البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

أمية الزهري ، وقيل : كتابا نعاينه حتى ينزل ، وسمي من سائلي اليهود : كعب بن الأشرف ، وفنحاص بن عازوراء. وقيل : السائلون هم اليهود والنصارى وسؤالهم إنما هو على سبيل التعنت. وقال الحسن : لو سألوه لكي يتبين الحق لأعطاهم ، فإن فيما أعطاكم كفاية.

(فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) قدروا قبل هذا كلاما محذوفا ، فجعله الزمخشري شرطا هذا جوابه وتقديره : إن استكبرت ما سألوه منك ، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك. وقدره ابن عطية : فلا تبال يا محمد عن سؤالهم وتشطيطهم ، فإنها عادتهم ، فقد سألوا موسى. وأسند السؤال إليهم ، وإن كان إنما وقع من آبائهم من نقبائهم السبعين ، لأنهم راضون بفعل آبائهم ومذاهبهم ، ومشابهون لهم في التعنت. وقرأ الحسن : أكثر بالثاء المثلثة بدل الباء في قراءة الجمهور ، ومعنى جهرة : عيانا رؤية منكشفة بينة. والجهرة من وصف الرّوية. واختلف في النقل عن ابن عباس فروى عنه : «أن جهرة من صفة السؤال ، فقد سألوا موسى. أو حالا من ضمير سألوا أي : سألوه مجاهرين. وروي عنه أن التقدير : فقالوا جهرة منه وتصريحا أرنا الله ، فيكون من صفة القول.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) أي : تعنتهم وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه. وقال الزمخشري : بظلمهم بسبب سؤالهم الرؤية ، ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا ظالمين ، ولما أخذتهم الصاعقة. كما سأل ابراهيم عليه‌السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ، ولا رماه بالصاعقة للمشبهة ورميا بالصواعق انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال في استحالة رؤية الله عندهم. وأهل السنة يعتقدون أنهم لم يسألوا محالا عقلا ، لكنه ممتنع من جهة الشرع ، إذ قد أخبر تعالى على ألسنة أنبيائه أنه لا يرى في هذه الحياة الدنيا ، والرؤية في الآخرة ثابتة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتواتر ، وهي جائزة عقلا ، وتقدّم الكلام في البقرة على الصاعقة. وقرأ السلميّ والنخعي : فأخذتهم الصعقة ، والجمهور الصاعقة.

(ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) ثم : للترتيب في الأخبار لا في نفس الأمر ، ثم قد كان من أمرهم أن اتخذوا العجل : أي آباؤهم ، والذين صعقوا غير الذين اتخذوا العجل. والبينات : إجازة البحر ، والعصا ، وغرق فرعون ، وغير ذلك. وقال الحوفي : أعلم نبيه بعنادهم وإصرارهم فالمعنى : أنه لو نزل عليهم الذي سألوا لخالفوا أمر الله كما خالفوه من بعد إحياء الله لهم من صعقتهم ، وعبدوا العجل واتخذوه إلها.

(فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) أي : عن اتخاذهم العجل إلها عن جميع ما تقدم من مخالفتهم.

١٢١

والأوّل أظهر ، لأنه قد صرح في قصة العجل بالتوبة. ويعني : بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم ، ثم وقع العفو عن الباقين منهم.

(وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) أي : حجة وتسلطا واستيلاء ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه ، واحتبوا بأفنيتهم ، والسيوف تتساقط عليهم ، فياله من سلطان مبين.

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) تقدّم ما المعنى بالطور. وفي الشام جبل عرف بالطور ولزمه هذا الاسم ، وهو طور سيناء. وليس هو المرفوع على بني إسرائيل ، لأن رفع الجبل كان فيما يلي التيه من جهة ديار مصر وهم ناهضون مع موسى عليه‌السلام ، وتقدمت قصة رفع الطور في البقرة. والباء في بميثاقهم للسبب ، وهو العهد الذي أخذه موسى عليهم بعد تصديقهم بالتوراة أن يعملوا بما فيها ، فنقضوا ميثاقهم وعدبوا العجل ، فرفع الله عليهم الطور. وفي كلام محذوف تقديره : بنقض ميثاقهم.

(وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) تقدّم تفسير هذه الجملة في البقرة.

(وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) تقدّم ذكره عند اعتدائهم في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) (١). وقرأ ورش لا تعدوا بفتح العين وتشديد الدال ، على أنّ الأصل لا تعتدوا ، فألقيت حركة التاء على العين ، وأدغمت التاء في الدال. وقرأ قالون : بإخفاء حركة العين وتشديد الدال ، والنص بالإسكان. وأصله أيضا لا تعتدوا. وقرأ الباقون من السبعة : لا تعدوا بإسكان العين وتخفيف الدال من عدى يعدو. وقال تعالى : (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) (٢) وقرأ الأعمش والأخفش : لا تعتدوا من اعتدى.

(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) قيل : هو الميثاق الأول في قوله : (بِمِيثاقِهِمْ) (٣) ووصف بالغلظ للتأكيد ، وهو المأخوذ على لسان موسى وهارون أن يأخذوا التوراة بقوة ، ويعملوا بجميع ما فيها ، ويوصلوه إلى أبنائهم. وقيل : هذا الميثاق غير الأوّل ، وهو الميثاق الثاني الذي أخذ على أنبيائهم بالتصديق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان به ، وهو المذكور في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ) (٤) الآية.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٥.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٦٣.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١٥٤.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ٨١.

١٢٢

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) قال ابن عطية فيما لخصناه من كلامه ، هذا إخبار عن أشياء واقعوها في الضد مما أخذوا به ، نقضوا الميثاق الذي رفع عليهم الطور بسببه ، وجعلوا بدل الإيمان الذي تضمنه الأمر بدخول الباب سجدا المتضمن التواضع الذي هو ثمرة الإيمان ، كفرهم بآيات الله ، وبذل الطاعة ، وامتثال موافقته ، في أن لا يعدوا في السبت انتهاك أعظم الحرم ، وهو قتل الأنبياء ، وقابلوا أخذ الميثاق الغليظ بتجاهلهم وقولهم : قلوبنا غلف : أي : في حجب ، وغلف : فهي لا تفهم. وأضرب الله تعالى عن قولهم وكذبهم ، وأخبر تعالى أنه قد طبع عليها بسبب كفرهم انتهى. والميثاق المنقوض : أهو كتمانهم صفة الرسول وتكذيبه فيما جاء به؟ أو تركهم العمل بما في كتابهم؟ مع أنهم قبلوا والتزموا العمل بها قولان. وآيات الله التي كفروا بها أهي التي أنزلت عليهم في كتبهم؟ أو جميع كتب الله المنزلة؟ قولان. وتقدم شرح قلوبنا غلف في البقرة.

(بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) أدغم لام بل في طاء طبع الكسائي وحمزة ، وأظهرها باقي السبعة. وقال الزجاج : بل طبع الله عليها بكفرهم خبر معناه الذم ، على أنّ قلوبهم بمنزلة المطبوع عليها التي لا تفهم أبدا ولا تطيع مرسلا. وقال الزمخشري : أرادوا بقولهم : قلوبنا غلف ، أي أن الله خلق قلوبنا غلفا ، أي : في أكنة لا يتوصل إليها بشيء من الذكر والموعظة ، كما حكى الله عن المشركين : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) (١) وتكذيب المجبرة أخزاهم الله فقيل لهم : خذلها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم ، فصارت كالمطبوع عليها ، لا أن تخلق غلفا غير قابلة الذكر ، ولا متمكنة من قبوله انتهى. وهو على مذهبه الاعتزالي. وأما أهل السنة فيقولون : إن الله طبع عليها حقيقة كما أخبر تعالى إذ لا خالق غيره. والباء في فبما نقضهم تتعلق بمحذوف قدره الزمخشري : فعلنا بهم ما فعلناه. وقدره ابن عطية : لعناهم وأذللناهم ، وحتمنا على الوافين منهم الخلود في جهنم. قال ابن عطية : وحذف جواب هذا الكلام بليغ متروك مع ذهن السامع انتهى. وتسمية ما يتعلق به المجرور بأنه جواب اصطلاح لم يعهد في علم النحو ، ولا تساعده اللغة ، لأنه ليس بجواب. وجوزوا أن يتعلق بقوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) (٢) على أن قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) (٣) بدل من قوله : فبما نقضهم ميثاقهم ، وقاله الزجاج ، وأبو بكر ، والزمخشري ،

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٢٠.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٦.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١٦٠.

١٢٣

وغيرهم. وهذا فيه بعد لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه ، ولأن المعطوف على السبب سبب ، فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم في الوقت عن وقت التحريم ، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو مسببا إلا بتأويل بعيد وبيان ذلك أن قولهم على مريم بهتانا عظيما ، وقولهم : إنا قتلنا المسيح ، متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم ، فالأولى أن يكون التقدير : لعناهم ، وقد جاء مصرحا به في قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) (١).

(فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) تقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته.

(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) الظاهر في قوله : وبكفرهم ، وقولهم أنه معطوف على قوله : فبما نقضهم وما بعده. على أن الزمخشري أجاز أن يكون قوله : وبكفرهم وقولهم ، معطوفا على بكفرهم. وتكرار نسبة الكفر إليهم بحسب متعلقاته ، إذ كفروا بموسى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمد عليه‌السلام ، فعطف بعض كفرهم على بعض. قال الزمخشري : أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه ، كأنه قيل : فبجمعهم بين نقض الميثاق والكفر بآيات الله وقتلهم الأنبياء وقولهم : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) (٢) ، وجمعهم بين كفرهم وبهتهم مريم ، وافتخارهم بقتل عيسى عليه‌السلام ، عاقبناهم. أو بل طبع الله عليها وجمعهم بين كفرهم ، وكذا وكذا. وقال الزمخشري أيضا : (فإن قلت) : هلا زعمت أنّ المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله : بل طبع الله عليها بكفرهم؟ (قلت) : لم يصح هذا التقدير ، لأن قوله : بل طبع الله عليها بكفرهم ، ردّ وإنكار لقولهم : قلوبنا غلف ، فكان متعلقا به انتهى. وهو جواب حسن ، ويمتنع من وجه آخر وهو أنّ العطف ببل يكون للإضراب عن الحكم الأول ، وإثباته للثاني على جهة إبطال الأول ، أو الانتقال عاما في كتاب الله في الإخبار ، فلا يكون إلا للانتقال. ويستفاد من الجملة الثانية ما لا يستفاد من الجملة الأولى. والذي قدّره الزمخشري لا يسوغ فيه هذا الذي قرّرناه ، لأن قوله : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله ، وقولهم : قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم ، فأفادت الجملة الثانية ما أفادت الجملة الأولى وهو لا يجوز. لو قلت : مر زيد بعمرو ، بل مر زيد بعمرو ، لم يجز. وقد أجاز ذلك أبو البقاء وهو أن يكون

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١٣.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٥٥.

١٢٤

التقدير : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله ، وكذا طبع على قلوبهم. وقيل : التقدير فبما نقضهم ميثاقهم لا يؤمنون إلا قليلا ، والفاء مقحمة. وما في قوله : فبما نقضهم كهي في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ) (١) وتقدّم الكلام فيها. والبهتان العظيم رميهم مريم عليها‌السلام بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى عليه‌السلام في المهد. قال ابن عطية : وإلا فلولا الآية لكانوا في قولهم جارين على حكم البشر في إنكار حمل من غير ذكر انتهى. ووصف بالعظم لأنهم تمادوا عليه بعد ظهور الآية وقيام المعجزة بالبراءة ، وقد جاءت تسمية الرمي بذلك بهتانا عظيما في قوله : (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) (٢).

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) الظاهر أن رسول الله من قولهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء ، كقول فرعون أن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وقوله : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (٣) ويجوز أن يكون من كلام الله تعالى وضع الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنه رفعا لعيسى عليه‌السلام ، كما كانوا يذكرونه به. ذكر الوجهين الزمخشري ، ولم يذكر ابن عطية سوى الثاني قال : هو إخبار من الله تعالى بصفة عيسى عليه‌السلام ، وهي الرسالة على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل ولزمهم الذنب ، وهم لم يقتلوا عيسى ، لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى ، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول. ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أنّ قتلهم وقع في عيسى ، فكأنهم قتلوه ، وليس يدفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول.

(وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) هذا إخبار منه تعالى بأنهم ما قتلوا عيسى وما صلبوه.

واختلف الرواة في كيفية القتل والصلب ، ولم يثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك شيء غير ما دل عليه القرآن.

ومنتهى ما آل إليه أمر عيسى عليه‌السلام أنه طلبته اليهود فاختفى هو والحواريون في بيت ، فدلوا عليه وحضروا ليلا وهم ثلاثة عشر ، أو ثمانية عشر ، ففرقهم تلك الليلة ووجههم إلى الآفاق ، وبقي هو ورجل معه ، فرفع عيسى ، وألقى شبهه على الرجل فصلب. وقيل : هو اليهودي الذي دل عليه. وقيل : قال لأصحابه : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل ويخلص

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٥٩.

(٢) سورة النور : ٢٤ / ١٦.

(٣) سورة هود : ١١ / ٨٧.

١٢٥

هؤلاء ، وهو رفيقي في الجنة؟ فقال سرجس : أنا ، فألقي عليه شبه عيسى. وقيل : ألقي شبهه على الجميع ، فلما أخرجوا نقص واحد من العدّة ، فأخذوا واحدا ممن عليه الشبه فصلب. وروي أنّ الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر عيسى لما رأوه من نقصان العدة واختلاط الأمر ، فصلب ذلك الشخص ، وأبعد الناس عن خشبته أياما حتى تغير ، ولم تثبت له صفة ، وحينئذ دنا الناس منه ، ومضى الحواريون يتحدثون في الآفاق أن عيسى صلب. وقيل : لم يلق شبهه على أحد ، وإنما معنى : ولكن شبه لهم ، أي شبه عليهم الملك الممخرق ليستديم بما نقص واحد من العدة ، وكان بادر بصلب واحد وأبعد الناس عنه ، وقال : هذا عيسى ، وهذا القول هو الذي ينبغي أن يعتقد في قوله : ولكن شبه لهم. أمّا أن يلقى شبهه على شخص ، فلم يصح ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيعتمد عليه.

وقد اختلف فيمن ألقي عليه الشبه اختلافا كثيرا. فقيل : اليهودي الذي دل عليه. وقيل : خليفة قيصر الذي كان محبوسا عنده. وقيل : واحد من اليهود. وقيل : دخل ليقتله. وقيل : رقيب وكلته به اليهود. وقيل : ألقى الشبه على كل الحواريين. وقيل : ألقى الشبه على الوجه دون البدن ، وهذا الوثوق مما يدفع الوثوق بشيء من ذلك. ولهذا قال بعضهم : إن جاز أن يقال : إنّ الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر ، فهذا يفتح باب السفسطة. وقيل : سبب اجتماع اليهود على قتله هو أنّ رهطا منهم سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم : «اللهم أنت ربي ، وبكلمتك خلقتني ، اللهم العن من سبني وسب والدتي» فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير ، فاجتمعت اليهود على قتله. وشبه مسند إلى الجار والمجرور كقوله : خيل إليه ، ولكن وقع لهم التشبيه. ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول الدال عليه : إنا قتلنا أي : ولكن شبه لهم من قتلوه. ولا يجوز أن يكون ضمير المسيح ، لأن المسيح مشبه به لا مشبه.

(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) اختلف فيه اليهود فقال بعضهم : لم يقتل ولم يصلب ، الوجه وجه عيسى ، والجسد جسد غيره. وقيل : أدخلوا عليه واحدا ليقتله ، فألقى الشبه عليه فصلب ، ونقص من العدد واحد. وكانوا علموا عدد الحواريين فقالوا : إن كان المصلوب صاحبنا فأين عيسى؟ وإن كان عيسى فأين صاحبنا؟ وقيل : قال العوامّ : قتلنا عيسى ، وقال من عاين : رفعه إلى السماء ما قتل ولا صلب. قال ابن عطية : واليقين الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أنّ شخصا ب ، وهل هو عيسى أم لا؟ فليس هو من علم الحواس ، فلذلك لم يقع في ذلك نقل

١٢٦

كافة. والضمير في فيه عائد على القتل معناه : في قتله ، وهذا هو الظاهر الذي يدل عليه ما قبله وما بعده. وقيل : الضمير في اختلفوا عائد على اليهود أيضا ، واختلافهم فيه قول بعضهم : إنه إله. وقول بعضهم : إنه ابن الله تعالى. وقيل : اختلافهم فيه أن النسطورية قالوا : وقع الصلب على ناسوته دون لاهوته. وقيل : وقع القتل والصلب عليهما. وقيل : عائد على اليهود والنصارى ، فإن اليهود قالوا : هو ابن زنا. وقالت النصارى : هو ابن الله. وقيل : اختلافهم من جهة أن النصارى قالوا : إن اليهود قتلته وصلبته ، واليهود الذين عاينوا رفعه قالوا : رفع إلى السماء. والجمهور على أنّ إلا اتباع الظنّ استثناء منقطع ، لأن اتباع الظنّ ليس من جنس العلم. أي : ولكنّ اتباع الظنّ لهم.

وقال الزمخشري : يعني ولكنهم يتبعون الظنّ ، وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب. وقال ابن عطية : هو استثناء متصل ، إذ الظنّ والعلم يضمهما أنهما من معتقدات اليقين. وقد يقول الظان على طريق التجوّز : علمي في هذا الأمر أنه كذا ، وهو يعني ظنه انتهى. وليس كما ذكر ، لأنّ الظنّ ليس من معتقدات اليقين ، لأنه ترجيح أحد الجائزين ، وما كان ترجيحا فهو ينافي اليقين ، كما أن اليقين ينافي ترجيح أحد الجائزين. وعلى تقدير أنّ الظنّ والعلم يضمهما ما ذكر ، فلا يكون أيضا استثناء متصلا ، لأنه لم يستثني الظنّ من العلم. فليست التلاوة ما لهم به من علم إلا الظنّ ، وإنما التلاوة إلا اتباع الظنّ ، والاتباع للظنّ لا يضمه والعلم جنس ما ذكر. وقال الزمخشري. (فإن قلت) : لم وصفوا بالشك والشك أنّ لا يترجح أحد الجائزين؟ ثم وصفوا بالظنّ والظنّ أن يترجح أحدهما ، فكيف يكونون شاكين ظانين؟ (قلت) : أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط ، ولكن لاحت لهم أمارة فظنوا انتهى. وهو جواب سؤاله ، ولكن يقال : لا يرد هذا السؤال لأنّ العرب تطلق الشك على ما لم يقع فيه القطع ، واليقين فيدخل فيه كلما يتردّد فيه ، إما على السواء بلا ترجيح ، أو بترجيح أحد الطرفين. وإذا كان كذلك اندفع السؤال.

(وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) قال ابن عباس والسدي وجماعة : الضمير في قتلوه عائد على الظن. تقول : قتلت هذا الأمر علما إذا قطعت به وجزمت الجزم الذي لا يخالجه شيء. فالمعنى : وما صح ظنهم عندهم وما تحققوه يقينا ، ولا قطعوا الظن باليقين. وقال الفراء وابن قتيبة ؛ الضمير عائد على العلم أي : ما قتلوا العلم يقينا. يقال : قتلت العلم والرأي يقينا ، وقتلته علما ، لأن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء ، فكأنه قيل : لم يكن علمهم بقتل المسيح علما أحيط به ، إنما كان ظنا. قال الزمخشري : وفيه تهكم ، لأنه إذا نفى

١٢٧

عنهم العلم نفيا كليا بحرف الاستغراق ثم قيل : وما علموه علم يقين ، وإحاطة لم يكن إلا تهكما انتهى. والظاهر قول الجمهور : إن الضمير يعود على عيسى بجعل الضمائر كلها كشيء واحد ، فلا تختلف. والمعنى صحيح بليغ ، وانتصاب يقينا على أنه مصدر في موضع الحال من فاعل قتلوه أي : متيقنين أنه عيسى كما ادعوا ذلك في قولهم : إنا قتلنا المسيح قاله : السدي. أو نعت لمصدر محذوف أي : قتلا يقينا جوزه الزمخشري. وقال الحسن : وما قتلوه حقا انتهى. فانتصابه على أنه مؤكد لمضمون الجملة المنفية كقولك : وما قتلوه حقا أي : حق انتفاء قتله حقا. وما حكي عن ابن الأنباري أنه في الكلام تقديما وتأخيرا ، وإن يقينا منصوب برفعه الله إليه ، والمعنى : بل رفعه الله إليه يقينا ، فلعله لا يصح عنه. وقد نص الخليل على أن ذلك خطأ ، لأنه لا يعمل ما بعد بل في ما قبلها.

(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) هذا إبطال لما ادعوه من قتله وصلبه ، وهو حي في السماء الثانية على ما صح عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث المعراج. وهو هنالك مقيم حتى ينزله الله إلى الأرض لقتل الدجال ، وليملأها عدلا كما ملئت جورا ، ويحيا فيها أربعين سنة ثم يموت كما تموت البشر. وقال قتادة : رفع الله عيسى إليه فكساه الريش وألبسه النور ، وقطع عنه المطعم والمشرب ، فصار مع الملائكة ، فهو معهم حول العرش ، فصار إنسيّا ملكيا سماويا أرضيا.

والضمير في إليه عائد إلى الله تعالى على حذف التقدير إلى سمائه ، وقد جاء (وَرافِعُكَ إِلَيَ) (١). وقيل : إلى حيث لا حكم فيه إلا له. ولا يوجه الدعاء إلا نحوه ، وهو راجع إلى الأول. وقال أبو عبد الله الرازي : أعلم الله تعالى عقيب ذكره أنه وصل إلى عيسى أنواع من البلايا ، أنه رفعه إليه فدل أنّ رفعه إليه أعظم في إيصال الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية ، وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية انتهى. وفيه نحو من كلام المتفلسفة.

(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) قال أبو عبد الله الرازي : المراد من المعزة كمال القدرة ، ومن الحكمة كمال العلم ، فنبه بهذا على أنّ رفع عيسى عليه‌السلام من الدنيا إلى السموات وإن كان كالمتعذر على البشر ، لكن لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرتي وحكمتي

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٥٥.

١٢٨

انتهى. وقال غيره : عزيزا أي قويا بالنقمة من اليهود ، فسلط عليهم بطرس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة. حكيما حكم عليهم باللعنة والغضب. وقيل : عزيزا أي : لا يغالب ، لأن اليهود حاولت بعيسى عليه‌السلام أمرا وأراد الله خلافه. حكيما أي : واضع الأشياء مواضعها. فمن حكمته تخليصه من اليهود ، ورفعه إلى السماء لما يريد وتقتضيه حكمته تعالى. وقال وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة ، ثم رفعه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فكانت نبوته ثلاث سنين. وقيل : بعث الله جبريل عليه‌السلام فأدخله خوخة فيها روزنة في سقفها ، فرفعه الله تعالى إلى السماء من تلك الروزنة.

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) إن هنا نافية ، والمخبر عنه محذوف قامت صفته مقامه ، التقدير : وما أحد من أهل الكتاب. كما حذف في قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (١) والمعنى : وما من اليهود. وقوله : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (٢) أي : وما أحد منا إلا له مقام ، وما أحد منكم إلا واردها. قال الزجاج : وحذف أحد لأنه مطلوب في كل نفي يدخله الاستثناء نحو : ما قام إلا زيد ، معناه ما قام أحد إلا زيد. وقال الزمخشري : ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره : وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ونحوه : وما منا إلا له مقام معلوم ، وإن منكم إلا واردها. والمعنى : وما من اليهود أحد إلا ليؤمنن به انتهى.

وهو غلط فاحش إذ زعم أنّ ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف إلى آخره ، وصفة أحد المحذوف إنما هو الجار والمجرور وهو من أهل الكتاب ، والتقدير كما ذكرناه : وإن أحد من أهل الكتاب. وأما قوله : ليؤمنن به ، فليست صفة لموصوف ، ولا هي جملة قسمية كما زعم ، إنما هي جملة جواب القسم ، والقسم محذوف ، والقسم وجوابه في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو أحد المحذوف ، إذ لا ينتظم من أحد. والمجرور إسناد لأنه لا يفيد ، وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها ، فذلك هو محط الفائدة. وكذلك أيضا الخبر هو إلا له مقام ، وكذلك إلا واردها ، إذ لا ينتظم مما قبل إلا تركيب إسنادي. والظاهر أن الضميرين في : به ، وموته ، عائدان أنّ على عيسى وهو سياق الكلام ، والمعنى : من أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله.

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٧١.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ١٦٤.

١٢٩

روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان ، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به ، حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام قاله : ابن عباس ، والحسن ، وأبو مالك. وقال ابن عباس أيضا وعكرمة ، والضحاك ، والحسن ، أيضا ومجاهد ، وغيرهم : الضمير في به لعيسى ، وفي موته لكتابي وقالوا : وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ويعلم أنه نبي ، ولكن عند المعاينة للموت فهو إيمان لا ينفعه كما لم ينفع فرعون إيمانه وقت المعاينة. وبدأ بما يشبه هذا لقول الزمخشري. قال : والمعنى ما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى ، وبأنه عبد الله ورسوله؟ يعني : إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف. ثم حكى عن شهر بن حوشب والحجاج حكاية فيها طول يمس بالتفسير منها : إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا : يا عدوّ الله أتاك عيسى نبيا فكذبت به ، فيقول : آمنت أنه نبي. وتقول للنصراني : أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه الله أو ابن الله ، فيقول : آمنت أنه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه. وعن ابن عباس أنه فسره كذلك فقال له عكرمة : فإن أتاه رجل فضرب عنقه؟ قال : لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه. قال : وإن خرجت فوق بيت ، أو احترق ، أو أكله سبع؟ قال : يتكلم بها في الهوى ، ولا تخرج روحه حتى يؤمن به. ويدل عليه قراءة أبيّ : إلا ليؤمنن به قبل موتهم ، بضم النون على معنى : وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم ، لأن أحدا يصلح للجمع. (فإن قلت) : فما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ (قلت) : فائدته الوعيد ، وليكن علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة ، وأن ذلك لا ينفعهم بعثا لهم وتنبيها على معالجة الإيمان به في أوان الانتفاع به ، وليكون إلزاما للحجة لهم. وكذلك قوله.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) يشهد على اليهود بأنهم كذبوه ، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله انتهى كلامه. وقال أيضا : ويجوز أن يريد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ، على أنّ الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلمهم نزوله وما نزل له ، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم انتهى. وقال عكرمة : الضمير في به لمحمد عليه الصلاة والسّلام ، وفي موته للكتابي. قال : وليس يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد ، ولو غرق أو سقط عليه جدار فإنه يؤمن في ذلك الوقت. وقيل : يعود في به على الله ، وفي موته على أحد المقدّر. قال ابن زيد : إذا نزل عيسى عليه‌السلام لقتل الدجال ، لم يبق يهودي ولا نصراني إلا آمن بالله حين يرون قتل الدجال ، وتصير الأمم كلها

١٣٠

واحدة على ملة الإسلام ، ويعزى هذا القول أيضا إلى ابن عباس ، والحسن ، وقتادة.

وقال العباس بن غزوان : وإنّ من أهل الكتاب بتشديد النون ، وهي قراءة عسرة التخريج ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا أي : شهيدا على أهل الكتاب على اليهود بتكذيبهم إياه وطعنهم فيه ، وعلى النصارى بجعلهم إياه إلها مع الله أو ابنا له ، والضمير في يكون لعيسى. وقال عكرمة : لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبديع. فمنها التجنيس المغاير في : يخادعون وخادعهم ، وشكرتم وشاكرا. والمماثل في : وإذا قاموا. والتكرار في : اسم الله ، وفي : هؤلاء وهؤلاء ، وفي : ويرون ويريدون ، وفي : الكافرين والكافرين ، وفي : أهل الكتاب وكتابا ، وفي : بميثاقهم وميثاقا. والطباق في : الكافرين والمؤمنين ، وفي : إن تبدوا أو تخفوه ، وفي : نؤمن ونكفر ، والاختصاص في : إلى الصلاة ، وفي : الدرك الأسفل ، وفي : الجهر بالسوء. والإشارة في مواضع. الاستعارة في : يخادعون الله وهو خادعهم استعار اسم الخداع للمجازاة وفي : سبيلا ، وفي سلطانا لقيام الحجة والدرك الأسفل لا نخفاض طبقاتهم في النار ، واعتصموا للالتجاء ، وفي : أن يفرقوا ، وفي : ولم يفرّقوا وهو حقيقة في الأجسام استعير للمعاني ، وفي : سلطانا استعير للحجة ، وفي : غلف وبل طبع الله. وزيادة الحرف لمعنى في : فبما نقضهم ، وإسناد الفعل إلى غير فاعله في : فأخذتهم الصاعقة وجاءتهم البينات وإلى الراضي به وفي : وقتلهم الأنبياء ، وفي : وقولهم على مريم بهتانا وقولهم إنا قتلنا المسيح. وحسن النسق في : فبما نقضهم ميثاقهم والمعاطيف عليه حيث نسقت بالواو التي تدل على الجميع فقط. وبين هذه الأشياء أعصار متباعدة فشرك أوائلهم وأواخرهم لعمل أولئك ورضا هؤلاء. وإطلاق اسم كل على بعض وفي : كفرهم بآيات الله وهو القرآن والإنجيل ولم يكفروا بشيء من الكتب إلا بهما وفي قولهم إنا قتلنا ولم يقل ذلك إلا بعضهم. والتعريض في رسول الله إذا قلنا أنه من كلامهم. والتوجيه في غلف من احتمال المصدر جمع غلاف أو جمع أغلف. وعود الضمير على غير مذكور وهو في ليؤمنن به قبل موته على من جعلهما لغير عيسى. والنقل من صيغة فاعل إلى فعيل في شهيد. والحذف في مواضع.

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا

١٣١

لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢)

١٣٢

الغلو : تجاوز الحد. ومنه غلا السعر وغلوة السهم. الاستنكاف : الأنفة والترفع ، من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك من خدك ، ومنعته من الجري قال :

فباتوا فلولا ما تدكر منهم

من الحلق لم ينكف بعينك مدمع

وسئل أبو العباس عن الاستنكاف فقال : هو من النكف ، يقال : ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف ، والنكف أن يقال له سوء ، واستنكف دفع ذلك السوء.

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) المعنى : فبظلم عظيم ، أو فيظلم أي ظلم. وحذف الصفة لفهم المعنى جائز كما قال : لقد وقعت على لحم أي لحم متبع ، ويتعلق بحرمنا. وتقدم السبب على المسبب تنبيها على فحش الظلم وتقبيحا له وتحذيرا منه. والطيبات هي ما ذكر في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) (١) الألبان وبعض الطير والحوت ، وأحلت لهم صفة الطيبات بما كانت عليه. وأوضح ذلك قراءة ابن عباس : طيبات كانت أحلت لهم.

(وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) أي ناسا كثيرا ، فيكون كثيرا مفعولا بالمصدر ، وإليه ذهب الطبري. قال : صدوا بجحدهم أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمعا عظيما من الناس ، أو صدا كثيرا. وقدره بعضهم زمانا كثيرا.

(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) وهذه جملة حالية تفيد تأكيد قبح فعلهم وسوء صنيعهم ، إذ ما نهى الله عنه يجب أن يبعد عنه. قالوا : والربا محرم في جميع الشرائع.

(وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي الرشا التي كانوا يأخذونها من سفلتهم في تحريف الكتاب. وفي هذه الآية فصلت أنواع الظلم الموجب لتحريم الطيبات. قيل : كانوا كلما أحدثوا ذنبا حرم عليهم بعض الطيبات ، وأهمل هنا تفصيل الطيبات ، بل ذكرت نكرة مبهمة. وفي المائدة فصل أنواع ما حرم ولم يفصل السبب. فقيل : ذلك جزيناهم ببغيهم ، وأعيدت الباء في : (وَبِصَدِّهِمْ) (٢) لبعده عن المعطوف عليه بالفصل بما ليس معمولا للمعطوف عليه ، بل في العامل فيه. ولم يعد في : (وَأَخْذِهِمُ) (٣) وأكلهم لأن الفصل وقع بمعمول المعطوف عليه. ونظير إعادة الحرف وترك إعادته قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) (٤)

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٠.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٦٠.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١٦٠.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١٥٥.

١٣٣

الآية. وبدئ في أنواع الظلم بما هو أهم ، وهو أمر الدّين ، وهو الصد عن سبيل الله ، ثم بأمر الدنيا وهو ما يتعلق به الأذى في بعض المال ، ثم ارتقى إلى الأبلغ في المال الدنيوي وهو أكله بالباطل أي مجانا لا عوض فيه. وفي ذكر هذه الآية امتنان على هذه الأمة حيث لم يعاملهم معاملة اليهود فيحرم عليهم في الدنيا الطيبات عقوبة لهم بذنوبهم.

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) لما ذكر عقوبة الدنيا ذكر ما أعد لهم في الآخرة. ولما كان ذلك التحريم عامّا لليهود بسبب ظلم من ظلم منهم ، فالتزمه ظالمهم وغير ظالمهم كما قال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (١) بين أن العذاب الأليم إنما أعد للكافرين منهم ، فلذلك لم يأت وأعتدنا لهم.

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) مجيء لكن هنا في غاية الحسن ، لأنها داخلة بين نقيضين وجزائهما ، وهم : الكافرون والعذاب الأليم ، والمؤمنون والأجر العظيم ، والراسخون الثابتون المنتصبون المستبصرون منهم : كعبد الله بن سلام وأضرابه ، والمؤمنون يعني منهم ، أو المؤمنون من المهاجرين والأنصار. والظاهر أنه عام في من آمن.

وارتفع الراسخون على الابتداء ، والخبر يؤمنون لا غير ، لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة. ومن جعل الخبر أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيف ، وانتصب المقيمين على المدح ، وارتفع والمؤتون أيضا على إضمار وهم على سبيل القطع إلى الرفع. ولا يجوز أن يعطف على المرفوع قبله ، لأنّ النعت إذا انقطع في شيء منه لم يعد ما بعده إلى إعراب المنعوت ، وهذا القطع لبيان فضل الصلاة والزكاة ، فكثر الوصف بأن جعل في جمل.

وقرأ ابن جبير ، وعمرو بن عبيد ، والجحدري ، وعيسى بن عمر ، ومالك بن دينار ، وعصمة عن الأعمش ويونس وهارون عن أبي عمرو : والمقيمون بالرفع نسقا على الأول ، وكذا هو في مصحف ابن مسعود ، قاله الفراء. وروي أنها كذلك في مصحف أبيّ. وقيل : بل هي فيه ، والمقيمين الصلاة كمصحف عثمان. وذكر عن عائشة وأبان بن عثمان : أن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف ، ولا يصح عنهما ذلك ، لأنهما عربيان فصيحان ، قطع

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٢٥.

١٣٤

النعوت أشهر في لسان العرب ، وهو باب واسع ذكر عليه شواهد سيبويه وغيره ، وعلى القطع خرج سيبويه ذلك.

قال الزمخشري : ولا نلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف ، وربما التفت إليه من ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتتان ، وعنى عليه : أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة يسدها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم انتهى. ويعني بقوله : من لم ينظر في الكتاب كتاب سيبويه رحمه‌الله فإن اسم الكتاب علم عليه ، ولجهل من يقدم على تفسير كتاب الله وإعراب ألفاظه بغير أحكام علم النحو ، جوّزوا في عطف والمقيمين وجوها : أحدها : أن يكون معطوفا على بما أنزل إليك ، أي يؤمنون بالكتب وبالمقيمين الصلاة. واختلفوا في هذا الوجه من المعنيّ بالمقيمين الصلاة ، فقيل : الأنبياء ذكره الزمخشري وابن عطية. وقيل : الملائكة ذكره ابن عطية. وقيل : المسلمون ، والتقدير : وندب المقيمين ، ذكر ابن عطية معناه. والوجه الثاني : أن يكون معطوفا على الضمير في منهم أي : لكن الراسخون في العلم منهم ، ومن المقيمين ذكره ابن عطية على قوم لم يسمهم. الوجه الثالث : أن يكون معطوفا على الكاف في أولئك أي : ما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة. الوجه الرابع : أن يكون معطوفا على كاف قبلك على حذف مضاف التقدير : وما أنزل من قبلك وقيل : المقيمين الصلاة. الوجه الخامس : أن يكون معطوفا على كاف قبلك ويعني الأنبياء ، ذكره ابن عطية. وقال ابن عطية : فرق بين الآية والبيت يعني بيت الخرنق ، وكان أنشده قبل وهو :

النازلين بكل معترك

والطيبون معاقد الأزر

بحرف العطف الذي في الآية ، فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل وفي هذا نظر انتهى. إن منع ذلك أحد فهو محجوج بثبوت ذلك في كلام العرب مع حرف العطف ، ولا نظر في ذلك كما قال ابن عطية. قال الشاعر :

ويأوي إلى نسوة عطل

وشعث مراضيع مثل السعالى

وكذلك جوزوا في قوله تعالى : (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ، وجوها على غير الوجه الذي ذكرناه : من أنه ارتفع على خبر مبتدأ محذوف على سبيل قطع الصفات في المدح :

١٣٥

أحدها : أنه معطوف على الراسخون. الثاني : على الضمير المستكن في المؤمنون. الثالث : على الضمير في يؤمنون. الرابع : أنه مبتدأ وما بعده الخبر وهو اسم الإشارة وما يليه. وأما المؤمنون بالله فعطف على والمؤتون الزكاة على الوجه الذي اخترناه في رفع والمؤتون.

ولما ذكر أولا والمؤمنون تضمن الإيمان بما يجب أن يؤمن به ، ثم أخبر عنهم وعن الراسخين أنهم يؤمنون بالقرآن وبالكتب المنزلة ، ثم وصفهم بصفات المدح من امتثال أشرف أوصاف الإيمان الفعلية البدنية وهي : الصلاة ، والمالية وهي الزكاة ، ثم ارتقى في المدح إلى أشرف الأوصاف القلبية الاعتقادية وهي الإيمان بالموجد الذي أنزل الكتب وشرع فيها الصلاة والزكاة ، وباليوم الآخر وهو البعث والمعاد الذي يظهر فيه ثمرة الإيمان وامتثال تكاليف الشرع من الصلاة والزكاة وغيرهما. ثم إنه لما استوفى ذلك أخبر تعالى أنه سيؤتيهم أجرا عظيما وهو ما رتب تعالى على هذه الأوصاف الجليلة التي وصفهم بها ، وأشار إليهم بأولئك ، ليدل على مجموع تلك الأوصاف. ومن أعرب والمؤمنون بالله مبتدأ وخبره ما بعده ، فهو بمعزل عن إدراك الفصاحة. والأجود إعراب أولئك مبتدأ ، ومن نصبه بإضمار فعل تفسيره ما بعده : أنه سيؤتى أولئك سنؤتيهم ، فيجعله من باب الاشتغال ، فليس قوله براجح ، لأن زيد ضربته أفصح وأكثر من زيدا ضربته ، ولأن معمول ما بعد حرف الاستقبال مختلف في جواز تقديمه في نحو : سأضرب زيدا ، وإذا كان كذلك فلا يجوز الاشتغال. فالأجود الحمل على ما لا خلاف فيه. وقرأ حمزة : سيؤتيهم بالياء عودا على قوله : والمؤمنون بالله. وقرأ باقي السبعة. على الالتفات ومناسبة وأعتدنا.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) قال ابن عباس : سبب نزولها أن سكين الحبر وعدي بن زيد قالا : يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئا بعد موسى ولا أوحى إليه. وقال محمد بن كعب القرظي : لما نزلت : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) (١) الآيات فتليت عليهم وسمعوا الخبر بأعمالهم الخبيثة قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ولا على عيسى ، وجحدوا جميع ذلك فنزلت : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (٢) إذ قالوا الآية. وقال الزمخشري : إنا أوحينا إليك جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، واحتجاجهم عليهم بأن شأنه في الوحي إليه

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٥٣.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٩١.

١٣٦

كسائر الأنبياء الذين سلفوا انتهى. وقدم نوحا وجرده منهم في الذكر لأنه الأب الثاني ، وأول الرسل ، ودعوته عامّة لجميع من كان إذ ذاك في الأرض ، كما أن دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامّة لجميع من في الأرض.

(وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) خص تعالى بالذكر هؤلاء تشريفا وتعظيما لهم ، وبدأ بإبراهيم لأنه الأب الثالث ، وقدم عيسى على من بعده تحقيقا لنبوته ، وقطعا لما رآه اليهود فيه ، ودفعا لاعتقادهم ، وتعظيما له عندهم ، وتنويها باتساع دائرته. وتقدم ذكر نسب نوح وابراهيم وهارون في نسب أخيه موسى. وأما أيوب فذكر الحسين بن أحمد ابن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ النيسابوري نسبه فقال : أيوب بن أموص بن بارح بن تورم بن العيص بن إسحاق بن ابراهيم ، وأمه من ولد لوط بن هارون. وأما يونس فهو يونس بن متى. وقرأ نافع في رواية ابن جماز عنه : يونس بكسر النون ، وهي لغة لبعض العرب. وقرأ النخعي وابن وثاب : بفتحها وهي لغة لبعض عقيل وبعض العرب يهمز ويكسر ، وبعض أسد يهمز ويضم النون ، ولغة الحجاز ما قرأ به الجمهور من ترك الهمز وضم النون.

(وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) أي كتابا. وكل كتاب يسمى زبورا ، وغلب على الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود. وهو فعول بمعنى مفعول كالحلوب والركوب ، ولا يطرد وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حرام ولا حلال ، إنما هي حكم ومواعظ ، وقد قرأت جملة منها ببلاد الأندلس. قيل : وقدم سليمان في الذكر على داود لتوفر علمه ، بدليل قوله : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) (١) والذي يظهر أنه جمع بين عيسى وأيوب ويونس لأنهم أصحاب امتحان وبلايا في الدنيا ، وجمع بين هارون وسليمان لأن هارون كان محببا إلى بني إسرائيل معظما مؤثرا ، وأما سليمان فكان معظما عند الناس قاهرا لهم مستحقا له ما ذكره الله تعالى في كتابه ، فجمعهما التحبيب ، والتعظيم. وتأخر ذكر داود لتشريفه بذكر كتابه ، وإبرازه في جملة مستقلة له بالذكر ولكتابه ، فما فاته من التقديم اللفظي حصل به التضعيف من التشريف المعنوي.

وقرأ حمزة : زبورا بضم الزاي. قال أبو البقاء : وفيه وجهان : أحدهما : أنه مصدر كالقعود يسمى به الكتاب المنزل على داود. والثاني : أنه جمع زبور على حذف الزائد وهو

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧٩.

١٣٧

الواو. وقال أبو علي : كما قالوا طريق وطروق ، وكروان وكروان ، وورشان وورشان ، مما يجمع بحذف الزيادة. ويقوي هذا التوجيه أن التكسير مثل التصغير ، وقد اطرد هذا المعنى في تصغير الترخيم نحو أزهر وزهير ، والحرث وحريث ، وثابت وثبيت ، والجمع مثله في القياس وإن كان أقل منه في الاستعمال. قال أبو علي : ويحتمل أن يكون جمع زبرا وقع على المزبور كما قالوا : ضرب الأمير ، ونسج اليمن. وكما سمي المكتوب كتابا.

(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي ذكرنا أخبارهم لك.

(وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) روي من حديث أبي ذر : أنه سئل عن المرسلين ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر». قال القرطبي : هذا أصح ما روي في ذلك ، خرجه الآجريّ وأبو حاتم البستي في مسند صحيح له. وفي حديث أبي ذر هذا : أنه سأله كم كان الأنبياء؟ فقال : «مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي». وروي عن أنس : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث على أثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل». وروي عن كعب الأحبار أنه قال : الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. وقال ابن عطية : ما يذكر من عدد الأنبياء غير صحيح ، والله أعلم بعدتهم انتهى.

وانتصاب ورسلا على إضمار فعل أي : قد قصصنا رسلا عليك ، فهو من باب الاشتغال. والجملة من قوله : قد قصصناهم ، مفسرة لذلك الفعل المحذوف ، ويدل على هذا قراءة أبي ورسل بالرفع في الموضعين على الابتداء. وجاز الابتداء بالنكرة هنا ، لأنه موضع تفصيل كما أنشدوا : فثوب لبست وثوب أجر.

وقال امرؤ القيس :

بشق وشق عندنا لم يحوّل

ومن حجج النصب على الرفع كون العطف على جملة فعلية وهي : وآتينا داود زبورا. وقال ابن عطية : الرفع على تقدير وهم : رسل ، فعلى قوله يكون قد قصصناهم جملة في موضع الصفة. وجوّزوا أيضا نصب ورسلا من وجهين : أحدهما : أن يكون نصبا على المعنى ، لأن المعنى : إنا أرسلناك وأرسلنا رسلا ، لأن الرد على اليهود إنما هو في إنكارهم إرسال الرسل واطراد الوحي.

١٣٨

(وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) هذا إخبار بأن الله شرف موسى بكلامه ، وأكد بالمصدر دلالة على وقوع الفعل على حقيقته لا على مجازه ، هذا هو الغالب. وقد جاء التأكيد بالمصدر في المجاز ، إلا أنه قليل. فمن ذلك قول هند بنت النعمان بن بشير الأنصاري :

بكى الخز من عوف وأنكر جلده

وعجت عجيجا من جذام المطارف

وقال ثعلب : لولا التأكيد بالمصدر لجاز أن تقول : قد كلمت لك فلانا بمعنى كتبت إليه رقعة وبعثت إليه رسولا ، فلما قال : تكليما لم يكن إلا كلاما مسموعا من الله تعالى. ومسألة الكلام مما طال فيه الكلام واختلف فيها علماء الإسلام ، وبهذه المسألة سمي علم أصول الدين بعلم الكلام ، وهي مسألة يبحث عنها في أصول الدين. وقرأ ابراهيم بن وثاب : وكلم الله بالنصب على أن موسى هو المكلم. ومن بدع التفاسير أنه من الكلم ، وأنّ معناه : وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن. وقال كعب : كلم الله موسى بالألسنة كلها ، فجعل موسى يقول : رب لا أفهم ، حتى كلمه بلسان موسى آخر الألسنة.

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) أي يبشرون بالجنة من أطاع ، وينذرون بالنار من عصى. وأراد تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول : لو بعث إلي رسول لآمنت. وفي الحديث : «وليس أحد أحب إليه العذر من الله» فمن أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله تعالى من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة ، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة إلا بالنظر في تلك الأدلة ، ولا عرفوا أنهم رسل الله إلا بالنظر فيها؟ (قلت) : الرسل منهيون عن الغفلة ، وباعثون على النظر كما ترى علماء العدل والتوحيد ، مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين ، وبيان أحوال التكليف وتعلم الشرائع ، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة لئلا يقولوا : لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له انتهى. وقوله : لئلا هو كالتعليل لحالتي : التبشير والإنذار. والتبشير هو بالجنة ، والإنذار هو بالنار. وليس الثواب والعقاب حاكما بوجوبهما العقل ، وإنما هو مجوّز لهما ، وجاء السمع فصارا واجبا وقوعهما ، ولم يستفد وجوبهما إلا من البشارة والنذارة. فلو لم يبشر الرسل بالجنة لمن امتثل التكاليف الشرعية ، ولم ينذروا بالنار من لم يمتثل ، وكانت تقع المخالفة المترتب عليها العقاب بما لا شعور للمكلف بها من حيث أن الله لا يبعث إليه من يعلمه بأنّ

١٣٩

تلك معصية ، لكانت له الحجة إذ عوقب على شيء لم يتقدم إليه في التحذير من فعله ، وأنه يترتب عليه العقاب. وأما ما نصبه الله تعالى من الأدلة العقلية فهي موصلة إلى المعرفة والإيمان بالله على ما يجب ، والعلل في الآية هو غير المعرفة والإيمان بالله ، فلا يرد سؤال الزمخشري. وانتصب رسلا على البدل وهو الذي عبر عنه الزمخشري بانتصابه على التكرير. قال : والأوجه أن ينتصب على المدح. وجوّز غيره أن يكون مفعولا بأرسلنا مقدرة ، وأن يكون حالا موطئة. ولئلا متعلقة بمنذرين على طريق الإعمال. وجوّز أن يتعلق بمقدر أي : أرسلناهم بذلك أي : بالبشارة والنذارة لئلا يكون.

(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي لا يغالبه شيء ، ولا حجة لأحد عليه ، صادرة أفعاله عن حكمة ، فلذلك قطع الحجة بإرسال الرسل. وقيل : عزيزا في عقاب الكفار ، حكيما في الأعذار بعد تقدم الإنذار.

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) الاستدراك بلكن يقتضي تقدم جملة محذوفة ، لأنّ لكن لا يبتدأ بها ، فالتقدير ما روي في سبب النزول وهو : أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا : ما نشهد لك بهذا ، لكن الله يشهد ، وشهادته تعالى بما أنزله إليه إثباته بإظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات. وقرأ السلمي والجراح الحكمي : لكنّ الله بالتشديد ، ونصب الجلالة. وقرأ الحسن بما أنزل إليك مبنيا للمفعول.

(أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) قرأ السلمي : نزّله مشددا. قال الزجاج : أنزله وفيه علمه. وقال أبو سليمان الدمشقي : أنزله من علمه. وقال ابن جريج : أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه. وقيل : أنزله إليك بعلمه أنك أهل لإنزاله عليك لقيامك بحقه ، وعلمك بما فيه ، وحسن دعائك إليه ، وحثك عليه. وقيل : بما يحتاج إليه العباد. وقيل : بعلمه أنّك تبلغه إلى عباده من غير تبديل ولا زيادة ولا نقصان. قال ابن عطية : هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم الله تعالى ، خلافا للمعتزلة في أنهم يقولون : عالم بلا علم. والمعنى عند أهل السنة : أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله. ومذهب المعتزلة في هذه الآية : أنه أنزله مقترنا بعلمه ، أي فيه علمه من غيوب وأوامر ونحو ذلك ، فالعلم عبارة عن المعلومات التي في القرآن كما هو في قول الخضر ، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا البحر. وقال الزمخشري : أنزله ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره ، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان ، وموقعه مما قبله

١٤٠