البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

مسلم إلى دخول دار الشرك. وقال ابن جبير ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والزهري ، والضحاك : النفي من دار الإسلام إلى دار الشرك. وقال عمر بن عبد العزيز وجماعة : ينفى من بلد إلى غيره مما هو قاص بعيد. وقال أبو الزناد : كان النفي قديما إلى دهلك وناصع ، وهما من أقصى اليمن. وقال الزمخشري : دهلك في أقصى تهامة ، وناصع من بلاد الحبشة. وقال أبو حنيفة : النفي السجن ، وذلك إخراجه من الأرض. قال الشاعر : قال ذلك وهو مسجون :

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها

فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجان يوما لحاجة

عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

وتعجبنا الرؤيا بحل حديثنا

إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا

والظاهر أن نفيه من الأرض هو إخراجه من الأرض التي حارب فيها إن كانت الألف واللام للعهد فينفى من ذلك العمل ، وإن كانت للجنس فلا يزال يطلب ويزعج وهو هارب ، فزع إلى أن يلحق بغير عمل الإسلام. وصريح مذهب مالك أنه إذا كان مخوف الجانب غرب وسجن حيث غرّب ، والتشديد في أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع قراءة الجمهور ، وهو للتكثير بالنسبة إلى الذين يوقع بهم الفعل ، والتخفيف في ثلاثتها قراءة الحسن ومجاهد وابن محيصن.

(ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا) أي ذلك الجزاء من القطع والقتل والصلب والنفي. والخزي هنا الهوان والذل والافتضاح. والخزي الحياء عبر به عن الافتضاح لما كان سببا له افتضح فاستحيا.

(وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) ظاهره أن معصية الحرابة مخالفة للمعاصي غيرها ، إذ جمع فيها بين العقاب في الدنيا والعقاب في الآخرة تغليظا لذنب الحرابة ، وهو مخالف لظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث عبادة «فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له» ويحتمل أن يكون ذلك على حسب التوزيع ، فيكون الخزي في الدنيا إن عوقب ، والعقاب في الآخرة إن سلم في الدنيا من العقاب ، فتجري معصية الحرابة مجرى سائر المعاصي. وهذا الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة ، وله تعالى أن يغفر هذا الذنب ، ولكن في الوعيد خوف على المتوعد عليه نفاذ الوعيد.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ظاهره أنه استثناء من المعاقبين عقاب قاطع الطريق ، فإذا تابوا قبل القدرة على أخذهم سقط عنهم ما

٢٤١

ترتب على الحرابة ، وهذا فعل عليّ رضي‌الله‌عنه بحارثة بن بدر العراني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه ، فكتب له سقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا. وقالوا : لا نظر للإمام فيه إلا كما ينظر في سائر المسلمين ، فإن طولب بدم نظر فيه أو قيد منه بطلب الولي ، وإن طولب بمال فمذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي : يؤخذ ما وجد عنده من مال غيره ، ويطالب بقيمة ما استهلك. وقال قوم من الصحابة والتابعين : لا يطالب بما استهلك ، ويؤخذ ما وجد عنده بعينه. وحكى الطبري عن عروة : أنه لا تقبل توبة المحارب ، ولكن لو فر إلى العدوّ ثم جاءنا تائبا لم أر عليه عقوبة. قال الطبري : ولا أدري هل أراد ارتد أم لا؟ وقال الأوزاعي نحوه ، إلا أنه قال : إذا لحق بدار الحرب فارتد عن الإسلام ، أو بقي عليه ، ثم جاءنا تائبا من قبل أن نقدر عليه قبلت توبته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تعالى لما ذكر جزاء من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا من العقوبات الأربع ، والعذاب العظيم المعد لهم في الآخرة ، أمر المؤمنين بتقوى الله ، وابتغاء القربات إليه ، فإن ذلك هو المنجي من المحاربة والعقاب المعد للمحاربين. ولما كانت الآية نزلت في العرنيين والكلبيين ، أو في أهل الكتاب اليهود ، أو في المشركين على الخلاف في سبب النزول ، وكل هؤلاء سعى في الأرض فسادا ، نص على الجهاد ، وإن كان مندرجا تحت ابتغاء الوسيلة لأن به صلاح الأرض ، وبه قوام الدين ، وحفظ الشريعة ، فهو مغاير لأمر المحاربة ، إذ الجهاد محاربة مأذون فيها ، وبالجهاد يدفع المحاربون. وأيضا ففيه تنبيه على أنه يجب أن تكون القوّة والبأس الذي للمحارب مقصورا على الجهاد في سبيل الله تعالى ، وأن لا يضع تلك النجدة التي وهبها الله له للمحاربة في معصية الله تعالى ، وهل الوسيلة القربة التي ينبغي أن يطلب بها ، أو الحاجة ، أو الطاعة ، أو الجنة ، أو أفضل درجاتها ، أقوال للمفسرين. وذكر رجاء الفلاح على تقدير حصول ما أمر به قبل من التقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيله. والفلاح اسم جامع للخلاص عن المكروه ، والفوز بالمرجوّ.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) لما أرشد المؤمنين إلى معاقد الخير ومفاتح السعادة ، وذكر فوزهم في الآخرة وما آلوا إليه من الفلاح ، شرح حال الكفار وعاقبة كفرهم ، وما أعد لهم من العذاب. والجملة من لو وجوابها في موضع خبر إنّ ، ومعنى ما في الأرض : من صنوف الأموال التي

٢٤٢

يفتدى بها ، ومثله معطوف على اسم إن ، ولام كي تتعلق بما تعلق به خبر إن وهو لهم. والمعنى : لو أنّ ما في الأرض ومثله معه مستقر لهم على سبيل الملك ليجعلوه فدية لهم ما تقبل ، وهذا على سبيل التمثيل ولزوم العذاب لهم ، وأنه لا سبيل إلى نجاتهم منه. وفي الحديث «يقال للكافر : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول : نعم. فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك» ووحد الضمير في به ، وإن كان قد تقدم شيئان معطوف عليه ومعطوف ، وهو ما في الأرض ومثله معه ، إمّا لفرض تلازمهما فأجريا مجرى الواحد كما قالوا : رب يوم وليلة مرّ بي ، وإما لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كأنه قال : ليفتدوا بذلك. قال الزمخشري : ويجوز أن تكون الواو في : ومثله ، بمعنى مع ، فيوحد المرجوع إليه. (فإن قلت) : فبم ينتصب المفعول معه؟ (قلت) : بما تستدعيه لو من الفعل ، لأن لو ثبت أنّ لهم ما في الأرض انتهى. وإنما يوحد الضمير لأن حكم ما قبل المفعول معه في الخبر ، والحال ، وعود الضمير متأخرا حكمه متقدما ، تقول : الماء والخشبة استوى ، كما تقول : الماء استوى والخشبة وقد أجاز الأخفش في ذلك أن يعطي حكم المعطوف فتقول : الماء مع الخشبة استويا ، ومنع ذلك ابن كيسان. وقول الزمخشري : تكون الواو في : ومثله ، بمعنى مع ليس بشيء ، لأنه يصير التقدير مع مثله معه ، أي : مع مثل ما في الأرض مع ما في الأرض ، إن جعلت الضمير في معه عائدا على مثله أي : مع مثله مع ذلك المثل ، فيكون المعنى مع مثلين. فالتعبير عن هذا المعنى بتلك العبارة عيّ ، إذ الكلام المنتظم أن يكون التركيب إذا أريد ذلك المعنى مع مثليه. وقول الزمخشري. فإن قلت إلى آخر السؤال ، وهذا السؤال لا يردّ ، لأنّا قد بينا فساد أن تكون الواو واو مع ، وعلى تقدير وروده فهذا بناء منه على أنّ الواو إذا جاءت بعد لو كانت في موضع رفع على الفاعلية ، فيكون التقدير على هذا : لو ثبت كينونة ما في الأرض مع مثله لهم ليفتدوا به ، فيكون الضمير عائدا على ما فقط. وهذا الذي ذكره هو تفريع منه على مذهب المبرد في أنّ أن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية ، وهو مذهب مرجوح. ومذهب سيبويه أنّ أن بعد لو في موضع رفع على الابتداء. والزمخشري لا يظهر من كلامه في هذا الكتاب وفي تصانيفه أنه وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألة ، وعلى التفريع على مذهب المبرد لا يصح أن يكون ومثله مفعولا معه ، ويكون العامل فيه ما ذكر من الفعل ، وهو ثبت بوساطة الواو لما تقدم من وجود لفظ معه. وعلى تقدير سقوطها لا يصح ، لأنّ ثبت ليست رافعة لما العائد عليها الضمير ، وإنما هي رافعة مصدرا منسبكا من أن وما بعدها وهو كون ، إذ التقدير : لو

٢٤٣

كون ما في الأرض جميعا لهم ومثله معه ليفتدوا به ، والضمير عائد على ما دون الكون. فالرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه ، إذ لو كان إياه للزم من ذلك وجود الثبوت مصاحبا للمثل ، والمعنى : على كينونة ما في الأرض مصاحبا للمثل ، لا على ثبوت ذلك مصاحبا للمثل ، وهذا فيه غموض ، وبيانه ، أنك إذا قلت : يعجبني قيام زيد وعمر ، أو جعلت عمرا مفعولا معه ، والعامل فيه يعجبني ، لزم من ذلك أنّ عمرا لم يقم ، وأنه أعجبك القيام وعمرو ، وإن جعلت العامل فيه القيام كان عمرو قائما ، وكان الإعجاب قد تعلق بالقيام مصاحبا لقيام عمرو. (فإن قلت) : هلا ، كان ومثله معه مفعولا معه ، والعامل فيه هو العامل في لهم ، إذ المعنى عليه. (قلت) : لا يصح ذلك لما ذكرناه من وجود معه في الجملة ، وعلى تقدير سقوطها لا يصح لأنهم نصوا على أنّ قولك : هذا لك وأباك ممنوع في الاختيار. وقال سيبويه : وأما هذا لك وأباك ، فقبيح لأنه لم يذكر فعلا ولا حرفا فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل ، فأفصح سيبويه بأن اسم الإشارة وحرف الجر المتضمن معنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه ، ولو كان أحدهما يجوز أن ينتصب المفعول معه لخير بين أن ينسب العمل لاسم الإشارة أو لحرف الجر. وقد أجاز بعض النحويين أن يعمل في المفعول معه الظرف وحرف الجر ، فعلى هذا المذهب يجوز لو كانت الجملة خالية من قوله : معه ، أن يكون ومثله مفعولا معه على أنّ العامل فيه هو العامل في لهم. وقرأ الجمهور : ما تقبل مبنيا للمفعول. وقرأ يزيد بن قطيب : ما تقبل مبنيا للفاعل أي : ما تقبل الله منهم. وفي الكلام جملة محذوفة التقدير : وبذلوه وافتدوا به ما تقبل منهم ، إذ لا يترتب انتفاء التقبل على كينونة ما في الأرض ومثله معه ، إنما يترتب على بذل ذلك أو الافتداء به.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) هذا الوعيد هو لمن وافى على الكفر ، وتبينه آية آل عمران (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ) (١) الآية وهذه الجملة يجوز أن تكون عطفا على خبر : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٢) ويجوز أن تكون عطفا على (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وجوزوا أن تكون في موضع الحال وليس بقوي.

(يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) أي يرجون ، أو يتمنون ، أو يكادون ، أو يسألون ، أقوال متقاربة من حيث المعنى ، والإرادة ممكنة في حقهم ، فلا ينبغي أن تخرج عن

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٩١.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٣٦.

٢٤٤

ظاهرها. قال الحسن : إذا فارت بهم النار فروا من بأسها ، فحينئذ يريدون الخروج ويطمعون فيه ، وذلك قوله : يريدون أن يخرجوا من النار. وقيل لجابر بن عبد الله : إنكم يا أصحاب محمد تقولون : إن قوما يخرجون من النار والله تعالى يقول : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) (١) فقال جابر إنما هذا في الكفار خاصة. وحكى الطبري عن نافع بن الأزراق الخارجي أنه قال لابن عباس : يا أعمى البصر ، يا أعمى القلب ، أتزعم أن قوما يخرجون من النار وقد قال الله تعالى : وما هم بخارجين منها؟ فقال له ابن عباس : اقرأ ما فوق هذه الآية في الكفار. وقال الزمخشري : وما يروى عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس وذكر الحكاية ، ثم قال : فمما لفقته المجبرة وليس بأول تكاذيبهم وافترائهم ، وكفاك بما فيه من مواجهة ابن الأزرق لابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بين أظهر أعضاده من قريش ، وأنضاده من بني عبد المطلب ، وهو حبر هذه الأمة وبحرها ، ومفسرها بالخطاب الذي لا يجسر على مثله أحد من أهل الدنيا ، وبرفعه إلى عكرمة دليلين ناصين أن الحديث فرية ما فيها مرية انتهى. وهو على عادته وسفاهته في سب أهل السنة ، ومذهبه : أن من دخل النار لا يخرج منها. وقرأ الجمهور : أن يخرجوا مبنيا للفاعل ، ويناسبه : وما هم بخارجين منها. وقرأ النخعي ، وابن وثاب ، وأبو واقد : أن يخرجوا مبنيا للمفعول.

(وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي متأبد لا يحول.

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) قال السائب : نزلت في طعمة بن أبيرق ، ومضت قصته في النساء. ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر جزاء المحاربين بالعقوبات التي فيها قطع الأيدي والأرجل من خلاف ، ثم أمر بالتقوى لئلا يقع الإنسان في شيء من الحرابة ، ثم ذكر حال الكفار ، ذكر حكم السرقة لأن فيها قطع الأيدي بالقرآن ، والأرجل بالسنة على ما يأتي ذكره ، وهو أيضا حرابة من حيث المعنى ، لأنّ فيه سعيا بالفساد إلا أن تلك تكون على سبيل الشوكة والظهور.

والسرقة على سبيل الاختفاء والتستر ، والظاهر وجوب القطع بمسمى السرقة ، وهو ظاهر النص. يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الجمل فتقطع يده اليمنى ، شرق شيئا ما قليلا أو كثيرا قطعت يده ، وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة ومن التابعين منهم : الحسن ، وهو مذهب الخوارج وداود. وقال داود ومن وافقه : لا يقطع في سرقة حبة واحدة

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٣٧.

٢٤٥

ولا تمرة واحدة ، بل أقل شيء يسمى مالا ، وفي أقل شيء يخرج الشح والضنة. وقيل : النصاب الذي تقطع فيه اليد عشرة دراهم فصاعدا ، أو قيمتها من غيرها ، روي ذلك عن : ابن عباس ، وابن عمر ، وأيمن الحبشي ، وأبي جعفر ، وعطاء ، وابراهيم ، وهو قول : الثوري ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وزفر ، ومحمد. وقيل : ربع دينار فصاعدا ، وروي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعائشة ، وعمر بن عبد العزيز ، وهو قول : الأوزاعي ، والليث ، والشافعي ، وأبي ثور. وقيل : خمسة دراهم وهو قول : أنس ، وعروة ، وسليمان بن يسار ، والزهري. وقيل : أربعة دراهم وهو مروي عن أبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة. وقيل : ثلاثة دراهم وهو قول : ابن عمر ، وبه قال مالك ، وإسحاق ، وأحمد ، إلا إن كان ذهبا فلا تقطع إلا في ربع دينار. وقيل : درهم فما فوقه ، وبه قال عثمان البتي. وقطع عبد الله بن الزبير في درهم. وللسرقة التي تقطع فيها اليد شروط ذكرت في الفقه.

وقرأ الجمهور : والسارق والسارقة بالرفع. وقرأ عبد الله : والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ، وقال الخفاف : وجدت في مصحف أبيّ والسّرق والسرقة بضم السين المشددة فيهما كذا ضبطه أبو عمرو. قال ابن عطية : ويشبه أن يكون هذا تصحيفا من الضابط ، لأن قراءة الجماعة إذا كتبت السارق بغير ألف وافقت في الخط هذه. والرفع في والسارق والسارقة على الابتداء ، والخبر محذوف والتقدير : فيما يتلى عليكم ، أو فيما فرض عليكم ، السارق والسارقة أي : حكمهما. ولا يجوز سيبويه أن يكون الخبر قوله : فاقطعوا ، لأن الفاء لا تدخل إلا في خبر مبتدأ موصول بظرف أو مجرور ، أي جملة صالحة لأداة الشرط. والموصول هنا أل ، وصلتها اسم فاعل أو اسم مفعول ، وما كان هكذا لا تدخل الفاء في خبره عند سيبويه. وقد أجاز ذلك جماعة من البصريين أعني : أن يكون والسارق والسارقة مبتدأ ، والخبر جملة الأمر ، أجروا أل وصلتها مجرى الموصول المذكور ، لأن المعنى فيه على العموم إذ معناه : الذي سرق والتي سرقت. ولما كان مذهب سيبويه أنه لا يجوز ذلك ، تأوله على إضمار الخبر فيصير تأوله : فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة. جملة ظاهرها أن تكون مستقلة ، ولكن المقصود هو في قوله : فاقطعوا ، فجيء بالفاء رابطة للجملة الثانية ، فالأولى موضحة للحكم المبهم في الجملة الأولى. وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي عبلة : والسارق والسارقة بالنصب على الاشتغال. قال سيبويه : الوجه في كلام العرب النصب كما تقول : زيدا فاضربه ، ولكن أبت العامة إلا الرفع ، يعني عامة القراء وجلهم. ولما كان معظم القراء على الرفع ، تأوله سيبويه على وجه يصح ، وهو

٢٤٦

أنه جعله مبتدأ ، والخبر محذوف ، لأنه لو جعله مبتدأ والخبر فاقطعوا لكان تخريجا على غير الوجه في كلام العرب ، ولكان قد تدخل الفاء في خبر أل وهو لا يجوز عنده. وقد تجاسر أبو عبد الله محمد بن عمر المدعو بالفخر الرازي ابن خطيب الري على سيبويه وقال عنه ما لم يقله فقال : الذي ذهب إليه سيبويه ليس بشيء ، ويدل على فساده وجوه : الأول : أنه طعن في القراءة المنقولة بالمتواتر عن الرسول ، وعن أعلام الأمة ، وذلك باطل قطعا. (قلت) : هذا تقوّل على سيبويه ، وقلة فهم عنه ، ولم يطعن سيبويه على قراءة الرفع ، بل وجهها التوجيه المذكور ، وأفهم أنّ المسألة ليست من باب الاشتغال المبني على جواز الابتداء فيه ، وكون جملة الأمر خبره ، أو لم ينصب الاسم ، إذ لو كانت منه لكان النصب أوجه كما كان في زيدا أضربه على ما تقرر في كلام العرب ، فكون جمهور القراء عدلوا إلى الرفع دليل على أنهم لم يجعلوا الرفع فيه على الابتداء المخبر عنه بفعل الأمر ، لأنه لا يجوز ذلك لأجل الفاء. فقوله : أبت العامة إلا الرفع تقوية لتخريجه ، وتوهين للنصب على الاشتغال مع وجود الفاء ، لأن النصب على الاشتغال المرجح على الابتداء في مثل هذا التركيب لا يجوز ، إلا إذا جاز أن يكون مبتدأ مخبرا عنه بالفعل الذي يفسر العامل في الاشتغال ، وهنا لا يجوز ذلك لأجل الفاء الداخلة على الخبر ، فكان ينبغي أن لا يجوز النصب. فمعنى كلام سيبويه يقوي الرفع على ما ذكر ، فكيف يكون طاعنا في الرفع؟ وقد قال سيبويه : وقد يحسن ويستقيم : عبد الله فاضربه ، إذا كان مبنيا على مبتدأ مضمر أو مظهر ، فأما في المظهر فقولك : هذا زيد فاضربه ، وإن شئت لم تظهر هذا ويعمل عمله إذا كان مظهرا وذلك كقولك : الهلال والله فانظر إليه ، فكأنك قلت : هذا الهلال ثم جئت بالأمر. ومن ذلك قول الشاعر :

وقائلة خولان فانكح فتاتهم

واكرومة الحيين خلو كما هيا

هكذا سمع من العرب تنشده انتهى. فإذا كان سيبويه يقول : وقد يحسن ويستقيم. عبد الله فاضربه ، فكيف يكون طاعنا في الرفع ، وهو يقول : أنه يحسن ويستقيم؟ لكنه جوزه على أنّ يكون المرفوع مبتدأ محذوف الخبر ، كما تأوله في السارق والسارقة ، أو خبر مبتدأ محذوف كقوله : الهلال والله فانظر إليه.

وقال الفخر الرازي : (فإن قلت): ـ يعني سيبويه ـ لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة ، ولكني أقول : القراءة بالنصب أولى ، فنقول له : هذا أيضا رديء ، لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة

٢٤٧

والتابعين أمر منكر مردود. (قلت) : هذا السؤال لم يقله سيبويه ، ولا هو ممن يقوله ، وكيف يقوله وهو قد رجح قراءة الرفع على ما أوضحناه؟ وأيضا فقوله : لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين تشنيع ، وإيهام أن عيسى بن عمر قرأها من قبل نفسه ، وليس كذلك ، بل قراءته مستندة إلى الصحابة وإلى الرسول ، فقراءته قراءة الرسول أيضا ، وقوله : وجميع الأمة ، لا يصح هذا الإطلاق لأنّ عيسى بن عمر وابراهيم بن أبي عبلة ومن وافقهما وأشياخهم الذين أخذوا عنهم هذه القراءة هم من الأمة. وقال سيبويه : وقد قرأ ناس والسارق والسارقة والزانية والزاني ، فأخبر أنها قراءة ناس. وقوله : وجميع الأمة لا يصح هذا العموم. قال الفخر الرازي : الثاني : من الوجوه التي تدل على فساد قول سيبويه أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) (١) بالنصب ، ولما لم يوجد في القراءة أحد قرأ كذلك ، علمنا سقوط هذا القول. (قلت) : لم يدّع سيبويه أنّ قراءة النصب أولى فيلزمه ما ذكر ، وإنما قال سيبويه : وقد قرأ ناس والسارق والسارقة والزانية والزاني ، وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة ، ولكن أبت العامة إلا القراءة بالرفع. ويعني سيبويه بقوله : من القوة ، لو عرى من الفاء المقدر دخولها على خبر الاسم المرفوع على الابتداء ، وجملة الأمر خبره ، ولكن أبت العامة أي ـ جمهور القراء ـ إلا الرفع لعلة دخول الفاء ، إذ لا يصح أن تكون جملة الأمر خبرا لهذا المبتدأ ، فلما دخلت الفاء رجح الجمهور الرفع. ولذلك لما ذكر سيبويه اختيار النصب في الأمر والنهي ، لم يمثله بالفاء بل عاريا منها. قال سيبويه : وذلك قولك : زيدا اضربه وعمرا أمر ربه ، وخالدا اضرب أباه ، وزيدا اشتر له ثوبا ثم قال : وقد يكون في الأمر والنهي أن يبنى الفعل على الاسم وذلك قوله : عبد الله فاضربه ، ابتدأت عبد الله فرفعت بالابتداء ، ونبهت المخاطب له ليعرفه باسمه ، ثم بنيت الفعل عليه كما فعلت ذلك في الخبر. فإذا قلت : زيدا فاضربه ، لم يستقم ، لم تحمله على الابتداء. ألا ترى أنك لو قلت : زيد فمنطلق ، لم يستقم؟ فهذا دليل على أنه لا يجوز أن يكون مبتدأ يعني مخبرا عنه بفعل الأمر المقرون بالفاء الجائز دخولها على الخبر. ثم قال سيبويه : فإن شئت نصبته على شيء هذا يفسره. لما منع سيبويه الرفع فيه على الابتداء ، وجملة الأمر خبره لأجل الفاء ، أجاز نصبه على الاشتغال ، لا على أن الفاء هي الداخلة في خبر المبتدإ.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦.

٢٤٨

وتلخيص ما يفهم من كلام سيبويه : أن الجملة الواقعة أمرا بغير فاء بعد اسم يختار فيه النصب ويجوز فيه الابتداء ، وجملة الأمر خبره ، فإن دخلت عليه الفاء فإمّا أن تقدرها الفاء الداخلة على الخبر ، أو عاطفة. فإن قدرتها الداخلة على الخبر فلا يجوز أن يكون ذلك الاسم مبتدأ وجملة الأمر خبره ، إلا إذا كان المبتدأ أجرى مجرى اسم الشرط لشبهه به ، وله شروط ذكرت في النحو. وإن كانت عاطفة كان ذلك الاسم مرفوعا ، إما مبتدأ كما تأول سيبويه في قوله : والسارق والسارقة ، وإما خبر مبتدأ محذوف كما قيل : القمر والله فانظر إليه. والنصب على هذا المعنى دون الرفع ، لأنك إذا نصبت احتجت إلى جملة فعلية تعطف عليها بالفاء ، وإلى حذف الفعل الناصب ، وإلى تحريف الفاء إلى غير محلها. فإذا قلت زيدا فاضربه ، فالتقدير : تنبه فاضرب زيدا اضربه. حذفت تنبه ، وحذفت اضرب ، وأخرت الفاء إلى دخولها على المفسر. وكان الرفع أولى ، لأنه ليس فيه إلا حذف مبتدأ ، أو حذف خبر. فالمحذوف أحد جزئي الإسناد فقط ، والفاء واقعة في موقعها ، ودل على ذلك المحذوف سياق الكلام والمعنى. قال سيبويه : وأما قوله عزوجل : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) (١) (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٢) فإنّ هذا لم يبن على الفعل ، ولكنه جاء على مثل قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (٣) ثم قال بعد فيها : (أَنْهارٌ) فيها كذا وكذا ، فإنما وضع مثل للحديث الذي بعده ، وذكر بعد أخبار وأحاديث كأنه قال : ومن القصص مثل الجنة أو مما نقص عليكم مثل الجنة ، فهو محمول على هذا الإضمار أو نحوه والله أعلم. وكذلك الزانية والزاني لما قال تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) (٤) قال في الفرائض : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) أو (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) (٥) في الفرائض ثم قال : فاجلدوا ، فجاء بالفعل بعد أن مضى فيها الرفع كما قال : وقائلة خولان فانكح فتاتهم ، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه الضمير ، وكذلك السارق والسارقة. كأنه قال : مما فرض عليكم السارق والسارقة ، أو السارق والسارقة فيما فرض عليكم. وإنما جاءت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث انتهى.

فسيبويه إنما اختار هذا التخريج لأنه أقل كلفة من النصب مع وجود الفاء ، وليست الفاء الداخلة في خبر المبتدأ ، لأن سيبويه لا يجيز ذلك في أل الموصولة. فالآيتان عنده من

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٢.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٣٨.

(٣) سورة الرعد : ١٣ / ٣٥.

(٤) سورة النور : ٢٤ / ١.

(٥) سورة النور : ٢٤ / ٢.

٢٤٩

باب زيد فاضربه ، فكما أن المختار في هذا الرفع فكذلك في الآيتين. وقول الرازي : لوجب أن يكون في القراء من قرأ : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) (١) بالنصب إلى آخر كلامه ، لم يقل سيبويه أن النصب في مثل هذا التركيب أولى ، فيلزم أن يكون في القراء من ينصب واللذان يأتيانها ، بل حل سيبويه هذا الآية محل قوله : والسارق والسارقة ، لأنه تقدم قبل ذلك ما يدل على المحذوف وهو قوله : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) (٢) فخرج سيبويه الآية على الإضمار. وقال سيبويه : وقد يجري هذا في زيد وعمرو على هذا الحد إذا كنت تخبر بأشياء ، أو توصي ، ثم تقول : زيد أي زيد فيمن أوصى فأحسن إليه وأكرمه ، ويجوز في : واللذان يأتيانها منكم ، أن يرتفع على الابتداء ، والجملة التي فيها الفاء خبر لأنه موصول مستوف شروط الموصول الذي يجوز دخول الفاء في خبره لشبهه باسم الشرط ، بخلاف قوله : والسارق والسارقة ، فإنه لا يجوز عند سيبويه دخول الفاء في خبره ، لأنه لا يجري مجرى اسم الشرط ، فلا يشبه به في دخول الفاء.

قال الفخر الرازي : الثالث يعني : من وجوه فساد قول سيبويه إنا إنما قلنا السارق والسارقة مبتدأ ، وخبره هو الذي يضمره ، وهو قولنا : فيما يتلى عليكم ، وفي شيء تتعلق به الفاء في قوله : فاقطعوا أيديهما. (قلت) : تقدم لنا حكمة المجيء بالفاء وما ربطت ، وقد قدره سيبويه : ومما فرض عليكم السارق والسارقة ، والمعنى : حكم السارق والسارقة ، لأنها آية جاءت بعد ذكر جزاء المحاربين وأحكامهم ، فناسب تقدير سيبويه. وجيء بالفاء رابطة الجملة الثانية بالأولى ، والثانية جاءت موضحة للحكم المبهم فيما قبل ذلك. قال الفخر الرازي : فإن قال ـ يعني سيبويه ـ الفاء تتعلق بالفعل الذي دل عليه قوله : والسارق والسارقة ، يعني : أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يده ، فنقول : إذا احتجت في آخر الأمر أن تقول السارق والسارقة تقديره من سرق ، فاذكر هذا أولا حتى لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته. (قلت) : هذا لا يقوله سيبويه ، وقد بينا حكم الفاء وفائدتها.

قال الفخر الرازي : الرابع : يعني من وجوه فساد قول سيبويه إذا اخترنا القراءة بالنصب ، لم تدل على أنّ السرقة علة لوجوب القطع. وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى ، ثم إنّ هذا المعنى متأكد بقوله : جزاء بما كسبا ، فثبت أن القراءة بالرفع أولى. (قلت) : هذا عجيب من هذا الرجل ، يزعم أنّ النصب لا يشعر بالعلة الموجبة للقطع

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٥.

٢٥٠

ويفيدها الرفع ، وهل هذا إلا من التعليل بالوصف المترتب عليه الحكم؟ فلا فرق في ذلك بين الرفع والنصب لو قلت : السارق ليقطع ، أو اقطع السارق ، لم يكن بينهما فرق من حيث التعليل. وكذلك الزاني ليجلد ، أو اجلد الزاني. ثم قوله : إن هذا المعنى متأكد بقوله : جزاء بما كسبا ، والنصب أيضا يحسن أن يؤكد بمثل هذا ، لو قلت : اقطع اللص جزاء بما كسب صح.

وقال الفخر الرازي : الخامس : يعني من وجوه فساد قول سيبويه ، أن سيبويه قال : وهم يقدمون الأهم فالأهم. والذي هم ببيانه أعني : فالقراءة بالرفع تقتضي ذكر كونه سارقا على ذكر وجوب القطع ، وهذا يقتضي أن يكون أكثر العناية مصروفا إلى شرح ما يتعلق بحال السارق من حيث أنه سارق ، وأمّا القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أتم من العناية بكونه سارقا. ومعلوم أنه ليس كذلك ، فإن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقة والمبالغة في الزجر عنها ، فثبت أنّ القراءة بالرفع هي المتعينة قطعا. (قلت) : الذي ذكر فيه سيبويه أنهم كانوا يقدمون الذي بيانه أهم لهم ، وهم ببيانه أعني هو ما اختلفت فيه نسبة الإسناد كالفاعل والمفعول. قال سيبويه : فإن قدمت المفعول وأخرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول يعني : في ضرب عبد الله زيدا قال : وذلك ضرب زيدا عبد الله ، لأنك إنما أردت به مؤخرا ما أردت به مقدما ، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول منه وإن كان مؤخرا في اللفظ ، فمن ثم كان حد اللفظ أن يكون فيه مقدما ، وهو عربي جيد كثير كأنهم يقدمون الذي بيانه لهم أهم ، وهم ببيانه أعني : وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم انتهى.

والرازي حرف كلام سيبويه وأخذه حيث لا يتصور اختلاف نسبه وهو المبتدأ والخبر ، فإنه ليس فيه إلا نسبة واحدة بخلاف الفاعل والمفعول ، لأن المخاطب قد يكون له غرض في ذكر من صدر منه الضرب فيقدم الفاعل ، أو في ذكر من حل به الضرب فيقدم المفعول ، لأن نسبة الضرب مختلفة بالنظر إليهما. وأما الآية فهي من باب ما النسبة فيه لا تختلف ، إنما هي الحكم على السارق بقطع يده. وما ذكره الرازي لا يتفرع على كلام سيبويه بوجه ، والعجب من هذا الرجل وتجاسره على العلوم حتى صنف في النحو كتابا سماه المحرر ، وسلك فيه طريقة غريبة بعيدة من مصطلح أهل النحو ومن مقاصدهم ، وهو كتاب لطيف محتو على بعض أبواب العربية ، وقد سمعت شيخنا أبا جعفر بن الزبير يذكر هذا التصنيف

٢٥١

ويقول : إنه ليس جاريا على مصطلح القوم ، وإن ما سلكه في ذلك من التخليط في العلوم ، ومن غلب عليه فن ظهر فيما يتكلم به من غير ذلك الفن أو قريبا منه من هذا المعنى ، ولما وقفت على هذا الكتاب بديار مصر رأيت ما كان الأستاذ أبو جعفر يذم من هذا الكتاب ويستزل عقل فخر الدين في كونه صنف في علم وليس من أهله. وكان أبو جعفر يقول : لكل علم حد ينتهي إليه ، فإذا رأيت متكلما في فن ما ومزجه بغيره فاعلم أنّ ذلك إما أن يكون من تخليطه وتخبيط ذهنه ، وإما أن يكون من قلة محصوله وقصوره في ذلك العلم ، فتجده يستريح إلى غيره مما يعرفه.

وقال الزمخشري بعد أن ذكر مذهب سيبويه في إعراب والسارق والسارقة ما نصه : ووجه آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء ، والخبر فاقطعوا أيديهما ، ودخول الفاء لتضمنها معنى الشرط ، لأن المعنى : والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما ، والاسم الموصول تضمن معنى الشرط. وقرأ عيسى بن عمر بالنصب ، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر ، لأن زيدا فاضربه أحسن من زيد فاضربه انتهى. وهذا الوجه الذي أجازه وإن كان ذهب إليه بعضهم لا يجوز عند سيبويه ، لأن الموصول لم يوصل بجملة تصلح لأداة الشرط ، ولا بما قام مقامها من ظرف أو مجرور ، بل الموصول هنا ال وصلة ، ال لا تصلح لأداة الشرط ، وقد امتزج الموصول بصلته حتى صار الإعراب في الصلة بخلاف الظرف والمجرور ، فإن العامل فيهما جملة لا تصلح لأداة الشرط. وأما قوله : في قراءة عيسى ، إن سيبويه فضلها على قراءة العامة فليس بصحيح ، بل الذي ذكر سيبويه في كتابه أنهما تركيبان : أحدهما زيدا اضربه ، والثاني زيد فاضربه. فالتركيب الأول اختار فيه النصب ، ثم جوزوا الرفع بالابتداء. والتركيب الثاني منع أن يرتفع بالابتداء ، وتكون الجملة الأمرية خبرا له لأجل الفاء. وأجاز نصبه على الاشتغال ، أو على الإغراء ، وذكر أنه يستقيم رفعه على أن يكون جملتان ، ويكون زيد خبر مبتدأ محذوف أي : هذا زيد فاضربه ، ثم ذكر الآية فخرجها على حذف الخبر ، ودل كلامه أنّ هذا التركيب هو لا يكون إلا على جملتين : الأولى ابتدائية ، ثم ذكر قراءة ناس بالنصب ولم يرجحها على قراءة العامة ، إنما قال : وهي في العربية على ما ذكرت لك من القوة أي : نصبها على الاشتغال أو الإغراء ، وهو قوي لا ضعيف ، وقد منع سيبويه رفعه على الابتداء ، والجملة الأمرية خبر لأجل الفاء. وقد ذكرنا الترجيح بين رفعه على أنه مبتدأ حذف خبره ، أو خبر حذف مبتدؤه ، وبين نصبه على الاشتغال بأن الرفع يلزم فيه حذف خبر واحد ، والنصب يلزم فيه حذف جملة وإضمار أخرى ، وزحلقة الفاء عن

٢٥٢

موضعها. وظاهر قوله : والسارق أنه لا يشترط حرز للمسروق ، وبه قال : داود ، والخوارج.

وذهب الجمهور إلى أنّ شرط القطع إخراجه من الحرز ، ولو جمع الثياب في البيت ولم يخرجها لم يقطع. وقال الحسن : يقطع. والظاهر اندراج كل من يسمى سارقا في عموم والسارق والسارقة ، لكن الإجماع منعقد على أنّ الأب إذا سرق من مال ابنه لا يقطع ، والجمهور على أنه لا يقطع الابن. وقال عبد الله بن الحسن : إن كان يدخل عليهما فلا قطع ، وإن كانا ينهيانه عن الدخول قطع ، ولا يقطع ذوو المحارم عند أبي حنيفة ، ولا الأجداد من جهة الأب ، والأم عند الجمهور وعند أشهب. وقال أبو ثور : يقطع كل سارق سرق ما تقطع فيه اليد ، إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع. وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تقطع المرأة إذا سرقت من مال زوجها ، ولا هو إذا سرق من مال زوجته. وقال مالك : يقطعان. والظاهر أنّ من أقرّ مرة بسرقة قطع ، وبه قال : أبو حنيفة ، وزفر ، ومالك ، والشافعي ، والثوري. وقال ابن شبرمة وأبو يوسف وابن أبي ليلى : لا يقطع حتى يقر مرتين. وقال أبو حنيفة : لا يقطع سارق المصحف. وقال الشافعي ، وأبو يوسف ، وأبو ثور ، وابن القاسم : يقطع إذا كانت قيمته نصابا. والظاهر قطع الطيار نصابا وبه قال : مالك ، والأوزاعي ، وأبو ثور ، ويعقوب ، وهو قول الحسن : وذهب أبو حنيفة ، ومحمد ، وإسحاق إلى أنه إن كانت الدراهم مصرورة في كمه لم يقطع ، أو في داخله قطع. واختلف في النبّاش إذا أخذ الكفن ، فقال أبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، ومحمد : لا يقطع ، وهو قول ابن عباس ومكحول. وقال الزهري : أجمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زمن كان مروان أميرا على المدينة أنّ النباش يعزر ولا يقطع ، وكان الصحابة متوافرين يومئذ. وقال أبو الدرداء ، وابن أبي ليلى ، وربيعة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو يوسف : يقطع ، وهو مروي عن ابن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري ، ومسروق ، والحسن ، والنخعي ، وعطاء ، والظاهر أنه إذا كرّر السرقة في العين بعد القطع فيها لم يقطع ، وبه قال الجمهور.

وقال أبو حنيفة : لا يقطع ، وأنه إذا سرق نصابا من سارق لا يقطع ، وبه قال الشافعي. وقال مالك : يقطع والمخاطب بقوله : (فَاقْطَعُوا) (١) الرسول أو ولاة الأمر كالسلطان ، ومن أذن له في إقامة الحدود ، أو القضاة والحكام ، أو المؤمنون ، ليكونوا

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٣٨.

٢٥٣

متظافرين على إقامة الحدود أقوال أربعة. وفصل بعض العلماء فقال : إن كان في البلد إمام أو نائب له فالخطاب متوجه إليه ، فإن لم يكن وفيها حاكم فالخطاب متوجه إليه ، فإن لم يكن فإلى عامة المؤمنين ، وهو من فروض الكفاية إذ ذاك ، إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين. والظاهر من قوله : فاقطعوا أيديهما أنه يقطع من السارق الثنتان ، لكن الإجماع على خلاف هذا الظاهر ، وإنما يقطع من السارق يمناه ، ومن السارقة يمناها. قال الزمخشري : أيديهما يديهما ونحوه : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (١) اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف ، وأريد باليدين اليمينان بدليل قراءة عبد الله : والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم انتهى. وسوى بين أيديهما وقلوبكما وليسا بشيئين ، لأن باب صغت قلوبكما يطرد فيه وضع الجمع موضع التثنية ، وهو ما كان اثنين من شيئين كالقلب والأنف والوجه والظهر ، وأمّا إن كان في كل شيء منهما اثنان كاليدين والأذنين والفخذين فإن وضع الجمع موضع التثنية لا يطرد ، وإنما يحفظ ولا يقاس عليه. لأن الذهن إنما يتبادر إذا أطلق الجمع لما يدل عليه لفظه ، فلو قيل : قطعت آذان الزيدين ، فظاهره قطع أربعة الآذان ، وهو استعمال اللفظ في مدلوله. وقال ابن عطية : جمع الأيدي من حيث كان لكل سارق يمين واحدة ، وهي المعرّضة للقطع في السرقة ، وللسراق أيد ، وللسارقات أيد ، كأنه قال : اقطعوا أيمان النوعين ، فالتثنية للضمير إنما هي للنوعين. وظاهر قوله : أيديهما ، أنه لا يقطع الرجل ، فإذا سرق قطعت يده اليمنى ، ثم إن سرق قطعت يده اليسرى ، ثم إن سق عزّر وحبس ، وهو مذهب مالك والجمهور ، وبه قال : أبو حنيفة والثوري. وقال عليّ ، والزهري ، وحماد بن أبي سلمة ، وأحمد : تقطع يده اليمنى ، ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى ، ثم إن سرق عزّر وحبس. وروى عطاء : لا تقطع في السرقة إلا اليد اليمنى فقط ، ثم إن سرق عزّر وحبس. وقال الشافعي : إذا سرق أولا قطعت يده اليمنى ، ثم في الثانية رجله اليسرى ، ثم في الثالثة يده اليسرى ، ثم في الرابعة رجله اليمنى ، وروي هذا عن عمر. قيل : ثم رجع إلى قول عليّ. وظاهر قطع اليد أنه يكون من المنكب من المفصل. وروي عن عليّ : أنه في اليد من الأصابع ، وفي الرّجل من نصف القدم وهو معقد الشرك. وروي مثله عن عطاء ، وأبي جعفر. وقال أبو صالح السمان : رأيت الذي قطعه عليّ مقطوعا من أطراف الأصابع ، فقيل له : من قطعك؟ قال : خير الناس. والظاهر أنّ المترتب على السرقة هو قطع اليد فقط. فإن كان المال قائما بعينه أخذه صاحبه ، وإن كان السارق

__________________

(١) سورة التحريم : ٦٦ / ٤.

٢٥٤

استهلكه فلا ضمان عليه ، وبه قال : مكحول ، وعطاء ، والشعبي ، وابن سيرين ، والنخعي في قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال الحسن ، والزهري ، والنخعي في قول حماد ، وعثمان البتي ، والليث ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق : يضمن ويغرم. وقال مالك : إن كان موسرا ضمن أو معسرا فلا شيء عليه.

(جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) قال الكسائي : انتصب جزاء على الحال. وقال قطرب : على المصدر ، أي : جازاهم جزاء. وقال الجمهور : هو على المفعول من أجله ، وبما متعلق بجزاء ، وما موصولة أي : بالذي كسباه. ويحتمل أن تكون مصدرية أي : جزاء بكسبهما ، وانتصاب نكالا على المصدر ، أو على أنه مفعول من أجله. والعذاب : النكال ، والنكل القيد تقدّم الكلام فيه في قوله : (فَجَعَلْناها نَكالاً) (١). وقال الزمخشري : جزاء ونكالا مفعول لهما انتهى ، وتبع في ذلك الزجاج. قال الزجاج : هو مفعول من أجله يعني جزاء. قال : وكذلك نكالا من الله انتهى. وهذا ليس بجيد. إلا إذا كان الجزاء هو النكال ، فيكون ذلك على طريق البدل. وأما إذا كانا متباينين فلا يجوز أن يكونا مفعولين لهما إلا بواسطة حرف العطف.

(وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قيل : المعنى عزيز في شرع الرّدع ، حكيم في إيجاب القطع. وقيل : عزيز في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعصية ، حكيم في فرائضه وحدوده. روي أنّ بعض الأعراب سمع قارئا يقرأ : والسارق والسارقة إلى آخرها وختمها بقوله : والله غفور رحيم فقال : ما هذا كلام فصيح ، فقيل له : ليس التلاوة كذلك ، وإنما هي والله عزيز حكيم فقال : بخ بخ عز ، فحكم ، فقطع.

فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)

أي (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن تاب من بعد ظلمه بالسرقة. وظلمه مضاف إلى الفاعل أي : من بعد أن ظلم غيره بأخذ مال أو سرقة. قيل : أو مضاف إلى المفعول أي : من بعد أن ظلم نفسه. وفي جواز هذا الوجه نظر إذ يصير التقدير : من بعد أن ظلمه. ولو صرح بهذا لم يجز ، لأن فيه تعدي الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المتصل المنصوب ، وذلك لا يجوز إلا في باب ظن ، وفقد ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٦.

٢٥٥

وعدم. ومعنى يتوب عليه أي : يتجاوز عنه ويقبل توبته. وظاهر الآية أنه بمجرد التوبة لا يقبل إلا إن ضم إلى ذلك الإصلاح وهو التنصل من التبعات بردها إن أمكن ، وإلا بالاستحلال منها ، أو بإنفاقها في سبيل الله إن جهل صاحبها. والغفران والرحمة كناية عن سقوط العقوبة عنه في الآخرة. قرأ الجمهور على أن الحد لا يسقط بالتوبة. وقال عطاء وجماعة : يسقط بالتوبة قبل القدرة على السارق ، وهو أحد قولي الشافعي. وقال مجاهد : التوبة والإصلاح هي أن يقام عليه الحد.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) لما ذكر تعالى تصرفه في أحكام المحاربين وأحكام السّراق ، ولم يحاب ما ذكر من العقوبات عليهم ، نبه على أن ذلك هو تصرف في ملكه ، وملكه لا معقب لحكمه ، فيعذب من يشاء عذابه وهم المخالفون لأمره ، ويغفر لمن يشاء وهم التائبون. والخطاب في ألم تعلم قيل : للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : لكل مكلف ، وقيل : للمجترئ على السرقة وغيرها من المحظورات. فالمعنى : ألم تعلم أنّك عاجز عن الخروج عن ملكي ، هاربا مني ومن عذابي ، فلم اجترأت على ما منعتك منه؟ وأبعد من ذهب أنه خطاب اليهود كانوا بحضرة الرسول ، والمعنى : ألم تعلموا أنه له ملك السموات والأرض ، لا قرابة ولا نسب بينه وبين أحد حتى يحابيه ، ويترك القائلين نحن أبناء الله وأحباؤه. قال الزمخشري : من يشاء من يجب في الحكم تعذيبه والمغفرة له من المصرّين والتائبين انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. وقد يسقط حد الحربي إذا سرق بالتوبة ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه ، ولا نسقطه عن المسلم لأن في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (١) وقال ابن عباس والضحاك : يعذب من يشاء ، أي من مات على كفره ، ويغفر لمن يشاء ممن تاب عن كفره. وقيل : ذلك في الدنيا ، يعذب من يشاء في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والسبي والأسر وإذهاب المال والجدب والنفي والخزي والجزية وغير ذلك ، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتوبة عليه من كفره ومعصيته فينقذه من الهلكة وينجيه من العقوبة.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كثيرا ما يعقب هذه الجملة ما دل على التصرّف التام ، والملك والخلق والاختراع ، وهي في غاية المناسبة عقيب ما ذكروه من ذلك قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (٢)

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٩.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ١٧.

٢٥٦

ألم تعلم أنّ الله له ملك السماوات والأرض يعذّب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كلّ شيء قدير (٤٠) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ

٢٥٧

وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)

السّحت والسحت بسكون الحاء وضمها الحرام ، سمي بذلك لأنه يسحت البركة أي يذهبها. يقال : سحته الله أي أهلكه ، ويقال : أسحته ، وقرئ بهما في قوله : (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) (١) أي يستأصلكم ويهلككم ، ومنه قول الفرزدق :

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع

من المال إلا مسحتا أو مجلف

ومصدر الثلاثي سحت بفتحتين ، وسحت بإسكان الحاء. وقال الفراء : أصل السحت كلب الجوع ويقال : فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلقى أبدا إلا خائفا ، وهو راجع لمعنى الهلاك.

الحبر : بفتح الحاء وكسرها العالم ، وجمعه الأحبار. وكان أبو عبيد ينكر ذلك ويقول : هو بفتح الحاء. وقال الفراء : هو بالكسر ، واختار أبو عبيد الفتح. وتسمى هذه السورة سورة الأحبار ، ويقال : كعب الأحبار. والحبر بالكسر الذي يكتب به ، وينسب إليه الحبري الحبار. ويقال : كتب الحبر لمكان الحبر الذي يكتب به ، وسمي حبرا لتحسينه الخط وتبيينه إياه. وقيل : سمي حبرا لتأثيره في الموضع الذي يكون به من الحبار وهو الأثر.

العين : حاسة الرؤية وهي مؤنثة ، وتجمع في القلة على أعين وأعيان ، وفي الكثرة على عيون. وقال الشاعر :

ولكنني أغدو عليّ مفاضة

دلاص كأعيان الجراد المنظم

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٦١.

٢٥٨

ويقال للجاسوس : ذو العينين ، والعين لفظ مشترك بين معان كثيرة ذكرها اللغويون. الأنف : معروف والجمع آناف وأنف وأنوف.

المهيمن : الشاهد الرقيب على الشيء الحافظ له ، وهو اسم فاعل من هيمن قالوا : ولم يجئ على هذا الوزن إلا خمسة ألفاظ : هيمن ، وسيطر ، وبيطر ، وحيمر ، وبيقر ، ذكر هذا الخامس الزجاجي في شرحه خطبة أدب الكاتب ، ومعناه : سار من الحجاز إلى اليمن ، ومن أفق إلى أفق. وهيمن بنا أصل. وذهب بعض اللغويين إلى أنّ مهيمنا اسم فاعل من أمن غيره من الخوف قال : فأصله مأمن قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة اجتماع الهمزتين فصار مؤيمن ، ثم أبدلت الهمزة الأولى هاء كما قالوا : اهراق في أراق ، وهياك في إياك ، وهذا تكلف لا حاجة إليه ، وقد ثبت نظير هذا الوزن في ألفاظ فيكون هذا منها. وأيضا فالهمزة في مؤمن اسم فاعل من آمن قد سقطت كراهة اجتماع الهمزتين ، فلا يدعي أنها أقرت وأبدل منها. وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة من أنه تصغير مؤمن ، وأبدلت همزته هاء ، فقد كتب إليه أبو العباس المبرد يحذره من هذا القول. واعلم أنّ أسماء الله تعالى لا تصغر. الشرعة : السنة والطريقة شرع يشرع شرعا أي سنّ ، والشارع الطريق الأعظم ، ومنزل شارع إذا كان بابه قد شرع إلى طريق نافذ. المنهاج والمنهج : الطريق الواضح ، ونهج الأمر استبان ، ونهجت الطريق أبنته وأوضحته ، ونهجت الطريق سلكته.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) روي عن أبي هريرة وابن عباس وجماعة : أن سبب نزولها أنّ يهوديا زنى بيهودية ، قيل : بالمدينة. وقيل : بغيرها من أرض الحجاز ، فسألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطمعوا أن يكون غير الرجم حدهما ، وكان في التوراة رجم ، فأنكروا ذلك أن يكون في التوراة وافتضحوا إذ أحضروها ، وحكم الرسول فيهما بالرجم وأنفذه. وقال قتادة : السبب أنّ بني النضير كانوا إذا غزوا بني قريظة ، فإن قتل قرظي نضيريا قتل به ، أو نضيري قرظيا أعطى الدية. وقيل : كانت دية القرظي على نصف دية النضيري ، فلما جاء الرسول المدينة طلبت قريظة الاستواء لأنهما أبناء عم ، وطلبت الحكومة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت بنو النضير : إن حكم بما نحن عليه فخذوه ، وإلا فاحذروا. وقال السدي : نزلت في رجل من الأنصار وهذا بعيد من مساق الآية. وذكروا أن هذا الرجل هو أبو لبابة بن عبد المنذر ، أشارت إليه قريظة يوم حصرهم علام ينزل من الحكم ، فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح. وقال الشعبي : نزلت في قوم من اليهود قتل واحد منهم آخر ، فكلفوا رجلا من المسلمين أن يسأل الرسول

٢٥٩

قالوا : فإن أفتى بالدية قبلنا ، وإن أفتى بالقتل لم نقبل. وهذا نحو من قول قتادة في النضير وقريظة.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما بين أحكام الحرابة والسرقة ، وكان في ذكر المحاربين أنهم يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ، أمره تعالى أن لا يحزن ولا يهتم بأمر المنافقين ، وأمر اليهود من تعنتهم وتربصهم به وبمن معه الدوائر ونصبهم له حبائل المكروه ، وما يحدث لهم من الفساد في الأرض. ونصب المحاربة لله ولرسوله وغير ذلك من الرذائل الصادرة عنهم. ونداؤه تعالى له : يا أيها الرسول هنا ، وفي (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) (١) ويا أيها النبي في مواضع تشريف وتعظيم وتفخيم لقدره ، ونادى غيره من الأنبياء باسمه فقال : (يا آدَمُ اسْكُنْ) (٢) و (يا نُوحُ اهْبِطْ) (٣) (يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) (٤) (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) (٥) (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) (٦) (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ) (٧). وقال مجاهد وعبد الله بن كثير : من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، هم اليهود المنافقون ، وسماعون للكذب هم اليهود. والمعنى على هذا : لا تهتم بمسارعة المنافقين في الكفر واليهود بإظهار ما يلوح لهم من آثار الكفر وهو كيدهم للإسلام وأهله ، فإنّ الله ناصرك عليهم ويقال : أسرع فيه السبب ، وأسرع فيه الفساد ، إذا وقع فيه سريعا. ومسارعتهم في الكفر وقوعهم وتهافتهم فيه. أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها ، وتكون من الأولى والثانية على هذا تنبيها وتقسيما للذين يسارعون في الكفر ، ويكون سماعون خبر مبتدأ محذوف أي : هم سماعون ، والضمير عائد على المنافقين وعلى اليهود. ويدل على هذا المعنى قراءة الضحاك : سماعين ، وانتصابه على الذم نحو قوله :

أقارع عوف لا أحاول غيرها

وجوه قرود تبتغي من تخادع

ويجوز أن يكون : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) (٨) استئنافا ، وسماعون مبتدأ وهم اليهود ، وبأفواههم متعلق بقالوا لا بآمنا والمعنى : أنهم لم يجاوز قولهم أفواههم ، إنما نطقوا بالإيمان خاصة دون اعتقاد. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : لا يحزنك المسارعون في الكفر من اليهود ، وصفهم بأنهم قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم إلزاما

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٦٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٣٥.

(٣) سورة هود : ١١ / ٤٨.

(٤) سورة الصافات : ٣٧ / ١٠٤ ـ ١٠٥.

(٥) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٤.

(٦) سورة آل عمران : ٣ / ٥٥.

(٧) سورة مريم : ١٩ / ١٢.

(٨) سورة النساء : ٤ / ٤٦.

٢٦٠