البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

بِالْحَقِ) والإشارة بهذا إلى البعث ومتعلقاته. وقال أبو الفرج بن الجوزي : أليس هذا العذاب بالحق وكأنه لاحظ قوله قال : (فَذُوقُوا الْعَذابَ قالُوا بَلى وَرَبِّنا) تقدم الكلام على (بَلى) وأكدوا جوابهم باليمين في قولهم (وَرَبِّنا) وهو إقرار بالإيمان حيث لا ينفع وناسب التوكيد بقولهم (وَرَبِّنا) صدر الآية في (وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) وفي ذكر الرب تذكار لهم في أنه كان يربيهم ويصلح حالهم ، إذا كان سيدهم وهم عبيده ، لكنهم عصوه وخالفوا أمره.

(قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بكفركم بالعذاب والباء سببية فقيل متعلق الكفر البعث أي بكفركم بالبعث. وقيل : متعلقه العذاب أي بكفركم بالعذاب والذوق في العذاب استعارة بليغة والمعنى باشروه مباشرة الذائق إذ هي أشد المباشرات.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) هذا استئناف إخبار من الله تعالى عن أحوال منكري البعث وخسرانهم أنهم استعاضوا الكفر عن الإيمان فصار ذلك شبيها بحالة البائع الذي أخذ وأعطى وكان ما أخذ من الكفر سببا لهلاكه وما أعطاه من الإيمان سببا لنجاته ، فأشبه الخاسر في صفقته العادم الربح ورأس ماله ، ومعنى (بِلِقاءِ اللهِ) بلوغ الآخرة وما يكون فيها من الجزاء ورجوعهم إلى أحكام الله فيها و (حَتَّى) غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم ، لأن الخسران لا غاية له والتكذيب مغيا بالحسرة لأنه لا يزال بهم التكذيب إلى قولهم (يا حَسْرَتَنا) وقت مجيء الساعة ، وتقدم الكلام على (حَتَّى إِذا) في قوله : (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) ومعنى (بِلِقاءِ اللهِ) بلقاء جزائه والإضافة تفخيم وتعظيم لشأن الجزاء وهو نظير : «لقي الله وهو عليه غضبان» ، أي لقي جزاءه ومن أثبت أن الله تعالى في جهة استدل بهذا ، وقال : اللقاء حقيقة و (السَّاعَةُ) يوم القيامة سمّي ساعة لسرعة انقضاء الحساب فيها للجزاء لقوله : (أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) (١) قال ابن عطية : وادخل عليها تعريف العهد دون تقدّم ذكر لشهرتها واستقرارها في النفوس وذياع ذكرها ، وأيضا فقد تضمنها قوله (بِلِقاءِ اللهِ) انتهى. ثم غلب استعمال (السَّاعَةُ) على يوم القيامة فصارت الألف واللام فيها للغلبة كهي في البيت للكعبة والنجم للثريا.

وقال الزمخشري (فإن قلت) : إنما يتحسرون عند موتهم (قلت) : لما كان الموت

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ١٠٤.

٤٨١

وقوعا في أحوال الآخرة ومقدماتها ، جعل من جنس الساعة وسمّي باسمها ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات فقد قامت قيامته». وجعل في مجيء الساعة بعد الموت لسرعته فالواقع بغير فترة ؛ انتهى. وإطلاق (السَّاعَةُ) على وقت الموت مجاز ، ويمكن حمل الساعة على الحقيقة وهو يوم القيامة ولا يلزم من تحسرهم وقت الموت أنهم لا يتحسرون يوم القيامة ، بل الظاهر ذلك لقوله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) إذ هذا حال من قولهم : (قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) وهي حال مقارنة ، وإذا حملنا الساعة على وقت الموت كانت حالا مقدرة ومجيء القدرة بالنسبة إلى المقارنة قليل ، فيكون التكذيب متصلا بهم مغيا بالحسرة إلى يوم القيامة إذ مكثهم في البرزخ على اعتقاد أمثلهم طريقة يوم واحد ، كما قال تعالى : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) (١) فلما جاءتهم الساعة زال التكذيب وشاهدوا ما أخبرتهم به الرسل عيانا فقالوا (يا حَسْرَتَنا).

وجوزوا في انتصاب (بَغْتَةً) أن يكون مصدرا في موضع الحال من (السَّاعَةُ) أي باغتة أو من مفعول جاءتهم أي مبغوتين أو مصدرا لجاء من غير لفظه كأنه قيل حتى إذا بغتتهم الساعة بغتة ، أو مصدر الفعل محذوف أي تبغتهم بغتة ونادوا الحسرة وإن كانت لا تجيب على طريق التعظيم. قال سيبويه : وكان الذي ينادي الحسرة أو العجب أو السرور أو الويل يقول : اقربي أو احضري فهذا أوانك وزمنك وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه إن كان ثم سامع وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضا في نداء الجمادات كقولك يا دار يا ربع وفي نداء ما لا يعقل كقولهم : يا جمل ، و (فَرَّطْنا) قصرنا والتفريط التقصير مع القدرة على تركه ، والضمير في (فِيها) عائد على (السَّاعَةُ) أي في التقدمة لها قاله الحسن ، أو الصفقة التي تضمنها ذكر الخسارة قاله الطبري. وقال الزمخشري : الضمير للحياة الدنيا جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة ، أو الساعة على معنى قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها كما تقول : فرطت في فلان ومنه (فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (٢) ؛ انتهى. وكونه عائدا على الدنيا وهو قول ابن عباس ، ودل العقل على أن موضع التقصير ليس إلا الدنيا فحسن عوده عليها لهذا المعنى وأورد ابن عطية هذا القول احتمالا فقال : ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا ، إذ المعنى يقتضيها وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار ؛ انتهى ، وعوده على (السَّاعَةُ) قول الحسن والمعنى في إعداد الزاد والأهبة لها. وقيل : يعود الضمير على (ما) وهي اسم موصول وعاد على لمعنى أي (يا حَسْرَتَنا) على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها ، وما في الأوجه التي

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ١٠٤.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٥٦.

٤٨٢

سبقت مصدرية التقدير على تفريطنا في الدنيا أو في الساعة أو في الصفقة على التقدير الذي تقدم ، والظاهر عوده على الساعة وأبعد من ذهب إلى أنه عائد إلى منازلهم في الجنة إذا رأوا منازلهم فيها لو كانوا آمنوا.

(وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) الأوزار الخطايا والآثام قاله ابن عباس ، والظاهر أن هذا الحمل حقيقة وهو قول عمير بن هانئ وعمرو بن قيس الملائي والسدي واختاره الطبري ، وما ذكره محصوله أن عمله يمثل في صورة رجل قبيح الوجه والصورة خبيث الريح فيسأله فيقول : أنا عملك طال ما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك فيركبه ويتخطى به رقاب الناس ويسوقه حتى يدخله النار ، ورواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا المعنى واللفظ مختلف. وقيل : هو مجاز عبر بحل الوزر عن ما يجده من المشقة والآلام بسبب ذنوبه ، والمعنى أنهم يقاسون عقاب ذنوبهم مقاساة تثقل عليهم وهذا القول بدأ به ابن عطية ولم يذكر الزمخشري غيره قال كقوله : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (١) لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور كما ألف الكسب بالأيدي والواو في (وَهُمْ) واو الحال وأتت الجملة مصدرة بالضمير لأنه أبلغ في النسبة إذ صار ذو الحال مذكورا مرتين من حيث المعنى وخص الظهر لأنه غالبا موضع اعتياد الحمل ولأنه يشعر بالمبالغة في ثقل المحمول إذ يطيق من الحمل الثقيل ما لا تطيقه الرأس ولا الكاهل ، كما قال (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) (٢) لأن اللمس أغلب ما يكون باليد ولأنها أقوى في الإدراك.

(أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ساءَ) هنا تحتمل وجوها ثلاثة. أحدها : أن تكون المتعدية المتصرفة ووزنها فعل بفتح العين والمعنى ألا ساءهم ما يزرون ، وتحتمل (ما) على هذا الوجه أن تكون موصولة بمعنى الذي ، فتكون فاعلة ويحتمل أن تكون (ما) مصدرية فينسبك منها ما بعدها مصدر هو الفاعل أي ألا ساءهم وزرهم. والوجه الثاني : أنها حوّلت إلى فعل بضم العين وأشربت معنى التعجب والمعنى ألا ما أسوأ الذي يزرونه أو ما أسوأ وزرهم على الاحتمالين في ما. والثالث : أنها أيضا حوّلت إلى فعل بضم العين ، وأريد بها المبالغة في الذمّ فتكون مساوية لبئس في المعنى والأحكام ، ويكون إطلاق الذي سبق في (ما) في قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) (٣) جاريا فيها هنا ، والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الذي قبله لا يشترط فيه ما يشترط في فاعل بئس من الأحكام ولا هو

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٣٠.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٧.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٩٠.

٤٨٣

جملة منعقدة من مبتدإ وخبر ، إنما هو منعقد من فعل وفاعل والفرق بين هذين الوجهين والأوّل أن في الأول الفعل متعد وفي هذين قاصر ، وإن الكلام فيه خبر وهو في هذين إنشاء وجعل الزمخشري من باب بئس فقط فقال : (ساءَ ما يَزِرُونَ) بئس شيئا يزرون وزرهم كقوله :

(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) (١) ، وذكر ابن عطية هذا الوجه احتمالا أخيرا وبدأ بأن (ساءَ) متعدية و (ما) فاعل كما تقول ساء في هذا الأمر وإن الكلام خبر مجرد. قال كقول الشاعر :

رضيت خطة خسف غير طائلة

فساء هذا رضا يا قيس عيلانا

ولا يتعين ما قال في البيت من أن الكلام فيه خبر مجرد ؛ بل يحتمل قوله : فساء هذا رضا الأوجه الثلاثة وافتتحت هذه الجملة ب (أَلا) تنبيها وإشارة لسوء مرتكبهم فألا تدل على الإشارة بما يأتي بعدها كقوله : ألا فليبلغ الشاهد الغائب (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) (٢) ألا لا يجهلن أحد علينا.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) لما ذكر قولهم وقالوا : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ذكر مصيرها وإن منتهى أمرها أنها فانية منقضية عن قريب ، فصارت شبيهة باللهو واللعب إذ هما لا يدومان ولا طائل لهما كما أنها لا طائل لها ، فاللهو واللعب اشتغال بما لا غنى به ولا منفعة كذلك هي الدنيا بخلاف الاشتغال بأعمال الآخرة فإنها التي تعقب المنافع والخيرات. وقال الحسن : في الكلام حذف التقدير وما أهل الحياة إلا أهل لعب ولهو. وقيل : التقدير وما أعمال الحياة. وقال ابن عباس : هذه حياة الكافر لأنه يزجيها في غرور وباطل ، وأما حياة المؤمن فتطوى على أعمال صالحة فلا تكون لعبا ولهوا وفي الحديث : «ما أنا من الدد ولا الدد مني» ، والدد اللعب واللعب واللهو قيل : هما بمعنى واحد وكرر تأكيدا لذم الدنيا. وقال الرماني : اللعب عمل يشغل عما ينتفع به إلى ما لا ينتفع به ، واللهو صرف النفس عن الجدّ إلى الهزل يقال : لهيت عنه أي صرفت نفسي عنه ورد عليه المهدوي ، فقال : هذا فيه ضعف وبعد لأن الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم : لهيان ولام الأول واو ؛ انتهى. وهذا التضعيف ليس بشيء لأن فعل من ذوات الواو تنقلب فيه الواو ياء كما تقول : شقي فلان وهو من الشقوة فكذلك لهي ، أصله لهو من ذوات الواو فانقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها فقالوا : لهي كما قالوا : حلي بعيني وهو من الحلو وأما استدلاله بقولهم في التثنية لهيان ففاسد لأن التثنية

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٧٧.

(٢) سورة هود : ١١ / ٥.

٤٨٤

هي كالفعل تنقلب فيه الواو ياء لأن مبناها على المفرد وهي تنقلب في المفرد في قولهم : له اسم فاعل من لهي كما قالوا : شج وهو من الشجو ، وقالوا في تثنيته : شجيان بالياء وقد تقدم ذكر شيء من هذا في المفردات. وقرأ ابن عامر وحده ولدار الآخرة على الإضافة ، وقالوا : هو كقولهم : مسجد الجامع فقيل هو من إضافة الموصوف إلى صفته. وقال الفراء : هي إضافة الشيء إلى نفسه كقولك : بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين ، وإنما يجوز عند اختلاف اللفظين ؛ انتهى. وقيل : من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أي ولدار الحياة الآخرة ، ويدل عليه وما الحياة الدنيا وهذا قول البصريين ، وحسن ذلك أن هذه الصفة قد استعملت استعمال الأسماء فوليت العوامل كقوله (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) (١) وقوله (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) (٢). وقرأ باقي السبعة (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) بتعريف الدار بأل ورفع (الْآخِرَةُ) نعتا لها و (خَيْرٌ) هنا أفعل التفضيل وحسن حذف المفضل عليه لوقوعه خبرا والتقدير من الحياة الدنيا ، وقيل : (خَيْرٌ) هنا ليست للتفضيل وإنما هي كقوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) (٣) إذ لا اشتراك بين المؤمن والكافر في أصل الخير ، فيزيد المؤمن عليه بل هذا مختص بالمؤمن. والدار الآخرة قال ابن عباس : هي الجنة. وقيل ذلك مجاز عبر به عن الإقامة في النعيم كما قال الشاعر :

لله أيام نجد والنعيم بها

قد كان دارا لنا أكرم به دارا

ومعنى الذين يتقون يتقون الشرك لأن المؤمن الفاسق ولو قدرنا دخوله النار فإنه بعد يدخل الجنة فتصير الدار الآخرة خيرا له من دار الدنيا ، وذكر عن ابن عباس خير لمن اتقى الكفر والمعاصي وقال في المنتخب نحوه قال : بين الله تعالى أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان من المتقين المعاصي والكبائر ، فأما الكافرون والفاسقون فلا لأن الدنيا بالنسبة إليهم خير من الآخرة ؛ انتهى ، وهو أشبه بكلام المعتزلة. وقال الزمخشري : وقوله : (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لهو ولعب ، انتهى. وقد أبدى الفخر الرازي الخيرية هنا فقال : خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة ، وبيانه أن خيرات لدنيا ليست إلا قضاء الشهوتين وهو في نهاية الخساسة ، بدليل مشاركة الحيوانات الخسيسة في ذلك وزيادة بعضها على الإنسان في ذلك كالجمل في كثرة الأكل والديك في كثرة

__________________

(١) سورة الليل : ٩٢ / ١٣.

(٢) سورة الضحى : ٩٣ / ٤.

(٣) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٤.

٤٨٥

الوقاع والذئب في القوة على الفساد والتمزيق ، والعقرب في قوّة الإيلام وبدليل أن الإكثار من ذلك لا يوجب شرفا بل المكثر من ذلك ممقوت مستقذر مستحقر يوصف بأنه بهيمة ، وبدليل عدم الافتخار بهذه الأحوال بل العقلاء يخفونها ويختفون عند فعالها ويكنون عنها ولا يصرّحون بها إلا عند الشتم بها ، وبأن حقيقة اللذات دفع آلام وبسرعة انقضائها فثبت بهذه الوجوه خساسة هذه اللذات ، وأما السعادات الروحانية فسعادات عالية شريفة باقية مقدسة وذلك أن جميع الخلق إذا تخيلوا في إنسان كثرة العلم وشدّة الانقباض عن اللذات الجسمانية ، فإنهم بالطبع يعظمونه ويخدمونه ويعدّون أنفسهم عبيدا له وأشقياء بالنسبة إليه ، ولو فرضنا تشارك خيرات الدنيا وخيرات الآخرة في التفضيل لكانت خيرات الآخرة أفضل ، لأن الوصول إليها معلوم قطعا وخيرات الدنيا ليست معلومة بل ولا مظنونة ، فكم من سلطان قاهر بكرة يوم أمسى تحت التراب آخره ؛ وكم مصبح أميرا عظيما أمسى أسيرا حقيرا؟ ولو فرضنا أنه وجد بعد سرور يوم يوما آخر ، فإنه لا يدري هل ينتفع في ذلك اليوم بما جمع من الأموال والطيبات واللذات؟ بخلاف موجب السعادات الأخروية فإنه يقطع أنه ينتفع بها في الآخرة وهب أنه انتفع بها ، فليس ذلك الانتفاع خاليا من شوائب المكروهات والمحزنات وهب أنه انتفع في الغد فإنها تنقضي ويحزم عند انقضائها ، كما قال الشاعر :

أشدّ الغم عندي في سرور

تيقن عنه صاحبه انتقالا

فثبت بما ذكر أن خيرات الدنيا موصوفة بهذه العيوب ، وخيرات الآخرة مبرأة عنها فوجب القطع بأن الآخرة أفضل وأكمل وأبقى انتهى ما لخص من كلامه مع اختلاف بعض ألفاظ وهي شبيهة بكلام أهل الفلسفة ، لأن السعادات الأخروية عندهم هي روحانية فقط واعتقاد المسلمين أنها لذات جسمانية وروحانية ، وأيضا ففي كلامه انتقاد من حيث إن بعض الأوصاف التي حقرها هو جعلها الله في بعض من اصطفاه من خلقه فلا تكون تلك الصفة إلا شريفة لا كما قاله هو من أنها صفة خسيسة. وقرأ نافع وابن عامر وحفص (أَفَلا تَعْقِلُونَ) بالتاء خطاب مواجهة لمن كان بحضرة الرسول من منكري البعث. وقرأ الباقون بالياء عودا على ما قبل لأنها أسماء غائبة والمعنى أفلا تعقلون أن الآخرة خير من الدّنيا. وقيل : أفلا يعقلون أن الأمر هكذا فيزهدوا في الدّنيا.

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ

٤٨٦

نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) وقال النقاش : نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف فإنه كان يكذب في العلانية ويصدق في السرّ ويقول : نخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس ، وقال غيره : روي أن الأخنس بن شريف قال لأبي جهل. يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس عندنا أحد غيرنا فقال له : والله إن محمدا لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت. (قَدْ) حرف توقع إذا دخلت على مستقبل الزمان كان التوقع من المتكلم كقولك : قد ينزل المطر في شهر كذا وإذا كان ماضيا أو فعل حال بمعنى المضي فالتوقع كان عند السامع ، وأما المتكلم فهو موجب ما أخبر به وعبر هنا بالمضارع إذ المراد الاتصاف بالعلم واستمراره ولم يلحظ فيه الزمان ؛ كقولهم : هو يعطي ويمنع. وقال الزمخشري والتبريزي : قد نعلم بمعنى ربما الذي تجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو قوله : ولكنه قد يهلك المال نائله ؛ انتهى. وما ذكره من أن قد تأتي للتكثير في الفعل والزيادة قول غير مشهور للنحاة وإن كان قد قال بعضهم مستدلا بقول الشاعر :

قد أترك القرن مصفرّا أنامله

كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد

وبقوله :

أخي ثقة لا يتلف الخمر ماله

ولكنه قد يهلك المال نائله

والذي نقوله : إن التكثير لم يفهم من (قَدْ) وإنما يفهم من سياق الكلام لأنه لا يحصل الفخر والمدح بقتل قرن واحد ولا بالكرم مرّة واحدة ، وإنما يحصلان بكثرة وقوع ذلك وعلى تقدير أن قد تكون للتكثير في الفعل وزيادته لا يتصور ذلك ، في قوله : (قَدْ نَعْلَمُ) لأن علمه تعالى لا يمكن فيه الزيادة والتكثير ، وقوله : بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته ، والمشهور أن ربّ للتقليل لا للتكثير وما الداخلة عليها هي مهيئة لأن يليها الفعل وما المهيئة لا تزيل الكلمة عن مدلولها ، ألا ترى أنها في كأنما يقوم زيد ولعلما يخرج

٤٨٧

بكر لم تزل كأنّ عن التشبيه ولا لعل عن الترجّي. قال بعض أصحابنا : فذكر بما في التقليل والصرف إلى معنى المضيّ يعني إذا دخلت على المضارع قال : هذا ظاهر قول سيبويه ، فإن خلت من معنى التقليل خلت غالبا من الصرف إلى معنى المضيّ وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو قوله (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) وقوله (لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) (١) وقول الشاعر :

وقد تدرك الإنسان رحمة ربّه

ولو كان تحت الأرض سبعين واديا

وقد تخلو من التقليل وهي صارفة لمعنى المضي نحو قول : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) (٢) انتهى. وقال مكي : (قَدْ) هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه و (نَعْلَمُ) بمعنى علمنا. وقال ابن أبي الفضل في ري الظمآن : كلمة (قَدْ) تأتي للتوقع وتأتي للتقريب من الحال وتأتي للتقليل ؛ انتهى ، نحو قولهم : إن الكذوب قد يصدق وإن الجبان قد يشجع والضمير في (إِنَّهُ) ضمير الشأن ، والجملة بعده مفسرة له في موضع خبر إن ولا يقع هنا اسم الفاعل على تقدير رفعه ما بعده على الفاعلية موقع المضارع لما يلزم من وقوع خبر ضمير الشأن مفردا وذلك لا يجوز عند البصريين ، وتقدم الكلام على قراءة من قرأ يحزنك رباعيا وثلاثيا في آخر سورة آل عمران وتوجيه ذلك فأغنى عن إعادته هنا و (الَّذِي يَقُولُونَ) معناه مما ينافي ما أنت عليه. قال الحسن : كانوا يقولون إنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون. وقيل : كانوا يصرحون بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه. وقيل : كانوا ينسبونه إلى الكذب والافتعال. وقيل : كان بعض كفار قريش يقول له : رئي من الجن يخبره بما يخبر به.

وقرأ علي ونافع والكسائي بتخفيف (يُكَذِّبُونَكَ). وقرأ باقي السبعة وابن عباس بالتشديد. فقيل : هما بمعنى واحد نحو كثر وأكثر. وقيل : بينهما فرق حكى الكسائي أن العرب تقول : كذبت الرجل إذ نسبت إليه الكذب وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه وتقول العرب أيضا : أكذبت الرجل إذا وجدته كذابا كما تقول : أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا فعلى القول بالفرق يكون معنى التخفيف لا يجدونك كاذبا أو لا ينسبون الكذب إليك ، وعلى معنى التشديد يكون إما خبرا محضا عن عدم تكذيبهم إياه ويكون من نسبة ذلك إلى كلهم على سبيل المجاز والمراد به بعضهم لأنه معلوم قطعا أن بعضهم كان يكذبه ، ويكذب ما جاء به وإما أن يكون نفي التكذيب لانتفاء ما يترتب عليه من

__________________

(١) سورة الصف : ٦١ / ٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٤٤.

٤٨٨

المضار فكأنه قيل (لا يُكَذِّبُونَكَ) تكذيبا يضرك لأنك لست بكاذب فتكذيبهم كلا تكذيب. وقال في المنتخب : لا يراد بقوله : (لا يُكَذِّبُونَكَ) خصوصية تكذيبه هو ، بل المعنى أنهم ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا فالمعنى (لا يُكَذِّبُونَكَ) على التعيين بل يكذبون جميع الأنبياء والرسل. وقال قتادة والسدي : (لا يُكَذِّبُونَكَ) بحجة وإنما هو تكذيب عناد وبهت. وقال ناجية بن كعب : لا يقولون إنك كاذب لعلمهم بصدقك ولكن يكذبون ما جئت به. وقال ابن السائب ومقاتل : (لا يُكَذِّبُونَكَ) في السر ، ولكن يكذبونك في العلانية عداوة. وقال : لا يقدرون على أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم كذبت ذكره الزجاج ورجح قراءة علي بالتخفيف بعضهم ، ولا ترجيح بين المتواترتين. قال الزمخشري : والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله تعالى لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته فانته عن حزنك لنفسك وإنهم كذبوك وأنت صادق ، وليشغلك عن ذلك ما هو أهم وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه ونحوه قول السيد لغلامه إذا أهانه بعض الناس إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني وفي هذه الطريقة قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) (١) وعن ابن عباس كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون ، فكان أبو جهل يقول : ما نكذبك وإنك عندنا لمصدق وإنما نكذب ما جئتنا به ؛ انتهى. وفي الكلام حذف تقديره : فلا تحزن فإنهم لا يكذبونك ، وأقيم الظاهر مقام المضمر تنبيها على أنّ علة الجحود هي الظلم وهي مجاوزة الحدّ في الاعتداء ، أي ولكنهم بآيات الله يجحدون.

وآياته قال السدّي : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن السائب : محمد والقرآن. وقال مقاتل : القرآن. وقال ابن عطية : آيات الله علاماته وشواهد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجحود إنكار الشيء بعد معرفته وهو ضد الإقرار ، فإن كانت نزلت في الكافرين مطلقا فيكون في الجحود تجوز إذ كلهم ليس كفره بعد معرفة ولكنهم لما أنكروا نبوّته وراموا تكذيبه بالدعوى الباطلة عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار وهو الجحد تغليظا عليهم وتقبيحا لفعلهم ، إذ معجزاته وآياته نيرة يلزم كل مفطور أن يقربها ويعلمها وإن كانت نزلت في المعاندين ترتب الجحود حقيقة وكفر العناد يدل عليه ظواهر القرآن وهو واقع أيضا كقصة أبي جهل مع الأخنس بن شريق

__________________

(١) سورة الفتح : ٤٨ / ١٠.

٤٨٩

وقصة أمية بن أبي الصلت ، وقوله : ما كنت لأومن بنبي لم يكن من ثقيف ، ومنع بعض المتكلمين جواز كفر العناد ، لأن المعرفة تقتضي الإيمان والجحد يقتضي الكفر ، فامتنع اجتماعهما ، وتأولوا ظواهر القرآن فقالوا : في قوله : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (١) أنها في أحكام التوراة التي بدلوها كآية الرجم ونحوها. قال ابن عطية : وكفر العناد من العارف بالله وبالنبوة بعيد ؛ انتهى. والتأويلات في نفي التكذيب إنما هو عن اعتقاداتهم إما بالنسبة إلى أقوالهم فأقوالهم مكذبة إما له وإما لما جاء به.

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) قال الضحاك وابن جريج : عزى الله تعالى نبيه بهذه الآية فعلى قولهما يكون هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كذب وهو مناف لقوله : فإنهم لا يكذبونك وزوال المنافاة بما تقدم من التأويلات كقول الزمخشري وغيره أن قوله : (لا يُكَذِّبُونَكَ) ليس هو من نفي تكذيبه حقيقة. قال : وإنما هو من باب قولك لغلامك : ما أهانوك ولكن أهانوني وجاء قوله : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) (٢) تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما سلاه تعالى بأنهم بتكذيبك إنما كذبوا الله تعالى سلاه ثانيا بأن عادة أتباع الرسل قبلك تكذيب رسلهم ، وأن الرسل صبروا فتأسّ بهم في الصبر ، و (ما) في قوله : (ما كُذِّبُوا) مصدرية أي فصبروا على تكذيبهم والمعنى فتأسّ بهم في الصبر على التكذيب والأذى حتى يأتيك النصر والظفر كما أتاهم. قال ابن عباس : (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا) رجاء ثوابي وأوذوا حتى نشروا بالمناشير وحرقوا بالنار ، حتى أتاهم نصرنا بتعذيب من يكذبهم ؛ انتهى. ويحتمل (وَأُوذُوا) أن يكون معطوفا على قوله : (كُذِّبَتْ) ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله (فَصَبَرُوا) ويبعد أن يكون معطوفا على (كُذِّبُوا) ويكون التقدير فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم ، وروي عن ابن عامر أنه قرأ وأذوا بغير واو بعد الهمزة جعله ثلاثيا لا رباعيا من أذيت فلانا لا من آذيت ، وفي قوله : (نَصْرُنا) التفات إذ قبله بآيات الله وبلاغة هذا الالتفات أنه أضاف النصر إلى الضمير المشعر بالعظمة المتنزل فيه الواحد منزلة الجمع والنصر مصدر أضيف إلى الفاعل والمفعول محذوف أي نصرنا إياهم على مكذبيهم ومؤذيهم ، والظاهر أن الغاية هنا الصبر والإيذاء لظاهر عطف (وَأُوذُوا) على (فَصَبَرُوا) وإن كان معطوفا على (كُذِّبُوا) فتكون الغاية للصبر أو معطوفا على (كُذِّبَتْ) فغاية له وللتكذيب أو للإيذاء فقط.

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ١٤.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٨٤.

٤٩٠

(وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) قال ابن عباس : أي لمواعيد الله ولم يذكر الزمخشري غيره قال : لمواعيده من قوله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) (١). وقال الزجاج لما أخبر به وما أمر به والإخبار والأوامر من كلمات الله ، واقتصر ابن عطية على بعض ما قال الزجاج فقال : ولا رادّ لأوامره. وقيل : المعنى لحكوماته وأقضيته ، كقوله (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢) أي وجب ما قضاه عليهم. وقيل : المعنى لا يقدر أحد على تبديل كلمات الله وإن زخرف واجتهد ، لأنه تعالى صانه برصين اللفظ وقويم المعنى أن يخلط بكلام أهل الزيغ. وقيل : اللفظ خبر والمعنى على النهي أي لا يبدل أحد كلمات الله ، فهو كقوله (لا رَيْبَ فِيهِ) (٣) أي لا يرتابون فيه على أحد الأقوال.

(وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) هذا فيه تأكيد تثبيت لما تقدم الإخبار به من تكذيب أتباع الرسل للرّسل وإيذائهم وصبرهم إلى أن جاء النصر لهم عليهم والفاعل بجاء. قال الفارسي : هو من نبأ ومن زائدة أي ولقد جاءك نبأ المرسلين ، ويضعف هذا لزيادة من في الواجب. وقيل : معرفة وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش ، ولأن المعنى ليس على العموم بل إنما جاء بعض نبأهم لا أنباؤهم ، لقوله (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (٤). وقال الرماني : فاعل جاءك مضمر تقديره : ولقد جاءك نبأ. وقال ابن عطية : الصواب عندي أن يقدر جلاء أو بيان ، وتمام هذا القول والذي قبله أن التقدير : ولقد جاء هو من نبإ المرسلين أي نبأ أو بيان ، فيكون الفاعل مضمرا يفسر بنبإ أو بيان لا محذوفا لأن الفاعل لا يحذف والذي يظهر لي أن الفاعل مضمر تقديره هو ، ويدلّ على ما دلّ عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من تكذيب أتباع الرسل للرسل والصبر والإيذاء إلى أن نصروا ، وأن هذا الإخبار هو بعض نبإ المرسلين الذين يتأسى بهم و (مِنْ نَبَإِ) في موضع الحال ، وذو الحال ذلك المضمر والعامل فيها وفيه (جاءَكَ) فلا يكون المعنى على هذا ولقد جاءك نبأ أو بيان إلا أن يراد بالنبإ والبيان هذا النبأ السابق أو البيان السابق ، وأما الزمخشري فلم يتعرض لفاعل جاء بل قال : (لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) بعض أنبائهم وقصصهم ، وهو تفسير معنى لا تفسير إعراب لأن من لا تكون فاعلة.

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ١٧١ ، ١٧٢.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٧١.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢.

(٤) سورة غافر : ٤٠ / ٧٨.

٤٩١

السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) (كَبُرَ) أي عظم وشق إعراضهم عن الإيمان والتصديق بما جئت به ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كبر عليه إعراضهم لكن جاء الشرط معتبرا فيه التبيين والظهور ، وهو مستقبل ، وعطف عليه الشرط الذي لم يقع ، وهو قوله : (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) وليس مقصودا وحده بالجواب فمجموع الشرطين بتأويل الأول لم يقع بل المجموع مستقبل ، وإن كان ظاهر أحدهما بانفراده واقع ونظيره (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) (١) (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) (٢) ومعلوم أنه قد وقع أحدهما ، لكن المعنى أن يتبين ويظهر كونه قدّ من كذا وكذا يتأول ما يجيء من دخول أن الشرطية على صيغة كان على مذهب جمهور النحاة خلافا لأبي العباس المبرد فإنه زعم إن أن إذا دخلت على كان بقيت على مضيها بلا تأويل والنفق السرب في داخل الأرض الذي يتوارى فيه. وقرأ نبيج الغنوي أن تبتغي نافقا في الأرض والنافقاء ممدود وهو أحد مخارج جحر اليربوع وذلك أن اليربوع يخرج من باطن الأرض إلى وجهها ويرق ما واجه الأرض ويجعل للحجر بابين أحدهما النافقاء والآخر القاصعاء ، فإذا رابه أمر من أحدهما دفع ذلك الوجه الذي أرقه من أحدهما وخرج منه. وقيل : لجحره ثلاثة أبواب ، قال السدي : السلم المصعد. وقال قتادة : الدرج. وقال أبو عبيدة : السبب والمرقاة ، تقول العرب : اتخذني سلما لحاجتك أي سببا. ومنه قول كعب بن زهير :

ولا لكما منجى من الأرض فابغيا

به نفقا أو في السموات سلّما

وقال الزجاج : السلم من السلامة وهو الشيء الذي يسلمك إلى مصعدك ، والسلم الذي يصعد عليه ويرتقى وهو مذكر. وحكى الفراء فيه التأنيث ، قال بعضهم : تأنيثه على معنى المرقاة لا بالوضع كما أنث ، الصوت بمعنى الصيحة والاستغاثة في قوله : سائل بني أسد ما هذه الصوت. ومعنى الآية قال الزمخشري يعني أنك لا تستطيع ذلك ، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه ، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتي بها رجاء إيمانهم. وقيل : كانوا يقترحون الآيات فكان يود أن يجابوا إليها لتمادي حرصه على إيمانهم ، فقيل له : إن استطعت كذا فافعل دلالة على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا لعلهم يؤمنون ؛ انتهى. والظاهر من قوله (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أن الآية هي غير ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء ، وأن المعنى : أن تبتغي نفقا في الأرض فتدخل فيه أو سلّما في السماء فتصعد عليه إليها (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) غير الدخول في السرب والصعود إلى السماء مما يرجى إيمانهم بسببها أو

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢٦.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٢٧.

٤٩٢

مما اقترحوه رجاء إيمانهم ، وتلك الآية من إحدى الجهتين. وقال ابن عطية : وقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) إلزام الحجة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقسيم الأحوال عليهم حتى يتبين أن لا وجه إلا الصبر والمضيّ لأمر الله تعالى ، والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن عليه فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض أو على ارتقاء سلم في السماء ، فدونك وشأنك به أي إنك لا تقدر على شيء من هذا ، ولا بد من التزام الصبر واحتمال المشقة ومعارضتهم بالآيات التي نصبها الله للناظرين المتأملين إذ هو لا إله إلا هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى ، وإنما أراد أن ينصب من الآيات ما يهتدى بالنظر فيه قوم بحق ملكه (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه ؛ انتهى.

وأجاز الزمخشري وابن عطية أن تكون الآية التي يأتي بها هي نفس الفعل. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء هو الإتيان بالآية كأنه قيل : لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض أو الترقي في السماء لعلّ ذلك يكون آية لك يؤمنون بها. وقال ابن عطية : (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) بعلامة ويريد : إما في فعلك ذلك أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض وارتقائك في السماء وإما في أن تأتيهم بالآية من إحدى الجهتين ؛ انتهى. وما جوزاه من ذلك لا يظهر من دلالة اللفظ إذ لو كان ذلك كما جوزاه لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية وأيضا فأي آية في دخول سرب في الأرض ، وأما الرقي في السماء فيكون آية. وقيل قوله (أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى قولهم (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (١) وقوله : (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) إشارة إلى قولهم : (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) (٢) وكان فيها ضمير الشأن ، والجملة المصدرة بكبر عليك إعراضهم في موضع خبر كان وفي ذلك دليل على أن خبر كان وأخواتها يكون ماضيا ولا يحتاج فيه إلى تقدير قد ، لكثرة ما ورد من ذلك في القرآن وكلام العرب خلافا لمن زعم أنه لا بدّ فيه من قد ظاهرة أو مقدرة وخلافا لمن حصر ذلك بكان دون أخواتها ، وجوزوا أن يكون اسمها إعراضهم فلا يكون مرفوعا بكبر كما في القول الأول وكبر فيه ضمير يعود على الإعراض وهو في موضع الخبر وهي مسألة خلاف ، وجواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره فافعل كما تقول : إن شئت تقوم بنا إلى فلان نزوره ، أي فافعل ولذلك جاء فعل الشرط بصيغة الماضي أو المضارع المنفيّ بلم لأنه ماض ، ولا يكون بصيغة المضارع إلا في الشعر.

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٠.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٣.

٤٩٣

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) أي إما يخلق ذلك في قلوبهم أولا فلا يضل أحد وإما يخلقه فيهم بعد ضلالهم ، ودلّ هذا التعليق على أنه تعالى ما شاء منهم جميعهم الهدى ، بل أراد إبقاء الكافر على كفره.

قال أبو عبد الله الرازي : ويقرر هذا الظاهر أن قدرة الكافر على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان ، فالقدرة على الكفر مستلزمة له غير صالحة للإيمان فخالق تلك القدرة يكون قد أراد الكفر لا محالة ، وإن كانت صالحة له كما صالحة للكفر استوت نسبة القدرة إليهما فامتنع الترجيح إلا الداعية مرجحة ، وليست من العبد وإلا وقع التسلسل ، فثبت أن خالق تلك الداعية هو الله وثبت أن مجموع الداعية الصالحة توجب الفعل وثبت أن خالق مجموع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر غير مريد لذلك الإيمان ، فهذا البرهان اليقيني قوي ظاهر هذه الآية ، ولا بيان أقوى من تطابق البرهان مع ظاهر القرآن.

وقال ابن عطية : وهذه الآية تردّ على القدرية المفوّضة الذين يقولون : إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر وأن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلق فيه تعالى الله عن قولهم.

وقال الزمخشري : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) بآية ملجئة ، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة ؛ انتهى ، وهذا قول المعتزلة.

وقال القاضي : والإلجاء أن يعلمهم أنهم لو حاولوا غير الإيمان لمنعهم منه ، وحينئذ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان ، وهو تعالى إنما ترك فعل هذا الإلجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم ، فيكون ما وقع منهم كأن لم يقع ، وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا بما يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة به إلى الثواب ، وذلك لا يكون إلا اختيارا ، وأجاب أبو عبد الله الرازي بأنه تعالى أراد منهم الإقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر بالسوية ، أو حال حصول هذا الرجحان ، والأول تكليف ما لا يطاق لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال ، وإن كان الثاني فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع ، والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع ، وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيارات ، فسقط قولهم بالكلية.

٤٩٤

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) تقدم قول ابن عطية في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله تعالى ، وأمضاه ، وعلم المصلحة فيه.

وقال أيضا : و (مِنَ الْجاهِلِينَ) يحتمل في أن لا تعلم أن الله (لَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره الله وأراده ، وتذهب بك نفسك إلى ما لم يقدر الله ، انتهى. وضعف الاحتمال الأول بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع كمال ذاته وتوفر معلوماته وعظيم اطّلاعه على ما يليق بقدرة الحقّ جلّ جلاله ، واستيلائه على جميع مقدوراته ، لا ينبغي أن يوصف بأنه جاهل بأنه تعالى لو شاء لجمعهم على الهدى ، لأن هذا من قبيل الدين والعقائد ، فلا يجوز أن يكون جاهلا بها ، وكأن الزمخشري قد فسر قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) بأن تأتيهم آية ملجئة ، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة فقال في قوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه. وأشار بذلك إلى الإتيان بالآية الملجئة إلى الإيمان وتقدم الكلام في الإلجاء.

وقيل : لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم ويكفر بعضهم ، وضعف بأن هذا ليس مما يجهله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل لا تكوننّ ممن لا صبر له لأن قلة الصبر من أخلاق الجاهلين ، وضعف بأنه تعالى قد أمره بالصبر في آيات كثيرة ومع أمر الله له بالصبر وبيان أنه خير يبعد أن يوصف بعد صبره بقلة الصبر.

وقيل : لا يشتد حزنك لأجل كفرهم فتقارب حال الجاهل بأحكام الله وقدره ، وقد صرح بهذا في قوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) (١) وقال قوم : جاز هذا الخطاب لأنه لقربه من الله ومكانته عنده كان ذلك حملا عليه كما يحمل العاقل على قريبه فوق ما يحمله على الأجانب ، خشية عليه من تخصيص الإذلال.

وقال مكي والمهدوي : الخطاب له والمراد به أمته ، وتمم هذا القول بأنه كان يحزنه إصرار بعضهم على الكفر وحرمانهم ثمرات الإيمان.

قال ابن عطية : وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ ؛ انتهى.

وقيل : الرسول معصوم من الجهل والشك بلا خلاف ، ولكن العصمة لا تمنع

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٨٠.

٤٩٥

الامتحان بالأمر والنهي ، أو لأن ضيق صدره وكثرة حزنه من الجبلات البشرية ، وهي لا ترفعها العصمة بدليل : «اللهم إني بشر وإني أغضب كما يغضب البشر» الحديث. وقوله : «إنما أنا بشر فإذا نسيت فذكروني» انتهى.

والذي أختاره أن هذا الخطاب ليس للرسول ، وذلك أنه تعالى قال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) فهذا إخبار وعقد كلّي أنه لا يقع في الوجود إلا ما شاء وقوعه ، ولا يختص هذا الإخبار بهذا الخطاب بالرسول بل الرسول عالم بمضمون هذا الإخبار ، فإنما ذلك للسامع فالخطاب والنهي في (فَلا تَكُونَنَ) للسامع دون الرسول فكأنه قيل : ولو شاء الله أيها السامع الذي لا يعلم أن ما وقع في الوجود بمشيئة الله جمعهم على الهدى لجمعهم عليه ، فلا تكونن أيها السامع من الجاهلين بأن ما شاء الله إيقاعه وقع ، وأن الكائنات معذوقة بإرادته.

إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥) قُلْ

٤٩٦

أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)

التضرّع : تفعّل من الضراعة وهي الذلة ، يقال : ضرع يضرع ضراعة ، قال الشاعر :

ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط مما تطيح الطوائح

أي ذليل ضعيف. صدف عن الشيء أعرض عنه صدفا وصدوفا ، وصادفته لقيته عن إعراض عن جهته قال ابن الرقاع :

إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه

وهنّ عن كل سوء يتقى صدف

صدف جمع صدوف ، كصبور وصبر. وقيل : صدف مال مأخوذ من الصدف في البعير ، وهو أن يميل خفه من اليد إلى الرجل من الجانب الوحشيّ ، والصدفة واحدة الصدف وهي المحارة التي يكون فيها الدر. قال الشاعر :

وزادها عجبا أن رحت في سمك

وما درت دوران الدرّ في الصّدف

الخزانة ما يحفظ فيه الشيء مخافة أن ينال ، ومنه «فإنما يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته» وهي بفتح الخاء. وقال الشاعر :

٤٩٧

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه

فليس على شيء سواه بخزّان

الطرد الإبعاد بإهانة والطريد المطرود ، وبنو مطرود وبنو طراد فخذان من إياد.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) إنما يستجيب للإيمان الذين يسمعون سماع قبول وإصغاء كما قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (١) ويستجيب بمعنى يجيب. وفرّق الرماني بين أجاب واستجاب بأن استجاب فيه قبول لما دعي إليه. قال : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) (٢) (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) (٣) وليس كذلك أجاب لأنه قد يجيب بالمخالفة.

قال الزمخشري يعني أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ، وإنما يستجيب من يسمع كقوله (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (٤).

وقال ابن عطية هذا من النمط المتقدم في التسلية ، أي لا تحفل بمن أعرض فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يفهمون الآيات ويتلقون البراهين بالقبول فعبر عن ذلك كله بيسمعون. إذ هو طريق العلم بالنبوة والآيات المعجزة. وهذه لفظة تستعملها الصوفية إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغا شافيا قالوا استمع (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) الظاهر أن هذه جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، والظاهر أن الموت هنا والبعث حقيقة وذلك إخبار من الله تعالى أن الموتى على العموم من مستجيب وغير مستجيب ، يبعثهم الله فيجازيهم على أعمالهم وجاء لفظ الموتى عاما لإشعار ما قبله بالعموم في قوله (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) إذ الحصر يشعر بالقسم الآخر وهو أن من لا يسمع سماع قبول ، لا يستجيب للإيمان وهم الكفار. وصار في الإخبار عن الجميع بالبعث والرجوع إلى جزاء الله تعالى ، تهديد ووعيد شديد لمن لم يستجب وتظافرت أقوال المفسرين أن قوله والموتى يراد به الكفار. سموا بالموتى كما سموا بالصمّ والبكم والعمي وتشبيه الكافر بالميت من حيث إنّ الميت جسده خال عن الروح ، فيظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات. وأصلح أحواله دفنه تحت التراب. والكافر روحه خالية عن العقل فيظهر منه جهله بالله تعالى ومخالفاته لأمره وعدم قبوله لمعجزات الرسل ، وإذا كانت روحه خالية من العقل كان مجنونا فأحسن أحواله أن يقيّد ويحبس. فالعقل بالنسبة إلى الرّوح كالروح بالنسبة إلى الجسد.

__________________

(١) سورة ق : ٥٠ / ٣٧.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٩٥.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٨.

(٤) سورة الروم : ٣٠ / ٥٢.

٤٩٨

وإذا كان المراد بالموتى هنا الكفار فقيل البعث يراد به حقيقته من الحشر يوم القيامة والرجوع هو رجوعهم إلى سطوته وعقابه ، قاله مجاهد وقتادة.

وعلى هذا تكون هذه الجملة متضمنة الوعيد للكفار. وقيل الموت والبعث حقيقة والجملة مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) للجزاء ، فكان قادرا على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان وأنت لا تقدر على ذلك قاله الزمخشري. وقيل الموت والبعث مجازان استعير الموت للكفر والبعث للإيمان.

فقيل الجملة من قوله (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) مبتدأ وخبر أي والموتى بالكفر يحييهم الله بالإيمان.

وقيل ليس جملة بل (الْمَوْتى) معطوف على (الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) ، و (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) جملة حالية. والمعنى إنما يستجيب الذين يسمعون سماع قبول ، فيؤمنون بأول وهلة والكفار حتى يرشدهم الله تعالى ويوفقهم للإيمان ، فلا تتأسف أنت ولا تستعجل ما لم يقدر.

وقرئ ثم إليه يرجعون بفتح الياء من رجع اللازم.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) قال ابن عباس نزلت في رؤساء قريش سألوا الرسول آية تعنتا منهم ، وإلا فقد جاءهم بآيات كثيرة فيها مقنع انتهى.

والضمير في (وَقالُوا) عائد على الكفار ، ولولا تحضيض بمعنى هلا.

(قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) أي مهما سألتموه من إنزال آية الله قادر على ذلك. كما أنزل الآيات السابقة فلا فرق في تعلق القدرة بالآيات المقترحة على سبيل التعنت والآيات التي لم تقترح وقد اقترحتم آيات كانشقاق القمر فلم تجد عليكم ولا أثرت فيكم ، وقلتم هذا سحر مستمر ولم تعتدوا بما أنزل مع كثرته حتى كأنه لم ينزل شيء من الآيات ، لأن دأبكم العناد في آيات الله.

وقال الزمخشري على أن ينزل آية يضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل على بني إسرائيل أو آية أن يجحدوها جاءهم العذاب.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية وإن صارفا من الحكمة صرفه عن إنزالها.

٤٩٩

وقال ابن عطية (لا يَعْلَمُونَ) أنها لو أنزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب ، ويحتمل لا يعلمون أن الله تعالى إنما جعل المصلحة في آيات معرضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون انتهى. والذي يظهر (لا يَعْلَمُونَ) نفى عنهم العلم حيث فرقوا بين تعلق القدرة بالآيات التي نزلت وبين تعلقها بالآيات المقترحة وتعلق القدرة بهما سواء لاجتماع المقترح وغير المقترح في الإمكان ، فمن فرق بين المتماثلات ولم يقنع بما ورد منها فهو لا شك جاهل.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) قال ابن الأنباري وموضع الاحتجاج من هذه الآية أن الله ركب في المشركين عقولا وجعل لهم أفهاما ألزمهم بها أن يتدبروا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما جعل للدّواب والطير أفهاما يعرف بها بعضها إشارة بعض ، وهدى الذّكر منها لإتيان الأنثى ، وفي ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها.

وقال ابن عطية : المعنى في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته.

وقال الزمخشري : فإن قلت : فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت : الدلالة على عظم قدرته ولطف علمه وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف ، وهو لما لها وما عليها مهيمن على أحوالها لا يشغله شأن عن شأن ، وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان انتهى.

والذي يظهر أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء قولهم (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ولم يعتبروا ما نزل من الآيات وأجيبوا بأن القدرة صالحة لإنزال آية وهي التي اقترحتموها ونبهوا على جهلهم حيث فرقوا بين آية وآية أخبروا أنهم أنفسهم وجميع الحيوان غيرهم متماثلون في تعلق القدرة الإلهية بالجميع ، فلا فرق بين خلق من كلّف وما لم يكلّف في تعلق القدرة بهما وإبرازهما من صرف العدم إلى صرف الوجود ، فكأنه قيل القدرة تعلقت بالآيات كلها مقترحها وغير مقترحها كما تعلقت بخلقكم وخلق سائر الحيوان ، فالإمكان هو الجامع بين كل ذلك ؛ ولذلك قال تعالى : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) يعني في تعلق القدرة بإيجادها كتعلقها بإيجادكم. وكذلك الآيات. وفي ذلك إشارة إلى أن الآيات الواردة على أيدي الأنبياء عليهم‌السلام قد تكون باختراع أعيان ، كالماء الذي نبع من بين الأصابع والطعام الذي تكثر من قليل ، كما أن المخلوقات هي أعيان مخترعة لله تعالى ، وكأن النسبة بمماثلة الحيوان

٥٠٠