البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

موقع الجملة المفسرة ، لأنه بيان للشهادة بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدر ، ويحتمل أنه أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة.

(وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) أي بما أنزل الله إليك. وشهادة الملائكة تبع لشهادة الله ، وقد علم بشهادة الله له ، إذ أظهر على يديه المعجزات ، وهذا على سبيل التسلية له عن تكذيب اليهود. إن كذبك اليهود وكذبوا ما جئت به من الوحي ، فلا تبال ، فإن الله يشهد لك وملائكته ، فلا تلتفت إلى تكذيبهم.

(وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي وإن لم يشهد غيره (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ). (١)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) أي ضلالا لا يقرب رجوعهم عنه ، ولا تخلصهم منه ، لأنه يعتقد في نفسه أنه محق ثم يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه وإلقاء غيره فيه ، فهو ضلال في أقصى غاياته. وقرأ عكرمة وابن هرمز : وصدوا بضم الصاد ، قيل : وهي في اليهود.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) قيل : هذه في المشركين. وقد تقدّم الكلام على لام الجحود وما بعدها ، وأن الإتيان بها أبلغ من الإتيان بالفعل المجرد عنها. وهذا الحكم مقيد بالموافاة على الكفر. وقال أبو سليمان الدمشقي : المعنى لم يكن الله ليستر عليهم قبيح أفعالهم ، بل يفضحهم في الدنيا ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسبي ، وفي الآخرة بالنار. وقال الزمخشري : كفروا وظلموا ، جمعوا بين الكفر والمعاصي ، وكان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين أصحاب الكبائر ، لأنه لا فرق بين الفريقين في أنه لا يغفر لهما إلا بالتوبة ، ولا ليهديهم طريقا لا يلطف بهم فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم ، ولا ليهديهم يوم القيامة إلا طريقها انتهى. وهو على طريقة الاعتزال في أنّ صاحب الكبائر لا يغفر له ما لم يتب منها ، وإن أريد بقوله طريقا مخصوصا أي عملا صالحا يدخلون به الجنة ، كان قوله : إلا طريق جهنم استثناء منقطعا.

(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي انتفاء غفرانه وهدايته إياهم وطردهم في النار سهلا لا صارف له عنه ، وهذا تحقير لأمرهم ، وأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٩.

١٤١

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) هذا خطاب لجميع الناس. وإن كانت السورة مدنية فالمأمور به أمر عام ، ولو كان خاصا بتكليف ما لكان النداء خاصا بالمؤمنين في الغالب. والرسول هنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والحق هو شرعه ، وقد فسر بالقرآن وبالدين وبشهادة التوحيد. وروي عن ابن عباس أنها نزلت في المشركين. وفي انتصاب خيرا لكم هنا. وفي قوله : انتهوا خيرا لكم في تقدير الناصب ثلاثة أوجه : مذهب الجليل ، وسيبويه. وأتوا خيرا لكم ، وهو فعل يجب إضماره. ومذهب الكسائي وأبي عبيدة : يكن خيرا لكم ، ويضمر إن يكن ومذهب الفراء إيمانا خيرا لكم وانتهاء خيرا لكم ، بجعل خيرا نعتا لمصدر محذوف يدل عليه الفعل الذي قبله. والترجيح بين هذه الأوجه مذكور في علم النحو.

(وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم تفسير مثل هذا.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) عليما بما يكون منكم من كفر وإيمان فيجازيكم عليه ، حكيما في تكليفكم مع علمه تعالى بما يكون منكم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) قيل : نزلت في نصارى نجران قاله مقاتل. وقال الجمهور : في عامة النصارى ، فإنهم يعتقدون الثالوت يقولون : الأب ، والابن ، وروح القدس إله واحد. وقيل : في اليهود والنصارى ، نهاهم عن تجاوز الحد. والمعنى : في دينكم الذي أنتم مطلوبون به ، وليست الإشارة إلى دينهم المضلل ، ولا أمروا بالثبوت عليه دون غلو ، وإنما أمروا بترك الغلو في دين الله على الإطلاق. وغلت اليهود في حط المسيح عليه‌السلام عن منزلته حيث جعلته مولودا لغير رشده ، وغلت النصارى فيه حيث جعلوه إلها. والذي يظهر أنّ قوله : يا أهل الكتاب خطاب للنصارى ، بدليل آخر الآية. ولما أجاب الله تعالى عن شبه اليهود الذين يبالغون في الطعن على المسيح أخذ في أمر النصارى الذين يفرطون في تعظيم المسيح حتى ادعوا فيه ما ادعوا.

(وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) وهو تنزيهه عن الشريك والولد والحلول والاتحاد.

(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) قرأ جعفر بن محمد : إنما المسيح على وزن السكيت. وتقدم شرح الكلمة في (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ) (١) ومعناها ألقاها إلى مريم أوجد هذا الحادث في مريم وحصله فيها. وهذه

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٤٥.

١٤٢

الجملة قيل : حال. وقيل : صفة على تقدير نية الانفصال أي : وكلمة منه. ومعنى روح منه أي : صادرة ، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح ، كالنطفة المنفصلة من الأب الحي ، وإنما اخترع اختراعا من عند الله وقدرته. وقال أبي بن كعب : عيسى روح من أرواح الله تعالى الذي خلقها واستنطقها بقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (١) بعثه الله إلى مريم فدخل. وقال الطبري وأبو روق : وروح منه أي نفخة منه ، إذ هي من جبريل بأمره. وأنشد بيت ذي الرمة :

فقلت له اضممها إليك وأحيها

بروحك واجعله لها قيتة قدرا

يصف سقط النار وسمي روحا لأنه حدث عن نفخة جبريل. وقيل : ومعنى وروح منه أي رحمة. ومنه (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (٢). وقيل : سمي روحا لإحياء الناس به كما يحيون بالأرواح ، ولهذا سمي القرآن روحا. وقيل : المعنى بالروح هنا الوحي أي : ووحي إلى جبريل بالنفخ في درعها ، أو إلى ذات عيسى أن كن ، ونكر وروح لأن المعنى على تقدير صفة لا على إطلاق روح ، أي : وروح شريفة نفيسة من قبله تعالى. ومن هنا لابتداء الغاية ، وليست للتبعيض كما فهمه بعض النصارى فادعى أنّ عيسى جزء من الله تعالى ، فرد عليه علي بن الحسين بن وافد المروزي حين استدل النصراني بأنّ في القرآن ما يشهد لمذهبه وهو قوله : وروح منه ، فأجابه ابن وافد بقوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (٣). وقال : إن كان يجب بهذا أن يكون عيسى جزأ منه وجب أن يكون ما في السموات وما في الأرض جزأ منه ، فانقطع النصراني وأسلم. وصنف ابن فايد إذ ذاك كتاب النظائر.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي الذين من جملتهم عيسى ومحمد عليهما‌السلام.

(وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) خبر مبتدأ محذوف أي : الآلهة ثلاثة. قال الزمخشري : والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة ، وأن المسيح ولد الله من مريم. ألا ترى إلى قوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) (٤).

وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون في المسيح لاهوتيته وناسوتيته من جهة الأب والأم ، ويدل عليه قوله : إنما المسيح عيسى ابن مريم ،

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٧٢.

(٢) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢٢.

(٣) سورة الجاثية : ٤٥ / ١٣.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ١١٦.

١٤٣

فأثبت أنه ولد لمريم اتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتهم ، وأنّ اتصاله بالله عزوجل من حيث أنه رسوله ، وأنه موجود بأمره ، وابتداعه جسدا حيا من غير أب ينفي أنه يتصل به اتصال الأبناء بالآباء. وقوله : (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) (١) وحكاية الله أوثق من حكاية غيره ، وهذا الذي رجحه الزمخشري قول ابن عباس قاله يريد بالتثليث : الله تعالى ، وصاحبته ، وابنه. وقال الزمخشري أيضا إن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ، وأنهم يريدون باقنوم الأب الذات ، وبأقنوم الابن العلم ، وبأقنوم روح القدس الحياة ، فتقديره الله ثلاثة انتهى. وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون التقدير المعبود ثلاثة ، أو الآلهة ثلاثة ، أو الأقانيم ثلاثة. وكيفما تشعب اختلاف عبارات النصارى فإنه يختلف بحسب ذلك التقدير انتهى. وقال الزجاج : تقديره إلها ثلاثة. وقال الفراء وأبو عبيد : تقديره ثلاثة كقوله (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) (٢) وقال أبو علي : التقدير الله ثالث ثلاثة ، حذف المبتدأ والمضاف انتهى. أراد أبو علي موافقة قوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (٣) أي أحد آلهة ثلاثة والذي يظهر أن الذي أثبتوه هو ما أثبت في الآية خلافه ، والذي أثبت في الآية بطريق الحصر إنما هو وحدانية الله تعالى ، وتنزيهه أن يكون له ولد ، فيكون التقدير : ولا تقولوا الله ثلاثة. ويترجح قول أبي علي بموافقته الآية التي ذكرناها ، وبقوله تعالى سبحانه أن يكون له ولد ، والنصارى وإن اختلفت فرقهم فهم مجمعون على التثليث.

(انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) تقدم الكلام في انتصاب خيرا. وقال الزمخشري في تقدير مذهب سيبويه في نصبه لما بعثهم على الإيمان يعني في قوله : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) (٤) وعلى الانتهاء عن التثليث يعني في قوله : انتهوا خيرا لكم ، علم أنه يحملهم على أمر فقال : خيرا لكم أي اقصدوا وأتوا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث ، وهو الإيمان والتوحيد انتهى. وهو تقدير سيبويه في الآية.

(إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) قال ابن عطية : إنما في هذه الآية حاصرة ، اقتضى ذلك العقل في المعنى المتكلم فيه ، وليست صيغة ، إنما تقتضي الحصر ، ولكنها تصلح للحصر والمبالغة في الصفة ، وإن لم يكن حصر نحو : إنما الشجاع عنترة وغير ذلك انتهى كلامه.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٧١.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٢٢.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٧٣.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١٧٠.

١٤٤

وقد تقدم كلامنا مشبعا في إنما في قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (١) وكلام ابن عطية فيها هنا أنها لا تقتضي بوضعها الحصر صحيح ، وإن كان خلاف ما في أذهان كثير من الناس.

(سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) معناه تنزيها له وتعظيما من أن يكون له ولد كما تزعم النصارى في أمره ، إذ قد نقلوا أبوة الحنان والرأفة إلى أبوة النسل. وقرأ الحسن : إن يكون له ولد بكسر الهمزة وضم النون من يكون ، على أنّ أن نافية أي : ما يكون له ولد فيكون التنزيه عن التثليث ، والإخبار بانتفاء الولد ، فالكلام جملتان ، وفي قراءة الجماعة جملة واحدة.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) إخبار لملكه بجميع من فيهن ، فيستغرق ملكه عيسى وغيره. ومن كان ملكا لا يكون جزءا من المالك على أن الجزئية لا تصحّ إلا في الجسم ، والله تعالى منزه عن الجسم والعرض.

(وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي كافيا في تدبير مخلوقاته وحفظها ، فلا حاجة إلى صاحبة ولا ولد ولا معين. وقيل : معناه كفيلا لأوليائه. وقيل : المعنى يكل الخلق إليه أمورهم ، فهو الغني عنهم ، وهم الفقراء إليه.

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) روي أنّ «وفد نجران قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم تعيب صاحبنا؟ قال : وما صاحبكم؟ قالوا : عيسى قال : وأي شيء أقول؟ قالوا : تقول إنه عبد الله ورسوله قال : إنه ليس بعار أن يكون عبدا قالوا : بلى». فنزلت أي لا يستنكف عيسى من ذلك فلا تستنكفوا له منه ، فلو كان موضع استنكاف لكان هو أولى بأن يستنكف لأن العار ألصق به ، أي : لن يأنف ويرتفع ويتعاظم.

وقرأ على عبيد الله على التصغير. والمقربون أي : الكروبيون الذين هم حول العرش كجبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، ومن في طبقتهم قاله الزمخشري. وقال ابن عباس : هم حملة العرش. وقال الضحاك : من قرب منهم من السماء السابعة انتهى. وعطفوا على عيسى لأن من الكفار من يعبد الملائكة. وفي الكلام حذف التقدير : ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيد الله ، فإن ضمن عبدا معنى ملكا لله لم يحتج إلى هذا التقدير ، ويكون إذ ذاك ولا الملائكة من باب عطف المفردات ، بخلاف ما إذا لحظ في عبد الوحدة. فإن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١١.

١٤٥

قوله : ولا الملائكة يكون من باب عطف الجمل لاختلاف الخبر. وإن لحظ في قوله : ولا الملائكة معنى : ولا كل واحد من الملائكة ، كان من عطف المفردات. وقد تشبث بهذه الآية من زعم أن الملائكة أفضل من الأنبياء. قال ابن عطية : ولا الملائكة المقربون زيادة في الحجة وتقريب من الأذهان أي : ولا هؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين لا يستنكفون عن ذلك ، فكيف من سواهم؟ وفي هذه الآية الدليل الواضح على تفضيل الملائكة على الأنبياء انتهى. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : من أين دل قوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) على أن المعنى ولا من فوقه؟ (قلت) : من حيث أنّ علم المعاني لا يقتضي غير ذلك ، وذلك أنّ الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن مرتبة العبودية ، فوجب أن يقال لهم : لن يرتفع عيسى عن العبودية ، ولا من هو أرفع منه درجة. كأنه قيل : لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية ، فكيف بالمسيح؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة ، ومثاله قول القائل :

وما مثله ممن يجاود حاتم

ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره

لا شبهة بأنه قصد بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود. ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) (١) حتى يعترف بالفرق البين انتهى كلامه. والتفضيل بين الأنبياء والملائكة إنما يكون بالسمع ، إذ نحن لا ندرك جهة التفضيل بالعقل ، وأما الآية فقد يقال : متى نفي شيء عن اثنين فلا يدل ذلك على أن الثاني أرفع من الأول ، ولا أن ذلك من باب الترقي. (فإذا قلت) : لن يأنف فلان أن يسجد لله ولا عمر ، وفلا دلالة فيه على أنّ عمرا أفضل من زيد. وإن سلّمنا ذلك فليست الآية من هذا القبيل ، لأنه قابل مفردا بجمع ، ولم يقابل مفردا بمفرد ولا جمعا بجمع. فقد يقال : الجمع أفضل من المفرد ، ولا يلزم من الآية تفضيل الجمع على الجمع ، ولا المفرد على المفرد. وإن سلمنا أنّ المعطوف في الآية أرفع من المعطوف عليه ، فيكون ذلك بحسب ما ألقي في أذهان العرب وغيرهم من تعظيم الملك وترفيعه ، حتى أنهم ينفون البشرية عن الممدوح ويثبتون له الملكية ، ولا يدل تحيلهم ذلك على أنه في نفس الأمر أفضل وأعظم ثوابا ومما ورد من ذلك على حسب ما ألقي في الأذهان قوله تعالى حكاية عن النسوة التي فاجأهنّ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٢.

١٤٦

حسن يوسف : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (١) وقال الشاعر :

فلست بإنسي ولكن لملأك

تنزل من جوف السماء يصوب

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : علام عطف ولا الملائكة المقربون؟ (قلت) : إما أن يعطف على المسيح ، أو على اسم يكون ، أو على المستتر في عبدا لما فيه من معنى الوصف ، لدلالته على معنى العبادة ، وقولك : مررت برجل عبد أبوه ، فالعطف على المسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض ، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية ، أو أن يعبد الله هو ومن فوقه انتهى. والانحراف عن الغرض الذي أشار إليه هو كون الاستنكاف يكون مختصا بالمسيح ، والمعنى القائم اشتراك الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكاف عن العبودية ، لأنه لا يلزم من استنكافه وحده أن يكون هو والملائكة عبيدا ، أو أن يكون هو وهم يعبد ربه استنكافهم هم ، فقد يرضى شخص أن يضرب هو وزيد عمرا ولا يرضى ذلك زيد ويظهر أيضا مرجوحية الوجهين من جهة دخول لا ، إذ لو أريد العطف على الضمير في يكون ، أو على المستتر في عبدا. لم تدخل لا ، بل كان يكون التركيب بدونها تقول : ما يريد زيد أن يكون هو وأبوه قائمين ، وتقول : ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو ، فهذان ونحوهما ليسا من مظنات دخول لا ، فإن وجد من لسان العرب دخول لا في نحو من هذا فهي زائدة.

(وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) حمل أولا على لفظ من فأفرد الضمير في يستنكف ويستكبر ، ثم حمل على المعنى في قوله : فسيحشرهم ، فالضمير عائد على معنى من هذا هو الظاهر ، ويحتمل أن يكون الضمير عامّا عائدا على الخلق لدلالة المعنى عليه ، لأن الحشر ليس مختصا بالمستنكف ، ولأنّ التفصيل بعده يدل عليه. ويكون ربط الجملة الواقعة جوابا لاسم الشرط بالعموم الذي فيها ، ويحتمل أن يعود الضمير على معنى من ، ويكون قد حذف معطوف عليه لمقابلته إياه التقدير : فسيحشرهم ومن لم يستنكف إليه جميعا كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (٢) أي : والبرد. وعلى هذين الاحتمالين يكون ما فصل بإمّا مطابقا لما قبله ، وعلى الوجه الأوّل لا يطابق. والإخبار

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٣١.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٣١.

١٤٧

بالحشر إليه وعيد إذ. المعنى به الجمع يوم القيامة حيث يذل المستنكف المستكبر. وقرأ الحسن : بالنون بدل الياء في فسيحشرهم ، وباء فيعذبهم على التخفيف.

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي لا يبخس أحدا قليلا ولا كثيرا ، والزيادة يحتمل أن يكون في أن الحسنة بعشر إلى سبعمائة ، والتضعيف الذي ليس بمحصور في قوله : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (١) قال معناه ابن عطية رحمه‌الله تعالى.

(وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) هذا وعيد شديد للذين يتركون عبادة الله أنفة تكبرا. وقال ابن عطية : وهذا الاستنكاف إنما يكون من الكفار عن اتباع الأنبياء وما جرى مجراه كفعل حيي بن أخطب وأخيه أبي ياسر وأبي جهل وغيرهم بالرسول ، فإذا فرضت أحدا من البشر عرف الله فمحال أن تجده يكفر به تكبرا عليه ، والعناد إنما يسوق إليه الاستكبار على البشر ، ومع تفاوت المنازل في ظن المستكبر انتهى. وقدّم ذكر ثواب المؤمن لأنّ الإحسان إليه مما يعم.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦١.

١٤٨

المستنكف إذا كان داخلا في جملة التنكيل به ، فكأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحشر إذا رأى أجور العاملين ، وبما يصيبه من عذاب الله تعالى.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) الجمهور على أنّ البرهان هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسماه برهانا لأنّ منه البرهان ، وهو المعجزة. وقال مجاهد : البرهان هنا الحجة. وقيل : البرهان الإسلام ، والنور المبين هو القرآن.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) الظاهر أنّ الضمير في به عائد على الله لقربه وصحة المعنى ، ولقوله : واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله. ويحتمل أن يعود على القرآن الذي عبر عنه بقوله : وأنزلنا إليكم نورا مبينا وفي الحديث : «القرآن حبل الله المتين من تمسك به عصم» والرحمة والفضل : الجنة. وقال الزمخشري : في رحمة منه وفضل في ثواب مستحق وتفضل انتهى. ولفظ مستحق من ألفاظ المعتزلة. وقيل : الرحمة زيادة ترقية ، ورفع درجات. وقيل : الرحمة التوفيق ، والفضل القبول. والضمير في إليه عائد على الفضل ، وهي هداية طريق الجنان كما قال تعالى : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ) (١) لأن هداية الإرشاد قد تقدّمت وتحصلت حين آمنوا بالله واعتصموا ، وعلى هذا الصراط طريق الجنة. وقال الزمخشري : ويهديهم إلى عبادته ، فجعل الضمير عائدا على الله تعالى وذلك على حذف مضاف وهذا هو الظاهر ، لأنه المحدث عنه ، وفي رحمة منه وفضل ليس محدثا عنهما. قال أبو علي : هي راجعة إلى ما تقدم من اسم الله تعالى ، والمعنى : ويهديهم إلى صراطه ، فإذا جعلنا صراطا مستقيما نصبا على الحال كانت الحال من هذا المحذوف انتهى. ويعني : دين الإسلام. وقيل : الهاء عائدة على الرحمة والفضل لأنهما في معنى الثواب. وقيل : هي عائدة على القرآن. وقيل : معنى صراطا مستقيما عملا صالحا.

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) قال البراء بن عازب : هي آخر آية نزلت. وقال كثير من الصحابة ، من آخر ما نزل. وقال جابر بن عبد الله : نزلت بسبب عادني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا مريض فقلت : يا رسول الله كيف أقضي في مالي وكان لي تسع أخوات ولم يكن لي ولد ولا والد؟ فنزلت. وقيل : إنّ جابرا أتاه في طريق مكة عام حجة الوداع فقال : إن لي أختا ، فكم آخذ من ميراثها إن ماتت ، فنزلت. وتقدّم الكلام في لفظ الكلالة اشتقاقا

__________________

(١) سورة محمد : ٤٧ / ٥ ـ ٦.

١٤٩

ومدلولا وكان أمرها أمرا مشكلا ، روي عنه في أخبارها روايات ، وفي حديثه أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يكفيك آية الصيف التي نزلت في آخر سورة النساء». وقد روى أبو سلمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التي أنزلت في الصيف هي وإن كان رجل يورث كلالة» والظاهر أنها (يَسْتَفْتُونَكَ) لأن البراء قال : هي آخر آية نزلت. قال ابن عطية : قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكفيك منها آية الصيف بيان فيه كفاية وجلاء. ولا أدري ما الذي أشكل منها على الفاروق رضوان الله عليه اللهم إلا أن يكون دلالة اللفظ اضطربت على كثير من الناس ، ولذلك قال بعضهم : الكلالة الميت نفسه. وقال آخرون : الكلالة المال إلى غير ذلك من الخلاف انتهى كلامه. وقد ختمت هذه السورة بهذه الآية كما بدئت أولا بأحكام الأموال في الإرث وغيره ، ليتشاكل المبدأ والمقطع ، وكثيرا ما وقع ذلك في السور. روي عن أبي بكر رضي‌الله‌عنه أنه قال في خطبته : «ألا إنّ آية أول سورة النساء أنزلها الله في الولد والوالد ، والآية الثانية أنزلها الله في الزوج والزوجة والإخوة من الأم ، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام» وفي الكلالة متعلق بيفتيكم على طريق أعمال الثاني.

(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) المراد بالولد الابن ، وهو اسم مشترك يجوز استعماله للذكر والأنثى ، لأن الابن يسقط الأخت ، ولا تسقطها البنت إلا في مذهب ابن عباس. والمراد بالأخت الشقيقة ، أو التي لأب دون التي لأم ، لأن الله فرض لها النصف ، وجعل أخاها عصبة. وقال : للذكر مثل حظ الأنثيين. وأما الأخت للأم فلها السدس في آية المواريث ، سوى بينها وبين أخيها. وارتفع امرؤ على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده ، والجملة من قوله : ليس له ولد ، في موضع الصفة لا مرؤ ، أي : إن هلك امرؤ غير ذي ولد. وفيه دليل على جواز الفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة في باب الاشتغال ، فعلى هذا القول زيدا ضربته العاقل. وكلما جاز الفصل بالخبر جاز بالمفسر ، ومنع الزمخشري أن يكون قوله : ليس له ولد ، جملة حالية من الضمير في هلك ، فقال : ومحل ليس له ولد الرفع على الصفة ، لا النصب على الحال. وأجاز أبو البقاء فقال : ليس له ولد الجملة في موضع الحال من الضمير في هلك ، وله أخت جملة حالية أيضا. والذي يقتضيه النظر أنّ ذلك ممتنع ، وذلك أنّ المسند إليه حقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف ، فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له ، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، فصارت كالمؤكدة لما سبق. وإذا تجاذب الاتباع والتقييد مؤكد أو مؤكد بالحكم ، إنما هو للمؤكد ، إذ هو معتمد الإسناد الأصلي. فعلى هذا لو قلت :

١٥٠

ضربت زيدا ضربت زيدا العاقل ، انبغى أن يكون العاقل نعتا لزيد في الجملة الأولى ، لا لزيد في الجملة الثانية ، لأنها جملة مؤكدة للجملة الأولى. والمقصود بالإسناد إنما هو الجملة الأولى لا الثانية. قيل : وثم معطوف محذوف للاختصار ، ودلالة الكلام عليه. والتقدير : ليس له ولد ولا والد.

(وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) أي إن قدّر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها. والمراد بالولد هنا الابن ، لأن الابن يسقط الأخ دون البنت. قال الزمخشري : (فإن قلت) : الابن لا يسقط الأخ وحده ، فإن الأب نظيره في الإسقاط ، فلم اقتصر على نفي الولد؟ (قلت) : وكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة وهو قوله عليه‌السلام : «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي عصبة» ذكر الأب أولى من الأخ ، وليسا بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة. ويجوز أن يدل بحكم انتفاء الولد على حكم انتفاء الوالد ، لأنّ الولد أقرب إلى الميت من الوالد. فإذا ورث الأخ عند انتفاء الأقرب ، فأولى أن يرث عند انتفاء الأبعد ، ولأن الكلالة تتناول انتفاء الوالد والولد جميعا ، فكان ذكر انتفاء أحدهما دالا على انتفاء الآخر انتهى كلامه. والضمير في قوله : وهو وفي يرثها عائد إلى ما تقدم لفظا دون معنى ، فهو من باب عندي درهم ونصفه ، لأن الهالك لا يرث ، والحية لا تورث ، ونظيره في القرآن : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) (١) وهذه الجملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب ، وهي دليل جواب الشرط الذي بعدها. (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) قالوا : الضمير في كانتا ضمير أختين دل على ذلك قوله : وله أخت. وقد تقرر في علم العربية أن الخبر يفيد ما لا يفيده الاسم. وقد منع أبو عليّ وغيره سيد الجارية مالكها ، لأن الخبر أفاد ما أفاده المبتدأ. والألف في كانتا تفيد التثنية كما أفاده الخبر ، وهو قوله اثنتين. وأجاب الأخفش وغيره بأن قوله : اثنتين يدل على عدم التقييد بالصغر أو الكبر أو غيرهما من الأوصاف ، فاستحق الثلثان بالاثنينية مجردة عن القيود ، فلهذا كان مفيدا وهذا الذي قالوه ليس بشيء ، لأن الألف في الضمير للاثنتين يدل أيضا على مجرد الاثنينية من غير اعتبار قيد ، فصار مدلول الألف ومدلول اثنتين سواء ، وصار المعنى : فإن كانتا الأختان اثنتين ، ومعلوم أنّ الأختين اثنتان. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع في قوله : فإن كانتا اثنتين ، وإن كانوا إخوة؟ (قلت) : أصله فإن كان من يرث

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ١١.

١٥١

بالإخوة اثنتين ، وإن كان من يرث بالإخوة ذكورا وإناثا. وإنما قيل : فإن كانتا ، وإن كانوا. كما قيل : من كانت أمك ، فكما أنث ضمير من لمكان تأنيث الخبر ، كذلك ثنى ، وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا ، لمكان تثنية الخبر وجمعه انتهى. وهو تابع في هذا التخريج غيره ، وهو تخريج لا يصح ، وليس نظير من كانت أمك ، لأنّ من صرّح بها ولها لفظ ومعنى. فمن أنّث راعى المعنى ، لأن التقدير : أية أم كانت أمك. ومدلول الخبر في هذا مخالف لمدلول الاسم ، بخلاف الآية ، فإنّ المدلولين واحد ،. ولم يؤنث في من كانت أمك لتأنيث الخبر ، إنّما أنث مراعاة لمعنى من إذ أراد بها مؤنثا. ألا ترى إنك تقول : من قامت فتؤنث مراعاة للمعنى إذا أردت السؤال عن مؤنث ، ولا خبر هنا فيؤنث قامت لأجله. والذي يظهر لي في تخريج الآية غير ما ذكر. وذلك وجهان : أحدهما : إنّ الضمير في كانتا لا يعود على أختين ، إنما هو يعود على الوارثتين ، ويكون ثم صفة محذوفة ، واثنتين بصفته هو الخبر ، والتقدير : فإن كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات فلهما الثلثان مما ترك ، فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيد الاسم ، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز. والوجه الثاني : أن يكون الضمير عائدا على الأختين كما ذكروا ، ويكون خبر كان محذوفا لدلالة المعنى عليه ، وإن كان حذفه قليلا ، ويكون اثنتين حالا مؤكدة والتقدير : فإن كانت أختان له أي للمرء الهالك. ويدل على حذف الخبر الذي هو له وله أخت ، فكأنه قيل : فإن كانت أختان له ، ونظيره أن تقول : إن كان لزيد أخ فحكمه كذا ، وإن كان أخوان فحكمهما كذا. تريد وإن كان أخوان له.

(وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) يعني أنهم يحوزون المال على ما تقرر في إرث الأولاد من أنّ للذكر مثل حظ الأنثيين. والضمير في كانوا إن عاد على الإخوة فقد أفاد الخبر بالتفصيل المحتوي على الرجال والنساء ، ما لم يفده الاسم ، لأن الاسم ظاهر في الذكور. وإن عاد على الوارث فظهرت إفادة الخبر ما لا يفيد المبتدأ ظهورا واضحا. والمراد بقوله : أخوة الإخوة والأخوات ، وغلب حكم المذكر. وقرأ ابن أبي عبلة : فإن للذكر مثل حظ الأنثيين.

(يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أن تضلوا مفعول من أجله ، ومفعول يبين محذوف أي : يبين لكم الحق. فقدره البصري والمبرد وغيره : كراهة أن تضلوا. وقرأ الكوفي ، والفراء ، والكسائي ، وتبعهم الزجاج : لأن لا تضلوا ، وحذف لا ومثله عندهم قول القطامي :

١٥٢

رأينا ما رأى البصراء منا

فآلينا عليها أن تباعا

أي أن لا تباعا ، وحكى أبو عبيدة قال : حدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر فيه : «لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة» فاستحسنه أي لئلا يوافق. وقال الزجاج هو مثل قوله «إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا» أي لأن لا تزولا ورجح أبو عليّ قول المبرد بأن قال حذف المضاف أسوغ وأشبع من حذف لا. وقيل أن تضلوا مفعول به أي يبين الله لكم الضلالة أن تضلوا فيها. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم مصالح العباد في المبدأ والمعاد ، وفيما كلفهم به من الأحكام. وقال أبو عبد الله الرازي : في هذه السورة لطيفة عجيبة وهي أنّ أولها مشتمل على كمال تنزه الله تعالى وسعة قدرته ، وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم ، وهذان الوصفان بهما تثبت الربوبية والإلهية والجلال والعزة ، وبهما يجب أن يكون العبد منقادا للتكاليف.

وتضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبيان والبديع. فمن ذلك الطباق في : حرمنا وأحلت ، وفي : فآمنوا وإن تكفروا. والتكرار في : وما قتلوه ، وفي : وأوحينا ، وفي : ورسلا ، وفي : يشهد ويشهدون ، وفي : كفروا ، وفي : مريم ، وفي : اسم الله. والالتفات في : فسوف نؤتيهم ، وفي : فسنحشرهم وما بعد ما في قراءة من قرأ بالنون. والتشبيه في : كما أوحينا. والاستعارة في : الراسخون وهي في الاجرام استعيرت للثبوت في العلم والتمكن فيه ، وفي : سبيل الله ، وفي : يشهد ، وفي : طريقا ، وفي : لا تغلوا والغلو حقيقة في ارتفاع السعر ، وفي : وكيلا استعير لإحاطة علم الله بهم ، وفي : فيوفيهم أجورهم استعير للمجازاة. والتجنيس المماثل في : يستفتونك ويفتيكم. والتفصيل في : فأما الذين آمنوا وأما الذين استنكفوا. والحذف في عدّة مواضع.

١٥٣

سورة المائدة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)

البهيمة : كل ذات أربع في البر والبحر قاله الزمخشري وقال ابن عطية : البهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم انتهى. وما كان على فعيل أو فعلية وعينه حرف حلق اسما كان أو صفة ، فإنه يجوز كسر أوله اتباعا لحركة عينه وهي لغة بني

١٥٤

تميم تقول : رئي وبهيمة ، وسعيد وصغير ، وبحيرة وبخيل. الصيد : مصدر صاد يصيد ويصاد ، ويطلق على المصيد. وقال داود بن عليّ الأصبهاني : الصيد ما كان ممتنعا ولم يكن له مالك وكان حلالا أكله ، وكأنه فسر الصيد الشرعي.

القلادة في الهدي : ما قلد به من نعل ، أو عروة مزادة ، أو لحا شجر أو غيره ، وكان الحرمي ربما قلّد ركابه بلحا شجر الحرم ، فيعتصم بذلك من السوء.

الآمّ : القاصد أممت الشيء قصدته.

جرمه على كذا حمله ، قاله : الكسائي وثعلب. وقال أبو عبيدة والفراء : جرمه كسبه ، ويقال : فلان جريمة أهله أي كاسبهم ، والجارم الكاسب. وأجرم فلان اكتسب الإثم. وقال الكسائي أيضا : جرم وأجرم أي كسب غيره ، وجرم يجرم جرما إذا قطع. قال الرماني : وهو الأصل ، فجرم حمل على الشيء لقطعه من غيره ، وجرم كسب لانقطاعه إلى الكسب ، وجرم بمعنى حق ، لأن الحق يقطع عليه. قال الخليل : لا جرّم أن لهم النار أي لقد حق.

الشنآن : البغض ، وهو أحد مصادر شيء. يقال : شنيء يشنأ شنأ وشنآنا مثلثي الشين فهذه ستة : وشناء ، وشناءة ، وشناء ، وشنأة ، ومشنأة ، ومشنئة ، ومشنئة ، وشنانا ، وشنانا. فهذه ستة عشر مصدرا وهي أكثر ما حفظ للفعل. وقال سيبويه : كل بناء كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن.

المعاونة : المساعدة. المنخنقة : هي التي تحتبس نفسها حتى تموت ، سواء أكان حبسها بحبل أم يد أم غير ذلك. الوقذ : ضرب الشيء حتى يسترخي ويشرف على الموت. وقيل : الموقوذة المضروبة بعصا أو حجر لا حد له ، فتموت بلا ذكاة. ويقال : وقذه النعاس غلبه ، ووقذه الحكم سكنه. التردّي : السقوط في بئر أو التهوّر من جبل. ويقال : ردى وتردّى أي هلك ، ويقال : ما أدري أين ردي؟ أي ذهب. النطيحة : هي التي ينطحها غيرها فتموت بالنطح ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل ، ولذلك ثبت فيها الهاء. السبع : كل ذي ناب وظفر من الحيوان : كالأسد ، والنمر ، والدب ، والذئب ، والثعلب ، والضبع ، ونحوها. وقد أطلق على ذوات المخالب من الطير سباع. قال الشاعر :

وسباع الطير تغدو بطانا

تتخطاهم فما تستقل

١٥٥

ومن العرب من يخص السبع بالأسد ، وسكون الباء لغة نجدية ، وسمع فتحها ، ولعل ذلك لغة. التذكية : الذبح ، وتذكية النار رفعها ، وذكى الرجل وغيره أسن. قال الشاعر :

على أعراقه تجري المذاكي

وليس على تقلبه وجهده

النصب ، قيل جمع نصاب ، وهي حجارة منصوبة حول الكعبة كان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ، ولها أيضا وتلطخ بالدماء ، ويوضع عليها اللحم قطعا قطعا ليأكل منها الناس. وقيل : النصب مفرد. قال الأعشى : وذا النصب المنصوب لا تقربنه.

الأزلام : القداح واحدها زلم وزلم بضم الزاي وفتحها وهي السهام ، كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا من معاظم الأمور ضرب بالقداح ، وهي مكتوب على بعضها نهاني ربي ، وعلى بعضها أمرني ربي ، وبعضها غفل ، فإن خرج الآمر مضى لطلبته ، وإن خرج الناهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاد الضرب.

اليأس : قطع الرجاء. يقال : يئس ييئس وييئس ، ويقال : أيس وهو مقلوب من يئس ، ودليل القلب تخلف الحكم عن ما ظاهره أنه موجب له. ألا ترى أنهم لم يقلبوا ياءه ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فلم يقولوا آس كما قالوا هاب.

المخمصة : المجاعة التي تخمص فيها البطون أي تضمر ، والخمص ضمور البطن ، والخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال : خمصانة ، وبطن خميص ، ومنه أخمص القدم. ويستعمل كثيرا في الجوع والغرث. قال الأعشى :

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم

وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

وقال آخر :

كلوا في بعض بطنكم تعفوا

فإن زمانكم زمن خميص

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هذه السورة مدنية ، نزلت منصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية ، ومنها ما نزل في حجة الوداع ، ومنها ما نزل عام الفتح. وكل ما نزل بعد الهجرة بالمدينة ، أو في سفر ، أو بمكة ، فهو مدني. وذكروا فضائل هذه السورة وأنها تسمى : المائدة ، والعقود ، والمنقذة ، والمبعثرة. ومناسبة افتتاحها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها ، ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال ، فبين في هذه

١٥٦

السورة أحكاما كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل. قالوا : وقد تضمنت هذه السورة ثمانية عشر فريضة لم يبينها في غيرها ، وسنبينها أوّلا فأوّلا إن شاء الله تعالى. وذكروا أن الكندي الفيلسوف قال له أصحابه : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن ، فقال : نعم ، أعمل مثل بعضه ، فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلا عاما ، ثم استثنى استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في إجلاد انتهى.

والظاهر أنّ النداء لأمة الرسول المؤمنين. وقال ابن جريج : هم أهل الكتاب. وأمر تعالى المؤمنين بإيفاء العقود وهي جمع عقد ، وهو العهد ، قاله : الجمهور ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي. وقال الزجاج : العقود أوكد من العهود ، وأصله في الاجرام ثم توسع فأطلق في المعاني ، وتبعه الزمخشري فقال : هو العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه. قال الحطيئة :

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم

شدّوا العناج وشدوا فوقه الكربا

والظاهر عموم المؤمنين في المخلص والمظهر ، وعموم العقود في كل ربط يوافق الشرع سواء كان إسلاميا أم جاهليا وقد سأل فرات بن حنان العجلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حلف الجاهلية فقال : «لعلك تسأل عن حلف تيم الله» قال : نعم يا نبي الله. قال : «لا يزيده الإسلام إلا شدة». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حلف الفضول وكان شهده في دار عبد الله بن جدعان : «ما أحب أنّ لي به حمر النعم ولو ادّعى به في الإسلام لأجبت» وكان هذا الحلف أنّ قريشا تعاقدوا على أن لا يجدوا مظلوما بمكة من أهلها أو من غير أهلها إلا قاموا معه حتى ترد مظلمته ، وسميت ذلك الحلف حلف الفضول. وكان الوليد بن عقبة أميرا على المدينة ، فتحامل على الحسين بن علي في مال فقال : لتنصفني من حقي وإلا أخذت بسيفي ، ثم لأقومن في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم لأدعون بحلف الفضول. فقال عبد الله بن الزبير : لئن دعاني لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من خصمه ، أو نموت جميعا. وبلغت المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيميّ فقالا مثل ذلك ، وبلغ ذلك الوليد فأنصفه.

ويندرج في هذا العموم كل عقد مع إنسان كأمان ، ودية ، ونكاح ، وبيع ، وشركة ،

١٥٧

وهبة ، ورهن ، وعتق ، وتدبير ، وتخيير ، وتمليك ، ومصالحة ، ومزارعة ، وطلاق ، وشراء ، وإجارة ، وما عقده مع نفسه لله تعالى من طاعة : كحج ، وصوم ، واعتكاف ، وقيام ، ونذر وشبه ذلك. وقال ابن عباس ومجاهد : هي العهود التي أخذها الله على عباده فيما أحل وحرم ، وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : هي العهود التي عقدها الله على عباده وألزمها إياهم من واجب التكليف ، وأنه كلام قدم مجملا ثم عقب بالتفصيل. وقال قتادة : هو الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية ، قال : وروي لنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام». وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما : هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو نكاح أو غيره. وقال ابن زيد أيضا ، وعبد الله بن عبيدة : العقود خمس : عقدة الإيمان ، وعقدة النكاح ، وعقدة العهد ، وعقدة البيع ، وعقدة الحلف. وقيل : هي عقود الأمانات والبياعات ونحوها ، وقال ابن جريج : هي التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بها بما جاءهم به الرسول. وقال ابن شهاب : قرأت الكتاب الذي كتبه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره : «هذا بيان من الله ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود إلى قوله إن الله سريع الحساب» وقيل : العقود هنا الفرائض.

(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) قيل : هذا تفصيل بعد إجمال. وقيل : استئناف تشريع بيّن فيه فساد تحريم لحوم السوائب ، والوصائل ، والبحائر ، والحوام ، وأنها حلال لهم. وبهيمة الأنعام من باب إضافة الشيء إلى جنسه فهو بمعنى من ، لأن البهيمة أعم ، فأضيفت إلى أخص. فبهيمة الأنعام هي كلها قاله : قتادة ، والضحاك ، والسدي ، والربيع ، والحسن. وهي الثمانية الأزواج التي ذكرها الله تعالى. وقال ابن قتيبة : هي الإبل ، والبقرة ، والغنم ، والوحوش كلها. وقال قوم منهم الضحاك والفراء : بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء ، وبقر الوحش وحمرة. وكأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس الأنعام البهائم ، والإضرار وعدم الأنياب ، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه ، وتقدم الكلام في مدلول لفظ الأنعام. وقال ابن عمر وابن عباس : بهيمة الأنعام هي الأجنة التي تخرج عند ذبح أمّهاتها فتؤكل دون ذكاة ، وهذا فيه بعد. وقيل : بهيمة الأنعام هي التي ترعى من ذوات الأربع ، وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن حد الإبهام فصار له نظر ما.

(إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) هذا استثناء من بهيمة الأنعام والمعنى : إلا ما يتلى عليكم

١٥٨

تحريمه من نحو قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (١) وقال القرطبي : ومعنى يتلى عليكم يقرأ في القرآن والسنة ، ومنه «كل ذي ناب من السباع حرام». وقال أبو عبد الله الرازي : ظاهر هذا الاستثناء مجمل ، واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملا ، إلا أنّ المفسرين أجمعوا على أنّ المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هذه الآية وهو قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ) إلى قوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) (٢) ووجه هذا أنّ قوله : أحلت لكم بهيمة الأنعام ، يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه. فبيّن تعالى أنها إن كانت ميتة أو مذبوحة على غير اسم الله ، أو منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة ، أو افترسها السبع فهي محرمة انتهى كلامه. وموضع ما نصب على الاستثناء ، ويجوز الرفع على الصفة لبهيمة. قال ابن عطية : وأجاز بعض الكوفيين أن يكون في موضع رفع على البدل ، وعلى أن تكون إلا عاطفة ، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك : جاء الرجل إلا زيد ، كأنك قلت : غير زيد انتهى. وهذا الذي حكاه عن بعض الكوفيين من أنه في موضع رفع على البدل لا يصح البتة ، لأنّ الذي قبله موجب. فكما لا يجوز : قام القوم إلا زيد على البدل ، كذلك لا يجوز البدل في : إلا ما يتلى عليكم. وأما كون إلا عاطفة فهو شيء ذهب إليه بعض الكوفيين كما ذكر ابن عطية. وقوله : وذلك لا يجوز عند البصريين ، ظاهره الإشارة إلى وجهي الرفع البدل والعطف. وقوله : إلا من نكرة ، هذا استثناء مبهم لا يدرى من أي شيء هو. وكلا وجهي الرفع لا يصلح أن يكون استثناء منه ، لأن البدل من الموجب لا يجيزه أحد علمناه لا بصرى ولا كوفي. وأما العطف فلا يجيزه بصري البتة ، وإنما الذي يجيزه البصريون أن يكون نعتا لما قبله في مثل هذا التركيب. وشرط فيه بعضهم ما ذكر من أنه يكون من المنعوت نكرة ، أو ما قاربها من أسماء الأجناس ، فلعل ابن عطية اختلط عليه البدل والنعت ولم يفرق بينهما في الحكم. ولو فرضنا تبعية ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل حتى يسوغ ذلك ، لم يشترط تنكير ما قبل إلا ولا كونه مقاربا للنكرة من أسماء الأجناس ، لأن البدل والمبدل منه يجوز اختلافهما بالتنكير والتعريف.

(غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) قرأ الجمهور غير بالنصب. واتفق جمهور من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه منصوب على الحال. ونقل بعضهم الإجماع على ذلك ، واختلفوا في صاحب الحال. فقال الأخفش : هو ضمير الفاعل في أوفوا. وقال

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٣.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٣.

١٥٩

الجمهور ، والزمخشري ، وابن عطية وغيرهما : هو الضمير المجرور في أحلّ لكم. وقال بعضهم : هو الفاعل المحذوف من أجل القائم مقامه المفعول به ، وهو الله تعالى. وقال بعضهم : هو ضمير المجرور في عليكم. ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله : إلا ما يتلى عليكم ، هو استثناء من بهيمة الأنعام. وأنّ قوله : غير محلي الصيد ، استثناء آخر منه. فالاستثناءان معناهما من بهيمة الأنعام ، وفي المستثنى منه والتقدير : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون ، بخلاف قوله : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) (١) على ما يأتي بيانه وهو قول مستثنى مما يليه من الاستثناء. قال : ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام ، لأنه مستثنى من المحظور إذا كان إلا ما يتلى عليكم مستثنى من الإباحة ، وهذا وجه ساقط ، فإذا معناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد انتهى. وقال ابن عطية : وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب غير ، وقدروا تقديمات وتأخيرات ، وذلك كله غير مرضي ، لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء انتهى كلامه. وهو أيضا ممن خلط على ما سنوضحه.

فأمّا قول الأخفش : ففيه الفصل بين ذي الحال والحال بجملة اعتراضية ، بل هي منشئة أحكاما ، وذلك لا يجوز. وفيه تقييد الإيفاء بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم ، وهم مأمورون بإيفاء العقود بغير قيد ، ويصير التقدير : أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم ، وهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام أنفسها. وإن أريد به الظباء وبقر الوحش وحمره فيكون المعنى : وأحل لكم هذه في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم ، وهذا تركيب قلق معقد ، ينزه القرآن أن يأتي فيه مثل هذا. ولو أريد بالآية هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه. وأما قول : من جعله حالا من الفاعل. وقدّره : وأحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محل لكم الصيد وأنتم حرم ، قال كما تقول : أحللت لك كذا غير مبيحه لك يوم الجمعة ، فهو فاسد. لأنهم نصوا على أنّ الفاعل المحذوف في مثل هذا التركيب يصير نسيا منسيا ، ولا يجوز وقوع الحال منه. لو قلت : أنزل المطر للناس مجيبا لدعائهم ، إذ الأصل أنزل الله المطر مجيبا لدعائهم لم يجز ، وخصوصا على مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين ، لأن صيغة الفعل المبني للمفعول صيغة وضعت أصلا كما وضعت صيغته مبنيا للفاعل ، وليست مغيرة من صيغة

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٥٨.

١٦٠