البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

حصول الموت للعبد ورده إلى الله والميت مع كونه ميتا لا يمكن أن يرد إلى الله بل المردود هو النفس والروح وهنا موت وحياة ، فالموت نصيب البدن والحياة نصيب النفس والروح فثبت أن الإنسان ليس إلا النفس والروح وليس عبارة عن مجرد هذه البنية وفي قوله : (رُدُّوا إِلَى اللهِ) إشعار بكون الروح موجودة قبل البدن لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال إنما يكون إذا كانت موجودة قبل التعلق بالبدن ونظيره (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) (١) (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) (٢) وجاء في الحديث : «خلقت الأرواح قبل الأجساد بألفي عام». وحجة الفلاسفة على كون النفوس غير موجودة قبل وجود البدن ضعيفة وبينا ضعفها في الكتب العقلية ؛ انتهى كلامه وفيه بعض تلخيص. وقال أيضا : (إِلَى اللهِ) يشعر بالجهة وهو باطل فوجب حمله على أنهم ردّوا إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه ؛ انتهى. والظاهر أن هذا الرد هو بالبعث يوم القيامة إلا ما أراده الرازي ووصفه تعالى بالحق معناه العدل الذي ليس بباطل ولا مجاز. وقال أبو عبد الله الرازي : كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب كما قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (٣) فلما مات تخلص من تصرفات الموالي الباطلة وانتقل إلى تصرف المولى الحق انتهى كلامه. وتفسيره خارج عن مناحي كلام العرب ومقاصدها وهو في أكثره شبيه بكلام الذين يسمون أنفسهم حكماء. وقرأ الحسن والأعمش (الْحَقِ) بالنصب والظاهر أنه صفة قطعت فانتصبت على المدح وجوز نصبه على المصدر تقديره الرد الحق.

(أَلا لَهُ الْحُكْمُ) تنبيه منه تعالى عباده بأن جميع أنواع التصرفات له. وقال الزمخشري : (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يومئذ لا حكم فيه لغيره.

(وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) تقدم الكلام في سرعة حسابه تعالى في قوله : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤).

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) لما تقدم ذكره دلائل على ألوهيته تعالى من العلم التام والقدرة الكاملة ذكر نوعا من أثرهما وهو الإنجاء من الشدائد وهو استفهام يراد به التقرير والإنكار والتوبيخ والتوقيف على سوء معتقدهم عند عبادة الأصنام وترك الذي ينجي من الشدائد ويلجأ إليه في كشفها. قيل : وأريد حقيقة الظلمة وجمعت باعتبار موادها ففي البر والبحر ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الصواعق ، وفي البر أيضا ظلمة الغبار

__________________

(١) سورة الفجر : ٨٩ / ٢٨.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٤٨ وغيرها.

(٣) سورة الفرقان : ٢٥ / ٤٣ ، والجاثية : ٤٥ / ٢٣.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٠٢ ، والنور : ٢٤ / ٣٩.

٥٤١

وظلمة الغيم وظلمة الريح ، وفي البحر أيضا ظلمة الأمواج ويكون ذلك على حذف مضاف التقدير مهالك ظلمة البر والبحر ومخاوفها وأكثر المفسرين على أن الظلمات مجاز عن شدائد البر والبحر ومخاوفهما وأهوالهما ، والعرب تقول : يوم أسود ويوم مظلم ويوم ذو كواكب كأنه لإظلامه وغيبوبة شمسه بدت فيه الكواكب ويعنون به أن ذلك اليوم شديد عليهم. قال قتادة والزجاج : من كرب البر والبحر. وحكى الطبري : ضلال الطريق في الظلمات. وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ما يشفون عليه من الخسف في البر والغرق في البحر بذنوبهم فإذا دعوا وتضرعوا كشف الله عنهم الخسف والغرق فنجوا من ظلماتها ؛ انتهى.

(تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي تنادونه مظهري الحاجة إليه ومخفيها والتضرع وصف باد على الإنسان والخفية الإخفاء. وقال الحسن : تضرعا وعلانية خفية أي نية وانتصبا على المصدر ، و (تَدْعُونَهُ) حال ويقال : خفية بضم الخاء وهي قراءة الجمهور وبكسرها وهي قراءة أبي بكر. وقرأ الأعمش (وَخُفْيَةً) من الخوف. وقرأ الكوفيون من ينجيكم قل الله ينجيكم بالتشديد فيهما ، وحميد بن قيس ويعقوب وعلي بن نصر عن أبي عمرو بالتخفيف فيهما والحرميان والعربيان بالتشديد في (مَنْ يُنَجِّيكُمْ) والتخفيف في (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ) جمعوا بين التعدية بالهمزة والتضعيف ، كقوله : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ) (١).

(لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) هذه إشارة إلى الظلمات والمعنى قائلين لئن أنجانا لما دعوه ، أقسموا أنهم يشكرونه على كشف هذه الشدائد ودل ذلك على أنهم لم يكونوا قبل الوقوع في هذه الشدائد شاكرين لأنعمه. وقرأ الكوفيون (لَئِنْ أَنْجانا) على الغائب وأماله الاخوان. وقرأ باقي السبعة على الخطاب.

(قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) الضمير في (مِنْها) عائد على ما أشير إليه بقوله (مِنْ هذِهِ) ومن كل معطوف على الضمير المجرور أعيد معه الخافض وأمره تعالى بالمسابقة إلى الجواب ليكون هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسبق إلى الخير وإلى الاعتراف بالحق ثم ذكر أنه تعالى ينجي من هذه الشدائد التي حضرتهم ومن كل كرب فعم بعد التخصيص ثم ذكر قبيح ما يأتون بعد ذلك وبعد إقرارهم بالدعاء والتضرع ووعدهم إياه بالشكر من إشراكهم معه في العبادة. قال ابن عطية : وعطف ب (ثُمَ) للمهلة التي تبين قبح

__________________

(١) سورة الطارق : ٨٦ / ١٧.

٥٤٢

فعلهم أي ثم بعد معرفتكم بهذا كله وتحققه أنتم تشركون ؛ انتهى. وقيل : معنى (تُشْرِكُونَ) تعودون إلى ما كنتم عليه من الإشراك وعبادة الأصنام ولا يخفى ما في هذه الجملة الاسمية من التقبيح عليهم إذ ووجهوا بقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ) كقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ) هؤلاء بعد قوله (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) (١) وإذا كان الخبر (تُشْرِكُونَ) بصيغة المضارع المشعر بالاستمرار والتجدد في المستقبل كما كانوا عليه فيما مضى.

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) هذا إخبار يتضمن الوعيد ، والأظهر من نسق الآيات أنه خطاب للكفار وهو مذهب الطبري. وقال أبي وأبو العالية وجماعة : هي خطاب للمؤمنين. قال أبي : هنّ أربع : عذاب قبل يوم القيامة مضت اثنتان قبل وفاة الرسول بخمس وعشرين سنة لبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض ، وثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم. وقال الحسن : بعضها للكفار بعث العذاب من فوق ومن تحت وسائرها للمؤمنين ، انتهى. وحين نزلت استعاذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال في الثالثة : «هذه أهون أو هذه أيسر» ؛ واحتج بهذا من قال هي للمؤمنين. وقال الطبري : لا يمتنع أن يكون عليه‌السلام تعوذ لأمته مما وعد به الكفار وهون الثالثة لأنها في المعنى هي التي دعا فيها فمنع كما في حديث الموطأ وغيره. والظاهر (مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) الحقيقة كالصواعق وكما أمطر على قوم لوط وأصحاب الفيل الحجارة وأرسل على قوم نوح الطوفان ، كقوله : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (٢) وكالزلازل ونبع الماء المهلك وكما خسف بقارون. وقال السدي عن أبي مالك وابن جبير : الرجم والخسف. وقال ابن عباس : (مِنْ فَوْقِكُمْ) ولاة الجور و (مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) سفلة السوء وخدمته. وقيل : حبس المطر والنبات. وقيل : (مِنْ فَوْقِكُمْ) خذلان السمع والبصر والآذان واللسان و (مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) خذلان الفرج والرجل إلى المعاصي ؛ انتهى ، وهذا والذي قبله مجاز بعيد.

(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) أي يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى كلّ فرقة منكم مشايعة لإمام ومعنى خلطهم انشاب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال كقول الشاعر :

وكتيبة لبستها بكتيبة

حتى إذا التبست نفضت لها يدي

فتركتهم تقص الرماح ظهورهم

ما بين منعفر وآخر مسند

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨٤.

(٢) سورة القمر : ٥٤ / ١١.

٥٤٣

قال ابن عباس ومجاهد : تثبت فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقا. وقيل : المعنى يقوى عدوكم حتى يخالطوكم. وقرأ أبو عبد الله المدني (يَلْبِسَكُمْ) بضمّ الياء من اللبس استعارة من اللباس فعلى فتح الياء يكون (شِيَعاً) حالا. وقيل : مصدر والعامل فيه (يَلْبِسَكُمْ) من غير لفظه ؛ انتهى. ويحتاج في كونه مصدرا إلى نقل من اللغة وعلى ضم الياء يحتمل أن يكون التقدير أو يلبسكم الفتنة شيعا ويكون (شِيَعاً) حالا ، وحذف المفعول الثاني ويحتمل أن يكون المفعول الثاني شيعا كان الناس يلبسهم بعضهم بعضا كما قال الشاعر :

لبست أناسا فأفنيتهم

وغادرت بعد أناس أناسا

وهي عبارة عن الخلطة والمعايشة.

(وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) البأس الشدة من قتل وغيره والإذاقة والإنالة والإصابة هي من أقوى حواس الاختبار وكثر استعمالها في كلام العرب وفي القرآن قال تعالى : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) (١). وقال الشاعر :

أذقناهم كؤوس الموت صرفا

وذاقوا من أسنتنا كؤوسا

وقرأ الأعمش : ونذيق بالنون وهي نون عظمة الواحد وهي التفات فأيدته نسبة ذلك إلى الله على سبيل العظمة والقدرة القاهرة.

(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) هذا استرجاع لهم ولفظة تعجب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى إنا نسألك في مجيء الآيات أنواعا رجاء أن يفقهوا ويفهموا عن الله تعالى ، لأن في اختلاف الآيات ما يقتضي الفهم إن عزبت آية لم تعزب أخرى.

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) قال السدي : (بِهِ) عائد على القرآن الذي فيه جاء تصريف الآيات. وقال الزمخشري : (بِهِ) راجع إلى العذاب وهو الحق أي لا بد أن ينزل بهم. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعود على الوعيد الذي تضمنته الآية ونحا إليه الطبري. وقيل : يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا لقرب مخاطبته بعد ذلك بالكاف ؛ انتهى. وقرأ ابن أبي عبلة : وكذبت به قومك بالتاء ، كما قال : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) (٢) والظاهر أن قوله : (وَهُوَ الْحَقُ) جملة استئناف لا حال.

(قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي لست بقائم عليكم لإكراهكم على التوحيد. وقيل :

__________________

(١) سورة القمر : ٥٤ / ٤٨.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٠٥.

٥٤٤

(بِوَكِيلٍ) بمسلط وقيل : لا أقدر على منعكم من التكذيب إجبارا إنما أنا منذر. قال ابن عطية : وهذا كان قبل نزول الجهاد والأمر بالقتال ثم نسخ. وقيل : لا نسخ في هذا إذ هو خبر والنسخ فيه متوجه لأن اللازم من اللفظ لست الآن وليس فيه أنه لا يكون في المستقبل.

(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) أي لكل أجل شيء ينبأ به يعني من أنبائه بأنهم يعذبون وإبعادهم به وقت استقرار وحصول لا بد منه. وقيل : لكل عمل جزاء وليس هذا بالظاهر. وقال السدي : استقر نبأ القرآن بما كان يعدهم من العذاب يوم بدر. وقال مقاتل : منه في الدنيا يوم بدر وفي الآخرة جهنم. (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) مبالغة في التهديد والوعيد فيجوز أن يكون تهديد بعذاب الآخرة ، ويجوز أن يكون تهديدا بالحرب وأخذهم بالإيمان على سبيل القهر والاستيلاء.

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) هذا خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدخل فيه المؤمنون لأن علة النهي وهو سماع الخوض في آيات الله يشمله وإياهم. وقيل : هو خاص بتوحيده لأن قيامه عنهم كان يشق عليهم وفراقه على مغاضبه والمؤمنون عندهم ليسوا كهو. وقيل : خطاب للسامع و (الَّذِينَ يَخُوضُونَ) المشركون أو اليهود أو أصحاب الأهواء ثلاثة أقوال ، و (رَأَيْتَ) هنا بصرية ولذلك تعدت إلى واحد ولا بد من تقدير حال محذوفة أي (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) وهم خائضون فيها أي وإذا رأيتهم ملتبسين بهذه الحالة. وقيل : (رَأَيْتَ) علمية لأن الخوض في الآيات ليس مما يدرك بحاسة البصر وهذا فيه بعد لأنه يلزم من ذلك حذف المفعول الثاني من باب علمت فيكون التقدير (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) خائضين فيها وحذفه اقتصارا لا يجوز وحذفه اختصارا عزيز جدا حتى إن بعض النحويين منعه والخوض في الآيات كناية عن الاستهزاء بها والطعن فيها. وكانت قريش في أنديتها تفعل ذلك (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي لا تجالسهم وقم عنهم وليس إعراضا بالقلب وحده بينه (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) (١) ، وقد تقدم من قول المفسرين في هذه الآية أن قوله : وقد نزل عليكم في الكتاب : أن الذي نزل في الكتاب هو قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ) الآية و (حَتَّى يَخُوضُوا) غاية الإعراض عنهم أي فلا بأس أن تجالسهم والضمير في (غَيْرِهِ) قال الحوفي عائد إلى الخوض كما قال الشاعر :

__________________

(١) النساء : ٤ / ١٤٠.

٥٤٥

إذا نهى السفيه جرى إليه

وخالف والسفيه إلى خلاف

أي جرى إلى السفه. وقال أبو البقاء : إنما ذكر الهاء لأنه أعادها على معنى الآيات ولأنها حديث وقول :

(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي إن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم فلا تقعد معهم بعد الذكرى أي ذكرك النهي. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى أي بعد إن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم ؛ انتهى. وهو خلاف ظاهر الشرط لأنه قد نهى عن القعود معهم قبل ثم عطف على الشرط السابق هذا الشرط فكله مستقبل وما أحسن مجيء الشرط الأول بإذا التي هي للمحقق لأن كونهم يخوضون في الآيات محقق ومجيء الشرط الثاني بأن لأن إن لغير المحقق وجاء (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) تنبيها على علة الخوض في الآيات والطعن فيها وأن سبب ذلك ظلمهم وهو مجاوزة الحد ووضع الأشياء غير مواضعها. قال ابن عطية : وأما شرط ويلزمها النون الثقيلة في الأغلب وقد لا تلزم كما قال الشاعر :

أما يصبك عدو في مناوأة

إلى غير ذلك من الأمثلة ؛ انتهى. وهذه المسألة فيها خلاف ، ذهب بعض النحويين إلى أنها إذا زيدت بعد إن ما لزمت نون التوكيد ولا يجوز حذفها إلا ضرورة وذهب بعضهم إلى أنها لا تلزم وإنه يجوز في الكلام وتقييده الثقيلة ليس بجيد بل الصواب النون المؤكدة سواء كانت ثقيلة أم خفيفة وكأنه نظر إلى مواردها في القرآن وكونها لم تجئ فيها بعد أما إلا الثقيلة. وقرأ ابن عامر (يُنْسِيَنَّكَ) مشدّدا عداه بالتضعيف وعداه الجمهور بالهمزة. وقال ابن عطية : وقد ذكر القراءتين إلا أن التشديد أكثر مبالغة ؛ انتهى. وليس كما ذكر لا فرق بين تضعيف التعدية والهمزة ومفعول (يُنْسِيَنَّكَ) الثاني محذوف تقديره (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) نهينا إياك عن القعود معهم والذكرى مصدر ذكر جاء على فعلى وألفه للتأنيث ولم يجئ مصدر على فعلى غيره.

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ الَّذِينَ يَتَّقُونَ) هم المؤمنون والضمير في (حِسابِهِمْ) عائد على المستهزئين الخائضين في الآيات. وروي أن المؤمنين قالوا : لما نزلت (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) (١) لا يمكننا طواف ولا عبادة في الحرم فنزلت (وَما عَلَى

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٤٠.

٥٤٦

الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) فأبيح لهم قدر ما يحتاج إليه من التصرف بينهم في العبادة ونحوها ، والظاهر أن حكم الرسول موافق لحكم غيره لاندراجه في قوله : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) أمر هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عنهم حتى إن عرض نسيان وذكر فلا تقعد معهم. وقيل : للمتقين وهو رأسهم أي ما عليكم من حسابهم من شيء.

(وَلكِنْ ذِكْرى) أي ولكن عليكم أن تذكروهم ذكرى إذا سمعتموهم يخوضون بأن تقوموا عنهم وتظهروا كراهة فعلهم وتعظوهم.

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي لعلهم يجتنبون الخوض في الآيات حياء منكم ورغبة في مجالستكم قاله مقاتل ، أو (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الوعيد بتذكيركم إياهم. وقيل : المعنى لا تقعدوا معهم ولا تقربوهم حتى لا تسمعوا استهزاءهم وخوضهم ، وليس نهيكم عن القعود لأن عليكم شيئا من حسابهم وإنما هو ذكرى لكم لعلكم تتقون أي تثبتون على تقواكم وتزدادونها ، فالضمير في (لَعَلَّهُمْ) عائد على (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) ومن قال الخطاب في (وَإِذا رَأَيْتَ) خاص بالرسول قال (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) للمؤمنين دونه ومعناها الإباحة لهم دونه كأنه قال : يا محمد لا تقعد معهم وأما المؤمنون فلا شيء عليهم من حسابهم فإن قعدوا فليذكروهم (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الله في ترك ما هم عليه. وقال هذا القائل : هذه الإباحة التي اقتضتها هذه الآية نسختها آية النساء وذكرى يحتمل أن تكون في موضع نصب أي ولكن تذكرونهم ، ومن قال الإباحة كانت بسبب العبادات قال نسخ ذلك آية النساء أو ذكروهم وفي موضع رفع أي ولكن عليهم ذكرى وقدّره بعضهم ولكن هو ذكري أي الواجب ذكري. وقيل : هذا ذكرى أي النهي ذكرى. قال الزمخشري : ولا يجوز أن يكون عطفا على محل من شيء كقولك : ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن قوله : (مِنْ حِسابِهِمْ) يأبى ذلك ؛ انتهى. كأنه تخيل أن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو من حسابهم لأنه قيد في شيء فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفا على (مِنْ شَيْءٍ) على الموضع لأنه يصير التقدير عنده و (لكِنْ ذِكْرى) من حسابهم وليس المعنى على هذا وهذا الذي تخيله ليس بشيء لا يلزم في العطف بو لكن ما ذكر تقول : ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش ، وما قام من رجل عالم ولكن رجل جاهل فعلى هذا الذي قررناه يجوز أن يكون من قبيل عطف الجمل كما تقدم ، ويجوز أن يكون من عطف المفردات والعطف إنما هو للواو ودخلت (لكِنْ) للاستدراك. قال ابن

٥٤٧

عطية : وينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم هذه الآية مع الملحدين وأهل الجدل والخوض فيه. وحكى الطبري عن أبي جعفر أنه قال : لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله تعالى.

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) هذا أمر بتركهم وكان ذلك لقلة أتباع الإسلام حينئذ. قال قتادة : ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال. وقال مجاهد : إنما هو أمر تهديد ووعيد كقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١) ولا نسخ فيها لأنها متضمنة خبرا وهو التهديد ودينهم ما كانوا عليه من البحائر والسوائب والجوامي والوصائل وعبادة الأصنام والطواف حول البيت عراة يصفرون ويصفقون أو الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام (لَعِباً وَلَهْواً) حيث سخروا به واستهزؤوا ، أو عبادتهم لأنهم كانوا مستغرقين في اللهو واللعب وشرب الخمر والعزف والرقص لم تكن لهم عبادة إلا ذلك أقوال ثلاثة. وانتصب (لَعِباً وَلَهْواً) على المفعول الثاني لاتخذوا. وقال أبو عبد الله الرازي : الأقرب أن المحقق في الدين هو الذي ينصر الدّين لأجل أنه قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب ، وأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرئاسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدّين للدنيا وقد حكم الله على الدّنيا في سائر الآيات بأنها لعب ولهو ، فالآية إشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه وأكثر الخلق موصوفون بهذه الصفة ؛ انتهى ، وفيه بعض تلخيص وظاهر تفسيره يقتضي أن (اتَّخَذُوا) هنا متعدّية إلى واحد وأن انتصاب (لَعِباً وَلَهْواً) على المفعول من أجله فيصير المعنى اكتسبوا دينهم وعملوه وأظهروا اللعب واللهو أي للدّنيا واكتسابها ويظهر من بعض كلام الزمخشري وابن عطية أن (لَعِباً وَلَهْواً) هو المفعول الأول لاتخذوا و (دِينَهُمْ) هو المفعول الثاني. قال الزمخشري : أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به (لَعِباً وَلَهْواً) وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك من باب اللعب واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة ، ومن جنس الهزل دون الجدّ واتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها دينا لهم واتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه هو دين الإسلام (لَعِباً وَلَهْواً) حيث سخروا به واستهزؤوا ؛ انتهى. فظاهر تقديره الثاني هو ما ذكرناه عنه. وقال ابن عطية : وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللهو واللعب دينا ويحتمل أن يكون المعنى (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) الذي كان ينبغي لهم

__________________

(١) سورة المدثر : ٧٤ / ١١.

٥٤٨

(لَعِباً وَلَهْواً) ؛ انتهى. فتفسيره الأول هو ما ذكرناه عنه. قال الزمخشري : وقيل : جعل الله لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله والناس كلهم من المشركين ، وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم (لَعِباً وَلَهْواً) غير المسلمين فإنهم اتخذوا دينهم عيدهم كما شرعه الله ومعنى ذرهم أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم ؛ انتهى.

(وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) يحتمل أن يكون معطوفا على الصلة وأن يكون استئناف إخبار أي خدعتهم الغرور وهي الأطماع فيما لا يتحصل فاغتروا بنعم الله ورزقه وإمهاله إياهم. وقيل : غرّتهم بتكذيبهم بالبعث. وقال أبو عبد الله الرازي : لأجل استيلاء حب الدنيا أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوصلوا بها إلى حطام الدنيا ؛ انتهى. وقيل : (غَرَّتْهُمُ) من الغرّ بفتح الغين أي ملأت أفواههم وأشبعتهم. ومنه قول الشاعر :

ولما التقينا بالحليبة غرّني

بمعروفه حتى خرجت أفوق

ومنه غر الطائر فرخه.

(وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) الضمير في (بِهِ) عائد على القرآن أو على (الَّذِينَ) أو على (حِسابِهِمْ) ثلاثة أقوال : أولاها الأوّل كقوله : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (١) و (تُبْسَلَ) ، قال ابن عباس : تفضح. وقال الحسن وعكرمة : تسلم. وقال قتادة : تحبس وترتهن. وقال الكلبي وابن زيد والأخفش : تجزي. وقال الضحاك : تحرق. وقال ابن زيد أيضا : يؤخذ. وقال مؤرخ : تعذب. وقيل يحرم عليها النجاة ودخول الجنة. وقال أبو بكر : استحسن بعض شيوخنا قول من قال : تسلم بعملها لا تقدر على التخلص لأنه يقال : استبسل للموت أي رأى ما لا يقدر على دفعه واتفقوا على أن (تُبْسَلَ) في موضع المفعول من أجله وقدروا كراهة (أَنْ تُبْسَلَ) ومخافة (أَنْ تُبْسَلَ) ولئلا (تُبْسَلَ) ويجوز عندي أن يكون في موضع جر على البدل من الضمير ، والضمير مفسر بالبدل وأضمر الإبسال لما في الإضمار من التفخيم كما أضمر الأمر والشأن وفسر بالبدل وهو الإبسال فالتقدير وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت كما قالوا : اللهم صل عليه الرؤوف الرحيم وقد أجاز ذلك سيبويه قال : فإن قلت ضربت وضربوني قومك نصبت إلا في قول من

__________________

(١) سورة ق : ٥٠ / ٤٥.

٥٤٩

قال : أكلوني البراغيث أو يحمله على البدل من المضمر وقال أيضا : فإن قلت ضربني وضربتهم قومك رفعت على التقديم والتأخير إلا أن تجعل هاهنا البدل كما جعلته في الرفع ؛ انتهى. وقد روي قوله :

تنخل فاستاكت به عود أسحل

بجر عود على أنه بدل من الضمير والمعنى (أَنْ تُبْسَلَ) نفس تاركة للإيمان بما كسبت من الكفر أو بكسبها السيئ. (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ) أي من دون عذاب الله.

(وَلِيٌ) فينصرها.

(وَلا شَفِيعٌ) فيدفع عنها بمسألته وهذه الجملة صفة أو حال أو مستأنفة إخبار وهو الأظهر و (مِنْ) لابتداء الغاية. وقال ابن عطية : ويجوز أن تكون زائدة ؛ انتهى ، وهو ضعيف.

(وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) أي وإن تفد كل فداء والعدل الفدية لأن الفادي يعدل الفداء بمثله ، ونقل عن أبي عبيدة أن المعنى بالعدل هنا ضدّ الجور وهو القسط أي وإن تقسط كل قسط بالتوحيد والانقياد بعد العناد وضعف هذا القول الطبري بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة ، ولا يلزم هذا لأنه إخبار عن حالة يوم القيامة وهي حال معاينة وإلجاء لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، قالوا : وانتصب (كُلَّ عَدْلٍ) على المصدر ويؤخذ الضمير فيه عائد على المعدول به المفهوم من سياق الكلام ولا يعود على المصدر لأنه لا يسند إليه الأخذ وأما في (لا يُؤْخَذْ مِنْها) عدل فمعنى المفدى به فيصح إسناده إليه ويجوز أن ينتصب كل عدل على المفعول به أي (وَإِنْ تَعْدِلْ) بذاتها (كُلَ) أي كل ما تفدى به (لا يُؤْخَذْ مِنْها) ويكون الضمير على هذا عائدا على (كُلَّ عَدْلٍ) وهذه الجملة الشرطية على سبيل الفرض والتقدير لا على سبيل إمكان وقوعها.

(أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) الظاهر أنه يعود على (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) وقاله الحوفي وتبعه الزمخشري. وقال ابن عطية : (أُولئِكَ) إشارة إلى الجنس المدلول عليه بقوله : (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ).

(لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) الأظهر أنها جملة استئناف

٥٥٠

إخبار ويحتمل أن تكون حالا وشراب فعال بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم ولا ينقاس فعال بمعنى مفعول ، لا يقال : ضراب ولا قتال بمعنى مضروب ولا مقتول.

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) أي من دون الله النافع الضار المبدع للأشياء القادر ما لا يقدر على أن ينفع ولا يضر إذ هي أصنام خشب وحجارة وغير ذلك (وَنُرَدُّ) إلى الشرك (عَلى أَعْقابِنا) أي رد القهقري إلى وراء وهي المشية الدنية بعد هداية الله إيانا إلى طريق الحق وإلى المشية السجح الرفيعة (وَنُرَدُّ) معطوف على (أَنَدْعُوا) أي أيكون هذا وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي لا يقع شيء من هذا وجوز أبو البقاء أن تكون الواو فيه للحال أي ونحن نرد أي أيكون هذا الأمر في هذه الحال وهذا فيه ضعف لإضمار المبتدأ ولأنها تكون حالا مؤكدة ، واستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر. قال الطبري وغيره : الردّ على العقب يستعمل فيمن أمّل أمرا فخاب.

(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا) قال الزمخشري : (كَالَّذِي) ذهب به مردة الجن والغيلان في الأرض في المهمة حيران تائها ضالا عن الجادة لا يدري كيف يصنع له أي لهذا المستهوي أصحاب رفقة يدعونه إلى الهدى أي إلى أن يهدوه الطريق المستوي ، أو سمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له : (ائْتِنا) وقد اعتسف المهمة تابعا للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم وهذا مبني على ما تزعمه العرب وتعتقده من أن الجنّ تستهوي الإنسان والغيلان تستولي عليه كقوله : (الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) (١) فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم ؛ انتهى. وأصل كلامه مأخوذ من قول ابن عباس ولكنه طوله وجوده. قال ابن عباس : مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه فيصبح وقد ألقته في مهمة ومهلكة فهو حائر في تلك المهامة وحمل الزمخشري (اسْتَهْوَتْهُ) على أنه من الهوى الذي هو المودة والميل كأنه قيل كالذي أمالته الشياطين عن الطريق الواضح إلى المهمة القفر وحمله غيره كأبي علي على أنه من الهوي أي ألقته في هوة ، ويكون استفعل بمعنى افعل نحو استزل وأزل تقول العرب : هوى الرجل وأهواه غيره واستهواه طلب منه أن يهوى هوى ويهوى شيئا والهوي السقوط من علو إلى سفل. قال الشاعر :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٧٥.

٥٥١

هوى ابني من ذرى شرف

فزلت رجله ويده

ويستعمل الهوى أيضا في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء ومنه (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) (١). وقال :

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ما مؤمنو الجن ككفارها

وقال أبو عبد الله الرازي : هذا المثل في غاية الحسن وذلك أن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه ، لأن الحجر كان حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة وذلك يوجب كمال التردد والتحير ، فعند نزوله من الأعلى إلى الأسفل لا يعرف أنه يسقط على موضع يزداد بلاؤه بسبب سقوطه عليه أو يقل ، ولا تجد للحائر الخائف أكمل ولا أحسن من هذا المثل ؛ انتهى. وهو كلام تكثير لا طائل تحته وجعل الزمخشري قوله : (لَهُ أَصْحابٌ) أي له رفقة وجعل مقابلهم في صورة التشبيه المسلمين يدعونه إلى الهدى فلا يلتفت إليهم وهو تأويل ابن عباس ومجاهد ، وجعلهم غيره (لَهُ أَصْحابٌ) من الشياطين الدعاة أو لا يدعونه إلى الهدى بزعمهم وبما يوهمونه فشبه بالأصحاب هنا الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على الارتداد. وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضا وحكى مكي وغيره أن المراد بالذي استهوته الشياطين هو عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وبالأصحاب أبوه وأمه ، وذكر أهل السير أنه فيه نزلت هذه الآية دعا إياه أبا بكر إلى عبادة الأوثان وكان أكبر ولد أبي بكر وشقيق عائشة أمهما أم رومان بنت الحارث بن غنم الكنانية وشهد بدرا وأحدا مع قومه كافرا ودعا إلى البراز فقام إليه أبوه أبو بكر رضي‌الله‌عنه ليبارزه فذكر أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «متعني بنفسك» ثم أسلم وحسن إسلامه وصحب الرسول عليه‌السلام في هدنة الحديبية وكان اسمه عبد الكعبة فسماه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الرحمن ، وفي الصحيح أن عائشة سمعت قول من قال : إن قوله : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) (٢) أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت : كذبوا والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي.

قال الزمخشري (فإن قلت) : إذا كان هذا واردا في شأن أبي بكر فكيف قيل للرسول : (قُلْ أَنَدْعُوا). قلت : للاتحاد الذي كان بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وخصوصا بينه وبن الصديق رضي‌الله‌عنه ؛ انتهى. وهذا السؤال إنما يرد إذا صح أنها نزلت في أبي

__________________

(١) سورة ابراهيم : ١٤ / ٣٧.

(٢) سورة الأحقاف : ٤٦ / ١٧.

٥٥٢

بكر وابنه عبد الرحمن ولن يصح ، وموضع (كَالَّذِي) نصب قيل : على أنه نعت لمصدر محذوف أي ردا مثل رد الذي والأحسن أن يكون حالا أي كائنين كالذي والذي ظاهره أنه مفرد ويجوز أن يراد به معنى الجمع أي كالفريق الذي وقرأ حمزة استهواه بألف ممالة. وقرأ السلمي والأعمش وطلحة : (اسْتَهْوَتْهُ) الشيطان بالتاء وإفراد الشيطان. وقال الكسائي : أنها كذلك في مصحف ابن مسعود ؛ انتهى. والذي نقلوا لنا القراءة عن ابن مسعود إنما نقلوه الشياطين جمعا. وقرأ الحسن : الشياطون وتقدم نظيره وقد لحن في ذلك. وقد قيل : هو شاذ قبيح وظاهر قوله (فِي الْأَرْضِ) أن يكون متعلقا باستهوته. وقيل : حال من مفعول (اسْتَهْوَتْهُ) أي كائنا في الأرض. وقيل : من (حَيْرانَ). وقيل : من ضمير (حَيْرانَ) و (حَيْرانَ) لا ينصرف ومؤنثه حيرى و (حَيْرانَ) حال من مفعول (اسْتَهْوَتْهُ). وقيل : حال من الذي والعامل فيه الرد المقدر والجملة من قوله (لَهُ أَصْحابٌ) حالية أو صفة لحيران أو مستأنفة و (إِلَى الْهُدَى) متعلق بيدعونه وأتنا من الإتيان. وفي مصحف عبد الله أتينا فعلا ماضيا لا أمرا فإلى الهدى متعلق به.

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) من قال : إن له أصحاب يعني به الشياطين وإن قوله (إِلَى الْهُدَى) بزعمهم كانت هذه الجملة ردا عليهم أي ليس ما زعمتم هدى بل هو كفر وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان ومن قال : إن قوله (أَصْحابٌ) مثل للمؤمنين الداعين إلى الهدى الذي هو الإيمان ، كانت إخبارا بأن الهدى هدى الله من شاء لا إنه يلزم من دعائهم إلى الهدى وقوع الهداية بل ذلك بيد الله من هداه اهتدى.

(وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) الظاهر أن اللام لام كي ومفعول (أُمِرْنا) الثاني محذوف وقدروه (وَأُمِرْنا) بالإخلاص لكي ننقاد ونستسلم (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) والجملة داخلة في المقول معطوفة على (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى). وقال الزمخشري : هو تعليل للأمر فمعنى (أُمِرْنا) قيل لنا : اسلموا لأجل أن نسلم. وقال ابن عطية : ومذهب سيبويه أن (لِنُسْلِمَ) في موضع المفعول وإن قولك : أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر :

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

تمثل لي ليلى بكل سبيل

إلى غير ذلك من الأمثلة ؛ انتهى. فعلى ظاهر كلامه تكون اللام زائدة وكون أن نسلم هو متعلق (أُمِرْنا) على جهة أنه مفعول ثان بعد إسقاط حرف الجر. وقيل : اللام بمعنى

٥٥٣

الباء كأنه قيل (وَأُمِرْنا) بأن نسلم ومجيء اللام بمعنى الباء قول غريب ، وما ذكره ابن عطية عن سيبويه ليس كما ذكر بل ذلك مذهب الكسائي والفراء زعما أن لام كي تقع في موضع أن في أردت وأمرت ، قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (١) (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) (٢) أي أن يطفئوا (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) (٣) أريد لأنسى ذكرها ورد ذلك عليهما أبو إسحاق ، وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا تتعلق بمحذوف وأن الفعل قبلها يراد به المصدر والمعنى الإرادة للبيان والأمر للإسلام فهما مبتدأ وخبر فتحصل في هذه اللام أقوال : أحدها أنها زائدة ، والثاني أنها بمعنى كي للتعليل إما لنفس الفعل وإما لنفس المصدر المسبوك من الفعل ، والثالث أنها لام كي أجريت مجرى أن ، والرابع أنها بمعنى الباء وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب التكميل وجاء (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) تنبيها على أنه مالك العالم كله معبودهم من الأصنام وغيرها.

(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) أن هنا مصدرية واختلف في ما عطف عليه ، قال الزجاج هو معطوف على قوله : لنسلم تقديره لأن نسلم و (أَنْ أَقِيمُوا). قال ابن عطية : واللفظ يمانعه لأنّ (لِنُسْلِمَ) معرب و (أَقِيمُوا) مبني وعطف المبني على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل انتهى ، وما ذكره من أنه لا يعطف المبني على المعرب وأنّ ذلك لا يجوز ليس كما ذكر ، بل ذلك جائز نحو قام زيد وهذا ، وقال تعالى : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) (٤) غاية ما في هذا أن العامل إذا وجد المعرب أثر فيه وإذا وجد المبني لم يؤثر فيه ويجوز إن قام زيد ويقصدني أحسن إليه ، بجزم يقصدني فإن لم تؤثر في قام لأنه مبني وأثرت في يقصدني لأنه معرب ، ثم قال ابن عطية : اللهم إلا أن يجعل العطف في إن وحدها وذلك قلق وإنما يتخرج على أن يقدر قوله : (أَنْ أَقِيمُوا) بمعنى وليقم ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالة اللفظ فجاز العطف على أن نلغي حكم اللفظ ونعوّل على المعنى ، ويشبه هذا من جهة ما حكاه يونس عن العرب : أدخلوا الأول فالأول وإلا فليس يجوز إلا ادخلوا الأول فالأول بالنصب انتهى ، وهذا الذي استدركه ابن عطية بقوله اللهم إلا أن إلى آخره هو الذي أراده الزجاج بعينه وهو أنّ (أَنْ أَقِيمُوا) معطوف على أن نسلم وأنّ كلاهما علة للمأمور به المحذوف وإنما قلق عند ابن عطية لأنه

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٦.

(٢) سورة الصف : ٦١ / ٨.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٣.

(٤) سورة هود : ١١ / ٩٨.

٥٥٤

أراد بقاء (أَنْ أَقِيمُوا) على معتاها من موضوع الأمر وليس كذلك لأن أن إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر ، وإذا انسبك منهما مصدر زال منها معنى الأمر ، وقد أجاز النحويون سيبويه وغيره أن توصل أن المصدرية الناصبة للمضارع بالماضي وبالأمر ، قال سيبويه : وتقول : كتبت إليه بأن قم ، أي بالقيام فإذا كان الحكم كذا كان قوله : (لِنُسْلِمَ وَأَنْ أَقِيمُوا) في تقدير للإسلام ، ولإقامة الصلاة وأما تشبيه ابن عطية بقوله : ادخلوا الأول فالأول بالرفع فليس يشبهه لأن ادخلوا لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلط على ما بعده ، بخلاف أن فإنها توصل بالأمر فإذا لا شبه بينهما. وقال الزمخشري (فإن قلت) : على عطف قوله : (وَأَنْ أَقِيمُوا) (قلت) : على موضع (لِنُسْلِمَ) كأنه قيل وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا انتهى وظاهر هذا التقدير أن نسلم في موضع المفعول الثاني لقوله : (وَأُمِرْنا) وعطف عليه (وَأَنْ أَقِيمُوا) فتكون اللام على هذا زائدة ، وكان قد قدّم قبل هذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه لأن ما يكون علة يستحيل أن يكون مفعولا ويدل على أنه أراد بقوله (لِنُسْلِمَ) أنه في موضع المفعول الثاني قوله بعد ذلك ، ويجوز أن يكون التقدير وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإسلام ولإقامة الصلاة انتهى ، وهذا قول الزجاج فلو لم يكن هذا القول مغايرا لقوله الأول لاتحد قولاه وذلك خلف ، وقال الزجاج : ويحتمل أن يكون (وَأَنْ أَقِيمُوا) معطوفا على (ائْتِنا). وقيل : معطوف على قوله : (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) والتقدير قل أن أقيموا وهذان القولان ضعيفان جدّا ، ولا يقتضيهما نظم الكلام ، قال ابن عطية : يتجه أن يكون بتأويل وإقامة فهو عطف على المفعول المقدّر في أمرنا ؛ انتهى. وكان قد قدّر : وأمرنا بالإخلاص أو بالإيمان لأن نسلم وهذا قول لا بأس به وهو أقرب من القولين قبله إذ لا بد من تقدير المفعول الثاني لأمرنا ويجوز حذف المعطوف عليه لفهم المعنى تقول : أضربت زيدا فتجيب نعم وعمرا التقدير ضربته وعمرا وقد أجاز الفراء جاءني الذي وزيد قائمان التقدير جاءني الذي هو وزيد قائمان فحذف هو لدلالة المعنى عليه والضمير المنصوب في واتقوا عائد على رب العالمين.

(وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) جملة خبرية تتضمن التنبيه والتخويف لمن ترك امتثال ما أمر به من الإسلام والصلاة واتقاء الله ، وإنما تظهر ثمرات فعل هذه الأعمال وحسرات تركها يوم الحشر والقيامة.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) لما ذكر تعالى أنه إلى جزائه يحشر

٥٥٥

العالم وهو منتهى ما يؤول إليه أمرهم ذكر مبتدأ وجود العالم واختراعه له بالحق أي بما هو حق لا عبث فيه ولا هو باطل أي لم يخلقهما باطلا ولا عبثا بل صدرا عن حكمة وصواب وليستدل بهما على وجود الصانع إذ هذه المخلوقات العظيمة الظاهر عليها سمات الحدوث لا بد لها من محدث واحد عالم قادر مريد سبحانه جلّ وعلا. وقيل : معنى (بِالْحَقِ) بكلامه في قوله للمخلوقات (كُنْ) وفي قوله : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) (١) والمراد في هذا ونحوه إنما هو إظهار انفعال ما يريد تعالى أن يفعله وإبرازه للوجود بسرعة وتنزيله منزلة ما يؤمر فيمتثل.

(وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) جوزوا في (يَوْمَ) أن يكون معمولا لمفعول فعل محذوف وقدروه واذكر الإعادة يوم يقول : كن أي يوم يقول للأجساد كن معادة ويتم الكلام عند قوله : (كُنْ) ، ثم أخبر بأنه يكون قوله الحق الذي كان في الدنيا إخبارا بالإعادة فيكون قوله فاعلا بفيكون أو يتم الكلام عند قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) ويكون (قَوْلُهُ الْحَقُ) مبتدأ وخبرا. وقال الزجاج (يَوْمَ يَقُولُ) معطوف على الضمير من قوله (وَاتَّقُوهُ) أي واتقوا عقابه والشدائد ويوم فيكون انتصابه على أنه مفعول به لا ظرف. وقيل : (وَيَوْمَ) معطوف على (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) والعامل فيه خلق ، وقيل : العامل اذكر أو معطوفا على قوله (بِالْحَقِ) إذ هو في موضع نصب ويكون (يَقُولُ) بمعنى الماضي كأنه قال وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم قال لها كن ويتم الكلام عند قوله (فَيَكُونُ) ، ويكون (قَوْلُهُ الْحَقُ) مبتدأ وخبرا أو يتم عند (كُنْ) ويبتدئ (فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) أي يظهر ما يظهر وفاعل يكون (قَوْلُهُ) و (الْحَقُ) صفة و (فَيَكُونُ) تامة وهذه الأعاريب كلها بعيدة ينبو عنها التركيب وأقرب ما قيل ما قاله الزمخشري وهو أن (قَوْلُهُ الْحَقُ) مبتدأ و (الْحَقُ) صفة له و (يَوْمَ يَقُولُ) خبر المبتدأ فيتعلق بمستقر كما تقول يوم الجمعة القتال واليوم بمعنى الحين والمعنى أنه خلق السموات والأرض قائما بالحق والحكمة وحين يقول للشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة أي لا يكون شيء من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب ، وجوز الزمخشري وجها آخر وهو أن يكون (قَوْلُهُ الْحَقُ) فاعلا بقوله (فَيَكُونُ) فانتصاب (يَوْمَ) بمحذوف دل عليه قوله (بِالْحَقِ) كأنه قيل : كن يوم بالحق وهذا إعراب متكلف.

(وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) قيل (يَوْمَ) بدل من قوله (وَيَوْمَ يَقُولُ) ، وقيل :

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ١١.

٥٥٦

منصوب بالملك وتخصيصه بذلك اليوم كتخصيصه بقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) (١) وبقوله : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٢) وفائدته الإخبار بانفراده بالملك حين لا يمكن أن يدعي فيه ملك ، وقيل هو في موضع نصب على الحال وذو الحال الملك والعامل له ، وقيل هو في موضع الخبر لقوله : (قَوْلُهُ الْحَقُ) أي يوم ينفخ في الصور ، وقيل ظرف لقوله (تُحْشَرُونَ) أو ليقول أو لعالم الغيب والشهادة. وقرأ الحسن (فِي الصُّورِ) وحكاها عمرو بن عبيد عن عياض ويؤيد تأويل من تأوله أن الصور جمع صورة كثومة وثوم والظاهر أن ثم نفخا حقيقة ، وقيل : هو عبارة عن قيام الساعة ونفاد الدنيا واستعارة. وروي عن عبد الوارث عن أبي عمرو ننفخ بنون العظمة.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي هو عالم أو مبتدأ على تقدير من النافخ أو فاعل بيقول أو بينفخ محذوفة يدل عليه ينفخ نحو رجال بعد قوله : يسبح بفتح الباء وشركاؤهم بعد زين مبنيا للمفعول ورفع قتل ونحو ضارع لخصومة بعد ليبك يزيد التقدير يسبح له رجال وزينه شركاؤهم ويبكيه ضارع أو نعت للذي أقوال أجودها الأول و (الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعمان جميع الموجودات ، وقرأ الأعمش (عالِمُ) بالخفض ووجه على أنه بدل من الضمير في له أو من رب العالمين أو نعت للضمير في (لَهُ) ، والأجود الأول لبعد المبدل منه في الثاني وكون الضمير الغائب يوصف وليس مذهب الجمهور إنما أجازه الكسائي وحده.

(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) لما ذكر خلق الخلق وسرعة إيجاده لما يشاء وتضمن البعث إفناءهم قبل ذلك ناسب ذكر الوصف بالحكيم ولما ذكر أنه عالم الغيب والشهادة ناسب ذكر الوصف بالخبير إذ هي صفة تدل على علم ما لطف إدراكه من الأشياء.

وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا

٥٥٧

أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ١٦.

(٢) سورة الانفطار : ٨٢ / ١٩.

٥٥٨

الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)

(آزَرَ) اسم أعجمي علم ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية. الصنم الوثن يقال إنه معرب شمر والصنم : خبث الرائحة والصنم : العبد القوي وصنم صور وصوّر بنو فلان نوقهم اعزروها. جن عليه الليل وأجن أظلم هذا تفسير المعنى وهو بمعنى ستر متعديا ، قال الشاعر :

وماء وردت قبيل الكرى

وقد جنه السدف الأدهم

والاختيار جن الليل وأجنه ومصدر جن جنون وجنان وجن الكوكب والكوكبة النجم وهو مشترك بين معان كثيرة ويقال كوكب توقد ، وقال الصاغاني : حق لفظ كوكب أن يذكر في تركيب وك ب عند حذاق النحويين فإنها صدرت بكاف زائدة عندهم إلا أن الجوهري أوردها في تركيب ك وك ب ولعله تبع فيه الليث فإنه ذكره في الرباعي ذاهبا إلى أن الواو أصلية انتهى. وليت شعري من حذاق النحويين الذين تكون الكاف عندهم من حروف الزيادة فضلا عن زيادتها في أول كلمة ، فأما قولهم هندي وهندكي في معنى واحد وهو المنسوب إلى الهند قال الشاعر :

ومقرونة دهم وكمت كأنها

طماطم يوفون الوفاز هنادك

فخرجه أصحابنا على أن الكاف ليست زائدة لأنه لم تثبت زيادتها في موضع من المواضع فيحمل هذا عليه وإنما هو من باب سبط وسبطر ، والذي أخرجه عليه أن من تكلم بهذا من العرب إن كان تكلم به فإنما سرى إليه من لغة الحبش لقرب العرب من الحبش

٥٥٩

ودخول كثير من لغة بعضهم في لغة بعض ، والحبشة إذا نسبت ألحقت آخر ما تنسب إليه كافا مكسورة مشوبة بعدها ياء يقولون في النسب إلى قندي قندكي وإلى شواء : شوكي وإلى الفرس : الفرسكي وربما أبدلت تاء مكسورة قالوا في النسب إلى جبري : جبرتي ، وقد تكلمت على كيفية نسبة الحبش في كتابنا المترجم عن هذه اللغة المسمى بجلاء الغبش عن لسان الحبش ، وكثيرا ما تتوافق اللغتان لغة العرب ولغة الحبش في ألفاظ وفي قواعد من التراكيب نحوية كحروف المضارعة وتاء التأنيث وهمزة التعدية. أفل يأفل أفولا غاب. وقيل : ذهب وهذا اختلاف في عبارة. وقال ذو الرمة :

مصابيح ليست باللواتي يقودها

نجوم ولا بالآفلات الدوالك

القمر معروف يسمى بذلك لبياضه والأقمر الأبيض وليلة قمراء مضيئة قاله ابن قتيبة.

البزوغ أول الطلوع بزغ يبزغ. اقتدى به اتبعه وجعله قدوة له أي متبعا. الغمرة الشدة المذهلة وأصلها في غمرة الماء وهي ما يغطي الشيء. قال الشاعر :

ولا ينجي من الغمرات إلا

براكاء القتال أو الفرار

ويجمع على فعل كنوبة ونوب قال الشاعر :

وحان لتالك الغمر انحسار فرادى : الألف فيه للتأنيث ومعناها فردا فردا ، ويقال فيه فراد منونا على وزن فعال وهي لغة تميم وفراد غير مصروف كآحاد وثلاث وحكاه أبو معاذ ، قال أبو البقاء : من صرفه جعله جمعا مثل تؤام ورخال وهو جمع قليل ، قيل : وفرادى جمع فرد بفتح الراء. وقيل : بسكونها ، قال الشاعر :

يرى النعراق الزرق تحت لبانه

فرادى ومثنى أصعقتها صواهله

وقيل : جمع فريد كرديف وردافى ويقال رجل أفرد وامرأة فردى إذا لم يكن لها أخ وفرد الرجل يفرد فرودا إذا انفرد فهو فارد. خوله : أعطاه وملكه وأصله تمليك الخول كما تقول مولته ملكته المال. البين : الفراق. قيل : وينطلق على الوصل فيكون مشتركا. قال الشاعر :

فو الله لولا البين لم يكن الهوى

ولولا الهوى ما حن للبين آلفه

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

٥٦٠