البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

التحرير : الإعتاق ، والعتيق : الكريم ، لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد. ومنه عتاق الطير ، وعتاق الخيل لكرامها. وحر الوجه أكرم موضع منه ، والرقبة عبر بها عن النسمة ، كما عبر عنها بالرأس في قولهم : فلان يملك كذا رأسا من الرقيق. والظاهر أنّ كل رقبة اتصفت بأن يحكم لها بالإيمان منتظم تحت قوله : رقبة مؤمنة ، انتظام عموم البدل. فيندرج فيها من ولد بين مسلمين ، ومن أحد أبويه مسلم ، صغيرا كان أو كبيرا ، ومن سباه مسلم من دار الحرب قبل البلوغ.

وقال ابراهيم : لا يجزي إلا البالغ. وقال ابن عباس ، والحسن ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وغيرهم : لا يجزئ إلا التي صامت وعقلت الإيمان ، لا يجزئ في ذلك الصغيرة. وقال أبو حنيفة ، والأوزاعي ، ومالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد بن زياد ، وزفر : يجزى في كفارة القتل الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما. وقال عطاء : يجزئ الصغير المولود بين المسلمين. وقال مالك : من صلى وصام أحب إليّ ، ولا خلاف أنّ قوله : ومن قتل مؤمنا ، ينتظم الصغير والكبير ، وكذلك ينبغي أن يكون في فتحرير رقبة مؤمنة. قال ابن عطية : وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان الكبير كقطع اليدين والرجلين والأعمى ، لا يجزئ فيما حفظت ، فإن كان يسيرا يمكن معه المعيشة والتحرف كالعرج ونحوه ففيه قولان. وقال أبو بكر الرازي : لا خلاف بين الأمة أنه لا يجزئ في الكفارة أعمى ، ولا مقعد ، ولا مقطوع اليدين أو الرجلين ، ولا أشلهما ، واختلفوا في الأعرج. وقال أبو حنيفة وأصحابه : يجزئ مقطوع إحدى اليدين أو الرجلين. وقال مالك والشافعي والأكثرون : لا يجزئ عند أكثرهم المجنون المطبق ، ولا عند مالك الذي يجن ويفين ، ولا المعتق إلى سنين ، ويجزئان عند الشافعي. ولا يجزئ المدبر عند مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي ، ويجزئ في قول الشافعي وأبي ثور ، واختاره ابن المنذر. وقال مالك : لا يصح من أعتق بعضه ، واختلفوا في سبب وجوب الكفارة في قتل الخطأ. فقيل : تمحيصا وطهر الذنب القاتل ، حيث ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم. وقيل : لما أخرج نفسا مؤمنة عن جملة الاحياء ، لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار ، لأن إطلاقها من قيد الرق حياتها ، من قبل أنّ الرقيق ممنوع من تصرّف الأحرار.

والظاهر أن وجوب التحرير والدية على القاتل ، لأنه مستقرا في الكتاب والسنة : أن من فعل شيئا يلزم فيه أمر من الغرامات مثل الكفارات ، إنما يجب ذلك على فاعله. فأما

٢١

التحرير ففي مال القاتل. وأما الدية فعلى العاقلة كلها في قول طائفة منهم : الأوزاعي ، والحسن بن صالح. وما جاوز الثلث في قول الجمهور أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، والليث ، وابن شبرمة ، وغيرهم. وأما الثلث ففي مال الجاني ، ولم يجب عليهم إلا على سبيل المواساة. وهي خلاف قياس الأصول في الغرامات والمتلفات. والدية كانت مستقرة في الجاهلية. قال الشاعر :

نأسوا بأموالنا آثار أيدينا

ولم تتعرض الآية لمقدار ما يعطى في الدية ، ولا من أي شيء تكون. فذهب أبو حنيفة : إلى أنها من الإبل مائة على ما يأتي تفصيلها ، والدنانير والدراهم ألف دينار ، أو عشرة آلاف درهم. وقال أبو يوسف ومحمد : ومن البقر والشاة والحلل ، وبه قالت طائفة من التابعين ، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين. فمن البقر مائتا بقرة ، ومن الشاة ألف شاة ، ومن الحلل مائتا حلة ، وذلك فعل عمر وجعله على كل أهل صنف من ذلك ما ذكر. وقال مالك : أهل الذهب أهل الشام ومصر ، وأهل الورق أهل العراق ، وأهل الإبل أهل البوادي ، فلا يقبل من أهل الإبل إلا الإبل ، ولا من أهل الذهب إلا الذهب ، ولا من أهل الورق إلا الورق. وقالت طائفة منهم طاووس والشافعي : هي مائة من الإبل لا غير. قال الشافعي : والدراهم والدنانير بدل عنها إذا عدمت ، وله قول آخر : إنه يجب اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار. قال أبو بكر الرازي : أجمع فقهاء الأمصار أبو حنيفة والشافعي ومالك أن آية الخطأ أخماس ، واختلفوا في الأسنان. فقال أصحابنا جميعا : عشرون بني مخاض ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وهو : مذهب ابن مسعود ، وبه قال أحمد. وقال مالك : عشرون حقاقا ، وعشرون جذاعا ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون ، وعشرون بنت مخاض. وحكي هذا عن عمر بن عبد العزيز ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، وربيعة والليث.

وقال الشافعي : الدية قسمان ، مغلظة أثلاثا ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة في بطونها أولادها ، ومخففة أخماسا كقول مالك. وروي عن عطاء أن دية الخطأ أرباع : خمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وخمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، مثل أسنان الذكور. وقال عمر وزيد بن ثابت : في الخطا ثلاثون بنت لبون ، وثلاثون جذعة ، وعشرون ابن لبون ، وعشرون بنت مخاض. وروي عنهما مكان الجذاع الحقات.

٢٢

والظاهر أنه لا فرق بين القتل خطأ في الحرم وفي شهر حرام ، وبينه في الحل ، وفي شهر غير حرام. وسئل الأوزاعي عن القتل في الشهر الحرام ، أو في الحرم ، هل تغلظ فيه الدية؟ فقال : بلغنا أنه إذا قتل في الشهر الحرام أو في الحرم زيد على القاتل الثلث ، ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل.

وأما من العاقلة فقيل هم العصبات الأربعة : الأب ، والجدّ وان علا ، والابن ، وابن الابن وإن سفل. وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه : هم أهل ديوانه دون أقربائه ، فإن لم يكن القاتل من أهل الديوان فرضت على عاقلته الأقرب فالأقرب ، ويضم إليهم أقرب القبائل في النسب. وقال الشافعي فيما روي عنه المزني في مختصره : العقل على ذوي الأنساب دون أهل الديوان والحلفاء ، على الأقرب فالأقرب من بني أبيه ثم جدّه ، ثم بني جد أبيه.

وأما المدة التي تؤدّى فيها الدية فقد انعقد الإجماع ووردت به الأحاديث الصحاح : أنها تتأدّى في ثلاث سنين ، وفي الدية والعاقلة أحكام كثيرة تعرض لها بعض المفسرين وهي مذكورة في كتب الفقه.

ومعنى مسلمة إلى أهله : أي مؤدّاة مدفوعة إلى أهل المقتول ، أي أوليائه الذين يرثونه يقتسمونها كالميراث ، لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء ، يقضي منها الدين ، وتنفذ الوصية. وإذا لم يكن وارث فهي لبيت المال. وقال شريك : لا يقضي من الدية دين ، ولا تنفذ منها وصية. وقال ابن مسعود : يرث كل وارث منها غير القاتل ، ومعنى قوله : إلا أن يصدقوا أي إلا أن يعفو ورّاثه عن الدية فلا دية. وجاء بلفظ التصدق تنبيها على فضيلة العفو وحضا عليه ، وأنه جار مجرى الصدقة ، واستحقاق الثواب الآجل به دون طلب العرض العاجل ، وهذا حكم من قتل في دار الإسلام خطأ. وفي قوله : إلا أن يصدقوا ، دليل على جواز البراءة من الدين بلفظ الصدقة ، ودليل على أنه لا يشترط القبول في الإبراء خلافا لزفر ، فإنه قال : لا يبرأ الغريم من الدين إلا أن يقبل البراءة. والظاهر أنّ الجماعة إذا اشتركوا في قتل رجل خطأ أنه ليس عليهم كلهم إلا كفارة واحدة ، لعموم قوله : ومن قتل ، وترتيب تحرير رقبة واحدة ، ودية على ذلك. وبه قالت طائفة هكذا قال أبو ثور ، وحكي عن الأوزاعي ذلك ، وقال الحسن ، وعكرمة ، والنخعي ، والحارث ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي : على كل واحد منهم الكفارة.

٢٣

وهذا الاستثناء قيل : منقطع ، وقيل : إنه متصل. قال الزمخشري : (فإن قلت) : بم تعلق أن يصدقوا؟ وما محله؟ (قلت) : تعلق بعليه ، أو بمسلمة. كأن قيل : وتجب عليه الدية أو يسلمها ، إلا حين يتصدقون عليه ، ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان كقولهم : اجلس ما دام زيد جالسا ، ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى : إلا متصدقين انتهى كلامه. وكلا التخريجين خطأ. أما جعل أن وما بعدها ظرفا فلا يجوز ، نص النحويون على ذلك ، وأنه مما انفردت به ما المصدرية ومنعوا أن تقول : أجيئك أن يصيح الديك ، يريد وقت صياح الديك. وأما أن ينسبك منها مصدر فيكون في موضع الحال ، فنصوا أيضا على أن ذلك لا يجوز. قال سيبويه في قول العرب : أنت الرجل أن تنازل أو أن تخاصم ، في معنى أنت الرجل نزالا وخصومة ، أنّ انتصاب هذا انتصاب المفعول من أجله ، لأن المستقبل لا يكون حالا ، فعلى هذا الذي قررناه يكون كونه استثناء منقطعا هو الصواب. وقرأ الجمهور يصدقوا ، وأصله يتصدقوا ، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : تصدقوا بالتاء على المخاطبة للحاضرة. وقرئ : تصدقوا بالتاء وتخفيف الصاد ، وأصله تتصدقوا ، فحذف إحدى التاءين على الخلاف في أيهما هي المحذوفة. وفي حرف أبيّ وعبد الله : يتصدقوا بالياء والتاء.

(فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) قال ابن عباس وقتادة والنخعي والسدي وعكرمة وغيرهم : المعنى إن كان هذا المقتول خطأ رجلا مؤمنا قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدوّ لكم فلا دية فيه ، وإنما كفارته تحرير رقبة. والسبب عندهم في نزولها : أنّ جيوش المسلمين كانت تمر بقبائل الكفرة ، فربما قتل من آمن ولم يهاجر ، أو من هاجر ثم رجع إلى قومه ، فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار ، فنزلت الآية. وسقطت الدية عند هؤلاء ، لأن أولياء المقتول كفرة ، فلا يعطون ما يتقّوون به. ولأنّ حرمته إذا آمن ولم يهاجر قليلة فلا دية. وإذا قتل مؤمنا في بلاد المسلمين وقومه حرب ، ففيه الدية لبيت المال والكفارة. وقالت فرقة : الوجه في سقوط الدية أنّ أولياءه كفار ، سواء أكان القتل خطأ بين أظهر المسلمين وبين قومه ولم يهاجر ، ولو هاجر ثم رجع إلى قومه ، وكفارته ليس إلا التحرير ، لأنه إن قتل بين أظهر قومه فهو مسلط على نفسه ، أو بين أظهر المسلمين فأهله لا يستحقون الدية ، ولا المسلمون لأنهم ليسوا أهله ، فلا تجب على الحالين ، هذا قول : مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والشافعي ، وأبي ثور. وقال ابراهيم :

٢٤

المؤمن المقتول خطأ إن كان قومه المشركون ليس بينهم وبين النبي عهد فعلى قاتله تحرير رقبة ، أو كان فتؤدى ديته لقرابته المعاهدين.

قال بعض المصنفين : اختلفت فقهاء الأمصار في من أسلم في دار الحرب وقتل قبل أن يهاجر ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في المشهور عنه : إن قتله مسلم مستأمن فكفارة الخطأ ، أو كانا مستأمنين فعلى القاتل الدية وكفارة الخطأ ، أو أسيرين فعلى القاتل كفارة الخطأ في قول أبي حنيفة. وقال محمد وأبو يوسف : الدية في العمد والخطأ. وقال مالك : على قاتل من أسلم في دار الحرب ، ولم يخرج ، الدية والكفارة إن كان خطأ. والآية إنما كانت في صلح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل مكة ، لأنه من لم يهاجر لم يورث ، لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة. وقال الحسن بن صالح : إذا أقام بدار الحرب وهو قادر على الخروج حكم عليه بما يحكم على أهل الحرب في نفسه وماله وأدّ الحق بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام. وقال الشافعي : إذا قتل مسلما في دار الحرب في الغارة وهو لا يعلمه مسلما فلا عقل فيه ولا قود ، وعليه الكفارة. وسواء أكان المسلم أسيرا ، أو مستأمنا ، أو رجلا أسلم هناك ، وإن علمه مسلما فقتله فعليه القود انتهى ما نقله هذا المصنف. والذي يظهر من مدلول هذه الجمل أن الله تعالى بين أحكام المؤمن المقتول خطأ في هذه الجمل الثلاث ، ولذلك قابلها بقوله : ومن يقتل مؤمنا متعمدا ، فهو المؤمن المقتول خطأ إن كان أهله مؤمنين أو معاهدين ، فالتحرير والدية. ونزل المعاهدون في أخذ الدية منزلة المؤمنين ، لأن أحكام المؤمنين جارية عليهم ، وإن كان أهله حربيين فالتحرير فقط.

(وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) قال الحسن وجابر بن زيد وابراهيم وغيرهم : وإن كان المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم ، فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم ، وكفارته التحرير ، وأداء الدية إليهم. وقال النخعي : ميراثه للمسلمين. وقرأها الحسن : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ، وهو مؤمن. وبهذا قال مالك. وقال ابن عباس ، والشعبي ، وابراهيم أيضا ، والزهري : المقتول من أهل العهد خطأ كان مؤمنا أو كافرا على عهد قومه ، فيه الدية كدية المسلم والتحرير.

واختلف على هذا في دية المعاهد. فقال أبو حنيفة وغيره : ديته كدية المسلم. وروي ذلك عن أبي بكر وعمر. وقال مالك وأصحابه : نصف دية المسلم. وقال الشافعي وأبو ثور : ثلث دية المسلم. والذي يظهر من دلالة من التبعيضية أنها قيد في الجملة الأولى

٢٥

بكونه من قوم عدو ، وقيد في الجملة الثانية بكونه من قوم معاهدين ، والمعنى في النسب لا في الدين ، لأنه مؤمن وهم كفار. فإذا تقيدت هاتان الجملتان دل ذلك على تقييد الأولى بأن يكون من المؤمنين في النسب ، وهي من قتل مؤمنا خطأ كأنه قال : وأهله مؤمنون لا حربيون ولا معاهدون. ولا يمكن حمله على الإطلاق للتعارض والتعاند الذي بينه وبين الآيتين بعد.

وقال أبو بكر الرازي : قوله : وإن كان من قوم عدو لكم ، استئناف كلام لم يتقدم له ذكر في الخطاب ، لأنه لا يجوز أعط هذا رجلا وإن كان رجلا فاعطه ، فهذا كلام فاسد لا يتكلم به حكيم ، فثبت أنّ هذا المؤمن المعطوف على الأول غير داخل في الخطاب. ثم قال : ظاهر الآية يعني : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ، يقتضي أن يكون المقتول المذكور في الآية ذا عهد ، وأنه غير جائز إضمار الإيمان له إلا بدلالة ، ويدل عليه : أنه لما أراد مؤمنا من أهل دار الحرب ذكر الإيمان فقال : وهو مؤمن ، لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافرا من قوم عدو لكم انتهى كلامه.

أما قوله : استئناف لم يتقدم له ذكر في الخطاب ، فليس بصحيح ، بل تقدم له ذكر في الخطاب في قوله : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ، ومن قتل مؤمنا خطأ ، ولكنه ليس استئنافا ، إنما هو من باب التقسيم كما ذكرناه. بدأ أولا بالأشرف وهو المؤمن ، وأهله مؤمنون ليسوا بحربيين ولا معاهدين. وأما قوله : لأنه لا يجوز أعط هذا رجلا وإن كان رجلا فأعطه ، فهذا ليس نظير الآية بوجه ، وإنما الضمير في كان عائدا على المقتول خطأ ، المؤمن إذا كان من قوم عدو لكم ، وجاء قوله : وهو مؤمن على سبيل التوكيد لا سبيل التقييد ، إذ القيد مفهوم مما قبله في الاستثناء ، وفي جملة الشرط. وقوله : ويدل عليه إلى آخره ، لا يدل عليه لما ذكرنا أنّ الحال مؤكدة ، وفائدة تأكيدها أن لا يتوهم أنّ الضمير يعود على مطلق المقتول لا بقيد الإيمان. وقوله : لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافرا من قوم عدو ، وليس كذلك بل لو لم يأت بقوله : وهو مؤمن ، لكان الضمير الذي في كان عائدا على المقتول خطأ ، لأنّه لم يجر ذكر لغيره ، فلا يعود الضمير على غير من لم يجر له ذكر ، ويترك عوده على ما يجري عليه ذكر.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) يعني : رقبة لم يملكها ، ولا وجد ما يتوصل به إلى ملكها ، فعليه صيام شهرين متتابعين. وظاهر الآية يقضي أنه لا يجب غير ذلك ، إذ

٢٦

لو وجبت الدّية لعطفها على الصيام ، وإلى هذا ذهب : الشعبي ، ومسروق ، وذهب الجمهور : إلى وجوب الدّية. قال ابن عطية : وما قاله الشعبي ومسروق وهم ، لأنّ الدّية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل انتهى. وليس بوهم ، بل هو ظاهر الآية كما ذكرناه.

ومعنى التتابع : لا يتخللها فطر. فإن عرض حيض في أثنائه لم يعد قاطعا بإجماع. وليس له أن يسافر فيفطر ، والمرض كالحيض عند : ابن المسيب ، وسليمان بن يسار ، والحسن ، والشعبي ، وعطاء ، ومجاهد ، وقتادة ، وطاووس ، ومالك. وقال ابن جبير ، والنخعي ، والحكم بن عتيبة ، وعطاء الخراساني ، والحسن بن حي ، وأبو حنيفة وأصحابه : يستأنف إذا أفطر لمرض. وللشافعي القولان. وقال ابن شبرمة : يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب كصوم رمضان.

(تَوْبَةً مِنَ اللهِ) انتصب على المصدر أي : رجوعا منه إلى التسهيل والتخفيف ، حيث نقلكم من الرقبة إلى الصوم. أو توبة من الله أي قبولا منه ورحمة من تاب الله عليه إذا قبل توبته. ودعا تعالى قاتل الخطأ إلى التوبة ، لأنه لم يتحرز ، وكان من حقه أن يتحفظ.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي عليما بمن قتل خطأ ، حكيما حيث رتب ما رتب على هذه الجناية على ما اقتضته حكمته تعالى.

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) نزلت في مقيس بن صبابة حين قتل أخاه هشام بن صبابة رجل من الأنصار ، فأخذ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدّية ، ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر ما ، فقتله مقيس ، ورجع إلى مكة مرتدا وجعل ينشد :

قتلت به فهرا وحملت عقله

سراه بني النجار أرباب فارع

حللت به وتري وأدركت ثورتي

وكنت إلى الأوثان أوّل راجع

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أؤمنه في حل ولا حرم ، وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة» وهذا السبب يخص عموم قوله : ومن يقتل ، فيكون خاصا بالكافر ، أو يكون على ما قال ابن عباس ، قال : معنى متعمدا أي : مستحلا ، فهذا. يؤول أيضا إلى الكفر. وأما إذا كانت عامة فيكون ذلك على تقدير شرط كسائر التوعدات على سائر المعاصي ، والمعنى : فجزاؤه إن جازاه ، أي : هو ذلك ومستحقه لعطم ذنبه ، هذا مذهب أهل السنة. ويكون الخلود عبارة

٢٧

في حق المؤمن العاصي عن المكث الطويل ، لا المقترن بالتأبيد ، إذ لا يكون كذلك إلا في حق الكفار.

وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية ، وأنها مخصصة بعمومها لقوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) واعتمدوا على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال : نزلت الشديدة بعد الهينة ، يريد نزلت : ومن يقتل مؤمنا بعدو يغفر ما دون ذلك ، فكأنه قيل : ويغفر ما دون ذلك إلا من قتل عمدا. وقد نازعوا في دلالة من الشرطية على العموم. وقيل : هو لفظ يقع كثيرا للخصوص كقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٢) وليس من حكم من المؤمنين بغير ما أنزل الله بكافر. وقال الشاعر :

ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه

يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم

وإذا سلم العموم فقد دخله التخصيص بالإجماع من المعتزلة وأهل السنة فيمن شهد عليه بالقتل عمدا أو أقرّ بأنه قتل عمدا ، وأتى السلطان أو الأولياء فأقيم عليه الحد وقتل ، فهذا غير متبع في الآخرة. والوعيد غير صائر إليه إجماعا للحديث الصحيح من حديث عبادة : «أنه من عوقب في الدنيا فهو كفارة له» وهذا تخصيص للعموم. وإذا دخله التخصيص فيكون مختصا بالكافر ، ويشهد له سبب النزول كما قدمناه.

ولم تتعرض الآية لتوبة القاتل ، وتكلم فيها المفسرون هنا. فقالت جماعة : لا تقبل توبته ، روي ذلك عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس. وكان ابن عباس يقول : الشرك والقتل سهمان من مات عليهما خلد ، وكان يقول : هذه الآية مدنية نسخت التي في الفرقان لأنها مكية. وكان ابن شهاب إذا سأله من يفهم منه أنه قتل قال له : توبتك مقبولة ، ومن لم يقتل قال : لا توبة للقاتل. وروي عن ابن عباس في تفسير عبد بن حميد نحو من كلام ابن شهاب. وعن سفيان كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له. قال الزمخشري : وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد ، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة ، وناهيك بمحو الشرك دليلا. وفي الحديث : «من أعان على قتل مسلم مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله» والعجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما فيها ، ويسمعون هذه الأحاديث القطعية ، وقول ابن عباس مع التوبة ، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة ، واتباعهم هواهم ، وما يخيل إليهم مناهم أن يطمعوا في العفو

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤٨.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٤٤.

٢٨

عن قاتل المؤمن بغير توبة ، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (١) ثم ذكر الله تعالى التوبة في قتل الخطأ لما عسى أن يقع من نوع تفريط فيما يجب من الاحتياط والتحفظ فيه حسم للأطماع وأي حسم ، ولكن لا حياة لمن تنادي. (فإن قلت) : هل فيها دليل على طرد من لم يتب من أهل الكبائر؟ (قلت) : ما أبين الدليل فيها ، وهو تناول قوله : ومن يقتل ، أي قاتل كان من مسلم ، أو كافر تائب ، أو غير نائب ، إلا أنّ التائب أخرجه الدليل. فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله انتهى كلامه. وهو على طريقته الاعتزالية والتعرض لمخالفيه بالسب والتشنيع. وأما قوله : ما أبين الدليل فيها ، فليس ببين ، لأن المدّعي هل فيها دليل على خلود من لم يتب من الكبائر ، وهذا عام في الكبائر. والآية في كبيرة مخصوصة وهي : القتل لمؤمن عمدا ، وهي كونها أكبر الكبائر بعد الشرك ، فيجوز أن تكون هذه الكبيرة المخصوصة حكمها غير حكم سائر الكبائر ، مخصوصة كونها أكبر الكبائر بعد الشرك ، فلا يكون في الآية دليل على ما ذكر ، فظهر أنّ قوله : ما أبين الدّليل منها ، غير صحيح. واختلفوا في ما به يكون قتل العمد ، وفي الحرّ يقتل عبدا عمدا مؤمنا ، هل يقتص منه؟ وذلك موضح في كتب الفقه. وانتصب متعمدا على الحال من الضمير المستكن في يقتل ، والمعنى : متعمدا قتله. وروى عبدان عن الكسائي : تسكين تاء متعمدا ، كأنه يرى توالي الحركات. وتضمنت هذه الآيات من البلاغة والبيان والبديع أنواعا. التتميم في : ومن أصدق من الله حديثا. والاستفهام بمعنى الإنكار في : فما لكم في المنافقين ، وفي : أتريدون أن تهدوا. والطباق في : أن تهدوا من أضل الله. والتجنيس المماثل في : لو تكفرون كما كفروا ، وفي : بينكم وبينهم ، وفي : أن يقاتلوكم أو يقاتلوا ، وفي : أن يأمنوكم ويأمنوا ، وفي : خطأ وخطأ. والاستعارة في : بينكم وبينهم ، وفي : حصرت صدورهم ، وفي : فإن اعتزلوكم وألقوا إليكم السلم ، وفي : سبيلا وكلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم الآية. والاعتراض في : ولو شاء الله لسلطهم. والتكرار في مواضع. والتقسيم في : ومن قتل إلى آخره. والحذف في مواضع.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ

__________________

(١) سورة محمد : ٤٧ / ٢٤.

٢٩

اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠)

المغنم : مفعل من غنم ، يصلح للزمان والمكان. والمصدر ويطلق على الغنيمة تسمية للمفعول بالمصدر أي : المغنوم ، وهو ما يصيبه الرجل من مال العدو في الغزو. المراغم : مكان المراغمة ، وهي : أن يرغم كل واحد من المتنازعين بحصوله في منعة منه أنف صاحبه بأن يغلب على مراده يقال : راغمت فلانا إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك. والرغم الذل والهوان ، وأصله : لصوق الأنف بالرغام ، وهو التراب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) روى البخاري ومسلم : أن رجلا من سليم مرّ على نفر من الصحابة ومعه غنم ، فسلم عليهم ، فقالوا : ما سلم إلا ليتعوذ ، فقتلوه وأخذوا غنمه وأتوا بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. وقيل : بعث سرية فيها المقداد ، فتفرق القوم وبقي رجل له مال كثير لم يبرح ، فتشهد ، فقتله المقداد ، فأخبر الرسول عليه‌السلام بذلك فقال : «أقتلت رجلا قال لا إله إلا الله ، فكيف لك بلا إله إلا الله غدا؟»

٣٠

وقيل : لقي الصحابة المشركين فهزموهم ، فشد رجل منهم على رجل ، فلما غشيه السنان قال : إني مسلم ، فقتله وأخذ متاعه ، فرفع ذلك إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «قتلته وقد زعم أنه مسلم؟» فقال : قالها متعوذا قال : «هلا شققت عن قلبه؟» في قصة آخرها : أن القاتل مات فلفظته الأرض مرتين أو ثلاثا ، فطرح في بعض الشعاب. وقيل : هي السرية التي قتل فيها أسامة بن زيد مرداس بن نهيك من أهل فدك ، وهي مشهورة. وقيل : بعث الرسول عليه‌السلام أبا حدرد الأسلمي وأبا قتادة ومحلم بن جثامة في سرية إلى أسلم ، فلما بلغوا إلى عامر بن الأضبط الأشجعي حياهم بتحية الإسلام ، فقتله محكم وسلبه ، فلما قدموا قال : «أقتلته بعد ما قال آمنت؟» فنزلت.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وهي أنه تعالى لما ذكر جزاء من قتل مؤمنا متعمدا وأن له جهنم ، وذكر غضب الله عليه ولعنته وإعداد العذاب العظيم له ، أمر المؤمنين بالتثبت والتبين ، وأن لا يقدم الإنسان على قتل من أظهر الإيمان ، وأن لا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف ، وكرر ذلك آخر الآية تأكيدا أن لا يقدم عند الشبه والإشكال حتى يتضح له ما يقدم عليه ، ولما كان خفاء ذلك منوطا بالأسفار والغمزات قال : إذا ضربتم في الأرض ، وإلا فالتثبت والتبين لازم في قتل من تظاهر بالإسلام في السفر وفي الحضر ، وتقدم تفسير الضرب في قوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) (١).

وقرأ حمزة والكسائي : فتثبتوا بالثاء المثلثة ، والباقون : فتبينوا. وكلاهما تفعل بمعنى استفعل التي للطلب ، أي : اطلبوا إثبات الأمر وبيانه ، ولا تقدموا من غير روية وإيضاح. وقال قوم : تبينوا أبلغ وأشد من فتثبتوا ، لأن المتثبت قد لا يتبين. وقال الراغب : لأنه قلما يكون إلا بعد تثبت ، وقد يكون التثبت ولاتبين ، وقد قوبل بالعجلة في قوله عليه‌السلام : «التبين من الله والعجلة من الشيطان». وقال أبو عبيد هما : متقاربان. قال ابن عطية : والصحيح ما قال أبو عبيد ، لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان ، بل يقتضي محاولة للتبين ، كما أنّ تثبت يقتضي محاولة للتبين ، فهما سواء. وقال أبو علي الفارسي : التثبت هو خلاف الإقدام ، والمراد : التأني ، والتثبت أشد اختصاصا بهذا الموضع. ومما يبين ذلك قوله : (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (٢) أي أشد وقفا لهم عن ما وعظوا بأن لا يقدموا عليه ، وكلام الناس :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٧٣.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٦٦.

٣١

تثبّت في أمرك. وقد جاء أنّ التبين من الله ، والعجلة من الشيطان ، ومقابلة العجلة بالتبين دلالة على تقارب اللفظين.

والأكثرون على أنّ القاتل هو محلم ، والمقتول عامر كما ذكرنا ، وكذا هو في سير ابن إسحاق ، ومصنف أبي داود ، وفي الاستيعاب. وقيل : المقتول مرداس ، وقاتله أسامة. وقيل : قاتله غالب بن فضالة الليثي. وقيل : القاتل أبو الدرداء. وقيل : أبو قتادة.

وقرأ عاصم ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، والكسائي ، وحفص ، السلام بألف. قال الزجاج : يجوز أن يكون بمعنى التسليم ، ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، وابن كثير. من بعض طرقه ، وجبلة عن المفضل عن عاصم : بفتح السين واللام من غير ألف ، وهو من الاستسلام. وقرأ أبان بن زيد ، عن عاصم : بكسر السين وإسكان اللام ، وهو الانقياد والطاعة. قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالسلام الانحياز والترك ، قال الأخفش : يقال فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا. قال أبو عبد الله الرازي : أي لا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقاتلكم لست مؤمنا ، وأصله من السلامة ، لأن المعتزل عن الناس طالب للسلامة. وقرأ الجحدري : بفتح السين وسكون اللام. وقرأ أبو جعفر : مأمنا بفتح الميم أي : لا نؤمنك في نفسك ، وهي قراءة : عليّ ، وابن عباس ، وعكرمة ، وأبي العالية ، ويحيى بن يعمر. ومعنى قراءة الجمهور ليس لإيمانك حقيقة أنك أسلمت خوفا من القتل. قال أبو بكر الرازي : حكم تعالى بصحة إسلام من أظهر الإسلام ، وأمر بإجرائه على أحكام المسلمين ، وإن كان في الغيب على خلافه. وهذا مما يحتج به على توبة الزنديق إذا أظهر الإسلام ، فهو مسلم انتهى. والغرض هنا هو ما كان مع المقتول من غنيمة ، أو من حمل ، ومتاع ، على الخلاف الذي في سبب النزول. والمعنى : تطلبون الغنيمة التي هي حطام سريع الزوال. وتبتغون في موضع نصب على الحال من ضمير : ولا تقولوا ، وفي ذلك إشعار بأن الداعي إلى ترك التثبت أو التبين هو طلبكم عرض الدنيا ، فعند الله مغانم كثيرة هذه عدة بما يسني الله تعالى لهم من الغنائم على وجهها من حل دون ارتكاب محظور بشبهة وغير تثبت ، قاله الجمهور. وقال مقاتل : أراد ما أعده تعالى لهم في الآخرة من جزيل الثواب والنعيم الدائم الذي هو أجلّ المغانم.

(كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا) قال ابن جبير : معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم ، خائفين منهم على أنفسكم ، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم ، فهم

٣٢

الآن كذلك كل منهم خائف في قومه ، متربص أن يصل إليكم ، فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره.

قال أبو عبد الله الرازي : وهذا فيه إشكال ، لأنّ إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم انتهى. ولا إشكال فيه ، لأن المسلمين كانوا أول الإسلام يحبون دينهم ، فالتشبيه وقع بتلك الحال الأولى ، وعلى تقدير تسليم أنّ إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم ، لا إشكال أيضا لأنه ينسب إلى الجملة ما وجد من بعضهم. وقال ابن زيد : كذلك كنتم كفرة فمنّ الله عليكم بأن أسلمتم ، فلا تنكروا أن يكون هو كافرا ثم يسلم لحينه حين لقيكم ، فيجب أن يتثبت في أمره ، وقال الأكثرون : المعنى أنكم قبل الهجرة حين كنتم فيما بين الكفار تؤمنون بكلمة لا إله إلا الله ، فاقبلوا منهم ذلك. وقال أبو عبد الله الرازي : فيه إشكال لأنّ لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمانهم ، لأنا آمنا اختيارا ، وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف انتهى. ولا إشكال في ذلك ، لأنه لا يلزم أن يكون التشبيه من كل الوجوه إذ كان يكون المشبه هو المشبه به ، وذلك محال ، ولا من معظم الوجوه. والتشبيه هنا وقع في بعض الوجوه ، وهو : أن الدخول في الإسلام هو كان بكلمة الشهادة ، وقد حسن الزمخشري هذا القول وطوله جدا. فقال : أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة ، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم ، فمنّ الله عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم ، وإن صرتم أعلاما فيه فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم ، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في الكافة ، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل ، لا لصدق النية ، فتجعلوه سلما إلى استباحة دمه وماله ، وقد حرمهما الله تعالى انتهى.

قال أبو عبد الله الرازي : والأقرب عندي أن يقال : إنّ من ينتقل عن دين إلى دين ، ففي أول الأمر يحدث له ميل بسبب ضعيف ، ثم لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتقوى إلى أن يكمل ويستحكم ويحصل الانتقال ، فكأنه قيل لهم : كنتم في أول الإسلام إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام ، ثم منّ الله عليكم بتقوية ذلك الميل وتأكيد النفرة عن الكفر ، فكذلك هؤلاء لما حدث فيهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم هذا الإيمان ، فإنّ الله يؤكد حلاوة الإيمان في قلوبهم ، ويقوي تلك الرغبة في صدورهم انتهى كلامه. وليس كل من آمن من الصحابة كان ميله أولا إلى الإسلام ميلا ضعيفا ثم يقوى ، بل من الصحابة من استبصر بأول وهلة دعاء الرسول ، أو رأى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٣

كأبي بكر وأبي ذر وعبد الله بن سلام وأمثالهم ممن كان مستبصرا منتظرا. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى إشارة بذلك إلى القتل قبل التثبت ، أي على هذه الحال في جاهليتكم لا تثبتون ، حتى جاء الإسلام ومنّ الله عليكم انتهى. والظاهر أنّ قوله : فمنّ الله عليكم ، هو من تمام كذلك كنتم من قبل. وقيل : من تمام تبتغون عرض الحياة الدنيا وما قبله ، فالمعنى : منّ عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر قاله : أبو عبد الله الرازي ، فتبينوا : تقدّم أنه قرئ فتثبتوا ، ويحتمل أن يكون هذا تأكيدا للأول ، ويحتمل أن يكون فتبينوا في قراءة من جعله من التبين ، أن لا يكون تأكيد الاختلاف متعلق التبين. فالمعنى في الأول : فتبينوا أمر من تقدمون على قتله ، وفي الثاني : فتبينوا نعمة الله عليكم بالإسلام.

(إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي خبيرا بنياتكم وطلباتكم ، فكونوا محتاطين فيما تقصدونه ، متوخين أمر الله تعالى. وهذا فيه تحذير ، فاحفظوا أنفسكم من موارد الزلل. وقرأ الجمهور : إنّ بكسر الهمزة على الاستئناف ، وقرئ بفتحها على أن تكون معمولة لقوله : (فَتَبَيَّنُوا) (١).

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) قال أبو سليمان الدمشقي : نزلت من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود والتخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما غير أولي الضرر فسببها قول ابن أم مكتوم : كيف من لا يستطيع الجهاد؟.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما رغب المؤمنين في القتال في سبيل الله أعداء الله الكفار ، واستطرد من ذلك إلى قتل المؤمن خطأ وعمدا بغير تأويل وبتأويل ، فنهى أن يقدم على قتله بتأويل أمر يحمله على الإسلام إذا كان ظاهره يدل على ذلك ، ذكر بيان فضل المجاهد على القاعد ، وبيان تفاوتهما ، وأن ذلك لا يمنع منه كون الجهاد ، مظنة أن يصيب المجاهد مؤمنا خطأ ، أو من يلقي السلم فيقتله بتأويل فيتقاعسن عن الجهاد لهذه الشبهة ، فأتى عقيب ذلك بفضل الجهاد وفوزه بما ذكر في الآية من الدرجات والمغفرة والرحمة والأجر العظيم ، دفعا لهذه الشبهة.

ويستوي هنا من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد ، وإثباته لا يدل على عموم

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٩٤.

٣٤

المساواة ، وكذلك نفيه. وإنما عنى نفي المساواة في الفضل ، وفي ذلك إبهام على السامع ، وهو أبلغ من تحرير المنزلة التي بين القاعد والمجاهد. فالمتأمل يبقى مع فكره ، ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما ، والقاعد هو المتخلف عن الجهاد ، وعبر عن ذلك بالقعود ، لأن القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب. وأولوا الضرر هم من لا يقدر على الجهاد لعمى ، أو مرض ، أو عرج ، أو فقد أهبة. والمعنى : لا يستوي القاعدون القادرون على الغزو والمجاهدون. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة : غير برفع الراء. ونافع ، وابن عامر ، والكسائي : بالنصب ، ورويا عن عاصم. وقرأ الأعمش وأبو حيوة : بكسرها. فأما قراءة الرفع فوجهها الأكثرون على الصفة ، وهو قول سيبويه ، كما هي عنده صفة في (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (١) ومثله قول لبيد :

وإذا جوزيت قرضا فاجزه

إنما يجزي الفتى غير الجمل

كذا ذكره أبو عليّ ، ويروى : ليس الجمل. وأجاز بعض النحويين فيه البدل. قيل : وهو إعراب ظاهر ، لأنه جاء بعد نفي ، وهو أولى من الصفة لوجهين : أحدهما : أنهم نصوا على أنّ الأفصح في النفي البدل ، ثم النصب على الاستثناء ، ثم الوصف في رتبة ثالثة. الثاني : أنه قد تقرر أنّ غيرا نكرة في أصل الوضع وإن أضيفت إلى معرفة هذا ، هو المشهور ، ومذهب سيبويه. وإن كانت قد تتعرف في بعض المواضع ، فجعلها هنا صفة يخرجها عن أصل وضعها إما باعتقاد التعريف فيها ، وإما باعتقاد أنّ القاعدين لما لم يكونوا ناسا معينين ، كانت الألف واللام فيه جنسية ، فأجرى مجرى النكرات حتى وصف بالنكرة ، وهذا كله ضعيف. وأما قراءة النصب فهي على الاستثناء من القاعدين. وقيل : استثناء من المؤمنين ، والأول أظهر لأنه المحدث عنه. وقيل : انتصب على الحال من القاعدين. وأما قراءة الجر فعلى الصفة للمؤمنين ، كتخريج من خرج غير المغضوب عليهم على الصفة من (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (٢) ومن المؤمنين في موضع الحال من قوله : القاعدون. أي : كائنين من المؤمنين.

واختلفوا : هل أولوا الضرر يساوون المجاهدين أم لا؟ فإن اعتبرنا مفهوم الصفة ، أو قلنا بالأرجح من أنّ الاستثناء من النفي إثبات ، لزمت المساواة. وقال ابن عطية : وهذا مردود ، لأن أولي الضرر لا يساوون المجاهدين ، وغايتهم إن خرجوا من التوبيخ والمذمة

__________________

(١) سورة الفاتحة : ١ / ٧.

(٢) سورة الفاتحة : ١ / ٦.

٣٥

التي لزمت القاعدين من غير عذر ، وكذا قال ابن جريج : الاستثناء لرفع العقاب ، لا لنيل الثواب. المعذور يستوي في الأجر مع الذي خرج إلى الجهاد ، إذ كان يتمنى لو كان قادرا لخرج. قال : استثنى المعذور من القاعدين ، والاستثناء من النفي إثبات ، فثبت الاستواء بين المجاهد والقاعد المعذور انتهى. وإنما نفي الاستواء فيما علم أنه منتف ضرورة لإذكاره ما بين القاعد بغير عذر ، والمجاهد من التفاوت العظيم ، فيأنف القاعد من انحطاط منزلته فيهتز للجهاد ويرغب فيه. ومثله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١) أريد به التحريك من حمية الجاهل وأنفته لينهضم إلى التعلم ، ويرتقي عن حضيض الجهل إلى شرف العلم.

قال بعض العلماء : كان نزول هذه الآية في الوقت الذي كان الجهاد فيه تطوعا ، وإلا لم يكن لقوله : لا يستوي معنى ، لأن من ترك الفرض لا يقال : إنه لا يستوي هو والآتي به ، بل يلحق الوعيد بالتارك ، ويرغب الآتي به في الثواب. وقال الماتريدي : نفي التساوي بين فاعل الجهاد وتاركه ، لا يدلّ على أنّ الجهاد ما كان فرضا في ذلك الوقت. ألا ترى أن قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (٢) نفى المساواة بين المؤمن والفاسق ، والإيمان فرض. وقال تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) (٣) الآية وقال : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، والعلم في كثير من الأشياء فرض. وإذ جاز نفي الاستواء بين فاعل التطوع وتاركه ، فلأن يجوز بين فاعل الفرض وتاركه بطريق الأولى ، وإنما لم يلحق الإثم تاركه لأنه فرض كفاية انتهى. والظاهر أنّ نفي هذا الاستواء ليس مخصوصا بقاعدة عن جهاد مخصوص ، ولا مجاهد جهادا مخصوصا بل ذلك عام.

وعن ابن عابس : لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. وعن مقاتل : إلى تبوك. وقال ابن عباس وغيره : أولوا الضرر هم أهل الأعذار. إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد. وفي الحديث : «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر» وجاء هنا تقديم الأموال على الأنفس. وفي قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) (٤) تقديم الأنفس على الأموال لتباين الغرضين ، لأن المجاهد بائع ، فأخر ذكرها تنبيها على أنّ المضايقة فيها أشد ، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٩.

(٢) سورة السجدة : ٣٢ / ١٨.

(٣) سورة الجاثية : ٤٥ / ٢١.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ١١١.

٣٦

المراتب. والمشتري قدمت له النفس تنبيها على أنّ الرغبة فيها أشد ، وإنما يرعب أولا في الأنفس الغالي.

(فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) الظاهر : أن المفضل عليهم هم القاعدون غير أولي الضرر ، لأنهم هم الذين نفى التسوية بينهم ، فذكر ما امتازوا به عليهم ، وهو تفضيلهم عليهم بدرجة ، فهذه الجملة بيان للجملة الأولى جواب سؤال مقدر ، كان قائلا قال : ما لهم لا يستوون؟ فقيل : فضل الله المجاهدين ، والمفضل عليهم هنا درجة هم المفضل عليهم آخرا درجات ، وما بعدها وهم القاعدون غير أولي الضرر. وتكرر التفضيلان باعتبار متعلقهما ، فالتفضيل الأول بالدرجة هو ما يؤتى في الدنيا من الغنيمة ، والتفضيل الثاني هو ما يخولهم في الآخرة ، فنبه بإفراد الأول ، وجمع الثاني على أنّ ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة يسير. وقيل : المجاهدون تتساوى رتبهم في الدنيا بالنسبة إلى أحوالهم ، كتساوي القاتلين بالنسبة إلى أخذ سلب من قتلوه وتساوي نصيب كل واحد من الفرسان ونصيب كل واحد من الرجال ، وهم في الآخرة متفاوتون بحسب إيمانهم ، فلهم درجات بحسب استحقاقهم ، فمنهم من يكون له الغفران ، ومنهم من يكون له الرحمة فقط. فكان الرحمة أدنى المنازل ، والمغفرة فوق الرحمة ، ثم بعد الدرجات على الطبقات ، وعلى هذا نبه بقوله : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) (١) ومنازل الآخرة تتفاوت. وقيل : الدرجة المدح والتعظيم ، والدرجات منازل الجنة. وقيل : المفضل عليهم أولا غير المفضل عليهم ثانيا. فالأول هم القاعدون بعذر ، والثاني هم القاعدون بغير عذر ، ولذلك اختلف المفضل به : ففي الأول درجة ، وفي الثاني درجات ، وإلى هذا ذهب ابن جريج ، وهو من لا يستوي عنده أولوا الضرر والمجاهدون.

وقيل : اختلف الجهادان ، فاختلف ما فضل به. وذلك أن الجهاد جهادان : صغير ، وكبير. فالصغير مجاهدة الكفار ، والكبير مجاهدة النفس. وعلى ذلك دل قوله عليه‌السلام : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وإنما كان مجاهدة النفس أعظم ، لأنّ من جاهد نفسه فقد جاهد الدنيا ، ومن غلب الدنيا هانت عليه مجاهدة العدا ، فخصّ مجاهدة النفس بالدرجات تعظيما لها. وقد تناقض الزمخشري في تفسير القاعدين فقال : فضل الله المجاهدين جملة موضحة لما نفي من استواء القاعدين والمجاهدين ، كأنه قيل : ما لهم

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٣.

٣٧

لا يستوون؟ فأجيب بذلك : والمعنى على القاعدين غير أولي الضرر ، لكون الجملة بيانا للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف. ثم قال : (فإن قلت) : قد ذكر الله تعالى مفضلين درجة ومفضلين درجات من هم؟ (قلت) : أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء ، وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم ، لأن الغزو فرض كفاية انتهى كلامه. فقال : أولا المعنى على القاعدين غير أولي الضرر ، وقال في هذا الجواب : على القاعدين الأضراء ، وهذا تناقض. والظاهر أنّ قوله : درجات ، لا يراد به عدد مخصوص ، بل ذلك على حسب اختلاف المجاهدين. وقال ابن زيد : هي السبع المذكورة في براءة في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) (١) الآيات. وقال ابن عطية : درجات الجهاد لو حصرت لكانت أكثر من هذه انتهى. وقال ابن محيريز : الدرجات في الجنة سبعون درجة ، كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة ، وإلى نحوه ذهب : مقاتل ، ورجحه الطبري. وفي الحديث الصحيح : «أن في الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض» وذهب بعض العلماء إلى أنّ قوله : وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ، هو على سبيل التوكيد ، لا أنّ مدلول درجة مخالف لمدلول درجات في المعنى ، بل هما سواء في المعنى. قال تعالى : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (٢) لا يراد بها شيء واحد ، بل أشياء. وكرر التفضيل للتأكيد والترغيب في أمر الجهاد ، وإلى هذا ذهب الماتريدي قال : وفي الآية دلالة على أنّ الجهاد فرض كفاية ، حيث يسقط بقيام بعض ، وإن كان خطاب قوله : وقاتلوا في سبيل الله يعم انتهى.

(وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي وكلا من القاعدين والمجاهدين. وقيل : وكلا من القاعدين غير أولي الضرر ، وأولي الضرر ، والمجاهدين. والحسنى هنا : الجنة باتفاق. وقال عبد الجبار : هذا الوعد لا يليق بأمر الآخرة. ولما ذكر ما للمجاهدين من الحظ عاجلا جاز أن يتوهم أنه كما اختص بهذه النعم ، فكذلك يختص بالثواب. فبيّن أنّ للقاعدين ما للمجاهدين من الحسنى في الوعد مع ذلك ، ثم بيّن أنّ لهم فضل درجات ، لأنه لو لم يذكر ذلك لأوهم أنّ حالهما في الوعد بالحسنى سواء انتهى. وانتصب كلا على أنه مفعول أوّل لوعد ، والثاني هو الحسنى. وقرئ : وكل بالرفع على الابتداء ، وحذف العائد أي : وكلهم وعد الله.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٢٠.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٨.

٣٨

(وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) قيل : الدرجات باعتبار المنازل الرفيعة بعد إدخال الجنة ، والمغفرة باعتبار ستر الذنب ، والرحمة باعتبار دخول الجنة. والظاهر أنّ هذا التفضيل الخاص للمجاهد بنفسه وماله ، ومن تفرد بأحدهما ليس كذلك. ومن المعلوم أنّ من جاهد ، ومن أنفق ماله في الجهاد ، ليس كمن جاهد بنفقة من عند غيره.

وفي انتصاب درجة ودرجات وجوه : أحدها : أنهما ينتصبان انتصاب المصدر لوقوع درجة موقع المرة في التفضيل ، كأنه قيل : فضلهم تفضيله. كما تقول : ضربته سوطا ، ووقوع درجات موقع تفضيلات كما تقول : ضربته أسواطا تعني : ضربات. والثاني : أنهما ينتصبان انتصاب الحال أي : ذوي درجة ، وذوي درجات. والثالث : على تقدير حرف الجر أي : بدرجة وبدرجات. والرابع : أنهما انتصبا على معنى الظرف ، إذ وقعا موقعه أي : في درجة وفي درجات. وقيل : انتصاب درجات على البدل من أجرا قيل : ومغفرة ورحمة معطوفان على درجات. وقيل : انتصبا بإضمار فعلهما أي : غفر ذنبهم مغفرة ورحمهم رحمة. وأما انتصاب أجرا عظيما فقيل : على المصدر ، لأنّ معنى فضل معنى أجر ، فهو مصدر من المعنى ، لا من اللفظ. وقيل : على إسقاط حرف الجر أي بأجر. وقيل : مفعول بفضلهم لتضمينه معنى أعطاهم. قال الزمخشري : ونصب أجرا عظيما على أنه حال من النكرة التي هي درجات مقدّمة عليها انتهى. وهذا لا يظهر لأنه لو تأخر لم يجز أن يكون نعتا لعدم المطابقة ، لأنّ أجرا عظيما مفرد ، ولا يكون نعتا لدرجات ، لأنها جمع. وقال ابن عطية : ونصب درجات ، إما على البدل من الأجر ، وإما بإضمار فعل على أن يكون تأكيدا للأجر ، كما نقول لك : على ألف درهم عرفا ، كأنك قلت : أعرفها عرفا انتهى. وهذا فيه نظر.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) روى البخاري عن ابن عباس : أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم ، أو يضرب فيقتل ، فنزلت. وقيل : قوم من أهل مكة أسلموا ، فلما هاجر الرسول أقاموا مع قومهم ، وفتن منهم جماعة ، فلما كان يوم بدر خرج منهم قوم مع الكفار ، فقتلوا ببدر فنزلت. قال عكرمة : نزلت في خمسة قتلوا يوم بدر : قيس بن النائحة بن المغيرة ، والحرث بن زمعة بن الأسود بن أسد ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العاصي بن منبه بن الحجاج ، وعلي بن

٣٩

أمية بن خلف. وقال النقاش : في أناس سواهم أسلموا ثم خرجوا إلى بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : غر هؤلاء دينهم.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي : أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد ، أتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد وسكن في بلاد الكفر. قال ابن عباس ومقاتل : التوفي هنا قبض الأرواح. وقال الحسن : الحشر إلى النار. والملائكة هنا قيل : ملك الموت ، وهو من باب إطلاق الجمع على الواحدة تفخيما له وتعظيما لشأنه ، لقوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) (١) هذا قول الجمهور. وقيل : المراد ملك الموت وأعوانه وهم : ستة ، ثلاثة لأرواح المؤمنين ، وثلاثة لأرواح الكافرين. ويشهد لهذا (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (٢) وظلمهم أنفسهم بترك الهجرة ، وقعودهم مع قومهم حين رجعوا للقتال ، أو برجوعهم إلى الكفر ، أو بشكهم ، أو بإعانة المشركين ، أقوال أربعة : وتوفاهم : ماض لقراءة من قرأ توفتهم ، ولم يلحق تاء التأنيث للفصل ، ولكون تأنيث الملائكة مجازا أو مضارع ، وأصله تتوفاهم.

وقرأ ابراهيم : توفاهم بضم التاء مضارع وفيت ، والمعنى : أنّ الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها ، أي : يمكنهم من استيفائها فيستوفونها. والضمير في قالوا للملائكة ، والجملة خبر إنّ ، والرابط ضمير محذوف دل عليه المعنى ، التقدير : قالوا لهم فيم كنتم؟ وهذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع. والمعنى : في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ وقيل : من أحوال الدنيا ، وجوابهم للملائكة اعتذار عن تخلفهم عن الهجرة ، وإقامتهم بدار الكفر ، وهو اعتذار غير صحيح.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف صح وقوع قوله : كنا مستضعفين في الأرض ، جوابا عن قولهم : فيم كنتم؟ وكان حق الجواب أن يقولوا : كنا في كذا ، ولم يكن في شيء؟ (قلت) : معنى فيم كنتم ، التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على الهجرة ولم يهاجروا ، فقالوا : كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به ، واعتلالا بالاستضعاف ، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء انتهى كلامه. والذي يظهر أنّ قولهم : كنا مستضعفين في الأرض جواب لقوله : فيم كنتم على المعنى ، لا على اللفظ. لأن معنى : فيم كنتم في أي حال مانعة من الهجرة كنتم ، قالوا : كنا مستضعفين أي

__________________

(١) سورة السجدة : ٣٢ / ١١.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٦١.

٤٠