساوى عشرة أنفس لشخص واحد في عشرة أيام فيه خلاف كالإطعام ، وقرأ النخعي وابن المسيب وابن عبد الرحمن (كِسْوَتُهُمْ) بضم الكاف ، وقرأ ابن جبير وابن السميفع أو كاسوتهم بكاف الجر على أسوة ، قال الزمخشري : المعنى أو مثل ما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم ولكن تساوون بينهم وبينهم (فإن قلت) : ما محل الكاف؟ (قلت) الرفع ، قيل : إن قوله (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) عطف على محل (مِنْ أَوْسَطِ) فدل على أنه ليس قوله (مِنْ أَوْسَطِ) في موضع مفعول ثان بالمصدر

٣٥٣

بل انقضى عنده الكلام في قوله (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) ثم أضمر مبتدأ أخبر عنه بالجار والمجرور يبينه ما قبله تقديره طعامهم من أوسط ، وعلى ما ذكرناه من أن (مِنْ أَوْسَطِ) في موضع نصب تكون الكاف في (كِسْوَتُهُمْ) في موضع نصب لأنه معطوف على محل (مِنْ أَوْسَطِ) وهو عندنا منصوب ، وإذا فسرت كاسوتهم في الطعام بقيت الآية عارية من ذكر الكسوة ، وأجمع العلماء على أن الحانث مخير بين الإطعام والكسوة والعتق وهي مخالفة لسواد المصحف ، وقال بعضهم أو كاسوتهم في الكسوة ، والظاهر أنه لا يجزئ إخراج قيمة الطعام والكسوة وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة ، ويجزئ ، والظاهر أنه لم يقيد المساكين بوصف فيجوز صرف ذلك إلى الذميّ والعبد وبه قال أبو حنيفة ، وقال غيره لا يجزئ ، واتفقوا على أنه لا يجزئ دفع ذلك إلى المرتدّ.

(أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) تسمية الإنسان رقبة تسمية الكل بالجزء وخص بذلك لأن الرقبة غالبا محل للتوثق والاستمساك فهو موضع الملك ، وكذلك أطلق عليه رأس ، والتحرير يكون بالإخراج عن الرق وعن الأسر وعن المشقة وعن التعب ، وقال الفرزدق :

أبني غدانة إنني حررتكم

فوهبتكم لعطية بن جعال

أي حررتكم من الهجا ، والظاهر حصول الكفارة بتحرير ما يصدر عليه رقبة من غير اعتبار شيء آخر فيجزئ عتق الكفار وبه قال داود وجماعة من أهل الظاهر ، وقال أبو حنيفة يجزئ الكافر ومن به نقص يسير من ذوي العاهات ، واختار الطبري إجزاء الكافر ، وقال مالك : لا يجزئ كافر ولا أعمى ولا أبرص ولا مجنون ، وقال ابن شهاب وجماعة : وفرق النخعي فأجاز عتق من يعمل أشغاله ويخدم ومنع عتق من لا يعمل كالأعمى والمقعد وأشل اليدين.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) أي فمن لم يجد أحد هذه الثلاثة من الإطعام والكسوة والعتق فلو كان ماله في غير بلده ووجد من يسلفه لم ينتقل إلى الصوم أو لم يجد من يسلفه فقيل لا يلزمه انتظار ماله من بلده ويصوم وهو الظاهر لأنه غير واجد الآن ، وقيل ينتظر والظاهر أنه إذا كان عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقتهم يومه وليلته وعن كسوتهم بقدر ما يطعم أو يكسو فهو واجد. وبه قال أحمد وإسحاق والشافعي ومالك ، وقال مالك إلا أن يخاف الجوع أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه ، وقال ابن جبير : إن لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم ، وقال قتادة إذا لم يكن إلا قدر ما يكفر به صام ، وقال الحسن إذا

٣٥٤

كان له درهمان أطعم ، وقال أبو حنيفة إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد ، وقال آخرون جائز لمن لم يكن عنده فضل على رأس ماله الذي يتصرّف به في معاشه أن يصوم ، والظاهر أنه لا يشترط التتابع. وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه ، وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاوس وأبو حنيفة : يشترط. وقرأ أبيّ وعبد الله والنخعي. أيام متتابعات واتفقوا على أن العتق أفضل ، ثم الكسوة ، ثم الإطعام وبدأ الله بالأيسر فالأيسر على الحال ، وهذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم ، وإذا حنث العبد فقال سفيان وأبو حنيفة والشافعي ليس عليه إلا الصوم لا يجزئه غيره ، وحكى ابن نافع عن مالك لا يكفر بالعتق لأنه لا يكون له ولاء ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده ، والصوم أصوب ، وحكى ابن القاسم عنه أنه قال إن أطعم أو كسى بإذن السيد فما هو بالبين وفي قلبي منه شيء ، ولو حلف بصدقة ماله فقال الشعبي وعطاء وطاوس لا شيء عليه ، وقال الشافعي وإسحاق وأبو ثور : عليه كفارة بمين ، وقال أبو حنيفة : مقدار نصاب ، وقال بعضهم : مقدار زكاته ، وقال مالك : ثلث ماله ولو حلف بالمشي إلى مكة ، فقال ابن المسيب والقاسم : لا شيء عليه ، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور : كفارة يمين ، وقال أبو حنيفة : يلزمه الوفاء به فإن عجز عن المشي لزمه أن يحج راكبا ولو حلف بالعتق ، فقال عطاء : يتصدّق بشيء ، وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة : عليه كفارة يمين لا العتق ، وقال الجمهور : يلزمه العتق ومن قال الطلاق لازم له فقال المهدوي : أجمع كل من يعتمد على قوله إن الطلاق لازم لمن حلف به وحنث.

(ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) أي ذلك المذكور واستدل بها الشافعي على جواز التكفير بعد اليمين. وقيل الحنث وفيها تنبيه على أن الكفارة لا تكون إلا بعد الحنث فهم يقدّرون محذوفا أي إذا حلفتم وحنثتم.

(وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) قال الزمخشري أي بروا فيها ولا تحنثوا ، أراد الأيمان التي الحنث فيها معصية لأن الأيمان اسم جنس يجوز إطلاقه على بعض الجنس وعلى كله ، وقيل احفظوها بأن تكفروها ، وقيل احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاونا بها.

(كَذلِكَ) أي مثل ذلك البيان (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) إعلام شريعته وأحكامه.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه.

٣٥٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) نزلت بسبب قصة سعد بن أبي وقاص حين شرب طائفة من الأنصار والمهاجرين فتفاخروا ، فقال سعد : المهاجرون خير فرماه أنصاري بلحي جمل ففزر أنفه ، وقيل بسبب قول عمر اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، وقيل بسبب قصة حمزة وعليّ حين عقر شارف عليّ وقال : هل أنتم إلا عبيد لأبي وهي قصة طويلة ، وقيل كان أمر الخمر ونزول الآيات بتدريج ، فنزل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) (١). وقيل بسبب قراءة بعض الصحابة وكان منتشيا في صلاة المغرب (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (٢) على غير ما أنزلت ، ثم عرض ما عرض بسبب شربها من الأمور المؤدّية إلى تحريمها حتى نزلت هذه الآية ، وقال ابن عباس : نزلت بسبب حيين من الأنصار ثملوا وعربدوا فلما صحوا جعل كل واحد يرى أثرا بوجهه وبجسده فيقول : هذا فعل فلان ، فحدثت بينهم ضغائن ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بأكل ما رزقهم حلالا طيبا ونهاهم عن تحريم ما أحله لهم مما لا إثم فيه وكان المستطاب المستلذ عندهم الخمر والميسر وكانوا يقولون الخمر تطرد الهموم وتنشط النفس وتشجع الجبان وتبعث على المكارم ، والميسر يحصل به تنمية المال ولذة الغلبة بيّن تعالى تحريم الخمر والميسر لأن هذه اللذة يقارنها مفاسد عظيمة في الخمر إذهاب العقل وإتلاف المال ولذلك ذم بعض حكماء الجاهلية إتلاف المال بها وجعل ترك ذلك مدحا فقال :

أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله

ولكنه قد يهلك المال نائله

وتنشأ عنها مفاسد أخر من قتل النفس وشدّة البغضاء وارتكاب المعاصي لأن ملاك هذه كلها العقل فإذا ذهب العقل أتت هذه المفاسد ، والميسر فيه أخذ المال بالباطل ، وهذا الخطاب للمؤمنين والذي منعوا منه في هذه الآية هي شهوات وعادات ، فأما الخمر فكانت لم تحرم بعد وإنما نزل تحريمها بعد وقعة أحد سنة ثلاث من الهجرة ، وأما الميسر ففيه لذة وغلبة ، وأما الأنصاب فإن كانت الحجارة التي يذبحون عندها وينحرون فحكم عليها بالرجس دفعا لما عسى أن يبقى في قلب ضعيف الإيمان من تعظيمها وإن كانت الأنصاب التي تعبد من دون الله فقرنت الثلاثة بها مبالغة في أنه يجب اجتنابها كما يجب اجتناب الأصنام ، وأما الأزلام التي كان الأكثرون يتخذونها في أحدها لا وفي الآخر نعم ، والآخر

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤٣.

(٢) سورة الكافرون : ١ / ١٠٩.

٣٥٦

غفل وكانوا يعظمونها ومنها ما يكون عند الكهان ومنها ما يكون عند قريش في الكعبة وكان فيها أحكام لهم ، ومن هذا القبيل الزجر بالطير وبالوحش وبأخذ الفأل في الكتب ، ونحوه مما يصنعه الناس اليوم وقد اجتمعت أنواع من التأكيد في الآية منها التصدير بإنما وقران الخمر والميسر بالأصنام إذا فسرنا الأنصاب بها وفي الحديث «مدمن الخمر كعابد وثن» والإخبار عنها بقوله رجس وقال تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (١) ووصفه بأنه من عمل الشيطان والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت ، والأمر بالاجتناب وترجية الفلاح وهو الفوز باجتنابه فالخيبة في ارتكابه ، وبدئ بالخمر لأن سبب النزول إنما وقع بها من الفساد ولأنها جماع الإثم.

وكانت خمر المدينة حين نزولها الغالب عليها كونها من العسل ومن التمر ومن الزبيب ومن الحنطة ومن الشعير وكانت قليلة من العنب ، وقد أجمع المسلمون على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نار ولا خالطها شيء والأكثر من الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام ، والخلاف فيما لا يسكر قليله ويسكر كثيره من غير خمر العنب مذكور في كتب الفقه ، قال ابن عطية : وقد خرّج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس ، وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم ولحم الخنزير بأنها رجس فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام وفي هذا نظر والاجتناب أن تجعل الشيء جانبا وناحية انتهى.

ولما كان الشيطان هو الداعي إلى التلبس بهذه المعاصي ، والمغري بها جعلت من عمله وفعله ونسبت إليه على جهة المجاز والمبالغة في كمال تقبيحه كما جاء (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٢) والضمير في (فَاجْتَنِبُوهُ) عائد على الرجس المخبر عنه من الأربعة فكان الأمر باجتنابه متناولا لها ، وقال الزمخشري (فإن قلت) إلام يرجع الضمير في قوله (فَاجْتَنِبُوهُ) (قلت) إلى المضاف المحذوف كأنه قيل إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك ولذلك قال رجس من عمل الشيطان انتهى ، ولا حاجة إلى تقدير هذا المضاف بل الحكم على هذه الأربعة أنفسها أنها رجس أبلغ من تقدير ذلك المضاف لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (٣).

(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ذكر تعالى في الخمر والميسر مفسدتين

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٣٠.

(٢) سورة القصص : ١٥ / ٢٨.

(٣) سورة التوبة : ٢٨ / ٩.

٣٥٧

إحداهما دنيوية والأخرى دينية فأما الدنيوية فإنها تثير الشرور والحقود وتؤول بشاربها إلى التقاطع وأكثر ما تستعمل في جماعة يقصدون التآنس باجتماعهم عليها والتودد والتحبب فتعكس عليهم الأمر ويصيرون إلى التباغض لأنها مزيلة للعقل الذي هو ملاك الأشياء ، قد يكون في نفس الرجل الشيء الذي يكتمه بالعقل فيبوح به عند السكر فيؤدّي إلى التلف ، ألا ترى إلى ما جرى إلى سعد وحمزة ، وما أحسن ما قال قاضي الجماعة أبو القاسم أحمد بن يزيد بن بقي ، وكان فقيها عالما على مذهب أهل الحديث ، فيما قرأته على القاضي العالم أبي الحسن بن عبد العزيز بن أبي الأحوص عنه رضي‌الله‌عنهما بكرمه :

ألا إنما الدنيا كراح عتيقة

أراد مديروها بها جلب الأنس

فلما أداروها أنارت حقودهم

فعاد الذي راموا من الأنس بالعكس

وأما الميسر فإن الرجل لا يزال يقامر حتى يبقى سليبا لا شيء له ، وينتهي من سوء الصنيع في ذلك أن يقامر حتى على أهله وولده فيؤدّي به ذلك إلى أن يصير أعدى عدوّ لمن قمره وغلبه لأن ذلك يؤخذ منه على سبيل القهر والغلبة ولا يمكن امتناعه من ذلك ولذلك قال بعض الجاهلية :

لو يسيرون بخيل قد يسرت بها

وكلّ ما يسر الأقوام مغروم

وأما الدينية فالخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذ الجسمانية تلهي عن ذكر الله وعن الصلاة ، والميسر إن كان غالبا به انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عن ذكر الله تعالى ، وإن كان مغلوبا فما حصل له من الانقباض والندم والاحتيال على أنه يصير غالبا لا يخطر بقلبه ذكر الله لأنه تعالى لا يذكره إلا قلب تفرغ له واشتغل به عما سواه ، وقد شاهدنا من يلعب بالنرد والشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب وإخراج الصلاة عن أوقاتها ما يربأ المسلم عنه بنفسه ، هذا وهم يلعبون بغير جعل شيء لمن غلب فكيف يكون حالهم إذا لعبوا على شيء فأخذه الغالب وأفرد الخمر والميسر هنا وإن كانا قد جمعا مع الأنصاب والأزلام تأكيدا لقبح الخمر والميسر وتبعيدا عن تعاطيهما فنزلا في الترك منزلة ما قد تركه المؤمنون من الأنصاب والأزلام والعداوة تتعلق بالأمور الظاهرة ، وعطف على هذا ما هو أشد وهو البغضاء لأن متعلقها القلب لذلك عطف على ذكر الله ما هو ألزم وأوجب وآكد وهو الصلاة ، وفيما ينتجه الخمر والميسر من العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة أقوى دليل على

٣٥٨

تحريمها ، وعلى أن ينتهي المسلم عنهما ولذلك جاء بعده (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) وهذا الاستفهام من أبلغ ما ينهى عنه كأنه قيل قد تلي عليكم ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية التي توجب الانتهاء فهل أنتم منتهون أم باقون على حالكم مع علمكم بتلك المفاسد. وجعل الجملة اسمية والمواجهة لهم بأنتم أبلغ من جعلها فعلية. وقيل هو استفهام يضمن معنى الأمر أي فانتهوا ولذلك قال عمر انتهينا يا رب. وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن بعض شيوخه أن جماعة كانوا يشربونها بعد نزول هذه الآية ، ويقولون إنما قال تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال بعضهم انتهينا. وقال بعضهم لم ننته فلما نزل (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) (١) حرمت لأن الإثم اسم للخمر ولا يصح هذا ، وقال التبريزي هذا استفهام ذم معناه الأمر أي انتهوا معناه اتركوا وانتقلوا عنه إلى غيره من الموظف عليكم انتهى. ووجه ما ذكر من الذمّ أنه نبه على مفاسد تتولد من الخمر والميسر يقضي العقل بتركهما من أجلها لو لم يرد الشرع بذلك فكيف وقد ورد الشرع بالترك ، وقد تقدم من قوله في البقرة أن جماعة من الجاهلية لم يشربوا الخمر صونا لعقولهم عما يفسدها وكذلك في الإسلام قبل نزول تحريمها.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) هذا أمر بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه وأمر بالحذر من عاقبة المعصية ، وناسب العطف في (وَأَطِيعُوا) على معنى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) إذ تضمن هذا معنى الأمر وهو قوله (فَانْتَهُوا). وقيل الأمر بالطاعة هذا مخصوص أي أطيعوا فيما أمرتم به من اجتناب ما أمرتم باجتنابه واحذروا ما عليكم في مخالفة هذا الأمر ، وكرر وأطيعوا على سبيل التأكيد والأحسن أن لا يقيد الأمر هنا بل أمروا أن يكونوا مطيعين دائما حذرين خاشين لأن الحذر مدعاة إلى عمل الحسنات واتقاء السيئات.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فإن أعرضتم فليس على الرسول إلا أن يبلغ أحكام الله وليس عليه خلق الطاعة فيكم ، ولا يلحقه من توليكم شيء بل ذلك لاحق بكم وفي هذا من الوعيد البالغ ما لا خفاء به إذ تضمن أن عقابكم إنما يتولاه المرسل لا الرسول وما كلف الرسول من أمركم غير تبليغكم ، ووصف البلاغ بالمبين إما لأنه بيّن في نفسه واضح جلي وإما لأنه مبين لكم أحكام الله تعالى وتكاليفه بحيث لا يعتريها

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٣٣.

٣٥٩

شبهة بل هي واضحة نيرة جلية. وذهب الجمهور إلى أن هذه الآية دلت على تحريم الخمر وهو الظاهر وقد حلف عمر فيها وبلغه أن قوما شربوها بالشام وقالوا هي حلال فاتفق رأيه ورأي عليّ على أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا لأنهم اعتقدوا حلها ، والجمهور على أنها نجسة العين لتسميتها رجسا ، والرجس النجس المستقذر ، وذهب ربيعة والليث والمزني وبعض المتأخرين من البغداديين إلى أنها ظاهرة واختلفوا هل كان المسكر منها مباحا قبل التحريم أم لا.

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال ابن عباس والبراء وأنس لما نزل تحريم الخمر قال قوم كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر فنزلت فأعلم تعالى أن الذمّ والجناح إنما يتعلق بفعل المعاصي والذين ماتوا قبل التحريم ليسوا بعاصين ، والظاهر من سبب النزول أن اللفظ عام ومعناه الخصوص. وقيل هي عامّة والمعنى أنه لا حرج على المؤمن فيما طعم من المستلذات إذا ما اتقى ما حرم الله منها وقضية من شربها قبل التحريم من صور العموم ، وهذه الآية شبيهة بآية تحويل القبلة حين سألوا عمن مات على القبلة الأولى ، فنزلت (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (١) و (فِيما طَعِمُوا) قيل من الخمر والطعم حقيقة في المأكولات مجاز في المشروب وفي اليوم قيل مما أكلوه من القمار فيكون فيه حقيقة ، وقيل منهما وعنى بالطعم الذوق وهو قدر مشترك بينهما ، وكررت هذه الجمل على سبيل المبالغة والتوكيد في هذه الصفات ولا ينافي التأكيد العطف بثم فهو نظير قوله (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٢) وذهب قوم إلى تباين هذه الجمل بحسب ما قدروا من متعلقات الأفعال فالمعنى إذا ما اتقوا الشرك والكبائر وآمنوا الإيمان الكامل وعملوا الصالحات ثم اتقوا ثبتوا وداموا على الحالة المذكورة ثم اتقوا وأحسنوا انتهوا في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة والصدقة أو غير ذلك وهو الإحسان. وإلى قريب من هذا ذهب الزمخشري ، قال (إِذا مَا اتَّقَوْا) ما حرم عليهم وآمنوا وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوا (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) ثبتوا على التقوى والإيمان (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) ثبتوا على اتقاء المعاصي (وَأَحْسَنُوا) أعمالهم وأحسنوا إلى الناس واسوهم بما رزقهم الله من الطيبات انتهى. وقيل الرتبة الأولى لماضي الزمان والثانية للحال

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٣.

(٢) سورة التكاثر : ١٠٢ / ٣ ـ ٤.

٣٦٠