البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

بتصديقك. وما أراني مع هذا كنت أصدقك. ثم أسلم بعد ذلك وقتل شهيدا بالطائف ولما ذكر تعالى تكذيبهم بالحق لما جاءهم ثم وعظهم وذكرهم بإهلاك القرون الماضية بذنوبهم ذكرهم مبالغتهم في التكذيب بأنهم لو رأوا كلاما مكتوبا (فِي قِرْطاسٍ) ومع رؤيتهم جسوه بأيديهم ، لم تزدهم الرؤية واللمس إلا تكذيبا وادعوا أن ذلك من باب السحر لا من باب المعجز عنادا وتعنتا وإن كان من له أدنى مسكة من عقل لا ينازع فيما أدركه بالبصر عن قريب ولا بما لمسته يده ، وذكر اللمس لأنهم لم يقتصروا على الرّؤية لئلا يقولوا سكرت أبصارنا ، ولما كانت المعجزات مرئيات ومسموعات ذكر الملموسات مبالغة في أنهم لا يتوقفون في إنكار هذه الأنواع كلها حتى إن الملموس باليد هو عندهم مثل المرئي بالعين والمسموع بالأذن ، وذكر اليد هنا فقيل مبالغة في التأكيد ولأن اليد أقوى في اللمس من غيرها من الأعضاء. وقيل : الناس منقسمون إلى بصراء وأضراء ، فذكر الطريق الذي يحصل به العلم للفريقين. وقيل : علقه باللمس باليد لأنه أبعد عن السحر. وقيل : اللمس باليد مقدمة الإبصار ولا يقع مع التزوير. وقيل : اللمس يطلق ويراد به الفحص عن الشيء والكشف عنه ، كما قال : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) (١) فذكرت اليد حتى يعلم أنه ليس المراد به ذلك اللمس ، وجاء (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) لأن مثل هذا الغرض يقتضي انقسام الناس إلى مؤمن وكافر ، فالمؤمن يراه من أعظم المعجزات والكافر يجعله من باب السحر ، ووصف السحر ب (مُبِينٌ) إما لكونه بينا في نفسه ، وإما لكونه أظهر غيره.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) قال ابن عباس قال النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خالد : يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة ، يشهدون أنه من عند الله وإنك رسوله ؛ انتهى. والظاهر أن قوله (وَقالُوا) استئناف إخبار من الله ، حكي عنهم أنهم قالوا ذلك ويحتمل أن يكون معطوفا على جواب لو أي : (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ولقالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) فلا يكون إذ ذاك هذان القولان المرتبان على تقدير إنزال الكتاب (فِي قِرْطاسٍ) واقعين ، لأن التنزيل لم يقع وكان يكون القول الثاني غاية في التعنت ، وقد أشار إلى هذا الاحتمال أبو عبد الله بن أبي الفضل قال : في الكلام حذف تقديره ولو أجبناهم إلى ما سألوا لم يؤمنوا (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) وظاهر الآية يقتضي أنها في كفار العرب ، وذكر بعض الناس أنها في أهل الكتاب

__________________

(١) سورة الجن : ٧٢ / ٨.

٤٤١

والضمير في (عَلَيْهِ) عائد على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى (مَلَكٌ) نشاهده ويخبرنا عن الله تعالى بنبوته وبصدقه ، و (لَوْ لا) بمعنى هلا للتحضيض وهذا قول من تعنت وأنكر النبوات.

(وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي (وَلَوْ أَنْزَلْنا) عليه (مَلَكاً) يشاهدونه لقامت القيامة قاله مجاهد. وقال ابن عباس وقتادة والسدّي : في الكلام حذف تقديره (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) فكذبوه (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) بعذابهم ولم يؤخروا حسب ما سلف في كل أمة. وقالت فرقة : معنى (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) لماتوا من هول رؤية الملك في صورته ، ويؤيد هذا التأويل ولو جعلناه ملكا إلى آخره فإن أهل التأويل مجمعون على أنهم لم يكونوا ليطيقوا رؤية الملك في صورته. وقال ابن عطية : فالأولى في (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لماتوا من هول رؤيته. وقال الزمخشري : لقضي أمر إهلاكهم.

(ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) بعد نزوله طرفة عين إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورته ، وهي أنه لا شيء أبين منها وأيقن ، ثم لا يؤمنون كما قال (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) لم يكن بد من إهلاكهم كما أهلك أصحاب المائدة ، وأما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة ، فيجب إهلاكهم وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكا في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون ؛ انتهى. والترديد الأول بإما قول ابن عباس ، والثالث قول تلك الفرقة ، وقوله : كما أهلك أصحاب المائدة ، لأنهم عنده كفار وقد تقدّم الكلام فيهم في أواخر سورة العقود ، وذكر أبو عبد الله الرازي الأوجه الثلاثة التي ذكرها الزمخشري ببسط فيها. وقال التبريزي في معنى (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) قولان : أحدهما : لقامت القيامة لأن الغيب يصير عندها شهادة عيانا. الثاني : الفزع من إهلاكهم لأن السنة الإلهية جارية في إنزال الملائكة بأحد أمرين : الوحي أو الإهلاك ، وقد امتنع الأول فيتعين الثاني ؛ انتهى. فعلى هذا القول يكون معنى قوله (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي بإهلاكنا. قال الزمخشري : ومعنى ثم بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الإنظار جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر ، لأن مفاجأة الشدّة أشد من نفس الشدّة ؛ انتهى.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي ولجعلنا الرسول ملكا ، كما اقترحوا ، لأنهم كانوا يقولون : لولا أنزل على محمد ملك ، وتارة يقولون : ما هذا إلا بشر مثلكم ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة ، ومعنى (لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي لصيرناه في صورة رجل ، كما كان جبريل ينزل

٤٤٢

على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غالب الأحوال في صورة دحية ، وتارة ظهر له وللصحابة في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة ، وفي الحديث : «وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا» ، وكما تصوّر جبريل لمريم بشرا سويا والملائكة أضياف إبراهيم وأضياف لوط ومتسوّر والمحراب ، فإنهم ظهروا بصورة البشر وإنما كان يكون بصورة رجل ، لأن الناس لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد ، ويؤيده هلاك الذي سمع صوت ملك في السحاب يقول : أقدم حيزوم فمات لسماع صوته فكيف لو رآه في خلقته. قال ابن عطية : ولا يعارض هذا برؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل وغيره في صورهم ، لأنه عليه‌السلام أعطى قوة يعني غير قوى البشر وجاء بلفظ رجل ردّا على المخاطبين بهذا ، إذ كانوا يزعمون أن الملائكة إناث. وقال القرطبي : لو جعل الله الرسول إلى البشر ملكا لفروا من مقاربته وما أنسوا به ، ولداخلهم من الرعب من كلامه ما يلكنهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله ، فلا تعم المصلحة ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم لقالوا : لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم ؛ انتهى. وهو جمع كلام من قبله من المفسرين ، وفي هذه الآية دليل على من أنكر نزول الملائكة إلى الأرض وقالوا : هي أجسام لطيفة ليس فيها ما يقتضي انحطاطها ونزولها إلى الأرض ، ورد ذلك عليهم بأنه تعالى قادر أن يودع أجسامها ثقلا يكون سببا لنزولها إلى الأرض ثم يزيل ذلك ، فتعود إلى ما كانت عليه من اللطافة والخفة فيكون ذلك سببا لارتفاعها ؛ انتهى. هذا الردّ والذي نقول إن القدرة الإلهية تنزل الخفيف وتصعد الكثيف من غير أن يجعل في الخفيف ثقلا وفي الكثيف خفة وليس هذا بالمستحيل ، فيتكلف أن يودع في الخفيف ثقلا وفي الكثيف خفة ، وفي الآية دليل على إمكان تمثيل الملائكة بصورة البشر وهو صحيح واقع بالنقل المتواتر.

(وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ ، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة إنسان : هذا إنسان وليس بملك ، فإني أستدل بأني جئت بالقرآن المعجز وفيه أني ملك لا بشر كذبوه كما كذبوا الرسل فخذلوا كما هم مخذولون ، ويجوز أن يكون المعنى (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ) حينئذ مثل (ما يَلْبِسُونَ) على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله قاله الزمخشري وفيه بعض تلخيص. وقال ابن عطية : ولخلطنا عليهم ما يخلطون به على أنفسهم وضعفتهم ، أي : لفعلنا لهم في ذلك تلبسا يطرّق لهم إلى أن يلبسوا به وذلك لا يحسن ، ويحتمل الكلام مقصدا آخر أي (لَلَبَسْنا)

٤٤٣

نحن (عَلَيْهِمْ) كما يلبسون هم على ضعفتهم ، فكنا ننهاهم عن التلبيس ونفعله نحن ؛ انتهى. وقال قوم : كان يحصل التلبيس لاعتقادهم أن الملائكة إناث فلو رأوه في صورة رجل حصل التلبيس عليهم كما حصل منهم التلبيس على غيرهم. وقال قوم منهم الضحاك : الآية نزلت في اليهود والنصارى في دينهم وكتبهم حرفوها وكذبوا رسلهم ، فالمعنى في اللبس زدناهم ضلالا على ضلالهم. وقال ابن عباس : لبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم بتحريف الكلام عن مواضعه ، و (ما) مصدرية وأضاف اللبس إليه تعالى على جهة الخلق ، وإليهم على جهة الاكتساب. وقرأ ابن محيصن : ولبسنا بلام واحدة والزهري (وَلَلَبَسْنا) بتشديد الباء.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). هذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما كان يلقى من قومه وتأسّ بمن سبق من الرسل وهو نظير وإن يكذبوك فقد كذب رسل من قبلك لأن ما كان مشتركا من ما لا يليق أهون على النفس مما يكون فيه الانفراد وفي التسلية والتأسي من التخفيف ما لا يخفى. وقالت الخنساء :

ولولا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أسلي النفس عنه بالتأسي

وقال بعض المولدين :

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة

يواسيك أو يسليك أو يتوجع

ولما كان الكفار لا ينفعهم الاشتراك في العذاب ولا يتسلون بذلك ، نفى ذلك تعالى عنهم فقال : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (١) قيل : كان قوم يقولون : يجب أن يكون ملكا من الملائكة على سبيل الاستهزاء ، فيضيق قلب الرسول عند سماع ذلك فسلاه الله تعالى بإخباره أنه قد سبق للرسل قبلك استهزاء قومهم بهم ليكون سببا للتخفيف عن القلب ، وفي قوله تعالى : (فَحاقَ) إلى آخره ، إخبار بما جرى للمستهزئين بالرسل قبلك ووعيد متيقن لمن استهزأ بالرسول عليه‌السلام وتثبيت للرسول على عدم اكتراثه بهم ، لأن مآلهم إلى التلف والعقاب الشديد المرتب على الاستهزاء ، وأنه تعالى يكفيه شرهم وإذايتهم كما قال تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (٢) ومعنى

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٣٩.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٩٥.

٤٤٤

(سَخِرُوا) استهزؤوا إلا أن استهزأ تعدّى بالباء وسخر بمن كما قال : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) (١) وبالباء تقول : سخرت به وتكرر الفعل هنا لخفة الثلاثي ولم يتكرر في (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) فكان يكون التركيب ، (فَحاقَ بِالَّذِينَ) استهزؤوا بهم لثقل استفعل ، والظاهر في (ما) أن تكون بمعنى الذي وجوّزوا أن تكون (ما) مصدرية ، والظاهر أن الضمير في (مِنْهُمْ) عائد على الرسل ، أي (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا) من الرسل وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون عائدا على غير الرسل. قال الحوفي : في أمم الرسل. وقال أبو البقاء : على المستهزئين ، ويكون (مِنْهُمْ) حالا من ضمير الفاعل في (سَخِرُوا) وما قالاه وجوزاه ليس بجيد ، أما قول الحوفي فإن الضمير يعود على غير مذكور وهو خلاف الأصل ، وأما قول أبي البقاء فهو أبعد لأنه يصير المعنى : (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا) كائنين من المستهزئين فلا حاجة لهذه الحال لأنها مفهومة من قوله (سَخِرُوا) وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة بكسر دال (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) على أصل التقاء الساكنين. وقرأ باقي السبعة بالضم اتباعا ومراعاة لضم التاء إذ الحاجز بينهما ساكن ، وهو حاجز غير حصين.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) لما ذكر تعالى ما حل بالمكذبين المستهزئين وكان المخاطبون بذلك أمّة أميّة ، لم تدرس الكتب ولم تجالس العلماء فلها أن تظافر في الإخبار بهلاك من أهلك بذنوبهم أمروا بالسير في الأرض ، والنظر فيما حل بالمكذبين ليعتبروا بذلك وتتظافر مع الأخبار الصادق الحس فللرؤية من مزيد الاعتبار ما لا يكون كما قال بعض العصريين :

لطائف معنى في العيان ولم تكن

لتدرك إلا بالتزاور واللقا

والظاهر أن السير المأمور به ، هو الانتقال من مكان إلى مكان وإن النظر المأمور به ، هو نظر العين وإن الأرض هي ما قرب من بلادهم من ديار الهالكين بذنوبهم كأرض عاد ومدين ومدائن قوم لوط وثمود. وقال قوم : السير والنظر هنا ليسا حسيين بل هما جولان الفكر والعقل في أحوال من مضى من الأمم التي كذبت رسلها ، ولذلك قال الحسن : سيروا في الأرض لقراءة القرآن أي : اقرؤوا القرآن وانظروا ما آل إليه أمر المكذبين ، واستعارة السير (فِي الْأَرْضِ) لقراءة القرآن فيه بعد ، وقال قوم : (الْأَرْضِ) هنا عام ، لأن في كل

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٣٨.

٤٤٥

قطر منها آثارا لهالكين وعبرا للناظرين وجاء هنا خاصة (ثُمَّ انْظُرُوا) بحرف المهلة وفيما سوى ذلك بالفاء التي هي للتعقيب. وقال الزمخشري : في الفرق جعل النظر متسببا عن السير فكان السير سببا للنظر ، ثم قال : فكأنه قيل : (سِيرُوا) لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين ، وهنا معناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع ، وإيجاب النظر في آثار الهالكين ونبه على ذلك ب (ثُمَ) لتباعد ما بين الواجب والمباح ، انتهى.

وما ذكره أولا متناقض لأنه جعل النظر متسببا عن السير ، فكان السير سببا للنظر ثم قال : فكأنما قيل : (سِيرُوا) لأجل النظر فجعل السير معلولا بالنظر فالنظر سبب له فتناقضا ، ودعوى أن الفاء تكون سببية لا دليل عليها وإنما معناها التعقيب فقط وأما مثل ضربت زيدا فبكى ، وزنى ماعز فرجم ، فالتسبيب فهم من مضمون الجملة لأن الفاء موضوعة له وإنما يفيد تعقيب الضرب بالبكاء وتعقيب الزنا بالرجم فقط ، وعلى تسليم أن الفاء تفيد التسبيب فلم كان السير هنا سير إباحة وفي غيره سير واجب؟ فيحتاج ذلك إلى فرق بين هذا الموضع وبين تلك المواضع.

قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) لما ذكر تعالى تصريفه فيمن أهلكهم بذنوبهم ، أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسؤالهم ذلك فإنه لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن ذلك لله تعالى فيلزمهم بذلك أنه تعالى هو المالك المهلك لهم ، وهذا السؤال سؤال تبكيت وتقرير ثم أمره تعالى بنسبة ذلك لله تعالى ليكون أول من بادر إلى الاعتراف بذلك. وقيل : في الكلام حذف تقديره فإذا لم يجيبوا (قُلْ لِلَّهِ) وقال قوم : المعنى أنه أمر بالسؤال فكأنه لما لم يجيبوا سألوا فقيل لهم (قُلْ لِلَّهِ) ولله خبر مبتدأ محذوف التقدير قل ذلك أو هو لله. (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) لما ذكر تعالى أنه موجد العالم المتصرف فيهم بما يريد ، ودل ذلك على نفاذ قدرته أردفه بذكر رحمته وإحسانه إلى الخلق وظاهر كتب أنه بمعنى سطر وخط ، وقال به قوم هنا وله أريد حقيقة الكتب والمعنى أمر بالكتب في اللوح المحفوظ. وقيل : (كَتَبَ) هنا بمعنى وعد بها فضلا وكرما. وقيل : بمعنى أخبر. وقيل : أوجب إيجاب فضل وكرم

٤٤٦

لا إيجاب لزوم. وقيل : قضاها وأنفذها. وقال الزمخشري : أي أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته ، ونصب الأدلة لكم على توحيد ما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض ، انتهى. و (الرَّحْمَةَ) هنا الظاهر أنها عامّة فتعم المحسن والمسيء في الدنيا ، وهي عبارة عن الاتصال إليهم والإحسان إليهم ولم يذكر متعلق الرحمة لمن هي فتعم كما ذكرنا. وقيل : الألف واللام للعهد ، فيراد بها الرحمة الواحدة التي أنزلها الله تعالى من المائة (الرَّحْمَةَ) التي خلقها وأخر تسعة وتسعين يرحم بها عباده في الآخرة. وقال الزجاج : (الرَّحْمَةَ) إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا ، فلم يعاجلهم على كفرهم. وقيل : (الرَّحْمَةَ) لمن آمن وصدق الرسل. وفي صحيح مسلم لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه ، فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي.

(لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) لما ذكر أنه تعالى رحم عباده ذكر الحشر وأن فيه المجازاة على الخير والشر ، وهذه الجملة مقسم عليها ولا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب وإن كانت من حيث المعنى متعلقة بما قبلها كما ذكرناه. وحكى المهدوي أن جماعة من النحويين قالوا : إنها تفسير للرحمة تقديره : أن يجمعكم ، فتكون الجملة في موضع نصب على البدل من (الرَّحْمَةَ) وهو مثل قوله (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) (١) المعنى أن يسجنوه ، وردّ ذلك ابن عطية بأن النون الثقيلة تكون قد دخلت في الإيجاب قال : وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص من الواجب في القسم ، انتهى. وهذا الذي ذكره لا يحصر مواضع دخول نون التوكيد ، ألا ترى دخولها في الشرط وليس واحدا مما ذكر نحو قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) (٢) وكذلك قوله : وباختصاص من الواجب في القسم بهذا ليس على إطلاقه بل له شروط ذكرت في علم النحو ولهم أن يقولوا صورة الجملة صورة المقسم عليه ، فلذلك لحقت النون وإن كان المعنى على خلاف القسم ويبطل ما ذكروه ، إن الجملة المقسم عليها لا موضع لها وحدها من الإعراب ، فإذا قلت والله لأضربنّ زيدا ، فلأضربنّ لا موضع له من الإعراب فإذا قلت زيد والله لأضربنه ، كانت جملة القسم والمقسم عليه في موضع رفع والجمع هنا قيل حقيقة أي (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) في القبور إلى يوم القيامة ، والظاهر أن (إِلى) للغاية والمعنى ليحشرنكم منتهين (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) وقيل : المعنى (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) في الدنيا يخلقكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة وقد

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٣٥.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٢٠٠.

٤٤٧

تكون (إِلى) هنا بمعنى اللام أي ليوم القيامة ، كقوله تعالى : (إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) (١) وأبعد من زعم أن (إِلى) بمعنى في أي في يوم القيامة وأبعد منه من ذهب إلى أنها صلة والتقدير (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) يوم القيامة ، والظاهر أن الضمير في (فِيهِ) عائد إلى يوم القيامة وفيه ردّ على من ارتاب في الحشر ويحتمل أن يعود على الجمع ، وهو المصدر المفهوم من قولهم (لَيَجْمَعَنَّكُمْ).

(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) اختلف في إعراب (الَّذِينَ) فقال الأخفش : هو بدل من ضمير الخطاب في (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) وردّه المبرد بأن البدل من ضمير الخطاب لا يجوز ، كما لا يجوز مررت بك زيد وردّ رد المبرد ابن عطية. فقال : ما في الآية مخالف للمثال لأن الفائدة في البدل مترتبة من الثاني ، وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني ، وقوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال (الَّذِينَ) من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب وخصوا على جهة الوعيد ، ويجيء هذا بدل البعض من الكل ، انتهى. وما ذكره ابن عطية في هذا الردّ ليس بجيد ، لأنه إذا جعلنا (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) يصلح لمخاطبة الناس كافة كان (الَّذِينَ) بدل بعض من كل ، ويحتاج إذ ذاك إلى ضمير ويقدر (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) منهم وقوله فيفيدنا إبدال (الَّذِينَ) من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب ، وخصوا على جهة الوعيد وهذا يقتضي أن يكون بدل كل من كل فتناقض أول كلامه مع آخره لأنه من حيث الصلاحية ، يكون بدل بعض من كل ومن حيث اختصاص الخطاب بهم يكون بدل كل من كل ، والمبدل منه متكلم أو مخاطب في جوازه خلاف مذهب الكوفيين والأخفش ، أنه يجوز ومذهب جمهور البصريين أنه لا يجوز ، وهذا إذا لم يكن البدل يفيد معنى التوكيد فإنه إذ ذاك يجوز ، وهذا كله مقرر في علم النحو. وقال الزجاج : (الَّذِينَ) مرفوع على الابتداء والخبر قوله : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ودخلت الفاء لما تضمن المبتدأ من معنى الشرط كأنه قيل : من يخسر نفسه فهو لا يؤمن ، ومن ذهب إلى البدل جعل الفاء عاطفة جملة على جملة وأجاز الزمخشري أن يكون (الَّذِينَ) منصوبا على الذمّ أي : أريد (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ؛ انتهى وتقديره بأريد ليس بجيد إنما يقدر النحاة المنصوب على الذم بأذم وأبعد من ذهب إلى أن موضع (الَّذِينَ) جر نعتا للمكذبين أو بدلا منهم.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٩.

٤٤٨

وقال الزمخشري (فإن قلت) : كيف جعل عدم إيمانهم مسببا عن خسرهم والأمر بالعكس؟ (قلت) : معناه (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) في علم الله لاختيارهم الكفر (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ؛ انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال بقوله : لاختيارهم الكفر.

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) لما ذكر تعالى أنه له ملك ما حوى المكان من السموات والأرض ، ذكر ما حواه الزمان من الليل والنهار وإن كان كل واحد من الزمان والمكان يستلزم الآخر ، لكن النص عليهما أبلغ في الملكية وقدم المكان لأنه أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان وله قال الزمخشري وغيره ، هو معطوف على قوله (لِلَّهِ) والظاهر أنه استئناف إخبار وليس مندرجا تحت قوله : قل ، و (سَكَنَ) هنا قال السدّي وغيره : من السكنى أي ما ثبت وتقرر ، ولم يذكر الزمخشري غيره. قال : وتعديه ب (فِي) كما في قوله : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) (١) وقالت فرقة : هو من السكون المقابل للحركة واختلف هؤلاء. فقيل : ثم معطوف محذوف أي وما تحرّك ، وحذف كما حذف في قوله : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٢) والبرد وقيل : لا محذوف هنا واقتصر على الساكن لأن كل متحرك قد يسكن وليس كل ما يسكن يتحرك. وقيل : لأن السكون أكثر وجودا من الحركة ، وقال في قوله : (وَالنَّهارِ) لأن من المخلوقات ما يسكن بالنهار وينتشر بالليل ، قاله مقاتل ، ورجح ابن عطية القول الأول. قال : والمقصد في الآية عموم كل شيء وذلك لا يترتب إلا بأن يكون سكن بمعنى استقر وثبت ، وإلا فالمتحرك من الأشياء المخلوقات أكثر من السواكن ، ألا ترى أن الفلك والشمس والقمر والنجوم السائحة والملائكة وأنواع الحيوان متحركة ، والليل والنهار حاصران للزمان ؛ انتهى. وليس بجيد لأنه قال لا يترتب العموم إلا بأن يكون سكن بمعنى استقر وثبت ، ولا ينحصر فيما ذكر ، ألا ترى أنه يترتب العموم على قول من جعله من السكون وجعل في الكلام معطوفا محذوفا أي وما تحرك ، وعلى قول من ادعى أن كل ما يتحرك قد يسكن وليس كل ما يسكن يتحرك ، فكل واحد من هذين القولين يترتب معه العموم فلم ينحصر العموم فيما ذكر ابن عطية.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لما تقدم ذكر محاورات الكفار المكذبين وذكر الحشر الذي فيه الجزاء ، ناسب ذكر صفة السمع لما وقعت فيه المحاورة وصفة العلم لتضمنها معنى الجزاء ، إذ ذلك يدل على الوعيد والتهديد.

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ١٣.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٨١.

٤٤٩

قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى

٤٥٠

ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)

فطر خلق وابتدأ من غير مثال ، وعن ابن عباس ما كنت أعرف معنى فطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي اخترعتها وأنشأتها ، وفطر أيضا شق يقال فطر ناب البعير ومنه هل ترى من فطور؟ وقوله : ينفطرن منه. كشف الضر : أزاله ، وكشفت عن ساقيها أزالت ما يسترهما. القهر : الغلبة والحمل على الشيء من غير اختيار. الوقر : الثقل في السمع يقال وقرت أذنه بفتح القاف وكسرها ، وسمع أذن موقورة فالفعل على هذا وقرت والوقر بفتح الواو وكسرها. أساطير : جمع أسطارة وهي الترهات قاله أبو عبيدة. وقيل : أسطورة كأضحوكة. وقيل : واحد أسطور. وقيل : إسطير وإسطيرة. وقيل : جمع لا واحد له مثل عباديد. وقيل : جمع الجمع يقال سطر وسطر ، فمن قال : سطر جمعه في القليل على أسطر وفي الكثير على سطور ومن قال : سطر جمعه على أسطار ثم جمع أسطارا على أساطير قاله يعقوب. وقيل : هو جمع جمع الجمع ، يقال : سطر وأسطر ثم أسطار ثم أساطير ذكر ذلك عن الزجاج ، وليس أسطار جمع أسطر بل هما جمعا قلة لسطر. قال ابن عطية : وقيل هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كعباديد وشماطيط ؛ انتهى. وهذا لا تسميه النحاة اسم جمع لأنه على وزن الجموع بل يسمونه جمعا وإن لم يلفظ له بواحد. نأى نأيا بعد وتعديته لمفعول منصوب بالهمزة لا بالتضعيف ، وكذا ما كان مثله مما عينه همزة. وقف على كذا : حبس ومصدر المتعدي وقف ومصدر اللازم وقوف فرق بينهما بالمصدر. البغت والبغتة : الفجأة يقال بغته يبغته أي فجأه يفجأه وهي مجيء الشيء سرعة من غير جعل بالك إليه وغير علمك بوقت مجيئه. فرط قصر مع القدرة على ترك التقصير. وقال أبو عبيد : فرّط ضيّع. وقال ابن بحر : فرّط سبق والفارط السابق ، وفرط خلى السبق لغيره. الأوزار : الآثام والخطايا وأصله الثقل من الحمل ، وزرته جملته وأوزار الحرب أثقالها من السلاح ، ومنه الوزير لأنه يحمل عن السلطان أثقال ما يسند إليه من تدبير ملكه. اللهو : صرف النفس عن الجد إلى الهزل يقال منه لها يلهو ولهي عن كذا صرف نفسه عنه ، والمادة واحدة انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها نحو شقي ورضي. قال المهدوي : الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم لهيان ولام الأول واو ، انتهى. وهذا ليس بشيء لأن الواو في التثنية انقلبت ياء وليس أصلها الياء ، ألا ترى إلى تثنية شج شجيان وهو من ذوات الواو من الشجو.

٤٥١

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لما تقدّم أنه تعالى اخترع السموات والأرض ، وأنه مالك لما تضمنه المكان والزمان أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك على سبيل التوبيخ لهم أي من هذه صفاته هو الذي يتخذ وليا وناصرا ومعينا لا الالهة التي لكم ، إذ هي لا تنفع ولا تضر لأنها بين جماد أو حيوان مقهور ، ودخلت همزة الاستفهام على الاسم دون الفعل لأن الإنكار في اتخاذ غير الله وليا لا في اتخاذ الولي كقولك لمن ضرب زيدا وهو ممن لا يستحق الضرب بل يستحق الإكرام أزيدا ضربت ، تنكر عليه أن كون مثل هذا يضرب ونحو ، (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) (١) و (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) (٢) وقال الطبري وغيره : أمر أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم ، فتجيء الآية على هذا جوابا لكلامهم ، انتهى. وهذا يحتاج إلى سند في أن سبب نزول هذه الآية هو ما ذكره وانتصاب غير على أنها مفعول أول لا تخذ. وقرأ الجمهور (فاطِرِ) فوجهه ابن عطية والزمخشري ونقلها الحوفي على أنه نعت لله ، وخرجه أبو البقاء على أنه بدل وكأنه رأى أن الفضل بين المبدل منه والبدل أسهل من الفصل بين المنعوت والنعت ، إذ البدل على المشهور هو على تكرار العامل وقرأ ابن أبي عبلة برفع الراء على إضمار هو. قال ابن عطية : أو على الابتداء ؛ انتهى. ويحتاج إلى إضمار خبر ولا دليل على حذفه وقرئ شاذا بنصب الراء وخرجه أبو البقاء على أنه صفة لولي على إرادة التنوين أو بدل منه أو حال ، والمعنى على هذا أأجعل (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) غير الله ، انتهى. والأحسن نصبه على المدح. وقرأ الزهري فطر جعله فعلا ماضيا.

(وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي يرزق ولا يرزق كقوله : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (٣) والمعنى أن المنافع كلها من عند الله ، وخص الإطعام من بين أنواع الانتفاعات لمس الحاجة إليه كما خص الربا بالأكل وإن كان المقصود الانتفاع بالربا. وقرأ مجاهد وابن جبير والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وفي رواية عنه (وَلا يُطْعَمُ) بفتح الياء والمعنى أنه تعالى منزه عن الأكل ولا يشبه المخلوقين. وقرأ يمان العماني وابن أبي عبلة (وَلا يُطْعَمُ) بضم الياء وكسر العين مثل الأول فالضمير في (وَهُوَ يُطْعِمُ) عائد على الله وفي (وَلا يُطْعَمُ) عائد على الولي. وروى ابن المأمون عن يعقوب

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٤.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٥٩.

(٣) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٧.

٤٥٢

(وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل والضمير لغير الله ، وقرأ الأشهب : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) على بنائهما للفاعل وفسر بأن معناه وهو يطعم ولا يستطعم ، وحكى الأزهري أطعمت بمعنى استطعمت. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح ، كقولك هو يعطي ويمنع ويبسط ويقدر ويغني ويفقر ، وفي قراءة من قرأ باختلاف الفعلين تجنيس التشكيل وهو أن يكون الشكل فرقا بين الكلمتين وسماه أسامة بن منقذ في بديعته تجنيس التحريف ، وهو بتجنيس التشكيل أولى.

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) قال الزمخشري : لأن النبيّ سابق أمته في الإسلام كقوله (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (١) وكقول موسى (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) قال ابن عطية : المعنى أوّل من أسلم من هذه الأمّة وبهذه الشريعة ، ولا يتضمن الكلام إلا ذلك وهذا الذي قاله الزمخشري وابن عطية هو قول الحسن. قال الحسن : معناه أول من أسلم من أمتي. قيل : وفي هذا القول نظر لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصدر منه امتناع عن الحق وعدم انقياد إليه ، وإنما هذا على طريق التعريض على الإسلام كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يتبعه بقوله أنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على فعل ذلك. وقيل : أراد الأوّلية في الرتبة والفضيلة كما جاء نحن الآخرون الأوّلون وفي رواية السابقون. وقيل : (أَسْلَمَ) أخلص ولم يعدل بالله شيئا. وقيل : استسلم. وقيل : أراد دخوله في دين إبراهيم عليه‌السلام كقوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (٣). وقيل : أول من أسلم يوم الميثاق فيكون سابقا على الخلق كلهم ، كما قال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) (٤).

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وقيل لي والمعنى أنه أمر بالإسلام ونهى عن الشرك ، هكذا خرجه الزمخشري وابن عطية على إضمار. وقيل لي : لأنه لا ينتظم عطفه على لفظ (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) فيكون مندرجا تحت لفظ (قُلْ) إذ لو كان كذلك لكان التركيب ولا أكون من المشركين. وقيل : هو معطوف على معمول (قُلْ) حملا على المعنى ، والمعنى قل إني قيل لي كن أول من أسلم ، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فهما جميعا محمولان على القول لكن أتى الأول بغير لفظ القول ، وفيه معناه فحمل الثاني على المعنى وقيل هو معطوف على (قُلْ) أمر بأن يقول كذا ونهى عن كذا. وقيل : هو نهي عن موالاة المشركين. وقيل :

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٦٣.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٣.

(٣) سورة الحج : ٢٢ / ٧٨.

(٤) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٧.

٤٥٣

الخطاب له لفظا والمراد أمته وهذا هو الظاهر لقوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١) والعصمة تنافي إمكان الشرك.

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الظاهر أن الخوف هنا على بابه وهو توقع المكروه. وقال ابن عباس معنى (أَخافُ) أعلم و (عَصَيْتُ) عامّة في أنواع المعاصي ، ولكنها هنا إنما تشير إلى الشرك الذي نهى عنه قاله ابن عطية. والخوف ليس بحاصل لعصمته بل هو معلق بشرط هو ممتنع في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوابه محذوف ولذلك جاء بصيغة الماضي. فقيل : هو شرط معترض لا موضع له من الإعراب كالاعتراض بالقسم. وقيل : هو في موضع نصب على الحال كأنه قيل إني أخاف عاصيا ربي. وقال أبو عبد الله الرازي : مثال الآية إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة متساويتين يعني أنه تعليق على مستحيل واليوم العظيم هو يوم القيامة.

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) قرأ حمزة وأبو بكر والكسائي (مَنْ يُصْرَفْ) مبنيا للفاعل فمن مفعول مقدم والضمير في (يُصْرَفْ) عائد على الله ويؤيده قراءة أبي (مَنْ يُصْرَفْ) الله وفي (عَنْهُ) عائد على العذاب والضمير المستكن في (رَحِمَهُ) عائد على الرب أي أيّ شخص يصرف الله عنه العذاب فقد رحمه الرحمة العظمى وهي النجاة من العذاب ، وإذا نجّي من العذاب دخل الجنة ويجوز أن يعرب (مَنْ) مبتدأ والضمير في (عَنْهُ) عائد عليه ، ومفعول (يُصْرَفْ) محذوف اختصارا إذ قد تقدّم في الآية قبل التقدير أي شخص يصرف الله العذاب عنه فقد رحمه ، وعلى هذا يجوز أن يكون من باب الاشتغال فيكون (مَنْ) منصوبا بإضمار فعل يفسره معنى (يُصْرَفْ) ويجوز على إعراب (مَنْ) مبتدأ أن يكون المفعول مذكورا ، وهو (يَوْمَئِذٍ) على حذف أي هول يومئذ فينتصب (يَوْمَئِذٍ) انتصاب المفعول به. وقرأ باقي السبعة (مَنْ يُصْرَفْ) مبنيا للمفعول ومعلوم أن الصارف هو الله تعالى ، فحذف للعلم به أو للإيجاز إذ قد تقدّم ذكر الرّب ويجوز في هذا الوجه أن يكون الضمير في (يُصْرَفْ) عائدا على (مَنْ) وفي (عَنْهُ) عائدا على العذاب أي أيّ شخص يصرف عن العذاب ، ويجوز أن يكون الضمير في (عَنْهُ) عائدا على (مَنْ) والضمير في (يُصْرَفْ) عائدا على العذاب أيّ أيّ شخص يصرف العذاب عنه ، ويجوز أن يكون الضميران عائدين على (مَنْ) ومفعول (يُصْرَفْ يَوْمَئِذٍ) وهو مبني لإضافته إلى إذ فهو في موضع رفع بيصرف والتنوين في (يَوْمَئِذٍ) تنوين

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٥.

٤٥٤

عوض من جملة محذوفة يتضمنها الكلام السابق التقدير يوم ، إذ يكون الجزاء إذ لم يتقدّم جملة مصرّح بها يكون التنوين عوضا عنها ، وتكلم المعربون في الترجيح بين القراءتين على عادتهم فاختار أبو عبيد وأبو حاتم وأشار أبو عليّ إلى تحسينه قراءة (يُصْرَفْ) مبنيا للفاعل لتناسب (فَقَدْ رَحِمَهُ) ولم يأت فقد رحم ويؤيده قراءة عبد الله وأبي (مَنْ يُصْرَفْ) الله ورجح الطبري قراءة (يُصْرَفْ) مبنيا للمفعول قال : لأنها أقل إضمارا. قال ابن عطية : وأما مكي بن أبي طالب فتخبط في كتاب الهداية في ترجيح القراءة بفتح الياء ومثل في احتجاجه بأمثلة فاسدة. قال ابن عطية : وهذا توجيه لفظي يشير إلى الترجيح تعلقه خفيف ، وأما المعنى فالقراءتان واحد ؛ انتهى. وقد تقدّم لنا غير مرّة إنا لا نرجح بين القراءتين المتواترتين. وحكى أبو عمرو الزاهد في كتاب اليواقيت أن أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلبا كان لا يرى الترجيح بين القراءات السبع. وقال : قال ثعلب من كلام نفسه إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة ، لم أفضل إعرابا على إعراب في القرآن فإذا خرجت إلى الكلام كلام الناس فضلت الأقوى ونعم السلف لنا ، أحمد بن يحيى كان عالما بالنحو واللغة متدينا ثقة.

(وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) الإشارة إلى المصدر المفهوم (مَنْ يُصْرَفْ) أي وذلك الصرف هو الظفر والنجاة من الهلكة و (الْمُبِينُ) البين في نفسه أو المبين غيره.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن يصبك وينلك بضرّ وحقيقة المس تلاقي جسمين ، ويظهر أن الباء في (بِضُرٍّ) وفي (بِخَيْرٍ) للتعدية وإن كان الفعل متعديا كأنه قيل : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ) الضر فقد مسك ، والتعدية بالباء في الفعل المتعدّي قليلة ومنها قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) (١) وقول العرب : صككت أحد الحجرين بالآخر والضر بالضم سوء الحال في الجسم وغيره ، وبالفتح ضد النفع وفسر السدّي الضر هنا بالسقم والخير بالعافية. وقيل : الضر الفقر والخير الغنى والأحسن العموم في الضر من المرض والفقر وغير ذلك ، وفي الخير من الغنى والصحة وغير ذلك ، وفي حديث ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فقد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه». أخرجه الترمذي. والذي يقابل الخير هو الشر وناب عنه هنا الضر وعدل عن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٥١.

٤٥٥

الشر ، لأن الشر أعم من الضر فأتي بلفظ الضر الذي هو أخص وبلفظ الخير الذي هو عام مقابل لعام تغليبا لجهة الرحمة. قال ابن عطية : ناب الضرّ هنا مناب الشر وإن كان الشر أعم منه ، فقابل الخير وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والضعة فإن باب التكلف في ترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترنا بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضاهاة ، فمن ذلك (أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١) فجاء بالجوع مع العري وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرئ القيس :

كأني لم أركب جواد اللذة

ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال

ولم أسبا الزق الروي ولم أقل

لخيلي كري كرة بعد إجفال

انتهى. والجامع في الآية بين الجوع والعري هو اشتراكهما في الخلو فالجوع خلو الباطن والعري خلو الظاهر وبين الظمأ والضحاء اشتراكهما في الاحتراق ، فالظمأ احتراق الباطن ألا ترى إلى قولهم برد الماء حرارة جوفي والضحاء احتراق الظاهر والجامع في البيت الأول بين الركوب للذة وهي الصيد وتبطن الكاعب اشتراكهما في لذة الاستعلاء والاقتناص والقهر والظفر بمثل هذا الركوب ، ألا ترى إلى تسميتهم هن المرأة بالركب هو فعل بمعنى مفعول أي مركوب قال الراجز :

إن لها لركبا إرزبا

كأنه جبهة ذرى حبا

وفي البيت الثاني بين سبا الخمر والرجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل ، فشراء الخمر فيه بدل المال والرجوع بعد الانهزام فيه بذل الروح وما أحسن تعقل امرئ القيس في بيتيه ، حيث انتقل من الأدنى إلى الأعلى لأن الظفر بجنس الإنسان أعلى وأشرف من الظفر بغير الجنس ، ألا ترى أن تعلق النفس بالعشق أكثر من تعلقها بالصيد ولأن بذل الروح أعظم من بذل المال ، ومناسبة تقديم مس الضر على مس الخير ظاهرة لاتصاله بما قبله وهو الترهيب الدال عليه (قُلْ إِنِّي أَخافُ) وما قبله وجاء جواب الأول بالحصر في قوله : (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) مبالغة في الاستقلال بكشفه وجاء جواب الثاني بقوله : (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) دلالة على قدرته على كل شيء فيندرج فيه المس بخير أو غيره ، ولو قيل : إن الجواب محذوف لدلالة الأول عليه لكان وجها حسنا وتقديره فلا موصل له إليك إلا هو والأحسن تقديره ، فلا راد له للتصريح بما يشبهه في قوله وإن يردك بخير فلا راد لفضله ثم

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ١١٨ ، ١١٩.

٤٥٦

أتى بعد بما هو شامل للخير والشر ، وهو قدرته على كل شيء وفي قوله : (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) حذف تقديره فلا كاشف له عنك إلا هو. (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) لما ذكره تعالى انفراده بتصرفه بما يريده من ضر وخير وقدرته على الأشياء ذكر قهره وغلبته ، وأن العالم مقهورون ممنوعون من بلوغ مرادهم بل يقسرهم ويجبرهم على ما يريده هو تعالى و (فَوْقَ) حقيقة في المكان وأبعد من جعلها هنا زائدة ، وأن التقدير وهو القاهر لعباده وأبعد من هذا قول من ذهب إلى أنها هنا حقيقة في المكان ، وأنه تعالى حال في الجهة التي فوق العالم إذ يقتضي التجسيم وأما الجمهور فذكروا أن الفوقية هنا مجاز. فقال بعضهم : هو فوقهم بالإيجاد والإعدام. وقال بعضهم : هو على حذف مضاف معناه فوق قهر عباده بوقوع مراده دون مرادهم. وقال الزمخشري : تصوير للقهر والعلو والغلبة والقدرة كقوله : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (١) انتهى. والعرب تستعمل (فَوْقَ) إشارة لعلو المنزلة وشفوفها على غيره من الرتب ومنه قوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٢) وقوله : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٣) وقال النابغة الجعدي :

بلغنا السماء مجدا وجودا وسؤددا

وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

يريد علو الرتبة والمنزلة. وقال أبو عبد الله الرازي : صفات الكمال محصورة في العلم والقدرة فقوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) إشارة إلى كمال القدرة (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) إشارة إلى كمال العلم أما كونه قاهرا فلأن ما عداه تعالى ممكن الوجود لذاته ، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه تعالى وإيجاده ، فهو في الحقيقة الذي قهر الممكنات تارة في طرق ترجيح الوجود على العدم وتارة في طرق ترجيح العدم على الوجود ، ويدخل فيه كل ما ذكره الله تعالى في قوله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) (٤) الآية. والحكيم والمحكم أي أفعاله متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد لا بمعنى العالم ، لأن (الْخَبِيرُ) إشارة إلى العلم فيلزم التكرار ؛ انتهى ، وفيه بعض اختصار وتلخيص. وقيل : (الْحَكِيمُ) العالم و (الْخَبِيرُ) أيضا العالم ذكره تأكيدا و (فَوْقَ) منصوب على الظرف إما معمولا للقاهر أي المستعلي فوق عباده ، وإما في موضع رفع على أنه خبر ثان لهو أخبر عنه بشيئين أحدهما : أنه القاهر الثاني أنه فوق عباده بالرتبة والمنزلة والشرف لا بالجهة ، إذ هو الموجد لهم وللجهة غير المفتقر لشيء من مخلوقاته

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٢٧.

(٢) سورة الفتح : ٤٨ / ١٠.

(٣) يوسف : ١٢ / ٧٦.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ٢٦.

٤٥٧

فالفوقية مستعارة للمعنى من فوقية المكان ، وحكى المهدوي أنه في موضع نصب على الحال كأنه قال : وهو القاهر غالبا فوق عباده وقاله أبو البقاء ، وقدره مستعليا أو غالبا وأجاز أن يكون فوق عباده في موضع رفع بدلا من القاهر. قال ابن عطية : ما معناه ورود العباد في التفخيم والكرامة والعبيد في التحقير والاستضعاف والذم ، وذكر موارد من ذلك على زعمه وقد تقدم له هذا المعنى مبسوطا مطولا ورددنا عليه.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) قال المفسرون : سألت قريش شاهدا على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أي دليل يشهد بأن الله يشهد لك؟ فقال : هذا القرآن تحديتكم به فعجزتم عن الإتيان بمثله أو بمثل بعضه ، وقال الكلبي : قال رؤساء مكة : يا محمد ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول في أمر الرسالة ولقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ، فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله كما تزعم فأنزل الله هذه الآية. وقيل : سأل المشركون لما نزل (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) الآية فقالوا : من يشهد لك على أن هذا القرآن منزل من عند الله عليك وأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله؟ فقال الله وهذا القرآن المعجز و (أَيُ) استفهام والكلام على أقسام أي وعلة إعرابها مذكور في علم النحو و (شَيْءٍ) تقدّم الكلام عليه في أوّل سورة البقرة وذكر الخلاف في مدلوله الحقيقي. وقال الزمخشري : الشيء أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيقع على القديم والجوهر والعرض والمحال والمستقيم ، ولذلك صح أن يقال في الله عزوجل شيء لا كالأشياء كأنك قلت معلوم لا كسائر المعلومات ولا يصح جسم لا كالأجسام وأراد (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) فوضع شيئا مكان (شَهِيدٌ) ليبالغ في التعميم ؛ انتهى.

وقال ابن عطية : وتتضمن هذه الآية أن الله عزوجل يقال عليه شيء كما يقال عليه موجود ولكن ليس كمثله شيء ، وقال غيرهما هنا شيء يقع على القديم والمحدث والجوهر والعرض والمعدوم والموجود ولما كان هذا مقتضاه ، جاز إطلاقه على الله عزوجل واتفق الجمهور على ذلك وخالف الجهم وقال : لا يطلق على الله شيء ويجوز أن يسمى ذاتا وموجودا وإنما لم يطلق عليه شيء لقوله (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) فيلزم من إطلاق شيء عليه أن يكون خالقا لنفسه وهو محال ولقوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٢) والاسم إنما يحسن لحسن مسماه وهو أن يدل على صفة كمال ونعت جلال ولفظ الشيء أعم الأشياء فيكون حاصلا في أخس الأشياء وأرذلها ، فلا يدل على صفة كمال ولا نعت جلال فوجب أن

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٢.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٠.

٤٥٨

لا يجوز دعوة الله به لما لم يكن من الأسماء الحسنى ، ولتناوله المعدوم لقوله (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) (١) فلا يفيد إطلاق شيء عليه امتياز ذاته على سائر الذوات بصفة معلومة ولا بخاصة مميزة ، ولا يفيد كونه مطلقا فوجب أن لا يجوز إطلاقه على الله تعالى ولقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وذات كل شيء مثل نفسه فهذا تصريح بأنه تعالى لا يسمى باسم الشيء ولا يقال الكاف زائدة لأن جعل كلمة من القرآن عبثا باطلا لا يليق ولا يصار إليه إلا عند الضرورة الشديدة. وأجيب بأن لفظ شيء أعم الألفاظ ومتى صدق الخاص صدق العامّ فمتى صدق كونه ذاتا حقيقة وجب أن يصدق كونه شيئا واحتج الجمهور بهذه الآية وتقريره أن المعنى أي الأشياء أكبر شهادة ، ثم جاء في الجواب (قُلِ اللهُ) وهذا يوجب إطلاق شيء عليه واندراجه في لفظ شيء المراد به العموم ولو قلت أي الناس أفضل؟ فقيل : جبريل لم يصح لأنه لم يندرج في لفظ الناس ، وبقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢) والمراد بوجهه ذاته والمستثنى يجب أن يكون داخلا تحت المستثنى منه فدل على أنه يطلق عليه شيء ولجهم أن يقول : هذا استثناء منقطع ، والدليل الأول لم يصرح فيه بالجواب المطابق إذ قوله : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) مبتدأ وخبر ذي جملة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها من جهة الصناعة الإعرابية بل قوله : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) هو استفهام على جهة التقرير والتوقيف. ثم أخبر بأن خالق الأشياء والشهود هو الشهيد بيني وبينكم وانتظم الكلام من حيث المعنى فالجملة ليست جوابا صناعيا وإنما يتم ما قالوه لو اقتصر على (قُلِ اللهُ) ، وقد ذهب إلى ذلك بعضهم فأعربه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما تقدم عليه والتقدير قل الله أكبر شهادة ثم أضمر مبتدأ يكون (شَهِيدٌ) خبرا له تقديره هو (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ولا يتعين حمله على هذا ، بل هو مرجوح لكونه أضمر فيه آخرا وأولا والوجه الذي قبله لا إضمار فيه مع صحة معناه فوجب حمل القرآن على الراجح لا على المرجوح. وقال ابن عباس : قال الله لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل لهم أي شيء أكبر شهادة فإن أجابوك وإلا فقل لهم : (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ). وقال مجاهد : المعنى أن الله قال لنبيه : قل لهم : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) وقل لهم (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي في تبليغي وكذبكم وكفركم.

وقال ابن عطية : هذه الآية مثل قوله : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) (٣) في أن

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٢٣.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٨٨.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ١٢.

٤٥٩

استفهم على جهة التوقيف والتقرير ، ثم بادر إلى الجواب إذ لا يتصوّر فيه مدافعة كما تقول لمن تخاصمه وتتظلم منه من أقدر في البلد؟ ثم تبادر وتقول : السلطان فهو يحول بيننا ، فتقدير الآية : قل لهم أيّ شيء أكبر شهادة هو شهيد بيني وبينكم ، انتهى. وليست هذه الآية نظير قوله : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) (١) لأن لله يتعين أن يكون جوابا وهنا لا يتعين إذ ينعقد من قوله : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) مبتدأ وخبر وهو الظاهر ، وأيضا ففي هذه الآية لفظ شيء وقد تتوزع في إطلاقه على الله تعالى وفي تلك الآية لفظ من وهو يطلق على الله تعالى. قيل : معنى (أَكْبَرُ) أعظم وأصح ، لأنه لا يجري فيها الخطأ ولا السهو ولا الكذب. وقيل : معناها أفضل لأن مراتب الشهادات في التفضيل تتفاوت بمراتب الشاهدين وانتصب (شَهادَةً) على التمييز. قال ابن عطية : ويصح على المفعول بأن يحمل أكبر على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل ؛ انتهى. وهذا كلام عجيب لأنه لا يصح نصبه على المفعول ولأن أفعل من لا يتشبه بالصفة المشبهة باسم الفاعل ، ولا يجوز في أفعل من أن يكون من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل لأن شرط الصفة المشبهة باسم الفاعل أن تؤنث وتثنى وتجمع ، وأفعل من لا يكون فيها ذلك وهذا منصوص عليه من النحاة فجعل ابن عطية المنصوب في هذا مفعولا وجعل (أَكْبَرُ) مشبها بالصفة المشبهة وجعل منصوبه مفعولا وهذا تخليط فاحش ولعله يكون من الناسخ لا من المصنف ، ومعنى (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) بيننا ولكنه لما أضيف إلى ياء المتكلم لم يكن بد من إعادة بين وهو نظير قوله فأيي ما وأيك كان شرّا. وكلاي وكلاك ذهب أن معناه فأينا وكلانا.

(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) قرأ الجمهور (وَأُوحِيَ) مبنيا للمفعول و (الْقُرْآنُ) مرفوع به. وقرأ عكرمة وأبو نهيك وابن السميقع والجحدري (وَأُوحِيَ) مبنيا للفاعل و (الْقُرْآنُ) منصوب به ، والمعنى لأنذركم ولأبشركم فحذف المعطوف لدلالة المعنى عليه أو اقتصر على الإنذار لأنه في مقام تخويف لهؤلاء المكذبين بالرسالة المتخذين غير الله إلها ، والظاهر وهو قول الجمهور إن (مَنْ) في موضع نصب عطفا على مفعول (لِأُنْذِرَكُمْ) والعائد على (مَنْ) ضمير منصوب محذوف وفاعل (بَلَغَ) ضمير يعود على (الْقُرْآنُ) ومن بلغه هو أي (الْقُرْآنُ) والخطاب في (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) لأهل مكة. وقال مقاتل : ومن بلغه من العرب والعجم. وقيل : من الثقلين. وقيل : من بلغه إلى يوم القيامة ، وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الحديث : «من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره» وقالت فرقة : الفاعل ب (بَلَغَ) عائد على (مَنْ) لا على (الْقُرْآنُ)

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٢.

٤٦٠