البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

بنيت للفاعل ، ولأنه يتقيد إحلاله تعالى بهيمة الأنعام إذا أريد بها ثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم ، وهو تعالى قد أحلها في هذه الحال وفي غيرها.

وأما ما نقله القرطبي عن البصريين ، فإن كان النقل صحيحا فهو يتخرج على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى ، فنقول : إنما عرض الإشكال في الآية من جعلهم غير محلى الصيد حالا من المأمورين بإيفاء العقود ، أو من المحلل لهم ، أو من المحلل وهو الله تعالى ، أو من المتلو عليهم. وغرّهم في ذلك كونه كتب محلي بالياء ، وقدّروه هم أنه اسم فاعل من أحل ، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدّي إلى المفعول ، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة. وأصله : غير محلين الصيد وأنتم حرم ، إلا في قول من جعله حالا من الفاعل المحذوف ، فلا يقدر فيه حذف النون ، بل حذف التنوين. وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله : محلي الصيد ، من باب قولهم : حسان النساء. والمعنى : النساء الحسان ، وكذلك هذا أصله غير الصيد المحل. والمحل صفة للصيد لا للناس ، ولا للفاعل المحذوف. ووصف الصيد بأنه محل على وجهين : أحدهما : أن يكون معناه دخل في الحل كما تقول : أحل الرّجل أي : دخل في الحل ، وأحرم دخل في الحرم. والوجه الثاني : أن يكون معناه صار ذا حل ، أي حلالا بتحليل الله. وذلك أن الصيد على قسمين : حلال ، وحرام. ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال. ألا ترى إلى قول بعضهم : إنه ليصيد الأرانب حتى الثعالب لكنه يختص به شرعا؟ وقد تجوزت العرب فأطلقت الصيد على ما لا يوصف بحل ولا حرمة نحو قوله :

ليث بعثر يصطاد الرجال إذا

ما كذب الليث عن أقرانه صدقا

وقال آخر :

وقد ذهبت سلمى بعقلك كله

فهل غير صيد أحرزته حبائله

وقال آخر :

وميّ تصيد قلوب الرّجال

وأفلت منها ابن عمر وحجر

ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب. فمن مجيء أفعل لبلوغ المكان ودخوله قولهم : أحرم الرّجل ، وأعرق ، وأشأم ، وأيمن ، وأتهم ، وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها. ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم : أعشبت الأرض ،

١٦١

وأبقلت ، وأغد البعير ، وألبنت الشاة ، وغيرها ، وأجرت الكلبة ، وأصرم النخل ، وأتلت الناقة ، وأحصد الزرع ، وأجرب الرّجل ، وأنجبت المرأة. وإذا تقرر أنّ الصيد يوصف بكونه محلا باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ ، أو صار ذا حل ، اتضح كونه استثناء من استثناء ، إذ لا يمكن ذلك لتناقض الحكم. لأنّ المستثنى من المحلل محرم ، والمستثنى من المحرم محلل. بل إن كان المعنى بقوله : بهيمة الأنعام ، الأنعام أنفسها ، فيكون استثناء منقطعا. وإن كان المراد الظباء وبقر الوحش وحمره ونحوها ، فيكون استثناء متصلا على أحد تفسيري المحل ، استثنى الصيد الذي بلغ الحل في حال كونهم محرمين. (فإن قلت) : ما فائدة الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضا؟ (قلت) : الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم ، وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل ، فنبه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم ، وإن كان حلالا لغيره ، فأحرى أن يحرم عليه الصيد الذي هو بالحرم. وعلى هذا التفسير يكون قوله : إلا ما يتلى عليكم ، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله : حرمت عليكم الميتة الآية ، استثناء منقطعا ، إذ لا يختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقره ونحوها ، فيصير لكن ما يتلى عليكم أي : تحريمه فهو محرم. وإن كان المراد ببهيمة الأنعام الأنعام والوحوش ، فيكون الاستثناءان راجعين إلى المجموع على التفصيل ، فيرجع إلا ما يتلى عليكم إلى ثمانية الأزواج ، ويرجع غير محلي الصيد إلى الوحوش ، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول. وإذا لم يمكن ذلك ، وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز. وقد نص النحويون على أنه إذا لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك : قام القوم إلا زيدا ، إلا عمرا ، إلا بكرا (فإن قلت) : ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد ، لا من صفة الناس ، ولا من صفة الفاعل المحذوف ، يعكر عليه كونه كتب في رقم المصحف بالياء ، فدل ذلك على أنه من صفات الناس ، إذ لو كان من صفة الصيد لم يكتب بالياء ، وبكون الفراء وأصحابه وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك. (قلت) : لا يعكر على هذا التخريج لأنّهم كتبوا كثيرا رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو : بأييد بياءين بعد الألف ، وكتبهم أولئك بواو بعد الألف ، وبنقصهم منه ألفا. وكتابتهم الصلحت ونحوه بإسقاط الألفين ، وهذا كثير في الرسم. وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز ، لأنه لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه ، وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو ينقطع النفس ، فوقفوا على

١٦٢

الرسم كما وقفوا على (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (١) من غير واو اتباعا للرسم. على أنه يمكن توجيه كتابته بالياء والوقف عليه بياء بأنه جاء على لغة الأزد ، إذ يقفون على بزيد بزيدي بإبدال التنوين ياء ، فكتب محلي بالياء على الوقف على هذه اللغة ، وهذا توجيه شذوذ رسمي ، ورسم المصحف مما لا يقاس عليه.

وقرأ ابن أبي عبلة : غير بالرفع ، وأحسن ما يخرج عليه أن يكون صفة لقوله : بهيمة الأنعام ، ولا يلزم من الوصف بغير أن يكون ما بعدها مماثلا للموصوف في الجنسية ، ولا يضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء ، وخرج أيضا على الصفة للضمير في يتلى. قال ابن عطية : لأن غير محلي الصيد هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيدا انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التكلف على تخريجنا محلي الصيد وأنتم حرم جملة حالية. وحرم جمع حرام.

ويقال : أحرم الرجل إذا دخل في الإحرام بحج أو بعمرة ، أو بهما ، فهو محرم وحرام ، وأحرم الرجل دخل في الحرم. وقال الشاعر :

فقلت لها فيئ إليك فإنني

حرام وإني بعد ذاك لبيب

أي : ملب. ويحتمل الوجهين قوله : وأنتم حرم ، إذ الصيد يحرم على من كان في الحرم ، وعلى من كان أحرم بالحج والعمرة ، وهو قول الفقهاء. وقال الزمخشري : وأنتم حرم ، حال عن محل الصيد كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يتحرج عليكم انتهى. وقد بينا فساد هذا القول ، بأنّ الأنعام مباحة مطلقا لا بالتقييد بهذه الحال.

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) قال ابن عباس : يحل ويحرم. وقيل : يحكم فيما خلق بما يريد على الإطلاق وهذه الجملة جاءت مقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب من الأمر بإيفاء العقود وتحليل بهيمة الأنعام ، والاستثناء منها ما يتلى تحريمه مطلقا في الحل والحرم إلا في اضطرار ، واستثناء الصيد في حالة الإحرام ، وتضمن ذلك حله لغير المحرم ، فهذه خمسة أحكام ختمها بقوله : إن الله يحكم ما يريد. فموجب الحكم والتكليف هو إرادته لا اعتراض عليه ، ولا معقب لحكمه ، لا ما يقوله المعتزلة من مراعاة المصالح. ولذلك قال الزمخشري : إنّ الله يحكم ما يريد من الأحكام ، ويعلم أنه

__________________

(١) سورة العلق : ٩٦ / ١٨.

١٦٣

حكمة ومصلحة. وقال ابن عطية : وقد نبه على ما تضمنته هذه الآية من الأحكام ما نصه هذه الآية مما يلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام ، ولمن عنده أدنى بصيرة. ثم ذكر ابن عطية الحكاية التي قدمناها عن الكندي وأصحابه ، وفي مثل هذا أقول من قصيدة مدحت بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معارضا لقصيدة كعب منه في وصف كتاب الله تعالى :

جار على منهج الأعراب أعجزهم

باق مدى الدهر لا يأتيه تبديل

بلاغة عندها كعّ البليغ فلم

ينبس وفي هديه طاحت أضاليل

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) خرج سريح أحد بني ضبيعة إلى مكة حاجا وساق الهدي.

وفي رواية ومعه تجارة ، وكان قبل قد قدم المدينة وتكلم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتروّى في إسلامه ، وقال الرسول عليه‌السلام : «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر» فمر بسرح بالمدينة فاستاقه ، فلما قدم مكة عام الحديبية أراد أهل السرح أن يغيروا عليه ، واستأذنوا الرسول ، فنزلت. وقال السدي : اسمه الحطيم بن هند البلدي أحد بني ضبيعة ، وأراد الرسول أن يبعث إليه ناسا من أصحابه فنزلت. وقال ابن زيد : نزلت بمكة عام الفتح وحج المشركون واعتمروا فقال المسلمون : يا رسول الله إن هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ، فنزل القرآن.

(وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) (١) والشعائر جمع شعيرة أو شعارة ، أي : قد أشعر الله أنها حده وطاعته ، فهي بمعنى معالم الله ، وتقدم تفسيرها في (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) (٢). قال الحسن : دين الله كله يعني شرائعه التي حدها لعباده ، فهو عام في جميع تكاليفه تعالى. وقال ابن عباس : ما حرم عليكم في حال الإحرام. وقال أيضا هو ومجاهد : مناسك الحج. وقال زيد بن أسلم : شعائر الحج وهي ست : الصفا والمروة ، والبدن ، والجمار ، والمشعر الحرام ، وعرفة ، والركن. وقال أيضا : المحرمات خمس : الكعبة الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام ، والمسجد الحرام ، حتى يحل. وقال ابن الكلبي : كان عامّة العرب لا يعدون الصفا والمروة من الشعائر ، وكانت قريش لا تقف بعرفات ، فنهوا عن ذلك. وقيل : الأعلام المنصوبة المتفرقة بين الحل والحرم نهوا أن يتجاوزوها إلى

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٥٨.

١٦٤

مكة بغير إحرام. وقال أبو عبيدة : هي الهدايا تطعن في سنامها وتقلد. قال : ويدل عليه (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) (١) وضعف قوله ، بأنه قد عطف عليه. والهدي والقلائد. وقيل : هي ما حرم الله مطلقا سواء كان في الإحرام أو غيره. وقال الزمخشري : هي ما أشعر أي جعل إشعارا وعلما للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والطواف والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر انتهى.

(وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) الظاهر أنه مفرد معهود. فقال الزمخشري : هو شهر الحج. وقال عكرمة وقتادة : هو ذو القعدة من حيث كان أول الأشهر الحرم. وقال الطبري وغيره : رجب. ويضاف إلى مضر لأنها كانت تحرم فيه القتال وتعظمه ، وتزيل فيه السلاح والأسنة من الرماح. وكانت العرب مجمعة على تعظيم ذي القعدة وذي الحجة ، ومختلفة في رجب ، فشدد تعالى أمره. فهذا وجه التخصيص بذكره. وقيل : الشهر مفرد محلى بأل الجنسية ، فالمراد به عموم الأشهر الحرم وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب. والمعنى : لا تحلوا بقتال ولا غارة ولا نهب. قال مقاتل : وكان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كل يوم فيقول : ألا إني قد حللت كذا وحرمت كذا.

(وَلَا الْهَدْيَ) قال ابن عطية : لا خلاف أن الهدي ما هدي من النعم إلى بيت الله ، وقصد به القربة ، فأمر تعالى أن لا يستحل ، ولا يغار عليه انتهى. والخلاف عن المفسرين فيه موجود. قيل : هو اسم لما يهدى إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة أو صدقة ، وغيرها من الذبائح والصدقات. وقيل : هو ما قصد به وجه الله ومنه في الحديث : ثم «كالمهدي دجاجة ، ثم كالمهدي بيضة» فسمى هذه هديا. وقيل : الشعائر البدن من الأنعام ، والهدي البقر والغنم والثياب وكل ما أهدي. وقيل : الشعائر ما كان مشعرا بإسالة الدم من سنامه أو بغيره من العلائم ، والهدي ما لم يشعر اكتفى فيه بالتقليد. وقال من فسر الشعائر بالمناسك ، ذكر الهدي تنبيها على تفصيلها.

(وَلَا الْقَلائِدَ) قال مجاهد ، وعطاء ، ومطرف بن الشخير : القلائد هي ما كانوا يتقلّدون به من شجر الحرم ليأمنوا به ، فنهي المؤمنون عن فعل الجاهلية ، وعن أخذ القلائد من شجر الحرم. وفي الحديث : «لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها».

وقال الجمهور :

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٣٦.

١٦٥

القلائد ما كانوا يتقلدونه من السمر إذا خرجوا إلى الحج ، فيكون ذلك علامة حجة. وقيل : أو ما يقلده الحرمي إذا خرج لحاجة ، ليدل ذلك على أنه حرمي ، فنهى تعالى عن استحلال من يحرم بشيء من هذه. وحكى الطبري عن ابن عباس : أنّ القلائد هي الهدي المقلد ، وأنه إنما سمي هديا ما لم يقلد ، فكأنه قال : ولا الهدي الذي لم يقلد ولا المقلد منه. قال ابن عطية : وهذا تحامل على ألفاظ ابن عباس ، وليس من كلامه أن الهدي ، إنما يقال : لما لم يقلد. وإنما يقتضي أنه تعالى نهى عن الهدي جملة ، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في المقلد. وقيل : أراد القلائد نفسها فنهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي ، أي : لا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها كما قال تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) (١) نهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها. وقال الطبري : تأويله أنه نهى عن استحلال حرمة المقلد هديا كان أو إنسانا ، واجتزأ بذكر القلائد عن ذكر المقلد إذ كان مفهوما عند المخاطب.

(وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) وقرأ عبد الله وأصحابه : ولا آمي بحذف النون للإضافة إلى البيت ، أي : ولا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام ، وهم الحجاج والعمار. قال الزمخشري : وإحلال هذه أي : يتهاون بحرمة الشعائر ، وأن يحال بينها وبين المتنسكين وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدون به الناس عن الحج ، وأن يتعرّض للهدي بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله.

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) قرأ الجمهور يبتغون بالياء ، فيكون صفة لآمين. وفسر الزمخشري الفضل بالثواب ، وهو قول بعضهم. وقيل : الفضل التجارة والأرباح فيها. وقيل : الزيادة في الأموال والأولاد يبتغون رجاء الزيادة في هذا. وأما الرضوان فإنهم كانوا يقصدونه وإن كانوا لا ينالونه ، وابتغاء الشيء لا يدل على حصوله. وقيل : هو توزيع على المشركين ، فمنهم من كان يبتغي التجارة إذ لا يعتقد معادا ، ومنهم من يبتغي الرضوان بالحج إذ كان منهم من يعتقد الجزاء بعد الموت وأنه يبعث ، وإن كان لا يحصل له رضوان الله ، فأخبر بذلك على بناء ظنه. وقيل : كان المسلمون والمشركون يحجون ، فابتغاء الفضل منهما ، وابتغاء الرضوان من المؤمنين. وقال قتادة : هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ، ولا يعجّل لهم العقوبة فيها. وقال قوم : الفضل والرضوان في الآية في

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٣١.

١٦٦

معنى واحد وهو رضا الله تعالى وفضله بالرحمة. نهى تعالى أن يتعرض لقوم هذه صفتهم تعظيما لهم واستنكارا أن يتعرض لمثلهم. وفي النهي عن التعرض لهم استئلاف للعرب ولطف بهم وتنشيط لورود الموسم ، وفي الموسم يسمعون القرآن ، وتقوم عليهم الحجة ، ويرجى دخولهم في الإيمان كالذي كان.

ونزلت هذه الآية عام الفتح ، فكل ما كان فيها في حق مسلم حاج فهو محكم ، أو في حق كافر فهو منسوخ ، نسخ ذلك بعد عام سنة تسع ، إذ حج أبو بكر ونودي في الناس بسورة براءة. وقول الحسن وأبي ميسرة : ليس فيها منسوخ ، قول مرجوح. وقرأ حميد بن قيس والأعرج : تبتغون بالتاء خطابا للمؤمنين ، والمعنى على الخطاب أنّ المؤمنين كانوا يقصدون قتالهم والغارة عليهم ، وصدهم عن المسجد الحرام امتثالا لأمر الله وابتغاء مرضاته ، إذ أمر تعالى بقتال المشركين ، وقتلهم وسبي ذراريهم ، وأخذ أموالهم ، حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقرأ الأعمش : ورضوانا بضم الراء ، وتقدم في آل عمران أنها قراءة أبي بكر عن عاصم ، حيث وقع إلا في ثاني هذه السورة ، فعنه فيه خلاف.

(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) تضمن آخر قوله : أحلت لكم تحريم الصيد حالة الإحرام ، وآخر قوله : لا تحلوا شعائر الله ، النهي عن إحلال آمي البيت ، فجاءت هذه الجملة راجعا حكمها إلى الجملة الأولى ، وجاء ما بعدها من قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) (١) راجعا إلى الجملة الثانية ، وهذا من بليغ الفصاحة. فليست هذه الجملة اعتراضا بين قوله : ولا آمين البيت الحرام ، وقوله : ولا يجرمنكم ، بل هي مؤسسة حكما لا مؤكدة مسددة فيكون أصل التركيب : غير محلي الصيد وأنتم حرم ، فإذا حللتم فاصطادوا. وفي الآية الثانية يكون أصل التركيب : ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ولا يجر منكم ، كما ذهب إليه بعضهم وجعل من ذلك قصة ذبح البقرة ، فقال : وجه النظر أن يقال : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) (٢) الآية ثم يقال : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) (٣) وكثيرا ما ذكر هذا الرجل التقديم والتأخير في القرآن ، والعجب منه أنه يجعله من علم البيان والبديع ، وهذا لا يجوز عندنا إلا في ضرورة الشعر ، وهو من أقبح الضرائر ، فينبغي بل يجب أن ينزه القرآن عنه.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٧٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٥٤.

١٦٧

قال : والسبب في هذا أن الصحابة لما جمعوا القرآن لم يرتبوه على حكم نزوله ، وإنما رتبوه على تقارب المعاني وتناسق الألفاظ ، وهذا الذي قاله ليس بصحيح ، بل الذي نعتقد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي رتبه لا الصحابة ، وكذلك نقول في سوره وإن خالف في ذلك بعضهم. والأمر بالاصطياد هنا أمر إباحة بالإجماع ، ولهذا قال الزمخشري : وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا انتهى. ولما كان الاصطياد مباحا ، وإنما منع منه الإحرام ، وإذا زال المانع عاد إلى أصله من الإباحة. وتكلموا هنا على صيغة الأمر إذا جاءت بعد الحظر ، وعليها إذا جاءت مجردة عن القرائن ، وعلى ما تحمل عليه ، وعلى مواقع استعمالها ، وذلك من علم أصول الفقه فيبحث عن ذلك فيه.

وقرئ : فإذا حللتم وهي لغة يقال : حل من إحرامه وأحل. وقرأ أبو واقد ، والجراح ، ونبيح ، والحسن بن عمران : فاصطادوا بكسر الفاء. قال الزمخشري : قيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء. وقال ابن عطية : وهي قراءة مشكلة ، ومن توجيهها أن يكون راعي كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت : اصطادوا بكسر الفاء مراعاة وتذكرة لأصل ألف الوصل انتهى. وليس عندي كسرا محضا بل هو من باب الإمالة المحضة لتوهم وجود كسرة همزة الوصل ، كما أمالوا الفاء في ، فإذا لوجود كسرة إذا.

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) قال ابن عباس وقتادة : ولا يجرمنكم أي لا يحملنكم ، يقال : جرمني كذا على بغضك. فيكون أن تعتدوا أصله على أن تعتدوا ، وحذف منه الجار. وقال قوم : معناها كسب التي تتعدى إلى اثنين ، فيكون أن تعتدوا في موضع المفعول الثاني أي : اعتداؤكم عليكم. وتتعدى أيضا إلى واحد تقول : أجرم بمعنى كسب المتعدّية لاثنين ، يقال في معناها : جرم وأجرم. وقال أبو علي : أجرم أعرفه الكسب في الخطايا والذنوب. وقرأ الحسن ، وابراهيم. وابن وثاب ، والوليد عن يعقوب : يجرمنكم بسكون النون ، جعلوا نون التوكيد خفيفة.

قال الزمخشري : والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم ، لأنّ صدوكم الاعتداء ، ولا يحملنكم عليه انتهى. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ، لأنه يمتنع أن يكون مدلول حمل وكسب في استعمال واحد لاختلاف مقتضاهما ، فيمتنع أن يكون : أن تعتدوا في محل مفعول به ، ومحل مفعول على إسقاط حرف الجر.

وقرأ النحويان وابن كثير ، وحمزة ، وحفص ، ونافع : شنآن بفتح النون. وقرأ ابن عامر

١٦٨

وأبو بكر بسكونها ، ورويت عن نافع. والأظهر في الفتح أن يكون مصدرا ، وقد كثر مجيء المصدر على فعلان ، وجوزوا أن يكون وصفا وفعلان في الأوصاف موجود نحو قولهم : حمار قطوان أي : عسير السير ، وتيس عدوان كثير العدو ، وليس في الكثرة كالمصدر. قالوا : فعلى هذا يكون المعنى لا يجرمنكم بغض قوم. ويعنون ببغيض مبغض اسم فاعل ، لأنه من شنيء بمعنى البغض. وهو متعد وليس مضافا للمفعول ولا لفاعل بخلافه إذا كان مصدرا ، فإنه يحتمل أن يكون مضافا للمفعول وهو الأظهر. ويحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل أي : بغض قوم إياكم ، والأظهر في السكون أن يكون وصفا ، فقد حكى رجل شنآن وامرأة شنآنة ، وقياس هذا أنه من فعل متعد. وحكى أيضا شنآن وشنآى مثل عطشان وعطشى ، وقياسه أنه من فعل لازم. وقد يشتق من لفظ واحد المتعدي واللازم نحو : فغر فاه ، وغرّفوه بمعنى فتح وانفتح. وجوز أن يكون مصدرا وقد حكى في مصادر شنيء ، ومجيء المصدر على فعلان بفتح الفاء وسكون العين قليل ، قالوا : لويته دينه ليانا. وقال الأحوص :

وما الحب إلا ما تحب وتشتهي

وإن لام فيه ذو الشنان وفندا

أصله الشنآن ، فحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها. والوصف في فعلان أكثر من المصدر نحو رحمان. وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير : إن صدوكم بكسر الهمزة على أنها شرطية ، ويؤيد قراءة ابن مسعود : إن صدوكم وأنكر ابن جرير والنحاس وغيرهما قراءة كسران ، وقالوا : إنما صد المشركون الرسول والمؤمنون عام الحديبية ، والآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، والحديبية سنة ست ، فالصد قبل نزول الآية ، والكسر يقتضي أن يكون بعد ، ولأنّ مكة كانت عام الفتح في أيدي المسلمين ، فكيف يصدون عنها وهي في أيديهم؟ وهذا الإنكار منهم لهذه القراءة صعب جدا ، فإنها قراءة متواترة ، إذ هي في السبعة ، والمعنى معها صحيح ، والتقدير : إن وقع صدّ في المستقبل مثل ذلك الصد الذي كان زمن الحديبية ، وهذا النهي تشريع في المستقبل. وليس نزول هذه الآية عام الفتح مجمعا عليه ، بل ذكر اليزيدي أنها نزلت قبل أن يصدّوهم ، فعلى هذا القول يكون الشرط واضحا. وقرأ باقي السبعة : أن بفتح الهمزة جعلوه تعليلا للشنآن ، وهي قراءة واضحة أي : شنآن قوم من أجل أن صدوكم عام الحديبية عن المسجد الحرام. والاعتداء الانتقام منهم بإلحاق المكروه بهم.

١٦٩

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) لما نهى عن الاعتداء بأمر بالمساعدة والتظافر على الخير ، إذ لا يلزم من النهي عن الاعتداء التعاون على الخير ، لأنّ بينهما واسطة وهو الخلو عن الاعتداء والتعاون. وشرح الزمخشري البر والتقوى بالعفو والإغضاء ، قال : ويجوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى ، فيتناول العفو انتهى. وقال قوم : هما بمعنى واحد ، وكرر لاختلاف اللفظ تأكيدا. قال ابن عطية : وهذا تسامح ، والعرف في دلالة هذين اللفظين يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب. فإن جعل أحدهما بدل الآخر فتجوّز انتهى. وقال ابن عباس : البر ما ائتمرت به ، والتقوى ما نهيت عنه. وقال سهل : البر الإيمان ، والتقوى السنة. يعني : اتباع السنة.

(وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) الإثم : المعاصي ، والعدوان : التعدي في حدود الله قاله عطاء. وقيل : الإثم الكفر ، والعصيان والعدوان البدعة. وقيل : الإثم الحكم اللاحق للجرائم ، والعدوان ظلم الناس قاله : ابن عطية. وقال الزمخشري : الإثم والعدوان الانتقام والتشفي قال : ويجوز أن يراد العموم لكل إثم وعدوان.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أمر بالتقوى مطلقة ، وإن كان قد أمر بها في التعاون تأكيدا لأمرها ، ثم علل ذلك بأنه شديد العقاب. فيجب أن يتقى وشدّة عقابه بكونه لا يطيقه أحد ولاستمراره ، فإن غالب الدنيا منقض. قال مجاهد : نزلت نهيا عن الطلب بدخول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك ، ولقد قيل : ذلك حليف لأبي سفيان من هذيل.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) تقدم مثل هذه الجملة في البقرة. وقال هنا ابن عطية : ولحم الخنزير مقتض لشحمه بإجماع انتهى. وليس كذلك ، فقد خالف فيه داود وغيره ، وتكلمنا على ذلك في البقرة ، وتأخر هنا به وتقدم هناك تفننا في الكلام واتساعا ، ولكون الجلالة وقعت هناك فصلا أولا كالفصل ، وهنا جاءت معطوفات بعدها ، فليست فصلا ولا كالفصل ، وما جاء كذلك يقتضي في أكثر المواضع المد.

(وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ) تقدم شرح هذه الألفاظ في المفردات. قال ابن عباس وقتادة : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها ، فإذا ماتت أكلوها. وقال أبو عبد الله : ليس الموقوذة إلا في ملك ، وليس في صيد وقيذ. وقال مالك

١٧٠

وغيره من الفقهاء في : الصيد ما حكمه حكم الوقيذ ، وهو نص في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المعراض : «وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ». وقال ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك : النطيحة الشاة تنطحها أخرى فيموتان ، أو الشاة تنطحها البقر والغنم. وقال قوم : النطيحة المناطحة ، لأن الشاتين قد يتناطحان فيموتان. قال ابن عطية : كل ما مات ضغطا فهو نطيح. وقرأ عبد الله وأبو ميسرة : والمنطوحة والمعنى في قوله وما أكل السبع : ما افترسه فأكل منه. ولا يحمل على ظاهره ، لأن ما فرض أنه أكله السبع لا وجود له فيحرم أكله ، ولذلك قال الزمخشري : وما أكل السبع بعضه ، وهذه كلها كان أهل الجاهلية يأكلونها. وقرأ الحسن والفياض ، وطلحة بن سلمان ، وأبو حيوة : السبع بسكون الباء ، ورويت عن أبي بكر عن عاصم في غير المشهور ، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ عبد الله : وأكيلة السبع. وقرأ ابن عباس : وأكيل السبع وهما بمعنى مأكول السبع ، وذكر هذه المحرمات هو تفصيل لما أجمل في عموم قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) (١) وبهذا صار المستثنى منه والمستثنى معلومين.

(إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) قال علي ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابراهيم ، وطاووس ، وعبيد بن عمير ، والضحاك ، وابن زيد ، والجمهور : هو راجع إلى المذكورات أي من قوله : والمنخنقة إلى وما أكل السبع. فما أدرك منها بطرف بعض ، أو بضرب برجل ، أو يحرك ذنبا. وبالجملة ما تيقنت فيه حياة ذكي وأكل. وقال بهذا مالك في قول ، والمشهور عنه وعن أصحابه المدنيين : أنّ الذكاة في هذه المذكورات هي ما لم ينفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ، ومتى صارت إلى ذلك كانت في حكم الميتة. وعلى هذين القولين فالاستثناء متصل ، لكنه خلاف في الحال التي يؤثر فيها الذكاة في المذكورات. وكان الزمخشري مال إلى مشهور قول مالك فإنه قال : إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح وتشخب وداجه. وقيل : الاستثناء متصل عائد إلى أقرب مذكور وهو ما أكل السبع ومختص به ، والمعنى : إلا ما أدركتم فيه حياة مما أكل السبع فذكيتموه ، فإنه حلال. وقيل : هو استثناء منقطع والتقدير : لكن ما ذكيتم من غير هذه فكلوه. وكان هذا القائل رأى أنّ هذه الأوصاف وجدت فيما مات بشيء منها ، إما بالخنق ، وإما بالوقذ ، أو التردي ، أو النطح ، أو افتراس السبع ، ووصلت إلى حد لا تعيش فيه بسب بوصف من هذه الأوصاف على مذهب

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١.

١٧١

من اعتبر ذلك ، فلذلك كان الاستثناء منقطعا. والظاهر أنه استثناء متصل ، وإنما نص على هذه الخمسة وإن كان في حكم الميتة ، ولم يكتف بذكر الميتة لأن العرب كانت تعتقد أنّ هذه الحوادث على المأكول كالذكاة ، وأن الميتة ما ماتت بوجع دون سبب يعرف من هذه الأسباب. وظاهر قوله : إلا ما ذكيتم ، يقتضي أنّ ما لا يدرك لا يجوز أكله كالجنين إذا خرج من بطن أمه المذبوحة ميتا ، إذا كان استثناء منقطعا فيندرج في عموم الميتة ، وهذا مذهب أبي حنيفة. وذهب الجمهور إلى جواز أكله. والحديث الذي استنبطوا منه الجواز حجة لأبي حنيفة لا لهم. وهو «ذكاة الجنين ذكاة أمه» المعنى على التشبيه أي ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه فكما أن ذكاتها الذبح فكذلك ذكاته الذبح ولو كان كما زعموا لكان التركيب ذكاة أم الجنين ذكاته.

(وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) قال مجاهد وقتادة وغيرهما : هي حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها. قال ابن عباس : ويحلون عليها. قال ابن جريج : وليست بأصنام ، الصنم مصور ، وكانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة ، فلما جاء الإسلام قال المسلمون : نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ، فكره ذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. وما ذبح على النصب ونزل لن ينال الله لحومها ولا دماؤها انتهى. وكانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ، ويحلون عليها أنصاب مكة ، ومنها الحجر المسمى بسعد. قال ابن زيد : ما ذبح على النصب ، وما أهل به لغير الله شيء واحد. وقال ابن عطية : ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله ، لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له. وقد يقال للصنم أيضا : نصب ، لأنه ينصب انتهى. وقرأ الجمهور : النصب بضمتين. وقرأ طلحة بن مصرف : بضم النون ، وإسكان الصاد. وقرأ عيسى بن عمر : بفتحتين ، وروي عنه كالجمهور. وقرأ الحسن : بفتح النون ، وإسكان الصاد.

(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) هذا معطوف على ما قبله أي : وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وهو طلب معرفة القسم ، وهو النصيب أو القسم ، وهو المصدر. قال ابن جريج : معناه أن تطلبوا على ما قسم لكم بالأزلام ، أو ما لم يقسم لكم انتهى. وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي كانوا يتقامرون بها. وروي عنه أيضا : أنها سهام العرب ، وكعاب فارس ، وقال سفيان ووكيع : هي الشطرنج. وقيل : الأزلام حصى كانوا يضربون بها ، وهي التي أشار إليها الشاعر بقوله :

١٧٢

لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى

ولا زاجرات الطير ما الله صانع

وروي هذا عن ابن جبير قالوا : وأزلام العرب ثلاثة أنواع : أحدها : الثلاثة التي يتخذها كل إنسان لنفسه في أحدها افعل وفي الآخر لا تفعل والثالث غفل فيجعلها في خريطة ، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده في الخريطة منسابة ، وائتمر بما خرج له من الآمر أو الناهي. وإن خرج الغفل أعاد الضرب. والثاني : سبعة قداح كانت عندها في جوف الكعبة ، في أحدها العقل في أمر الديات من يحمله منهم فيضرب بالسبعة ، فمن خرج عليه قدح العقل لزمه العقل ، وفي آخر تصح ، وفي آخر لا ، فإذا أرادوا أمرا ضرب فيتبع ما يخرج ، وفي آخر منكم ، وفي آخر من غيركم ، وفي آخر ملصق ، فإذا اختلفوا في إنسان أهو منهم أم من غيرهم ضربوا فاتبعوا ما خرج ، وفي سائرها لأحكام المياه إذا أرادوا أن يحفروا لطلب المياه ضربوا بالقداح ، وفيها ذلك القداح ، فحيث ما خرج عملوا به. وهذه السبعة أيضا متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على ما كانت في الكعبة عند هبل. والثالث : قداح الميسر وهي عشرة ، وتقدم شرح الميسر في سورة البقرة.

(ذلِكُمْ فِسْقٌ) الظاهر أنّ الإشارة إلى الاستقسام خاصة ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال الزمخشري : إشارة إلى الاستقسام ، وإلى تناول ما حرم عليهم ، لأن المعنى : حرم عليهم تناول الميتة وكذا وكذا. (فإن قلت) : لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام ليعرف الحال فسقا؟ (قلت) : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب ، وقال : (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (١) واعتقاد أن إليه طريقا وإلى استنباطه. وقوله : أمرني ربي ونهاني ربي افتراء على الله تعالى ، وما يبديه أنه أمره أو نهاه الكهنة والمنجمون بهذه المثابة ، وإن كان أراد بالرب الصنم. فقد روي أنهم كانوا يحلون بها عند أصنامهم ، وأمره ظاهر انتهى. قال الزمخشري في اسم الإشارة رواه عن ابن عباس عليّ بن أبي طلحة ، وهو قول ابن جبير. قال الطبري : ونهى الله عن هذه الأمور التي يتعاطاها الكهان والمنجمون ، لما يتعلق بها من الكلام في المغيبات. وقال غيره : العلة في تحريم الاستقسام بالأزلام كونها يؤكل بها المال بالباطل ، وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما أو ينكحوا أو يدفنوا ميتا أو شكوا في نسب ، ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور ، فالمائة للضارب بالقداح ، والجزور ينحر ويؤكل ، ويسمون صاحبهم ويقولون لهبل : يا إلهنا هذا

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٦٥.

١٧٣

فلان أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق فيه ، ويضرب صاحب القداح فما خرج عمل به ، فإن خرج لا أخروه عامهم حتى يأتوا به مرة أخرى ، ينتهون في كل أمورهم إلى ما خرجت به القداح.

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) الألف واللام فيه للعهد وهو يوم عرفة قاله : مجاهد ، وابن زيد. وهو يوم نزولها بعد العصر في حجة الوداع يوم الجمعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموقف على ناقته ، وليس في الموقف مشرك. وقيل : اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع. وقيل : سنة ثمان ، ونادى مناديه بالأمان لمن لفظ بشهادة الإسلام ، ولمن وضع السلاح ، ولمن أغلق بابه. وقال الزجاج : لم يرد يوما بعينه ، وإنما المعنى : الآن يئسوا ، كما تقول : أنا اليوم قد كبرت انتهى. واتبع الزمخشري الزجاج فقال : اليوم لم يرد به يوما بعينه ، وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية ، كقولك : كنت بالأمس شائبا وأنت اليوم أشيب ، فلا يريد بالأمس الذي قبل يومك ، ولا باليوم يومك. ونحوه الآن في قوله :

الآن لما ابيض مسربتي

وعضضت من نابي على جدم

انتهى.

والذين كفروا : مشركوا العرب. قال ابن عباس ، والسدي ، وعطاء : أيسوا من أن ترجعوا إلى دينهم. وقال ابن عطية : ظهور أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وظهور دينه ، يقتضي أن يئس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان ، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه ، لأنّ هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار. ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون فظنها هزيمة. ألا بطل السحر اليوم. وقال الزمخشري : يئسوا منه أن يبطلوه وأن يرجعوا محللين لهذه الخبائث بعد ما حرمت عليكم. وقيل : يئسوا من دينكم أن يغلبوه لأنّ الله وفي بوعده من إظهاره على الدين كله انتهى. وقرأ أبو جعفر : ييس من غير همز ، ورويت عن أبي عمرو.

(فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) قال ابن جبير : فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم. وقال ابن السائب : فلا تخشوهم أن يظهروا على دينكم. وقيل : فلا تخشوا عاقبتهم. والظاهر أنه نهى عن خشيتهم إياهم ، وأنهم لا يخشون إلا الله تعالى.

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يحتمل اليوم المعاني التي قيلت في قوله : اليوم يئس.

١٧٤

قال الجمهور : وإكماله هو إظهاره ، واستيعاب عظم فرائضه ، وتحليله وتحريمه. قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير كآيات الربا ، وآية الكلالة ، وغير ذلك ، وإنما كمل معظم الدين ، وأمر الحج ، إن حجوا وليس معهم مشرك. وخطب الزمخشري في هذا المعنى فقال : كفيتكم أمر عدوكم ، وجعلت اليد العليا لكم ، كما تقول الملوك : اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد إذا كفوا من ينازعهم الملك ، ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم. أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه من تعليم الحلال والحرام ، والتوقيف على الشرائع ، وقوانين القياس ، وأصول الاجتهاد انتهى. وهذا القول الثاني هو : قول ابن عباس والسدي قالا : إكمال فرائضه وحدوده ، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم ، فعلى هذا يكون المعنى : أكملت لكم شرائع دينكم. وقال قتادة وابن جبير : كما له أن ينفي المشركين عن البيت ، فلم يحج مشرك. وقال الشعبي : كمال الدين هو عزه وظهوره ، وذل الشرك ودروسه ، لا تكامل الفرائض والسنن ، لأنها لم تزل تنزل إلى أن قبض. وقيل : إكماله إلا من من نسخه بعده كما نسخ به ما تقدّم. وقال القفال : الدين ما كان ناقصا البتة ، بل كانت الشرائع تنزل في كل وقت كافية في ذلك الوقت ، إلا أنه تعالى كان عالما في أول المبعث بأنّ ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ، وكان ينسخ بعد الثبوت ويزيد بعد العدم ، وأما في آخر زمان المبعث فأنزل شريعة كاملة ، وأحكم ثباتها إلى يوم القيامة. وروي أن هذه الآية لما نزلت يوم الحج الأكبر ، وقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكى عمر بن الخطاب فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يبكيك؟» فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدقت».

(وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أي في ظهور الإسلام ، وكمال الدين ، وسعة الأحوال ، وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية ، إلى دخول الجنة ، والخلود ، وحسّن العبارة الزمخشري فقال : بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين ، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ، وإن لم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان انتهى. فكلامه مجموع أقوال المتقدّمين. قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة : إتمام النعمة منع المشركين من الحج. وقال السدي : هو الإظهار على العدو. وقال ابن زيد : بالهداية إلى الإسلام. وقال الزمخشري : وأتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشرائع كأنه قال : وأتممت عليكم نعمتي بذلك ، لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام.

(وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) يعني : اخترته لكم من بين الأديان ، وأذنتكم بأنه هو

١٧٥

الدين المرضي وحده «ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه» (١) «إن هذه أمتكم أمة واحدة» (٢) قاله الزمخشري. وقال ابن عطية الرضا في : هذا الموضع يحتمل أن يكون بمعنى الإرادة ، ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه ، لأنّ الرضا من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال ، والله تعالى قد رضي الإسلام وأراده لنا ، وثم أشياء يريد الله وقوعها ولا يرضاها. والإسلام هنا هو الدين في قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٣) انتهى وكلامه يدل على أنّ الرضا إذا كان من صفات الذات فهو صفة تغاير الإرادة. وقيل : المعنى أعلمتكم برضائي به لكم دينا ، فإنه تعالى لم يزل راضيا بالإسلام لنا دينا ، فلا يكون الاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إن حمل على ظاهره. وقيل : رضيت عنكم إذا تعبدتم لي بالدين الذي شرعته لكم. وقيل : رضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينا كاملا إلى آخر الأبد لا ينسخ منه شيء.

(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا متصل بذكر المحرمات وذلكم فسق أكده به وبما بعده يعني التحريم ، لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعم التامة ، والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملك. وتقدّم تفسير مثل هذه الجملة. وقراءة ابن محيصن : فمن اطرّ بإدغام الضاد في الطاء. ومعنى متجانف : منحرف ومائل. وقرأ الجمهور : متجانف بالألف. وقرأ أبو عبد الرحمن ، والنخعي وابن وثاب : متجنف دون ألف. قال ابن عطية وهو أبلغ في المعنى من متجانف ، وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتقرب منه. ألا ترى أنك إذا قلت : تمايل الغصن ، فإنّ ذلك يقتضي تأوّدا ومقاربة ميل ، وإذا قلت : تميل ، فقد ثبت الميل. وكذلك تصاون الرجل وتصوّن وتغافل وتغفل انتهى. والإثم هنا قيل : أن يأكل فوق الشبع. وقيل : العصيان بالسفر. وقيل : الإثم هنا الحرام ، ومن ذلك قول عمر : ما تجأنفنا فيه لإثم ، ولا تعهدنا ونحن نعلمه. أي : ما ملنا فيه لحرام.

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٨٥.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٢.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٩.

١٧٦

وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)

الجوارح : الكواسب من سباع البهائم والطير ، كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين. وسميت بذلك لأنها تجرح ما تصيد غالبا ، أو لأنها تكتسب ، يقال امرأة : لا جارح لها ، أي لا كاسب. ومنه : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) (١) أي ما كسبتم. ويقال : جرح واجترح بمعنى اكتسب.

المكلب بالتشديد : معلم الكلاب ومضرّيها على الصيد ، وبالتخفيف صاحب كلاب. وقال الزجاج : رجل مكلب ومكلب وكلاب صاحب كلاب.

الغسل في اللغة : إيصال الماء إلى المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد ونحوها قاله بعضهم ، وقال آخرون : هو إمرار الماء على الموضع ، ومن ذلك قول بعض العرب :

فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها

المرفق : المفصل بين المعصم والعضد ، وفتح الميم وكسر الراء أشهر. الرجل : معروفة ، وجمعت على أفعل في القلة والكثرة. والكعب : هو العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل. الحرج : الضيق ، والحرج الناقة الضامر ، والحرج النعش.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٦٠.

١٧٧

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) سبب نزولها فيما قال : عكرمة ومحمد بن كعب ، سؤال عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة. ماذا يحل لنا من هذه الكلاب؟ وكان إذ ذاك أمر الرسول بقتلها فقتلت حتى بلغت العواصم لقول جبريل عليه‌السلام : «إنا لا ندخل بيتا فيه كلب» وفي صحيح أبي عبد الله الحاكم بسنده إلى أبي رافع.

قال : «أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل الكلاب» ، فقال الناس : يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم الآيات. وقال ابن جبير : نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل قالا : يا رسول الله ، إنا نصيد بالكلاب والبزاة ، وإن كلاب آل درع وآل أبي حورية لتأخذ البقر والحمر والظباء والضب ، فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه ما يقتل فلا ندرك ذكاته ، وقد حرم الله الميتة ، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت. وعلى اعتبار السبب يكون الجواب أكثر مما وقع السؤال عنه ، لأنهم سألوا عن شيء خاص من المطعم ، فأجيبوا بما سألوا عنه ، وبشيء عام في المطعم.

ويحتمل أن يكون ماذا كلها استفهاما ، والجملة خبر. ويحتمل أن يكون ما استفهاما ، وذا خبرا. أي : ما الذي أحل لهم؟ والجملة إذ ذاك صلة. والظاهر أنّ المعنى : ماذا أحل لهم من المطاعم ، لأنه لما ذكر ما حرم من الميتة وما عطف عليه من الخبائث ، سألوا عما يحل لهم؟ ولما كان يسألونك الفاعل فيه ضمير غائب قال لهم بضمير الغائب. ويجوز في الكلام ماذا أحل لنا ، كما تقول : أقسم زيد ليضربن ولأضربن ، وضمير التكلم يقتضي حكاية ما قالوا كما لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها. وقال الزمخشري : في السؤال معنى القول ، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم ، كأنه قيل : يقولون : ماذا أحل لهم انتهى. ولا يحتاج إلى ما ذكر ، لأنه من باب التعليق كقوله : سلهم أيهم بذلك زعيم ، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ليسألونك. ونصّوا على أنّ فعل السؤال يعلق ، وإن لم يكن من أفعال القلوب ، لأنه سبب للعلم ، فكما تعلق العلم فكذلك سببه. وقال أبو عبد الله الرازي : لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا : ماذا أحل لهم ومعلوم أن ذلك باطل ، لأنهم لا يقولون ذلك ، وإنما يقولون : ماذا أحل لنا. بل الصحيح : أنّ هذا ليس حكاية كلامهم بعبارتهم ، بل هو بيان كيفية الواقعة انتهى.

(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) لما كانت العرب تحرم أشياء من الطيبات كالبحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، بغير إذن من الله تعالى ، قرر هنا أنّ الذي أحل هي الطيبات.

١٧٨

ويقوي قول الشافعي : أن المعنى المستلذات ، ويضعف أن المعنى : قل أحل لكم المحللات ، ويدل عليه قوله : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (١) كالخنافس والوزع وغيرهما. والطيب في لسان العرب يستعمل للحلال وللمستلذ ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة. والمعتبر في الاستلذاذ والاستطابة أهل المروءة والأخلاق الجميلة ، كان بعض الناس يستطيب أكل جميع الحيوانات. وهذه الجملة جاءت فعلية ، فهي جواب لما سألوا عنه في المعنى لا على اللفظ ، لأن الجملة السابقة وهي : ماذا أحل لهم اسمية ، وهذه فعلية.

(وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) ظاهر علمتم يخالف ظاهر استئناف مكلبين ، فغلّب الضحاك والسدي وابن جبير وعطاء ظاهر لفظ مكلبين فقالوا : الجوارح هي الكلاب خاصة. وكان ابن عمر يقول : إنما يصطاد بالكلاب. وقال هو وأبو جعفر : ما صيد بغيرها من باز وصقر ونحوهما فلا يحل ، إلا أن تدرك ذكاته فتذكيه. وجوز قوم البزاة ، فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم. وغلب الجمهور ظاهر : وما علمتم ، وقالوا : معنى مكلبين مؤدبين ومضرين ومعودين ، وعمموا الجوارح في كواسر البهائم والطير مما يقبل التعليم. وأقصى غاية التعليم أن يشلي فيستشلي ، ويدعى فيجيب ، ويزجر بعد الظفر فينزجر ، ويمتنع من أن يأكل من الصيد. وفائدة هذه الحال وإن كانت مؤكدة لقوله : علمتم ، فكان يستغنى عنها أن يكون المعلم مؤتمرا بالتعليم حاذقا فيه موصوفا به ، واشتقت هذه الحال من الكلب وإن كانت جاءت غاية في الجوارح على سبيل التغليب ، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب ، فاشتقت من لفظه لكثرة ذلك في جنسه.

قال أبو سليمان الدمشقي : وإنما قيل مكلبين ، لأن الغالب من صيدهم أن يكون بالكلاب انتهى. واشتقت من الكلب وهي الضراوة يقال : هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به. قال الزمخشري : أو لأن السبع يسمى كلبا ، ومنه قوله عليه‌السلام : «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» فأكله الأسد ، ولا يصح هذا الاشتقاق ، لأنّ كون الأسد كلبا هو وصف فيه ، والتكليب من صفة المعلم ، والجوارح هي سباع بنفسها لا بجعل المعلم. وظاهر قوله : وما علمتم ، أنه خطاب للمؤمنين. فلو كان المعلم يهوديا أو نصرانيا فكره الصيد به الحسن ، أو مجوسيا فكره الصيد به : جابر بن عبد الله ، والحسن ، وعطاء ، ومجاهد ، والنخعي ،

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٧.

١٧٩

والثوري ، وإسحاق. وأجاز أكل صيد كلابهم : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي إذا كان الصائد مسلما. قالوا : وذلك مثل شفرته. والجمهور : على جواز ما صاد الكتابي. وقال مالك : لا يجوز فرق بين صيده وذبيحته. وما صاد المجوسي فالجمهور على منع أكله : عطاء ، وابن جبير ، والنخعي ، ومالك ، وأبو حنيفة ، والليث ، والشافعي. وقال أبو ثور : فيه قول أنهم أهل كتاب ، وأن صيدهم جائز ، وما علمتم موضع ما رفع على أنه معطوف على الطيبات ، ويكون حذف مضاف أي : وصيد ما علمتم ، وقدره بعضهم : واتخاذ ما علمتم. أو رفع على الابتداء ، وما شرطية ، والجواب : فكلوا. وهذا أجود ، لأنه لا إضمار فيه.

وقرأ ابن عباس وقرأ ابن عباس وابن الحنفية : وما علمتم مبنيا للمفعول أي : من أمر الجوارح والصيد بها. وقرأ : مكلبين من أكلب ، وفعل وأفعل ، قد يشتركان. والظاهر دخول الكلب الأسود البهيم في عموم الجوارح ، وأنه يجوز أكل صيده ، وبه قال الجمهور.

ومذهب أحمد وجماعة من أهل الظاهر : أنه لا يجوز أكل صيده ، لأنه مأمور بقتله ، وما أوجب الشرع قتله فلا يجوز أكل صيده. وقال أحمد : لا أعلم أحدا رخص فيه إذا كان بهيما وبه قال : ابن راهويه. وكره الصيد به : الحسن ، وقتادة ، والنخعي. وقد تقدم ذكر أقصى غاية التعليم في الكلب ، أنه إذا أمر ائتمر ، وإذا زجر انزجر. وزاد قوم شرطا آخر وهو أن لا يأكل مما صاد ، فأما سباع الطير فلا يشترط فيها الأكل عند الجمهور. وقال ربيعة : ما أجاب منها فهو المعلم. وقال ابن حبيب : لا يشترط فيها إلا شرط واحد : وهو أنه إذا أمرها أطاعت ، فإن انزجارها إذا زجرت لا يتأتى فيها. وظاهر قوله : وما علمتم ، حصول التعليم من غير اعتبار عدد. وكان أبو حنيفة لا يجد في ذلك عددا. وقال أصحابنا : إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات فقد حصل له التعليم. وقال غيرهم : إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد صار معلما.

(تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) أي : إنّ تعليمكم إياهنّ ليس من قبل أنفسكم ، إنما هو من العلم الذي علمكم الله ، وهو أن جعل لكم روية وفكرا بحيث قبلتم العلم. فكذلك الجوارح بصبر لها إدراك ما وشعور ، بحيث يقبلن الائتمار والانزجار. وفي قوله : مما علمكم الله ، إشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه ، إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان. ومفعول علم وتعلمونهنّ الثاني محذوف تقديره : وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهنّ تعلمونهنّ ذلك ، وفي ذلك دلالة على أن صيد ما لم يعلم حرام أكله ، لأنّ الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم. والدليل على ذلك الخطاب في عليكم في قوله : فكلوا مما

١٨٠