البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ناسب هنا ذكر الفسق ، لأنه خرج عن أمر الله تعالى إذ تقدم قوله : وليحكم ، وهو أمر. كما قال تعالى : (اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١) أي : خرج عن طاعة أمره تعالى. فقد اتضح مناسبة ختم الجملة الأولى بالكافرين ، والثانية بالظالمين ، والثالثة بالفاسقين. وقال ابن عطية : وتكرير هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التوكيد ، وأصوب ما يقال فيها : أنها تعم كل مؤمن وكافر ، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه ، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها. وقال القفال : هي لموصوف واحد كما تقول : من أطاع الله فهو البر ، ومن أطاع فهو المؤمن ، ومن أطاع فهو المتقي. وقيل : الأول في الجاحد ، والثاني والثالث في المقر التارك. وقال الأصم : الأول والثاني في اليهود ، والثالث في النصارى. وعلى قول ابن عطية يعم كل كافر ومؤمن ، يكون إطلاق الكافرين والظالمين والفاسقين عليهم للاشتراك في قدر مشترك.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) لما ذكر تعالى أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور ، ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراك كلهم في أنها نزلت على موسى ، فترك ذكره للمعرفة بذلك ، ثم ذكر عيسى وأنه آتاه الإنجيل ، فذكره ليقروا أنه من جملة الأنبياء ، إذ اليهود تنكر نبوّته ، وإذا أنكرته أنكرت كتابه ، فنص تعالى عليه وعلى كتابه. ثم ذكر إنزال القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر الكتاب ، ومن أنزله مقرّرا لنبوّته وكتابه ، لأن الطائفتين ينكرون نبوته وكتابه. وجاء هنا ذكر المنزل إليه بكاف الخطاب ، لأنه أنص على المقصود. وكثيرا ما جاء ذلك بلفظ الخطاب لأنه لا يلبس البتة وبالحق : ملتبسا بالحق ومصاحبا له لا يفارقه ، لما كان متضمنا حقائق الأمور ، فكأنه نزل بها. ويحتمل أن يتعلق بأنزلنا أي : أنزلناه بأن حق ذلك ، لا أنه وجب على الله ، لكنه حق في نفسه. والألف واللام في الكتاب للعهد وهو القرآن بلا خلاف. وانتصب مصدقا على الحال لما بين يديه ، أي : لما تقدمه من الكتاب. الألف واللام فيه للجنس ، لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة ، ويحتمل أن تكون للعهد ، لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق ، وإنما أريد نوع معلوم منه ، وهو ما أنزل من السماء سوى القرآن. والفرق بينهما أنه في الأوّل يحتاج إلى تقدير الصفة ، وأنها حذفت ، والتقدير : من الكتاب الإلهي.

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٥٠.

٢٨١

وفي الثاني لا يحتاج إلى هذا التقدير ، لأن العهد في الاسم يتضمن الاسم به جميع الصفات التي للاسم ، فلا يحتاج إلى تقدير حذف.

ومهيمنا عليه أي أمينا عليه ، قاله ابن عباس في رواية التيمي ، وابن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، والضحاك ، والحسن. وقال ابن جريج : القرآن أمين على ما قبله من الكتب ، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم فإن كان في القرآن فصدّقوا ، وإلا فكذبوا. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : شاهدا. وبه قال الحسن أيضا وقتادة ، والسدّي ، ومقاتل ، وقال ابن زيد : مصدّقا على ما أخبر من الكتب ، وهذا قريب من القول الأول. وقال الخليل : المهيمن هو الرقيب الحافظ. ومنه قوله :

إن الكتاب مهيمن لنبينا

والحق يعرفه ذوو الألباب

وحكاه الزجاج ، وبه فسر الزمخشري قال : ومهيمنا رقيبا على سائر الكتب ، لأنه يشهد لها بالصحة والبيان انتهى. وقال الشاعر :

مليك على عرش السماء مهيمن

لعزته تعنو الوجوه وتسجد

فسر بالحافظ ، وهذا في صفات الله. وأما في القرآن فمعناه أنه حافظ للدّين والأحكام. وقال الضحاك أيضا : معناه قاضيا. وقال عكرمة أيضا : معناه دالا. وقال ابن عطية : وقد ذكر أقوالا أنه شاهد ، وأنه مؤتمن ، وأنه مصدّق ، وأنه أمين ، وأنه رقيب ، قال : ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنى بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحامله ، فلا يدخل فيه ما ليس منه ، والقرآن جعله الله مهيمنا على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرّفون إليها ، فيصحح الحقائق ويبطل التحريف. وقرأ مجاهد وابن محيصن : ومهيمنا بفتح الميم الثانية ، جعله اسم مفعول أي مؤمن عليه ، أي : حفظ من التبديل والتغيير. والفاعل المحذوف هو الله أو الحافظ في كل بلد ، لو حذف منه حرف أو حركة أو سكون لتنبه له وأنكر ذلك. وردّ ففي قراءة اسم الفاعل الضمير في عليه عائد على الكتاب الثاني. وفي قراءة اسم المفعول عائد على الكتاب الأول ، وفي كلا الحالين هو حال من الكتاب الأول لأنه معطوف على مصدّقا والمعطوف على الحال حال. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح وقال : معناه محمد مؤتمن على القرآن. قال الطبري : فعلى هذا يكون مهيمنا حالا من الكاف في إليك. وطعن في هذا القول لوجود الواو في ومهيمنا ، لأنها عطف على مصدّقا ، ومصدّقا حال من الكتاب لا

٢٨٢

حال من الكاف ، إذ لو كان حالا منها لكان التركيب لما بين يديك بكاف الخطاب ، وتأويله على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيد عن نظم القرآن ، وتقديره : وجعلناك يا محمد مهيمنا عليه أبعد. وأنكر ثعلب قول المبرد وابن قتيبة أنّ أصله مؤتمن.

(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) ظاهره أنه أمر أن يحكم بما أنزل الله ، وتقدم قول من قال : إنها ناسخة لقوله : (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) (١) وقال الجمهور : إن اخترت أن تحكم بينهم بما أنزل الله ، وهذا على قول من جعل الضمير في بينهم عائدا على اليهود ، ويكون على قول الجمهور أمر ندب ، وإن كان الضمير للمتحاكمين عموما ، فالخطاب للوجوب ولا نسخ.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي لا توافقهم في أغراضهم الفاسدة من التفريق في القصاص بين الشريف والوضيع ، وغير ذلك من أهوائهم التي هي راجعة لغير الدين والشرع.

(عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) الذي هو القرآن. وضمن تتبع معنى تنحرف ، أو تنصرف ، فلذلك عدي بعن أي : لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعا أهواءهم ، أو بسبب أهوائهم. وقال أبو البقاء : عما جاءك في موضع الحال أي : عادلا عما جاءك ، ولم يضمن تتبع معنى ما تعدى بعن ، وهذا ليس بجيد. لأنّ عن حرف ناقص لا يصلح أن يكون حالا من الجثة ، كما لا يصلح أن يكون خبرا ، وإذا كان ناقصا فإنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق ، والكون المقيد لا يجوز حذفه.

(لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الظاهر أنّ المضاف إليه كل المحذوف هو : أمة أي : لكل أمّة. والخطاب في منكم للناس أي : أيها الناس لليهود شرعة ومنهاج ، وللنصارى كذلك ، قاله : عليّ ، وقتادة والجمهور ، ويعنون في الأحكام. وأما المعتقد فواحد لجميع العالم توحيد ، وإيمان بالرسل ، وكتبها وما تضمنته من المعاد ، والجزاء الأخروي. وقد ذكر تعالى جماعة من الأنبياء شرائعهم مختلفة ثم قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٢) والمعنى في المعتقدات. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء ، لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم ، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال تنبيها لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : فاحفظ شرعك ومنهاجك لئلا تستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٤٢.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٩٠.

٢٨٣

انتهى. فيكون المحذوف المضاف إليه لكلّ نبي ، أي : لكل نبيّ منكم أيها الأنبياء. والشرعة والمنهاج لفظان لمعنى واحد أي : طريقا ، وكرر للتوكيد كما قال الشاعر :

وهند أتى من دونها النأي والبعد

وقال ابن عباس والحسن وغيرهما : سبيلا وسنة. وقال مجاهد : الشرعة والمنهاج دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون المعنى لكل منكم أيها الناس جعلنا هذا الدين الخالص فاتبعوه ، والمراد بذلك إنّا أمرناكم باتباع دين محمد إذ هو ناسخ للأديان كلها. وقال المبرد : الشرعة ابتداء الطريق ، والمنهاج الطريق المستمر. وقال ابن الأنباري : الشرعة الطريق الذي ربما كان واضحا وغير واضح ، والمنهاج لا يكون إلا واضحا. وقيل : الشرعة الدين ، والمنهاج الدليل. وقيل : الشرعة النبي ، والمنهاج الكتاب. قال ابن عطية : والمنهاج بناء مبالغة من النهج ، ويحتمل أن يراد بالشرعة الأحكام ، وبالمنهاج المعتقد أي هو واحد في جميعكم ، وفي هذا الاحتمال بعد انتهى. قيل : وفي هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا. وقرأ النخعي وابن وثاب : شرعة بفتح الشين ، والظاهر أنّ جعلنا بمعنى صيرنا ، ومفعولها الثاني هو لكل ، ومنكم متعلق بمحذوف تقديره : أعني منكم. قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون منكم صفة لكل ، لأنّ ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تشديد فيه للكلام ، ويوجب أيضا أن يفصل بين جعلتا وبين معمولها وهو شرعة انتهى. فيكون في التركيب كقولك : من كل ضربت تميمي رجلا ، وهو لا يجوز.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكموها أي جماعة متفقة على شريعة واحدة في الضلال. وقيل لجعلكم أمة واحدة على الحق.

(وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي : ولكن لم يشأ ذلك ليختبركم فيما آتاكم من الكتب. وقال الزمخشري : من الشرائع المختلفة ، هل تعلمون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات ، معترفين بأن الله تعالى لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة ، أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل انتهى؟ وقال ابن جريج وغيره : ولكنه لم يشأ ، لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع ، فليس لهم إلا أن يجدوا في امتثال الأوامر.

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي ابتدروا الأعمال الصالحة قاله : مقاتل. وهي التي عاقبتها أحسن الأشياء. وقال ابن عباس والضحاك : الخيرات الإيمان بالرسول.

٢٨٤

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) هو استئناف في معنى التعليل لأمره تعالى باستباق الخيرات ، كأنه يقول : يظهر ثمرة استباق الخيرات والمبادرة إليها في وقت الرجوع إلى الله تعالى ومجازاته.

(فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي فيخبركم بأعمالكم ، وهي كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب ، وهو إخبار إيقاع. قال ابن جرير : قد بين ذلك في الدنيا بالدلالة والحجج ، وغدا يبينه بالمجازاة انتهى. وبهذا التنبيه يظهر الفضل بين المحق والمبطل ، والمسبق والمقصر في العمل. ونبأ هنا جاءت على وضعها الأصلي من تعديتها إلى واحد بنفسها ، وإلى آخر بحرف الجر ، ولم يضمنها معنى أعلم فيعديها إلى ثلاثة.

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) قال ابن عباس : قال بعض اليهود لبعض منهم ابن صوريا وشاس بن قيس وكعب بن أسيد : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم ، وإن اتبعناك اتبعك كل اليهود ، وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ، فأبى ذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. وقال مقاتل : قال جماعة من بني النضير له : هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا بني قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل ، ونبايعك؟ فنزلت.

قال القاضي أبو يعلى : وليس هذه الآية تكرارا لما تقدم ، وإنما نزلت في شيئين مختلفين : أحدهما : شأن الرجم ، والآخر التسوية انتهى. وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله : (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) (١) وتقدم ذكر ذلك وأجازوا في : وأن احكم ، أن يكون في موضع نصب عطفا على الكتاب ، أي : والحكم. وفي موضع جر عطفا على بالحق ، وفي موضع رفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر مؤخرا ، والتقدير : وحكمك بما أنزل أنزل الله أمرنا وقولنا. أو مقدما والتقدير : ومن الواجب حكمك بما أنزل الله. وقيل : أن

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٤٢.

٢٨٥

تفسيرية ، وأبعد ذلك من أجل الواو ، ولا يصح ذلك بأن يقدر قبل فعل الأمر فعلا محذوفا فيه معنى القول أي : وأمرناك أن احكم ، لأنه يلزم من ذلك حذف الجملة المفسرة بأن وما بعدها ، وذلك لا يحفظ من كلام العرب. وقرئ بضم النون من : وأن احكم ، اتباعا لحركة الكاف ، وبكسرها على أصل التقاء الساكنين. والضمير في بينهم عائد على اليهود. وقيل : على جميع المتحاكمين.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) تقدم شرح هذه الجملة.

(وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) أي يستزلوك. وحذره عن ذلك ، وإن كان مأيوسا من فتنتهم إياه لقطع أطماعهم ، وقال : عن بعض ، لأن الذي سألوه هو أمر جزئي ، سألوه أن يقضي لهم فيه على خصومهم فأبى منه. وموضع أن يفتنوك نصب على البدل ، ويكون مفعولا من أجله.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي فإن تولوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره. ومعنى : أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، أن يعذبهم ببعض آثامهم. وأبهم بعضا هنا ويعني به ـ والله أعلم ـ التولي عن حكم الله وإرادة خلافه ، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك ، وأراد أنهم ذوو ذنوب جمة كثيرة لا العدد ، وهذا الذنب مع عظمه وهذا الإبهام فيه تعظيم التولي ، وفرط إسرافهم في ارتكابه ، ونظيره قول لبيد :

أو يرتبط بعض النفوس حمامها

أراد نفسه وقصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام ، كأنه قال : نفسا كبيرة أو نفسا أي نفس ، وهذا الوعد بالمصيبة قد أنجزه له تعالى بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر رضي‌الله‌عنه أهل خيبر وفدك وغيرهم. قال ابن عطية : وخصص إصابتهم ببعض الذنوب ، لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان : نوع يخصهم كشرب الخمر وزناهم ورشاهم ، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كممالأتهم للكفار ، وأقوالهم في الدين ، فهذا النوع هو الذي توعدهم الله به في الدنيا ، وإنما يعذبون بكل الذنوب في الآخرة. وقال ابن عطية أيضا : فإن تولوا قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر تقديره : لا تتبع واحذر ، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك ، وإن تولوا فاعلم. ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل لقوله : لفاسقون انتهى. ولا يحتاج إلى تقدير هذا.

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أي متمردون مبالغون في الخروج عن طاعة الله.

٢٨٦

وقال ابن عباس : المراد بالفسق هنا الكفر. وقال مقاتل : المعاصي. وقال ابن زيد : الكذب وظاهر الناس العموم ، وإن كان السياق في اليهود ، وجاء بلفظ العموم لينبه من سواهم. ويحتمل أن يكون الناس للعهد ، وهم اليهود الذين تقدم ذكرهم.

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) هذا استفهام معناه الإنكار على اليهود ، حيث هم أهل كتاب وتحليل وتحريم من الله تعالى ، ومع ذلك يعرضون عن حكم الله ويختارون عليه حكم الجاهلية ، وهو بمجرد الهوى من مراعاة الأشرف عندهم ، وترجيح الفاضل عندهم في الدنيا على المفضول ، وفي هذا أشد النعي عليهم حيث تركوا الحكم الإلهي بحكم الهوى والجهل. وقال الحسن : هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله. والحكم حكمان : حكم بعلم ، فهو حكم الله. وحكم بجهل فهو حكم الشيطان. وسئل عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فقرأ هذه الآية. وقرأ الجمهور : أفحكم بنصب الميم ، وهو مفعول يبغون. وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، وأبو رجاء ، والأعرج : أفحكم الجاهلية برفع الميم على الابتداء. والظاهر أن الخبر هو قوله : يبغون ، وحسن حذف الضمير قليلا في هذه القراءة كون الجملة فاصلة. وقال ابن مجاهد : هذا خطأ. قال ابن جني : وليس كذلك ، وجد غيره أقوى منه وقد جاء في الشعر انتهى.

وفي هذه المسألة خلاف بين النحويين. وبعضهم يجيز حذف هذا الضمير في الكلام ، وبعضهم يخصه بالشعر ، وبعضهم يفصل. وهذه المذاهب ودلائلها مذكورة في علم النحو. وقال الزمخشري : وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في «أهذا الذي بعث الله رسولا» وعن الصفة في : الناس رجلان ، رجل أهنت ورجل أكرمت. وعن الحال في : مررت بهند تضرب زيدا انتهى. فإن كان جعل الإسقاط فيه مثل الإسقاط في الجواز والحسن ، فليس كما ذكر عند البصريين ، بل حذفه من الصلة بشروط الحذف فصيح ، وحذفه من الصفة قليل ، وحذفه من الخبر مخصوص بالشعر ، أو في نادر. وإن كان شبهه به من حيث مطلق الإسقاط فهو صحيح. وقال ابن عطية : وإنما تتجه القراءة على أن يكون التقدير : أفحكم الجاهلية حكم تبغون ، فلا تجعل تبغون خبرا بل تجعل صفة خبر محذوف ، ونظيره : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ) (١) تقديره قوم يحرفون انتهى. وهو توجيه ممكن. وقرأ قتادة والأعمش : أفحكم بفتح الحاء والكاف والميم ، وهو جنس لا يراد به واحد كأنه

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٤١.

٢٨٧

قيل : أحكام الجاهلية وهي إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان وهي رشا الكهان ، ويحكمون لهم بحسبه وبحسب الشهوات ، أرادوا بسفههم أن يكون خاتم النبيين حكما كأولئك الحكام. وقرأ الجمهور : يبغون بالياء على نسق الغيبة المتقدّمة. وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب ، وفيه مواجهتهم بالإنكار والرّدع والزجر ، وليس ذلك في الغيبة ، فهذه حكمة الالتفات والخطاب ليهود قريظة والنضير.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي لا أحد أحسن من الله حكما. وتقدّم (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (١) فجاءت هذه الآية مشيرة لهذا المعنى والمعنى : أن حكم الله هو الغاية في الحسن وفي العدل. وهو استفهام معناه التقرير ، ويتضمن شيئا من التكبر عليهم. واللام في : لقوم يوقنون ، للبيان فتتعلق بمحذوف أي : في هيت لك وسقيا لك أي : هذا الخطاب. وهذا الاستفهام لقوم يوقنون قاله الزمخشري. وقال ابن عطية : وحسن دخول اللام في لقوم من حيث المعنى يبين ذلك ، ويظهر لقوم يوقنون. وقيل : اللام بمعنى عند أي عند قوم يوقنون ، وهذا ضعيف. وقيل : تتعلق بقوله : حكما ، أي أن أحكم الله للمؤمن على الكافر. ومتعلق يوقنون محذوف تقديره : يوقنون بالقرآن قاله ابن عباس. وقيل : يوقنون بالله تعالى قاله مقاتل. وقال الزجاج : يوقنون يثبتون عهد الله تعالى في حكمه ، وخصوا بالذكر لسرعة إذعانهم لحكم الله وأنهم هم الذين يعرفون أن لا أعدل منه ولا أحسن حكما.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٤٩.

٢٨٨

يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا

٢٨٩

التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)

الدائرة : واحدة الدوائر ، وهي صروف الدهر ، ودوله ، ونوازله. وقال الشاعر :

ويعلم أن الدائرات تدور

اللعب معروف وهو مصدر على غير قياس ، وفعله لعب يلعب. الإطفاء : الإخماد حتى لا يبقى أثر. الإفك : بفتح الهمزة مصدر أفكه يأفكه ، أي قلبه وصرفه. ومنه : (أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) (١) يؤفك عنه من أفك. قال عروة بن أذينة :

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٢٢.

٢٩٠

إن كنت عن أحسن المروءة مأ

فوكا ففي آخرين قد أفكوا

وقال أبو زيد : المأفوك المأفون ، وهو الضعيف العقل. وقال أبو عبيدة : رجل مأفوك لا يصيب خيرا ، وائتفكت البلدة بأهلها انقلبت ، والمؤتفكات مدائن قوم لوط عليه‌السلام قلبها الله تعالى. والمؤتفكات أيضا الرياح التي تختلف مهابّها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) قال الزهري وغيره : سبب نزولها ولها قصة عبد الله بن أبيّ واستمساكه بحلف يهود ، وتبرؤ عبادة بن الصامت من حلفهم عند انقضاء بدر وعبادة ، في قصة فيها طول هذا ملخصها. وقال عكرمة : سببها أمر أبي لبابة بن عبد المنذر وإشارته إلى قريظة أنه الذبح حين استفهموه عن رأيه في نزولهم عن حكم سعد بن معاذ. وقال السدّي : لما نزل بالمسلمين أمر أحد فزع منهم قوم ، وقال بعضهم لبعض : نأخذ من اليهود عهدا يعاضدونا إن ألمت بنا قاصمة من قريش أو سائر العرب. وقال آخرون : بل نلحق بالنصارى فنزلت. وقيل : هي عامّة في المنافقين أظهروا الإيمان وظاهروا اليهود والنصارى.

نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ينصرونهم ويستنصرون بهم ، ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين. وقراءة أبيّ وابن عباس : أربابا مكان أولياء ، بعضهم أولياء بعض جملة معطوفة من النهي مشعرة بعلة الولاية وهو اجتماعهم في الكفر والممالأة على المؤمنين ، والظاهر أن الضمير في بعضهم يعود على اليهود والنصارى. وقيل : المعنى على أن ثمّ محذوفا والتقدير : بعض اليهود أولياء بعض ، وبعض النصارى أولياء بعض ، لأن اليهود ليسوا أولياء النصارى ، ولا النصارى أولياء اليهود ، ويمكن أن يقال : جمعهم في الضمير على سبيل الإجمال ، ودل ما بينهم من المعاداة على التفصيل ، وأنّ بعض اليهود لا يتولى إلا جنسه ، وبعض النصارى كذلك. قال الحوفي : هي جملة من مبتدأ وخبر في موضع النعت لأولياء ، والظاهر أنها جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب.

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) قال ابن عباس : فإنه منهم في حكم الكفر ، أي ومن يتولهم في الدين. وقال غيره : ومن يتولهم في الدنيا فإنه منهم في الآخرة. وقيل : ومن يتولهم منكم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر. وهذا تشديد عظيم في الانتفاء من أهل الكفر ، وترك موالاتهم ، وإنحاء عبد الله بن أبي ومن اتصف بصفته. ولا يدخل في الموالاة لليهود والنصارى من غير مصافاة ، ومن تولاهم بأفعاله دون معتقده ولا إخلال بإيمان فهو

٢٩١

منهم في المقت والمذمّة ، ومن تولاهم في المعتقد فهو منهم في الكفر. وقد استدل بهذا ابن عباس وغيره على جواز أكل ذبائح نصارى العرب ، وقال : من دخل في دين قوم فهو منهم. وسئل ابن سيرين عن رجل يبيع داره لنصراني ليتخذها كنيسة : فتلا هذه الآية. وفي الحديث : «لا تراءى ناراهما» وقال عمر لأبي موسى في كاتبه النصراني : لا تكرموهم إذ أهانهم الله ، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم الله ، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله تعالى. وقال له أبو موسى لا قوام للصرة إلا به ، فقال عمر : مات النصراني والسّلام.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ظاهره العموم والمعنى على الخصوص ، أي : من سبق في علم الله أنه لا يهتدي. قال ابن عطية : أو يراد التخصيص مدة الظلم والتلبس بفعله ، فإن الظلم لا هدى فيه ، والظالم من حيث هو ظالم ليس بمهتد في ظلمه. وقال أبو العالية : الظالم من أبى أن يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وقال ابن إسحاق : أراد المنافقين. وقيل : الظالم هو الذي وضع الولاية في غير موضعها. وقال الزمخشري قريبا من هذا ، قال : يعني الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر يمنعهم الله ألطافه ، ويخذلهم مقتا لهم انتهى. وهو على طريقة الاعتزال.

(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذين في قلوبهم مرض عبد الله بن أبيّ ومن تبعه من المنافقين ، أو من مؤمني الخزرج متابعة جهالة وعصبية ، فهذا الصنف له حصة من مرض القلب قاله ابن عطية. ومعنى يسارعون فيهم : أي في موالاتهم ويرغبون فيها. وتقدّم الكلام في المرض في أول البقرة.

وقرأ ابراهيم بن وثاب : فيرى بالياء من تحت ، والفاعل ضمير يعود على الله ، أو الرأي. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الذين فاعل ترى ، والمعنى : أن يسارعوا ، فحذفت أن إيجازا انتهى. وهذا ضعيف لأنّ حذف أن من نحو هذا لا ينقاس. وقرأ قتادة والأعمش : يسرعون بغير ألف من أسرع ، وفترى أن كانت من رؤية العين كان يسارعون حالا ، أو من رؤية القلب ففي موضع المفعول الثاني ، يقولون : نخشى أن تصيبنا دائرة ، هذا محفوظ من قول عبد الله بن أبيّ ، وقاله معه منافقون كثيرون. قال ابن عباس : معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا. وقيل : الدائرة من جدب وقحط. ولا يميروننا ولا يقرضوننا. وقيل : دائرة تحوج إلى يهود وإلى معونتهم.

٢٩٢

(فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) هذا بشارة للرسول والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصرة. قال قتادة : عنى به القضاء في هذه النوازل والفتاح الفاضي. وقال السدّي : يعني به فتح مكة. قال ابن عطية : وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلو كلمته فيستغني عن اليهود. وقيل : فتح بلاد المشركين. وقيل : فتح قرى اليهود ، يريدون قريظة والنضير وفدك وما يجري مجراهما. وقيل : الفتح الفرج ، قاله ابن قتيبة. وقيل في قوله تعالى : (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) (١) هو إجلاء بني النضير وأخذ أموالهم ، لم يكن للناس فيه فعل بل طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب ، وقتل قريظة وسبي ذراريهم قاله : ابن السائب ومقاتل. وقيل : إذلالهم حتى يعطوا الجزية. وقيل : الخصب والرّخاء قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج : إظهار أمر المنافقين وتربصهم الدوائر. وقال ابن عطية : ويظهر أنّ هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هو مما ترتب على سعي النبي وأصحابه ونسب جدهم وعملهم ، فوعد الله تعالى إمّا بفتح يقتضي تلك الأعمال ، وإما بأمر من عنده يهلك أعداء الشرع ، هو أيضا فتح لا يقع للبشر فيه تسبب انتهى.

(فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) أي يصيرون نادمين على ما حدثتهم أنفسهم أنّ أمر النبي لا يتم ، ولا تكون الدولة لهم إذا أتى الله بالفتح أو أمر من عنده. وقيل : موالاتهم. وقرأ ابن الزبير : فتصبح الفساق جعل الفساق مكان الضمير. قال بن عطية : وخص الإصباح بالذكر لأنّ الإنسان في ليله مفكر ، فعند الصباح يرى الحالة التي اقتضاها فكره انتهى. وتقدم لنا نحو من هذا الكلام ، وذكرنا أن أصبح تأتي بمعنى صار من غير اعتبار كينونة في الصباح ، واتفق الحوفي وأبو البقاء على أن قوله : فيصبحوا معطوف على قوله : (أَنْ يَأْتِيَ) (٢) وهو الظاهر ، ومجور ذلك هو الفاء ، لأن فيها معنى التسبب ، فصار نظير الذي يطير فيغضب زيد الذباب ، فلو كان العطف بغير الفاء لم يصح ، لأنه كان يكون معطوفا على أن يأتي خبر لعسى ، وهو خبر عن الله تعالى ، والمعطوف على الخبر خبر ، فيلزم أن يكون فيه رابط إن كان مما يحتاج إلى الرابط ، ولا رابط هنا ، فلا يجوز العطف. لكنّ الفاء انفردت من بين سائر حروف العطف بتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين من صلة كما مثله ، أو صفة نحو مررت برجل يبكي فيضحك عمرو ، أو خبر

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥٢.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٥٢.

٢٩٣

نحو زيد يقوم فيقعد بشر. وجوز أن لا يكون معطوفا على أن يأتي ، ولكنه منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب التمني ، إذ عسى تمنّ وترج في حق البشر ، وهذا فيه نظر.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) قال المفسرون : لما أجلى بني النضير تأسف المنافقون على فراقهم ، وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إذا رآه جادّا في معاداة اليهود : هذا جزاؤهم منك طال ، والله ما أشبعوا بطنك ، فلما قتلت قريظة لم يطق أحد من المنافقين ستر ما في نفسه ، فجعلوا يقولون : أربعمائة حصدوا في ليلة؟ فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين قالوا : أهؤلاء أي المنافقون الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم؟ والمعنى : يقول بعضهم لبعض تعجبا من حالهم إذ أغلظوا بالأيمان للمؤمنين أنهم معكم ، وأنهم معاضدوكم على اليهود ، فلما حلّ باليهود ما حل ظهر من المنافقين ما كانوا يسرّونه من موالاة اليهود والتمالؤ على المؤمنين. ويحتمل أن يقول المؤمنون ذلك لليهود ، ويكون الخطاب في قوله : إنهم لمعكم لليهود ، لأن المنافقين حلفوا لليهود بالمعاضدة والنصرة كما قال تعالى حكاية عنهم : (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) (١) فقالوا ذلك لليهود يجسرونهم على موالاة المنافقين ، وأنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا ، ويغتبطون بما منّ الله عليهم من إخلاص الإيمان وموالاة اليهود.

وقرأ الابنان ونافع : بغير واو ، كأنه جواب قائل ما يقول المؤمنون حينئذ. فقيل : يقول الذين آمنوا ، وكذا هي في مصاحف أهل مكة والمدينة. وقرأ الباقون : بالواو ، ونصب اللام أبو عمرو ، ورفعها الكوفيون. وروى علي بن نصر عن أبي عمر : والرفع والنصب ، وقالوا : وهي في مصاحف الكوفة وأهل المشرق. والواو عاطفة جملة على جملة ، هذا إذا رفع اللام ، ومع حذف الواو الاتصال موجود في الجملة الثانية ، ذكر من الجملة السابقة إذ الذين يسارعون وقالوا : نخشى ، ويصبحوا هم الذين قيل فيهم : أهؤلاء الذين أقسموا ، وتارة يكتفي في الاتصال بالضمير ، وتارة يؤكد بالعطف بالواو. والظاهر أنّ هذا القول هو صادر من المؤمنين عند رؤية الفتح كما قدمنا.

قيل : ويحتمل أن يكون في وقت الذين في قلوبهم مرض يقولون : (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) (٢) وعند ما ظهر سؤالهم في أمر بني قينقاع وسؤال عبد الله بن أبي فيهم ، ونزل الرسول إياهم له ، وإظهار عبد الله أن خشية الدوائر هي خوفه على المدينة ومن بها من

__________________

(١) سورة الحشر : ٥٩ / ١١.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٥٢.

٢٩٤

المؤمنين ، وقد علم كل مؤمن أنه كاذب في ذلك ، فكان فعله ذلك موطنا أن يقول المؤمنون ذلك. وأما قراءة ويقول بالنصب ، فوجهت على أنّ هذا القول لم يكن إلا عند الفتح ، وأنه محمول على المعنى ، فهو معطوف على أن يأتي ، إذ معنى : فعسى الله أن يأتي ، معنى فعسى أن يأتي الله ، وهذا الذي يسميه النحويون العطف على التوهم ، يكون الكلام في قالب فيقدره في قالب آخر ، إذ لا يصح أن يعطف ضمير اسم الله ولا شيء منه. وأجاز ذلك أبو البقاء على تقدير ضمير محذوف أي : ويقول الذين آمنوا به ، أي بالله. فهذا الضمير يصح به الربط ، أو هو معطوف على أن يأتي على أن يكون أن يأتي بدلا من اسم الله لا خبرا ، فتكون عسى إذ ذاك تامة لا ناقصة ، كأنك قلت : عسى أن يأتي ، ويقول : أو معطوف على فيصبحوا ، على أن يكون قوله : فيصبحوا منصوبا بإضمار أن جوابا لعسى ، إذ فيها معنى التمني. وقد ذكرنا أنّ في هذا الوجه نظر ، أو هل هو تجري عسى في الترجي مجرى ليت في التمني؟ أم لا تجري؟ وذكر هذا الوجه ابن عطية عن أبي يعلى ، وتبعه ابن الحاجب ، ولم يذكر ابن الحاجب غيره. وعسى من الله واجبة فلا ترجى فيها ، وكلا الوجهين قبله تخريج أبي عليّ. وخرجه النحاس على أن يكون معطوفا على قوله : (بِالْفَتْحِ) (١) بأن يفتح ، ويقول : ولا يصحّ هذا لأنه قد فصل بينهما بقوله : أو أمر من عنده ، وحقه أن يكون (٢) بلعه لأن المصدر ينحل لأن والفعل ، فالمعطوف عليه من تمامه ، فلا يفصل بينهما. وهذا إن سلم أنّ الفتح مصدر ، فيحل لأن والفعل. والظاهر أنه لا يراد به ذلك ، بل هو كقولك : يعجبني من زيد ذكاؤه وفهمه ، لا يراد به انحلاله ، لأن والفعل وعلى تقدير ذلك فلا يصح أيضا ، لأن المعنى ليس على : فعسى الله أن يأتي ، بأن يقول الذين آمنوا كذا. ولأنه يلزم من ذلك الفصل بين المتعاطفين بقوله : (فَيُصْبِحُوا) (٣) وهو أجنبي من المتعاطفين ، لأن ظاهر فيصبحوا أن يكون معطوفا على أن يأتي ، ونظيره قولك : هند الفاسقة أراد زيد إذايتها بضرب أو حبس وإصباحها ذليلة ، وقول أصحابه : أهذه الفاسقة التي زعمت أنها عفيفة؟ فيكون وقول معطوفا على بضرب. وقال ابن عطية : عندي في منع جواز عسى الله أن يقول المؤمنون نظر ، إذ الذين نصرهم يقولون : ننصره بإظهار دينه ، فينبغي أن يجوز ذلك انتهى. وهذا الذي قاله راجع إلى أن يصير سببا لأنه صار في الجملة

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥٢.

(٢) هكذا وجدت هذه الكلمة بالنسخ التي بأيدينا وكذا جميع النسخ المقابلة عليها هذه النسخة ولم نعرف لها معنى فلتحررا ه. مصححة.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٥٢.

٢٩٥

ضمير عائد على الله ، وهو تقديره بنصره وإظهار دينه ؛ وإذا كان كذلك فلا خلاف في الجواز. وإنما منعوا حيث لا يكون رابط وانتصاب جهد على أنه مصدر مؤكد ، والمعنى : أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الإيمان أنهم معكم؟ ثم ظهر الآن من موالاتهم اليهود ما أكذبهم في أيمانهم. ويجوز أن ينتصب على الحال ، كما جوّزوا في فعلته جهدك وقوله : إنهم لمعكم ، حكاية لمعنى القسم لا للفظهم ، إذ لو كان لفظهم لكان إنا لمعكم.

(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) ظاهره أنه من جملة ما يقوله المؤمنون اعتمادا في الإخبار على ما حصل في اعتقادهم أي : بطلت أعمالهم إن كانوا يتكفلونها في رأي العين. قال الزمخشري : وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم! ويحتمل أن يكون إخبارا من الله تعالى ، ويحتمل أن لا يكون خبرا بل دعاء إما من الله تعالى ، وإما من المؤمنين. وحبط العمل هنا هو على معنى التشبيه ، وإلا فلا عمل له في الحقيقة فيحبط وجوز الحوفي أن يكون حبطت أعمالهم خبرا ثانيا عن هؤلاء ، والخبر الأول هو قوله الذين أقسموا ، وأن يكون الذين ، صفة لهؤلاء ، ويكون حبطت هو الخبر. وقد تقدم ذكر قراءة أبي واقد والجراح حبطت بفتح الباء وأنها لغة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) وابن كعب والضحاك والحسن وقتادة وابن جريج وغيرهم : نزلت خطابا للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة. ومن يرتد جملة شرطية مستقلة ، وهي إخبار عن الغيب.

وتعرض المفسرون هنا لمن ارتد في قصة طويلة نختصرها ، فنقول : ارتد في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذحج ورئيسهم عبهلة بن كعب ذو الخمار ، وهو الأسود العنسي قتله فيروز على فراشه ، وأخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله ، وسمى قاتله ليلة قتل. ومات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغد ، وأتى خبر قتله في آخر ربيع الأول وبنو حنيفة رئيسهم مسيلمة قتله وحشي ، وبنو أسد رئيسهم طليحة بن خويلد هزمه خالد بن الوليد ، وأفلت ثم أسلم وحسن إسلامه. هذه ثلاث فرق ارتدت في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتنبأ رؤساؤهم. وارتد في خلافة أبي بكر رضي‌الله‌عنه سبع فرق. فزارة قوم عيينة بن حصن ، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري ، وسليم قوم الفجاه بن عبد يا ليل ، ويربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر وقد تنبأت وتزوجها مسيلمة وقال : الشاعر :

أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها

وأصبحت أنبياء الله ذكرانا

٢٩٦

وقال أبو العلاء المعري :

أمت سجاح ووالاها مسيلمة

كذابة في بني الدنيا وكذاب

وكندة قوم الأشعث ، وبكر بن وائل بالبحرين قوم الحظم بن يزيد. وكفى الله أمرهم على يدي أبي بكر رضي‌الله‌عنه. وفرقة في عهد عمر : غسان قوم جبلة بن الأيهم نصرته اللطمة وسيرته إلى بلد الروم بعد إسلامه.

وفي القوم الذين يأتي الله بهم : أبو بكر وأصحابه ، أو أبو بكر وعمر وأصحابهما ، أو قوم أبي موسى ، أو أهل اليمن ألفان من البحر وخمسة آلاف من كندة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أخلاط الناس جاهدوا أيام القادسية أيام عمر. أو الأنصار ، أو هم المهاجرون ، أو أحياء من اليمن من كندة وبجيلة وأشجع لم يكونوا وقت النزول قاتل بهم أبو بكر في الردة ، أو القربى ، أو علي بن أبي طالب قاتل الخوارج أقوال تسعة.

وفي المستدرك لأبي عبد الله الحاكم بإسناد : أنه لما نزلت أشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبي موسى الأشعري فقال قوم : هذا. وهذا أصح الأقوال ، وكان لهم بلاء في الإسلام زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعامة فتوح عمر على أيديهم.

وقرأ نافع وابن عامر : من يرتدد بدالين مفكوكا ، وهي لغة الحجاز. والباقون بواحدة مشددة وهي لغة تميم. والعائد على اسم الشرط من جملة الجزاء محذوف لفهم المعنى تقديره : فسوف يأتي الله بقوم غيرهم ، أو مكانهم. ويحبونه معطوف على قوله : يحبهم ، فهو في موضع جر. وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب تقديره : وهن يحبونه انتهى. وهذا ضعيف لا يسوغ مثله في القرآن. ووصف تعالى هؤلاء القوم بأنه يحبهم ويحبونه ، محبة الله لهم هي توفيقهم للإيمان كما قال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) (١) وإثابته على ذلك وعلى سائر الطاعات ، وتعظيمه إياهم ، وثناؤه عليهم ، ومحبتهم له طاعته ، واجتناب نواهيه ، وامتثال مأموراته. وقدم محبته على محبتهم إذ هي أشرف وأسبق. وقال الزمخشري : وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله ، وأمقتهم للشرع ، وأسوأهم طريقة ، وإن كانت طريقته عند أمثاله من السفهاء والجهلة شيئا وهم : الفرقة المنفعلة والمتفعلة من الصوف وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ٧.

٢٩٧

كراسيهم خربها الله ، وفي مراقصهم عطلها الله ، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء الله وصعقاتهم التي تشبه صعقة موسى عند دك الطور ، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ومن كلماته كما أنه بذاته يحبهم ، كذلك يحبون ذاته ، فإن الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات. ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة ، فإذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة انتهى كلام الزمخشري رحمه‌الله تعالى. وقال بعض المعاصرين : قد عظم أمر هؤلاء المنفعلة عند العامة وكثر القول فيهم بالحلول والوحدة ، وسر الحروف ، وتفسير القرآن على طريق القرامطة الكفار الباطنية ، وادعاء أعظم الخوارق لأفسق الفساق ، وبغضهم في العلم وأهله ، حتى أن طائفة من المحدثين قصدوا قراءة الحديث على شيخ في خانقاتهم يروي الحديث فبنفس ما قرأوا شيئا من حديث الرسول. خرج شيخ الشيوخ الذين هم يقتدون به ، وقطع قراءة الحديث ، وأخرج الشيخ المسمع والمحدثين وقال : روحوا إلى المدارس شوشتم علينا. ولا يمكنون أحدا من قراءة القرآن جهرا ، ولا من الدرس للعلم. وقد صح أنّ بعضهم ممن يتكلم بالدهر على طريقتهم ، سمع ناسا في جامع يقرأون القرآن فصعد كرسيه الذي يهدر عليه فقال : يا أصحابنا شوشوا علينا ، وقام نافضا ثوبه ، فقام أصحابه وهو يدلهم لقراء القرآن ، فضربوهم أشد الضرب ، وسلّ عليهم السيف من اتباع ذلك الهادر وهو لا ينهاهم عن ذلك. وقد علم أصحابه كلاما افتعلوه على بعض الصالحين حفظهم إياه يسردونه حفظا كالسورة من القرآن ، وهو مع ذلك لا يعلمهم فرائض الوضوء ، ولا سننه ، فضلا عن غيرها من تكاليف الإسلام. والعجب أن كلا من هؤلاء الرؤوس يحدث كلاما جديدا يعلمه أصحابه حتى يصير لهم شعارا ، ويترك ما صح عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأدعية المأثورة المأمور بها. وفي كتاب الله تعالى على غثاثة كلامهم ، وعاميته ، وعدم فصاحته ، وقلة محصوله ، وهم مستمسكون به كأنه جاءهم به وحي من الله. ولن ترى أطوع من العوام لهؤلاء يبنون لهم الخوانق والربط ، ويرصدون لهم الأوقاف ، وهم أبغض الناس في العلم والعلماء ، وأحبهم لهذه الطوائف. والجاهلون لأهل العلم أعداء.

(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) هو جمع ذليل لا جمع ذلول الذي هو نقيض الضعف ، لأن ذلولا لا يجمع على أذلة بل ذلل ، وعدي أذلة بعلى وإن كان الأصل باللام ، لأنه ضمنه معنى الحنو والعطف كأنه قال : عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع. قيل : أو لأنه على حذف مضاف التقدير : على فضلهم على المؤمنين ، والمعنى أنهم يذلون ويخضعون لمن فضلوا عليه مع شرفهم وعلو مكانهم ، وهو نظير قوله : (أَشِدَّاءُ عَلَى

٢٩٨

الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (١) وجاءت هذه الصفة بالاسم الذي فيه المبالغة ، لأن أذلة جمع ذليل وأعزة جمع عزيز ، وهما صفتا مبالغة ، وجاءت الصفة قبل هذا بالفعل في قوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (٢) لأن الاسم يدل على الثبوت ، فلما كانت صفة مبالغة ، وكانت لا تتجدد بل هي كالغريزة ، جاء الوصف بالاسم. ولما كانت قبل تتجدد ، لأنها عبارة عن أفعال الطاعة والثواب المترتب عليها ، جاء الوصف بالفعل الذي يقتضي التجدد. ولما كان الوصف الذي يتعلق بالمؤمن أوكد ، ولموصوفه الذي قدم على الوصف المتعلق بالكافر ، ولشرف المؤمن أيضا. ولما كان الوصف الذي بين المؤمن وربه أشرف من الوصف الذي بين المؤمن والمؤمن ، قدّم قوله يحبهم ويحبونه على قوله : أذلة على المؤمنين.

وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من ذهب إلى أن الوصف إذا كان بالاسم وبالفعل لا يتقدم الوصف بالفعل على الوصف بالاسم إلا في ضرورة الشعر نحو قوله :

وفرع يغشى المتن أسود فاحم

إذ جاء ما ادعى أنه يكون في الضرورة في هذه الآية ، فقدم يحبهم ويحبونه ـ وهو فعل ـ على قوله : أذلة وهو اسم. وكذلك قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) (٣) وقرئ شاذا أذلة ، وهو اسم وكذا أعزة نصبا على الحال من النكرة إذا قربت من المعرفة بوصفها. وقرأ عبد الله : غلظاء على الكافرين مكان أعزة.

(يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في نصرة دينه. وظاهر هذه الجملة أنها صفة ، ويجوز أن تكون استئناف أخبار. وجوز أبو البقاء أن تكون في موضع نصب حالا من الضمير في أعزة.

(وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) أي هم صلاب في دينه ، لا يبالون بمن لام فيه. فمتى شرعوا في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، أمضوه لا يمنعهم اعتراض معترض ، ولا قول قائل هذان الوصفان أعني : الجهاد والصلابة في الدين هما نتيجة الأوصاف السابقة ، لأنّ من أحب الله لا يخشى إلا إياه ، ومن كان عزيزا على الكافر جاهد في إخماده واستئصاله.

وناسب تقديم الجهاد على انتفاء الخوف من اللائمين لمحاورته أعزة على الكافرين ، ولأن

__________________

(١) سورة الفتح : ٤٨ / ٢٩.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٥٤.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٩٢.

٢٩٩

الخوف أعظم من الجهاد ، فكان ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى. ويحتمل أن تكون الواو في : ولا يخافون ، واو الحال أي : يجاهدون ، وحالهم في المجاهدة غير حال المنافقين ، فإنهم كانوا موالين لليهود ، فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود وتخاذلوا وخذلوا حتى لا يلحقهم لوم من جهتهم. وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله ، لا يخافون لومة لائم. ولومة للمرة الواحدة وهي نكرة في سياق النفي. فتعم أي : لا يخافون شيئا قط من اللوم.

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) الظاهر أنّ ذلك إشارة إلى ما تقدّم من الأوصاف التي تحلى بها المؤمن. ذكر أنّ ذلك هو فضل من الله يؤتيه من أراد ، ليس ذلك بسابقة ممن أعطاه إياه ، بل ذلك على سبيل الإحسان منه تعالى لمن أراد الإحسان إليه. وقيل : ذلك إشارة إلى حب الله لهم وحبهم له. وقيل : إشارة إلى قوله : أذلة على المؤمنين ، وهو لين الجانب ، وترك الترفع على المؤمن. قال الزمخشري : يؤتيه من يشاء ممن يعلم أنّ له لطفا انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. ويؤتيه استئناف ، أو خبر بعد خبر أو حال.

(وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي واسع الإحسان والإفضال عليم بمن يضع ذلك فيه.

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) لما نهاهم عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، بيّن هنا من هو وليهم ، وهو الله ورسوله. وفسر الولي هنا بالناصر ، أو المتولي الأمر ، أو المحب. ثلاثة أقوال ، والمعنى : لا وليّ لكم إلا الله. وقال : وليكم بالإفراد ، ولم يقل أولياؤكم وإن كان المخبر به متعددا ، لأن وليا اسم جنس. أو لأنّ الولاية حقيقة هي لله تعالى على سبيل التأصل ، ثم نظم في سلكه من ذكر على سبيل التبع ، ولو جاء جمعا لم يتبين هذا المعنى من الأصالة والتبعية. وقرأ عبد الله : مولاكم الله. وظاهر قوله : والذين آمنوا ، عموم من آمن من مضى منهم ومن بقي قاله الحسن. وسئل الباقر عمن نزلت فيه هذه الآية ، أهو عليّ؟ فقال : عليّ من المؤمنين. وقيل : الذين آمنوا هو عليّ رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال مقاتل ، ويكون من إطلاق الجمع على الواحد مجازا. وقيل ابن سلام وأصحابه. وقيل : عبادة لما تبرأ من حلفائه اليهود. وقيل : أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، قاله عكرمة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) هذه أوصاف ميز بها المؤمن الخالص الإيمان من المنافق ، لأن المنافق لا يدوم على الصلاة ولا على الزكاة.

٣٠٠