البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

حجاج اليمامة حين أراد المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا عن الإيقاع بهم وإن كانوا مشركين ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما قال : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) (١) صار كأنه قيل ما بلغه الرسول فخذوه وكونوا منقادين له وما لم يبلغه فلا تسألوا عنه ولا تخوضوا فيه فربما جاءكم بسبب الخوض الفاسد تكاليف تشق عليكم ، قاله أبو عبد الله الرازي وفيه بعض تلخيص ، وقال أيضا هذا متصل بقوله (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) (٢) فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مختلفة والجملة الشرطية وما عطف عليها من الشرط في موضع الصفة لأشياء والمعنى لا تكثروا مسألة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتى لكم بها وكلفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها قاله الزمخشري وبناه على ما نقل في سبب النزول أنه سئل عن الحج ، وقرأ الجمهور (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) بالتاء مبنيّا للمفعول ، وقرأ ابن عباس ومجاهد مبنيّا للفاعل ، وقرأ الشعبي بالياء مفتوحة من أسفل وضم الدال يسؤكم بالياء فيهما مضمومة في الأول ومفتوحة في الثاني ، وقال ابن عطية والتحرير إن يبدها الله تعالى.

(وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) قال ابن عباس معناه لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم إما لتكليف شرعي يلزمكم وإما لخبر يسوءكم ، مثل الذي قال من أبي؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذ إن سألتم عن بيانه بيّن لكم وأبدى انتهى. قال ابن عطية : فالضمير في قوله (عَنْها) عائد على نوعها لا على الأول التي نهى عن السؤال عنها.

قال : ويحتمل أن يكون في معنى الوعيد كأنه قال لا تسألوا وإن سألتم لقيتم غب ذلك وصعوبته لأنكم تكلفون وتستعجلون ما يسوءكم كالذي قيل له إنه في النار انتهى.

وقال الزمخشري (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) أي عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي وهو مادام الرسول بين أظهركم يوحى إليه (تُبْدَ لَكُمْ) تلك التكاليف التي تسوءكم وتؤمروا بتحملها فتعرّضوا أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها انتهى. وعلى هذا يكون الضمير في (عَنْها) عائدا على أشياء نفسها لا على نوعها والذي يظهر أنهم نهوا عن السؤال عن أشياء وصفت بوصفين أحدهما أنها إن سألوا عنها أبديت لهم وقت نزول القرآن فيكون (حِينَ) ظرفا لقوله (تُبْدَ لَكُمْ) لا لقوله (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها) والوصف الثاني أنها إن أبديت

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٩٩.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٩٩.

٣٨١

لهم ساءتهم وهذا الوصف وإن تقدم مرتب على الوصف المتأخر وإنما تقدم لأنه أردع لهم عن المسألة عن تلك الأشياء أن يسألوا عنها لأنهم إذا أخبروا أنهم تسوءهم تلك المسألة إذا أبديت كانت أنفر عن أن يسألوا بعد ، فما كان هذا الوصف أزجر عن السؤال قدّم وتأخر الوصف في الذكر الذي ليس فيه زجر ولا ردع واتكل في ذلك على فهم المعنى مع أن عطف الوصف الثاني بالواو يقتضي التشريك فقط دون الترتيب ، ولا يدل قوله (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها) على جواز السؤال كما زعم بعضهم فقال : الضمير عائد على أشياء فكيف يفعل أشياء بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعا وجائزا معا. وأجاب بوجهين أحدهما أن يكون ممنوعا قبل نزول القرآن مأمورا به بعد نزوله الثاني أنهما وإن كانا غير مختلفين إلا أنهما في كون كل واحد منهما مسؤولا عنه شيء واحد ، فلهذا الوجه حسن اتحاد الضمير ، انتهى. وهذا ليس بجواب ثان لأنه فرض أن تلك الأشياء بأعيانها ، السؤال عنها ممنوع وجائز وإذا كانا نوعين مختلفين فليست الأشياء بأعيانها وجملة الشرط كما ذكرناه لا تدل على الجواز ألا ترى أنك تقول لا تزن وإن زنيت حددت فقوله وإن زنيت حددت لا يدل ذلك على الجواز بل جملة الشرط لا تدل على الوقوع بل لا تدل على الإمكان إذ قد يقع التعليق بين المستحيلين كقوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١).

(عَفَا اللهُ عَنْها) ظاهره أنه استئناف إخبار من الله تعالى ، وذهب بعضهم إلى أنها في موضع جر صفة لأشياء كأنه قيل لا تسألوا عن أشياء معفو عنها ويكون معنى عفا أي ترك لكم التكليف فيها والمشقة عليكم بها لقوله إن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل ، وهو القول الأول وهو الاستئناف يحتمل أن يكون المعنى هذا أي تركها الله ولم يعرفكم بها ويحتمل أن يكون المعنى أنه تجاوز عن ارتكابكم تلك السؤالات ولم يؤاخذكم بها ويدل على هذا المعنى قوله : (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) ولذلك قال الزمخشري عفا الله عنكم ما سلف عن مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها.

(وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) لا يؤاخذكم بما يفرط منكم بعقوبته خرّج الدار قطني عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحدّ حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها». وروى أبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أعظم الناس جرما من سأل عن مسألة لم تكن حراما فحرمت من أجل مسألته».

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٦٥.

٣٨٢

(قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) الظاهر أن الضمير في (سَأَلَها) عائد على أشياء. وقال الحوفي : ولا يتجه حمله على الظاهر لا من جهة اللفظ العربيّ ولا من جهة المعنى ، أما من جهة اللفظ فكان يعدى بعن فكان قد سأل عنها كما قال (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) فعدى بعن ، وأما من جهة المعنى فلأن المسئول عنه مختلف قطعا فيهما لأن المنهي عنه الذي هو مثل سؤال من سأل أين مدخلي ومن أبي. ومن سأل عن الحج وأين ناقتي وما في بطن ناقتي غير سؤال القوم الذين تقدموا ، فقال الزمخشري الضمير في (سَأَلَها) ليس براجع إلى أشياء حتى يجب تعديته بعن ، وإنما هو راجع إلى المسألة التي دل عليها (لا تَسْئَلُوا) يعني قد سأل هذه المسألة قوم من الأولين ثم أصبحوا أي بمرجوعها كافرين ، وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا. انتهى. وقال ابن عطية نحوا من قول الزمخشري قال : ومعنى هذه الآية أن هذه السؤالات التي هي تعنتات وطلب شطط واقتراحات ومباحثات قد سألها قبلكم الأمم ثم كفروا بها. انتهى. ولا يستقيم ما قالاه إلا على حذف مضاف وقد صرح به بعض المفسرين ، فقال قد سأل أمثالها أي أمثال هذه المسألة أو أمثال هذه السؤالات ، وقرأ الجمهور (سَأَلَها) بفتح السين والهمزة ، وقرأ النخعي بكسر السين من غير همز يعني بالكسر والإمالة ، وجعل الفعل من مادّة سين وواو ولام لا من مادّة سين وهمزة ولام ، وهما لغتان ذكرهما سيبويه ، ومن كلام العرب هما يتساولان بالواو وإمالة النخعي سأل مثل إمالة حمزة خاف. والقوم قال ابن عباس هم قوم عيسى سألوا المائدة ثم كفروا بها بعد أن شرط عليهم العذاب الذي لا يعذبه أحدا من العالمين ، وقال ابن زيد أيضا هم قوم موسى سألوا في ذبح البقرة وشأنها ، وقال ابن زيد أيضا هم الذين قالوا لنبيّ لهم (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) (١) ، وقيل قوم موسى سألوا أن يريهم الله جهرة فصار ذلك وبالا عليهم ، وقيل قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها بعد أن دخلوا على الاشتراط في قوله تعالى : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٢) وبعد اشتراط العذاب عليهم إن مسوها بسوء ، وقال مقاتل كان بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدّقوهم فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين ، وقال السدّي كقريش في سؤالهم أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا ، قال ابن عطية إنما يتجه في قريش مثال سؤالهم آية فلما شق القمر كفروا انتهى ، وقال بعض المتأخرين القوم قريش سألوا أمورا ممتنعة كما أخبر تعالى (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (٣) وهذا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٦.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٥٥.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٩٠.

٣٨٣

لا يستقيم إلا إن أريد بمن قبلهم آباؤهم الذين ماتوا في ابتداء التنزيل ، قال أبو البقاء العكبري (مِنْ قَبْلِكُمْ) متعلق بسألها ، ولا يجوز أن يكون صفة لقوم ولا حالا لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ولا حالا منها ولا خبرا عنها انتهى. وهذا الذي ذكره صحيح في ظرف الزمان المجرد من الوصف أما إذا وصف فذكروا أنه يكون خبرا تقول نحن في يوم طيب وأما قبل وبعد فالحقيقة أنهما وصفان في الأصل فإذا قلت جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء زيد زمانا أي في زمان متقدم على زمان مجيء عمرو ، ولذلك صح أن يقع صلة للموصول ولم يلحظ فيه الوصف وكان ظرف زمان مجردا لم يجز أن يقع صلة ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (١) ولا يجوز والذين اليوم وقد تكلمنا على هذا في أول البقرة ومعنى (ثُمَّ أَصْبَحُوا) ثم صاروا ولا يراد أن كفرهم مقيد بالصباح.

(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) مناسبة هذه لما قبلها أنه تعالى لما نهى عن سؤال ما لم يأذن فيه ولا كلفهم إياه منع من التزام أمور ليست مشروعة من الله تعالى ، ولما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية هل تلحق بأحكام الكعبة بيّن تعالى أنه لم يشرع شيئا منها ، أو لما ذكر المحللات والمحرمات في الشرع عاد إلى الكلام في المحللات والمحرمات من غير شرع ، وفي حديث روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أول من غير دين إسماعيل عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف نصب الأوثان وسيب السائبة وبحر البحيرة وحمى الحامي» ، ورآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجر قصبه في النار ، وروي أنه كان ملك مكة ، وروى زيد بن أسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قد عرفت أول من بحر البحيرة هو رجل من مدلج كانت له ناقتان فجدع آذانهما وحرم ألبانهما وركوب ظهورهما قال : فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه». قال الزمخشري يعني (ما جَعَلَ اللهُ) ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك ، وقال ابن عطية و (جَعَلَ) في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني ، وإنما هي بمعنى ما سن ولا شرع ، ولم يذكر النحويون في معاني جعل شرع ، بل ذكروا أنها تأتي بمعنى خلق وبمعنى ألقى وبمعنى صير ، وبمعنى الأخذ في الفعل فتكون من أفعال المقاربة. وذكر بعضهم بمعنى سمى وقد جاء حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها إلا أنه قليل والحمل على ما سمع أولى من إثبات معنى لم يثبت في

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١.

٣٨٤

لسان العرب فيحتمل أن يكون المفعول الثاني محذوفا ، أي ما صير الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حاميا مشروعة بل هي من شرع غير الله (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) (١) خلقها الله تعالى رفقا لعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة وأهل الجاهلية قطعوا طريق الانتفاع بها وإذهاب نعمة الله بها ، قال ابن عطيّة وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تجوز الأحباس والأوقاف وقاسوا على البحيرة والسائبة والفرق بيّن ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال هذه تكون حبسا لا تجتنى ثمرتها ولا تزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة ، وأما الحبس المتعين طريقه واستمرار الانتفاع به فليس من هذا ، وحسبك بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر بن الخطاب في مال له : «اجعله حبسا لا يباع أصله» وحبس أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى.

(وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) قال الزمخشري بتحريم ما حرموا.

(وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فلا ينسبوا التحريم حتى يفتروا ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارهم انتهى. نص الشعبي وغيره أن المفترين هم المبتدعون وأن الذين لا يعقلون هم الأتباع ، وقال ابن عباس (الَّذِينَ كَفَرُوا) يريد عمرو بن لحي وأصحابه ، وقيل في (لا يَعْقِلُونَ) أي الحلال من الحرام ، وقال قتادة : (لا يَعْقِلُونَ) أن هذا التحريم من الشيطان لا من الله ، وقال محمد بن موسى : (الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا هم أهل الكتاب والذين (لا يَعْقِلُونَ) هم أهل الأوثان ، قال ابن عطية وهذا تفسير من انتزع آخر الآية عما تقدمها وارتبط بها من المعنى وعما أخبر أيضا من قوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) انتهى. وقال مكي ذكر أهل الكتاب هنا لا معنى له إذ ليس في هذا صنع ولا شبه وإنما ذكر ذلك عن مشركي العرب فهم الذين عنوا بذلك.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ).

تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة وهنا (تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) وهناك (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (٢) وهنا (لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) وهناك (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) (٣) والمعنى في هذا التغاير لا يكاد يختلف ومعنى (إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) أي من القرآن الذي فيه التحريم الصحيح ومعنى (حَسْبُنا) : كافينا وقول ابن عطية : معنى (حَسْبُنا) كفانا ليس شرحا بالمرادف إذ شرح الاسم بالفعل ، وقال ابن عطية في (أَوَلَوْ) : ألف التوقيف دخلت على واو العطف كأنهم عطفوا هذه

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٧٠.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ١٠٤.

٣٨٥

الجملة على الأولى والتزموا شنيع القول وإنما التوقيف توبيخ لهم كأنهم يقولون بعده : نعم ، ولو كان كذلك انتهى. وقوله في الهمزة ألف التوقيف عبارة لم أقف عليها من كلام النحاة يقولون همزة الإنكار همزة التوبيخ وأصلها همزة الاستفهام ، وقوله : كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى يعني فكان التقدير قالوا : فاعتنى بالهمزة فقدّمت لقوله : (وَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (١) وليس كما ذكر من أنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى على ما نبينه إن شاء الله تعالى ، وقال الزمخشري والواو في قوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) واو الحال وقد دخلت عليها همزة الإنكار والتقدير أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم (لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) ، والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة. انتهى. وجعل الزمخشري الواو ، في (أَوَلَوْ) ، واو الحال وهو مغاير لقول ابن عطية أنها واو العطف لا من الجهة التي ذكرها ابن عطية واو الحال لكن يحتاج ذلك إلى تبيين ، وذلك أنه قد تقدم من كلامنا أن لو التي تجيء هذا المجيء هي شرطية وتأتي لاستقصاء ما قبلها والتنبيه على حاله داخلة فيما قبلها وإن كان مما ينبغي أن لا تدخل ، فقوله : «أعطوا السائل ولو جاء على فرس وردّوا السائل ولو بظلف محرق واتقوا النار ولو بشق تمرة». وقول الشاعر :

قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم

دون النساء ولو باتت بأطهار

فالمعنى أعطوا السائل على كل حال ولو على الحالة التي تشعر بالغنى وهي مجيئه على فرس ، وكذلك يقدر ما ذكرنا من المثل على ما يناسب فالواو عاطفة على حال مقدرة فمن حيث هذا العطف صح أن يقال إنها واو الحال وقد تقدم الكلام على ذلك بأشبع من هذا فالتقدير في الآية أحسبهم أتباع ما وجدوا عليه آباءهم على كل حال ولو في الحالة التي تنفي عن آبائهم العلم والهداية فإنها حالة ينبغي أن لا يتبع فيها الآباء لأن ذلك حال من غلب عليه الجهل المفرط.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال أبو أمية الشعباني : سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال : لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامّهم فإن وراءكم أياما أجر العامل

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠ / ٩.

٣٨٦

فيها كأجر خمسين منكم». وهذا أصح ما يقال في تأويل هذه الآية لأنه عن الرسول وعليه الصحابة. بلغ أبا بكر الصديق أن بعض الناس تأول الآية على أنه لا يلزم الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر ، فصعد المنبر وقال : أيها الناس لا تغتروا بقول الله (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فيقول أحدكم : عليّ نفسي فو الله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم وليسو منكم سوء العذاب ، وعن عمر أن رجلا قال له : إني لأعمل بأعمال البر كلها إلا في خصلتين قال : وما هما قال لا آمر ولا أنهى ، فقال له عمر لقد طمست سهمين من سهام الإسلام إن شاء غفر لك وإن شاء عذبك.

وعن ابن مسعود ليس هذا زمان هذه الآية قولوا الحق ما قبل منكم فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم ، وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن : لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لنا : «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل. وقال ابن جبير (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فالزموا شرعكم بما فيه من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر و (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ) من أهل الكتاب (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ، وقال ابن زيد المعنى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) من أبناء الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) في الاستقامة على الدين (لا يَضُرُّكُمْ) ضلال الأسلاف (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ، قال وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار : سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت فنزلت الآية بسبب ذلك ، وقيل : نزلت بسبب ارتداد بعض المؤمنين وافتتانهم كابن أبي السرح وغيره ، وقال المهدوي قيل إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال ابن عطية لم يقل أحد فيما علمت أنها آية الموادعة للكفار ولا ينبغي أن يعارض بها شيء مما أمر به في غير ما آية من القيام بالقسط والأمر بالمعروف ، وقال الزمخشري كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على العناد والعتوّ من الكفرة ويتمنون دخولهم في الإسلام فقيل لهم عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي في طرق الهدى ولا يضركم الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين ، كما قال تعالى لنبيه : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) (١) وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم فهو مخاطب به وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنّ مع تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد. وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه.

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٨.

٣٨٧

وروى أبو صالح عن ابن عباس أن منافقي مكة قالوا : عجبا لمحمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية فهلا أكرههم على الإسلام وقد ردّها على إخواننا من العرب فشق ذلك على المسلمين فنزلت ، وقال مقاتل ما يقارب هذا القول ، وذكروا في مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما بين أنواع التكاليف ثم قيل (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) ـ إلى قوله : ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) (١) الآية. كان المعنى أن هؤلاء الجهال ما تقدّم من المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرّين على جهلهم فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم فإن ذلك لا يضركم بل كونوا منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ، و (عَلَيْكُمْ) : من كلم الإغراء وله باب معقود في النحو وهو معدود في أسماء الأفعال فإن كان الفعل متعديا كان اسمه متعديا وإن كان لازما كان لازما و (عَلَيْكُمْ) : اسم لقولك الزم فهو متعد فلذلك نصب المفعول به والتقدير هنا عليكم إصلاح أنفسكم أو هداية أنفسكم ، وإذا كان المغرى به مخاطبا جاز أن يؤتى بالضمير منفصلا فتقول عليك إياك أو يؤتى بالنفس بدل الضمير فتقول عليك نفسك كما في هذه الآية.

وحكى الزمخشري عن نافع أنه قرأ (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) بالرفع وهي قراءة شاذة تخرج على وجهين : أحدهما يرتفع على أنه مبتدأ وعليكم في موضع الخبر والمعنى على الإغراء ، والوجه الثاني أن يكون توكيدا للضمير المستكن في (عَلَيْكُمْ) ولم تؤكد بمضمر منفصل إذ قد جاء ذلك قليلا ويكون مفعول (عَلَيْكُمْ) محذوفا لدلالة المعنى عليه والتقدير (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) هدايتكم (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ، وقرأ الجمهور (لا يَضُرُّكُمْ) بضم الضاد والراء وتشديدها ، قال الزمخشري : وفيه وجهان أن يكون خبرا مرفوعا وينصره قراءة أبي حيوة (لا يَضُرُّكُمْ) وأن يكون جوابا للأمر مجزوما وإنما ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل (لا يَضُرُّكُمْ) ويجوز أن يكون نهيا انتهى. وقرأ الحسن بضم الضاد وسكون الراء من ضار يضور ، وقرأ النخعي بكسر الضاد وسكون الراء من ضار يضير وهي لغات.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي مرجع المهتدين والضالين وغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وزيد تقومان وهذا فيه تذكير بالحشر وتهديد بالمجازاة.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٩٩ ـ ١٠٤.

٣٨٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ) روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدي يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب فاستحلفهما ، وفي رواية فحلفهما بعد العصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما كتمتما ولا اطلعتما» ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من عدي وتميم فجاء الرجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا قال : فأخذ الجام وفيهم نزلت الآية ، قيل والسهمي هو مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم وأن جام الفضة كان يريد به الملك وهو أعظم تجاراته وأن عديا وتميما باعاه بألف درهم واقتسماها ، وقيل اسمه بديل بن أبي مارية مولى العاصي بن وائل السهمي وأنه خرج مسافرا في البحر إلى أرض النجاشي. وأن إناء الفضة كان وزنه ثلاثمائة مثقال وكان مموّها بالذهب قال فقدموا الشام ، فمرض بديل وكان مسلما الحديث.

وذكر أبو عبد الله بن الفضل أن ورثة بديل قالوا لهما ألستما زعمتما أن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه ، فما بال هذا الإناء معكما وهو مما خرج صاحبنا به وقد حلفتما عليه قالا إنا كنا ابتعناه منه ، ولم يكن لنا عليه بينة فكر هنا أن نقر لكم فتأخذوه منا وتسألوا عليه البينة ولا نقدر عليها فرفعوهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت انتهى.

وفي رواية قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر وأديت لهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا ما أمروا به فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه فحلف فأنزل الله هذه الآية إلى قوله : (بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يد عدي بن زيد وزاد الواقدي في حديثه أن تميما وعديا كانا أخوين ويعني والله أعلم أنهما أخوان لأم وأن بديلا كتب وصيته بيده ودسها في متاعه ، وأوصى إلى تميم وعدي أن يؤدّيا رحله وأن الرسول استحلفهما بعد العصر وأنه حلف عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة ، وذكر الزمخشري هذا السبب مختصرا مجردا فذكر فيه أن بديل بن أبي مريم كان من المهاجرين وأنه كتب كتابا فيه ما معه وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدوا فرفعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت ، وقال ابن عطية ولم يصح لعدي صحبة فيما علمت ولا ثبت إسلامه وقد عده بعض المتأخرين في الصحابة ، وقال مكي بن أبي طالب :

٣٨٩

هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما ، قال ابن عطية وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها وذلك بيّن من كتابه انتهى. وقال أبو الحسن السخاوي ما رأيت أحدا من الأئمة تخلص كلامه فيها من أولها إلى آخرها انتهى.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه لما ذكر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كان في ذلك تنفير عن الضلال واستبعاد عن أن ينتفع بهم في شيء من أمور المؤمنين من شهادة أو غيرها فأخبر تعالى بمشروعية شهادتهم أو الإيصاء إليهم في السفر على ما سيأتي بيانه ، وقال أبو نصر القشيري لما نزلت السورة بالوفاء بالعقود وترك الخيانات انجر الكلام إلى هذا ، وقرأ الجمهور (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) بالرفع وإضافة (شَهادَةُ) إلى (بَيْنِكُمْ) ، وقرأ الشعبي والحسن والأعرج (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) برفع شهادة وتنوينه ، وقرأ السلمي والحسن أيضا (شَهادَةُ) بالنصب والتنوين وروي هذا عن الأعرج وأبي حيوة و (بَيْنِكُمْ) في هاتين القراءتين منصوب على الظرف فشهادة على قراءة الجمهور مبتدأ مضاف إلى بين بعد الاتساع فيه كقوله هذا فراق بيني وبينك (١) وخبره (اثْنانِ) تقديره شهادة اثنين أو يكون التقدير ذوا شهادة بينكم اثنان واحتيج إلى الحذف ليطابق المبتدأ الخبر وكذا توجيه قراءة الشعبي والأعرج ، وأجاز الزمخشري أن يرتفع (اثْنانِ) على الفاعلية بشهادة ويكون (شَهادَةُ) مبتدأ وخبره محذوف وقدره فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان ، وقيل (شَهادَةُ) مبتدأ خبره (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ، وقيل خبره (حِينَ الْوَصِيَّةِ) ، ويرتفع (اثْنانِ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، التقدير الشاهدان اثنان ذوا عدل منكم ، أو على الفاعلية ، التقدير يشهد اثنان ، وقيل (شَهادَةُ) مبتدأ و (اثْنانِ) مرتفع به على الفاعلية وأغنى الفاعل عن الخبر. وعلى الإعراب الأول يكون (إِذا) معمولا للشهادة وأما (حِينَ) فذكروا أنه يكون معمولا لحضر أو ظرفا للموت أو بدلا من إذا ولم يذكر الزمخشري غير البدل ، قال و (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل منه يعني من (إِذا) وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية وأنها من الأمور اللازمة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها ، وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل انتهى.

وقال الماتريدي واتبعه أبو عبد الله الرازي : التقدير ما بينكم فحذف ما ، قال أبو عبد الله الرازي : يعني شهادة ما بينكم ، و (بَيْنِكُمْ) كناية عن التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند وقوع التنازع وحذف ما من قوله ما بينكم جائز لظهوره ونظيره (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أي ما بيني وبينك وقوله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) لله (٢) في قراءة من نصب انتهى.

__________________

(١) سورة الكهف : ١ / ٧٨.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٩٤.

٣٩٠

وحذف ما الموصولة لا يجوز عند البصريين ومع الإضافة لا يصح تقدير ما البتة وليس قوله (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) نظيره (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) لأن ذلك مضاف إليه وهذا باق على طريقته فيمكن أن يتخيل فيه تقدير ما لأن الإضافة إليه أخرجته عن الظرفية وصيرته مفعولا به على السعة.

وأما تخريج قراءة السلمي والحسن (شَهادَةُ) بالنصب والتنوين ونصب (بَيْنِكُمْ) فقدره الزمخشري ليقم شهادة اثنان فجعل (شَهادَةُ) مفعولا بإضمار هذا الأمر و (اثْنانِ) مرتفع بليقم على الفاعلية وهذا الذي قدره الزمخشري هو تقدير ابن جني بعينه ، قال ابن جني التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان انتهى ، وهذا الذي ذكره ابن جني مخالف لما قاله أصحابنا قالوا لا يجوز حذف الفعل وإبقاء فاعله إلا إن أشعر بالفعل ما قبله كقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١) على قراءة من فتح الباء فقرأه مبنيا للمفعول وذكروا في اقتياس هذا خلافا أي يسبحه رجال فدل يسبح على يسبحه أو أجيب به نفي كأن يقال لك ما قام أحد عندك فتقول بلى زيد أي قام زيد أو أجيب به استفهام كقول الشاعر :

ألا هل أتى أم الحويرث مرسل

بل خالد إن لم تعقه العوائق

التقدير أتى خالد أو يأتيها خالد وليس حذف الفعل الذي قدره ابن جني وتبعه الزمخشري واحدا من هذه الأقسام الثلاثة والذي عندي أن هذه القراءة الشاذة تخرج على وجهين : أحدهما أن يكون (شَهادَةُ) منصوبة على المصدر الذي ناب مناب الفعل بمعنى الأمر و (اثْنانِ) مرتفع به والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب قولك : ضربا زيدا إلا أن الفاعل في ضربا مسند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب وهذا مسند إلى الظاهر لأن معناه ليشهد ، والوجه الثاني أن يكون أيضا مصدرا ليس بمعنى الأمر بل يكون خبرا ناب مناب الفعل في الخبر ، وإن كان ذلك قليلا كقولك افعل وكرامة ومسرة أي وأكرمك وأسرك فكرامة ومسرة بدلان من اللفظ بالفعل في الخبر وكما هو الأحسن في قول امرئ القيس :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم

فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفا لأنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر التقدير وقف صحبي على مطيهم والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان ، والشهادة هنا هل هي التي تقام بها الحقوق عند الحكام أو الحضور أو اليمين ثلاثة أقوال آخرها للطبري والقفال كقوله : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) (٢) ، وقيل تأتي الشهادة بمعنى

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٣٦.

(٢) سورة النور : ٢٤ / ٨.

٣٩١

الإقرار نحو قوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) (١) وبمعنى العلم نحو قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٢) وبمعنى الوصية وخرجت هذه الآية عليه فيكون فيها أربعة أقوال.

(ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ذَوا عَدْلٍ) صفة لقوله (اثْنانِ) و (مِنْكُمْ) صفة أخرى و (مِنْ غَيْرِكُمْ) صفة لآخران ، قال الزمخشري (مِنْكُمْ) من أقاربكم و (مِنْ غَيْرِكُمْ) من الأجانب (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) يعني إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصية وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وبما هو أصلح وهم له أنصح ، وقيل (مِنْكُمْ) من المسلمين وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر ، وعن مكحول نسخها قوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٣) انتهى. وما اختاره الزمخشري وبدأ به أولا هو قول ابن عباس وعكرمة والحسن والزهري قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم أحق بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أسندها إلى غيرهما من المسلمين الأجانب وهذا القول مخالف لما ذكره الزمخشري وغيره من المفسرين حتى ابن عطية قال لا نعلم خلافا أن سبب هذه الآية أن تميما الداري وعدي بن زياد كانا نصرانيين وساقا الحديث المذكور أولا فهذا القول مخالف لسبب النزول. وأما القول الثاني الذي حكاه الزمخشري هو مذهب أبي موسى وابن المسيب ويحيى بن يعمر وابن جبير وأبي مجلز وابراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي ، وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال الثوري ومال إليه أبو عبيد واختاره أحمد قالوا : معنى قوله : (مِنْكُمْ) من المؤمنين ومعنى (مِنْ غَيْرِكُمْ) من الكفار ، قال بعضهم وذلك أن الآية نزلت ولا يؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفار ومذهب أبي موسى وشريح وغيرهما أن الآية محكمة.

قال أحمد : شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين ورجح أبو عبد الله الرازي هذا القول قال : قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب لجميع المؤمنين فلما قال : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) كان من غير المؤمنين لا محالة وبأنه لو كان الآخران مسلمين لم يكن جواز الاستشهاد بهما مشروطا بالسفر لأن المسلم جائز استشهاده في الحضر والسفر وبأنه دلت الآية على وجوب الحلف من بعد الصلاة وأجمع المسلمون على أن الشاهد لا يجب

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٦.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٨.

(٣) سورة الطلاق : ٦٥ / ٢.

٣٩٢

تحليفه فعلمنا أنهما ليسا من المسلمين وبسبب النزول وهو شهادة النصرانيين على بديل وكان مسلما وبأن أبا موسى قضى بشهادة يهوديين بعد أن حلفهما وما أنكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعا وباتفاق أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل وليس فيها منسوخ.

وقال أبو جعفر النحاس ناصرا للقول الأول : هذا ينبني على معنى غامض في العربية وذلك أن معنى آخر في العربية من جنس الأول تقول مررت بكريم وكريم آخر فقوله آخر يدل على أنه من جنس الأول ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر ولا مررت برجل وحمار آخر فوجب من هذا أن يكون معنى قوله (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي عدلان والكفار لا يكونون عدولا انتهى. وما ذكره في المثل صحيح إلا أن الذي في الآية مخالف للمثل التي ذكرها النحاس في التركيب لأنه مثل بآخر وجعله صفة لغير جنس الأول. وأما الآية فمن قبيل ما تقدم فيه آخر على الوصف واندرج آخر في الجنس الذي قبله ولا يعتبر جنس وصف الأول تقول : جاءني رجل مسلم وآخر كافر ومررت برجل قائم وآخر قاعد واشتريت فرسا سابقا وآخر مبطئا فلو أخرت آخر في هذه المثل لم تجز المسألة لو قلت : جاءني رجل مسلم وكافر آخر ومررت برجل قائم وقاعد آخر واشتريت فرسا سابقا ومبطئا آخر لم يجز وليست الآية من هذا القبيل إلا أن التركيب فيها جاء (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فآخران من جنس قوله (اثْنانِ) ولا سيما إذا قدرته رجلان اثنان فآخران هما من جنس قولك رجلان اثنان ولا يعتبر وصف قوله (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) وإن كان مغايرا لقوله (مِنْ غَيْرِكُمْ) كما لا يعتبر وصف الجنس في قولك عندي رجلان اثنان مسلمان وآخران كافران إذ ليس من شرط آخر إذا تقدم أن يكون من جنس الأول بعيد وصفه وهو على ما ذكرته هو لسان العرب قال الشاعر :

كانوا فريقين يصغون الزجاج على

قعس الكواهل في أشداقها ضخم

وآخرين على الماذيّ فوقهم

من نسج داود أو ما أورثت إرم

التقدير كانوا فريقين فريقا أو ناسا يصغون الزجاج ثم قال وآخرين ترى الماذي ، فآخرين من جنس قولك فريقا ، ولم يعبره بوصفه وهو قوله يصغون الزجاج لأن الشاعر قسم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصفين متحدي الجنس ، وهذا الفرق قل من يفهمه فضلا عمن يعرفه ، وأما القول الثالث الذي حكاه الزمخشري وهو أنه منسوخ ، وحكاه عن مكحول ، فهو قول زيد بن أسلم والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال : تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض لا على المسلمين ،

٣٩٣

والناسخ قوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) (١) وقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٢) وزعموا أن آية الدين من آخر ما نزل ، والظاهر أن أو للتخيير وقال به ابن عباس فمن جعل قوله (مِنْ غَيْرِكُمْ) أي من غير عشيرتكم كان مخيّرا بين أن يستشهد أقاربه أو الأجانب من المسلمين ومن زعم أن قوله (مِنْ غَيْرِكُمْ) أي من الكفار فاختلفوا. فقيل (غَيْرِكُمْ) يعني به أهل الكتاب وروي ذلك عن ابن عباس ، وقيل أهل الكتاب والمشركين وهو ظاهر قوله (مِنْ غَيْرِكُمْ) ، وقيل (أَوْ) للترتيب إذا كان قوله (مِنْ غَيْرِكُمْ) يعني به من غير أهل ملتكم فالتقدير إن لم يوجد من ملتكم.

(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب ولو جرى على لفظ (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) لكان التركيب إن هو ضرب في الأرض فأصابته مصيبة الموت وإنما جاء الالتفات جمعا لأن قوله (أَحَدَكُمُ) معناه إذا حضر كل واحد منكم الموت ، والمعنى إذا سافرتم في الأرض لمصالحكم ومعايشكم ، وظاهر الآية يقتضي أن استشهاد آخرين من غير المسلمين مشروط بالسفر في الأرض وحضور علامات الموت.

(تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) الخطاب للمؤمنين لا لما دلّ عليه الخطاب في قوله (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ) لأن ضرب في الأرض وأصابه الموت ليس هو الحابس ، (تَحْبِسُونَهُما) صفة لآخران واعترض بين الموصوف والصفة بقوله (إِنْ أَنْتُمْ) ... إلى (الْمَوْتُ) وأفاد الاعتراض أن العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة ، حسب اختلاف العلماء في ذلك ، إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه استغنى عن جواب إن لما تقدم من قوله (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) انتهى. وإلى أن (تَحْبِسُونَهُما) صفة ذهب الحوفي وأبو البقاء وهو ظاهر كلام ابن عطية إذ لم يذكر غير قول أبي علي الذي قدّمناه.

وقال الزمخشري (فإن قلت) : ما موضع (تَحْبِسُونَهُما). (قلت) : هو استئناف كلام كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما فكيف إن ارتبنا فقيل : (تَحْبِسُونَهُما) ، وما قاله الزمخشري من الاستئناف أظهر من الوصف لطول الفصل بالشرط والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته. وإنما قال الزمخشري بعد اشتراط العدالة فيهما لأنه اختار أن يكون قوله (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) معناه أو عدلان آخران من غير القرابة وتقدم من كلام أبي علي أن

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٢

(٢) سورة الطلاق : ٦٥ / ٢.

٣٩٤

العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه إلى آخر كلامه ، فظهر منه أن تقدير جواب الشرط هو (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) فاستشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم ، والظاهر أن الشرط قيد في شهادة اثنين ذوي عدل من المؤمنين أو آخرين من غير المؤمنين فيكون مشروعية الوصية للضارب في الأرض المشارف على الموت أن يشهد اثنين ، ويكون تقدير الجواب : إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فاستشهدوا اثنين إما منكم وإما من غيركم ، ولا يكون الشرط إذ ذاك قيدا في آخرين من غيرنا فقط ، بل هو قيد فيمن ضرب في الأرض وشارف الموت فيشهد اثنان منا أو من غيرنا.

وقال ابن عباس في الكلام محذوف تقديره فأصابتكم مصيبة الموت وقد استشهدتموهما على الإيصاء ، وقال ابن جبير تقديره وقد أوصيتم. قيل وهذا أولى لأن الشاهد لا يحلف والموصي يحلف. ومعنى (تَحْبِسُونَهُما) تستوثقونهما لليمين والخطاب لمن يلي ذلك من ولاة الإسلام ، وضمير المفعول عائد في قول على آخرين من غير المؤمنين وظاهر عوده على اثنين منا أو من غيرنا سواء كانا وصيين أو شاهدين ، وظاهر قوله من بعد الصلاة أن الألف واللام للجنس أو من بعد أي صلاة ، وقد قيل بهذا الظاهر وخص ذلك ابن عباس بصلاة دينهما وذلك تغليظ في اليمين ، وقال الحسن بعد العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما ، وقال الجمهور هي صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وكذا فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استحلف عديا وتميما بعد العصر عند المنبر ورجح هذا القول بفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقوله في الصحيح : «من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان». وبأن التحليف كان معروفا بعدهما فالتقييد بالمعروف يغني عن التقييد باللفظ وبأن جميع الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه فتكون الألف واللام في هذا القول للعهد وكذا في قول الحسن.

(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) ظاهره تقييد حلفهما بوجود الارتياب فمتى لم توجد الريبة فلا تحليف. وينبغي أن يحمل تحليف أبي موسى لليهوديين اللذين استشهدهما مسلم توفي على وصيته على أنه وقعت ريبة وإن لم يذكر ذلك في قصة ذلك المسلم ، والفاء في قوله (فَيُقْسِمانِ) عاطفة هذه الجملة على قوله (تَحْبِسُونَهُما) هذا هو الظاهر. وقال أبو علي وإن شئت لم تقدر الفاء لعطف جملة ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرمة :

وإنسان عيني يحسر الماء تارة

فيبدو وتارات يجم فيغرق

٣٩٥

تقديره عندهم إذا حسر بدا فكذلك إذا حبستموهما اقسما انتهى. ولا ضرورة تدعو إلى تقدير شرط محذوف وإبقاء جوابه فتكون الفاء إذ ذاك فاء الجزاء وإلى تقدير مضمر بعد الفاء أي فهما يقسمان وفهو يبدو ، وخرّج أصحابنا بيت ذي الرمة على توجيه آخر وهو أن قوله : يحسر الماء تارة. جملة في موضع الخبر وقد عريت عن الرابط فكان القياس أن لا تقع خبرا للمبتدأ لكنه عطف عليهما بالفاء جملة فيها ضمير المبتدأ فحصل الربط بذلك و (لا نَشْتَرِي) هو جواب قوله فيقسمان بالله وفصل بين القسم وجوابه بالشرط. والمعنى إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما ، وقيل إن أريد بهما الشاهدان ، فقد نسخ تحليف الشاهدين وإن أريد الوصيّان فليس بمنسوخ تحليفهما وعن عليّ أنه كان يحلّف الشاهد والراوي إذا اتهمها ، والضمير في (بِهِ) عائد على الله أو على القسم أو على تحريف الشهادة ، أقوال ثالثها لأبي علي ، وقوله : (نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) كناية عن الاستبدال عرضا من الدنيا وهو على حذف مضاف أي ذا ثمن لأن الثمن لا يشترى ولا يصح أن يكون (لا نَشْتَرِي) لا نبيع هنا وإن كان ذلك في اللغة. قال الزمخشري أن لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ولو كان من نقسم لأجله قريبا منا وذلك على عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا فإنهم داخلون تحت قوله : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (١) وإنما قال فإنهم داخلون إلى آخره لأن الاثنين والآخرين عنده مؤمنون فاندرجوا في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) الآية. قال ابن عطية وخص ذا القربى بالذكر لأن العرف ميل النفس إلى أقربائهم واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل والجملة من قوله : (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) معطوفة على قوله : (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) فيكون من جملة المقسم عليه وأضاف الشهادة إلى الله لأنه تعالى هو الآمر بإقامتها الناهي عن كتمانها ويحتمل أن يكون (وَلا نَكْتُمُ) خبرا منهما أخبرا عن أنفسهما أنهما لا يكتمان شهادة الله ولا يكون داخلا تحت المقسم عليه. وقرأ الحسن والشعبي (وَلا نَكْتُمُ) بجزم الميم نهيا أنفسهما عن كتمان الشهادة ودخول لا الناهية على المتكلم قليل نحو قوله :

إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد

بها أبدا ما دام فيها الجراضم

وقرأ علي ونعيم بن ميسرة والشعبي بخلاف عنه (شَهادَةَ اللهِ) بنصبهما وتنوين (شَهادَةُ) وانتصبا بنكتم التقدير ولا نكتم الله شهادة ، قال الزهراوي ويحتمل أن يكون المعنى ولا

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٣٥.

٣٩٦

نكتم شهادة والله ثم حذف الواو ونصب الفعل إيجازا. وروي عن عليّ والسلميّ والحسن البصري شهادة بالتنوين آلله بالمدّ في همزة الاستفهام التي هي عوض من حرف القسم دخلت تقريرا وتوقيفا لنفوس المقسمين أو لمن خاطبوه ، وروي عن الشعبي وغيره أنه كان يقف على شهادة بالهاء الساكنة الله بقطع ألف الوصل دون مد الاستفهام. قال ابن جني الوقف على شهادة بسكون الهاء واستئناف القسم حسن لأن استئنافه في أول الكلام أوقر له وأشدّ هيبة من أن يدخل في عرض القول. وروي عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش (شَهادَةُ) بالتنوين (اللهِ) بقطع الألف دون مد وخفض هاء الجلالة ورويت هذه عن الشعبي. وقرأ الأعمش وابن محيصن لملاثمين بإدغام نون من في لام الآثمين بعد حذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام.

(فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي فإن عثر بعد حلفهما على أنهما استحقا إثما أي ذنبا بحنثهما في اليمين بأنها ليست مطابقة للواقع و (عُثِرَ) استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه وبعد إن لم يرج ولم يقصد كما تقول على الخبير سقطت ووقعت على كذا. قال أبو علي : الإثم هنا هو الشيء المأخوذ لأن أخذه إثم فسمي إثما كما يسمى ما أخذ بغير الحق مظلمة ، قال سيبويه المظلمة اسم ما أخذ منك ولذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر انتهى. والظاهر أن الإثم هنا ليس الشيء المأخوذ بل الذنب الذي استحقا به أن يكونا من الآثمين الذي تبرآ أن يكونا منهم في قولهما (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) ولو كان الإثم هو الشيء المأخوذ ما قيل فيه استحقا إثما لأنهما ظلما وتعدّيا وذلك هو الموجب للإثم.

(فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) قرأ الحرميان والعربيان والكسائي (اسْتَحَقَ) مبنيا للفاعل و (الْأَوْلَيانِ) مثنى مرفوع تثنية الأولى ورويت هذه القراءة عن أبيّ وعليّ وابن عباس وعن ابن كثير في رواية قرة عنه ، وقرأ حمزة وأبو بكر (اسْتَحَقَ) مبنيا للمفعول و (الْأَوْلَيانِ) جمع الأول ، وقرأ الحسن (اسْتَحَقَ) مبنيا للفاعل الأولان مرفوع تثنية أول ، وقرأ ابن سيرين الأوليين تثنية الأولى فأما القراءة الأولى فقال الزمخشري (فَآخَرانِ) فشاهدان آخران (يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَ) عليهم أي من الذين استحق عليهم الإثم ، ومعناه وهم الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعترته ، وفي قصة بديل أنه لما ظهرت خيانة الرجلين حلف رجلين من ورثته أنه إناء صاحبهما وأن شهادتهما أحق من شهادتهما ، و (الْأَوْلَيانِ) الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وارتفاعهما على هما الأوليان كأنه قيل ومن هما فقيل (الْأَوْلَيانِ) ، وقيل هما بدل من الضمير في (يَقُومانِ) أو من آخران ويجوز أن يرتفعا

٣٩٧

باستحق أي من الذين استحق عليهم ابتدأت الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال انتهى. وقد سبقه أبو عليّ إلى أن تخريج رفع (الْأَوْلَيانِ) على تقديرهما الأوليان ، وعلى البدل من ضمير (يَقُومانِ) وزاد أبو عليّ وجهين آخرين ، أحدهما أن يكون (الْأَوْلَيانِ) مبتدأ ومؤخرا ، والخبر آخران يقومان مقامهما. كأنه في التقدير فالأوليان بأمر الميت آخران يقومان فيجيء الكلام كقولهم تميمي أنا. والوجه الآخر أن يكون (الْأَوْلَيانِ) مسندا إليه (اسْتَحَقَ). قال أبو عليّ فيه شيء آخر وهو أن يكون (الْأَوْلَيانِ) صفة لآخران لأنه لما وصف خصص فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له انتهى. وهذا الوجه ضعيف لاستلزامه هدم ما كادوا أن يجمعوا عليه من أن النكرة لا توصف بالمعرفة ولا العكس وعلى ما جوّزه أبو الحسن يكون إعراب قوله : (فَآخَرانِ) مبتدأ والخبر (يَقُومانِ) ويكون قد وصف بقوله من (الَّذِينَ) أو يكون قد وصف بقوله (يَقُومانِ) والخبر (مِنَ الَّذِينَ) ولا يضر الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر أو يكونان صفتين لقوله : (فَآخَرانِ) ويرتفع آخران على خبر مبتدإ محذوف أي فالشاهدان آخران ويجوز عند بعضهم أن يرتفع على الفاعل ، أي فليشهد آخران وأما مفعول (اسْتَحَقَ) فتقدم تقدير الزمخشري أنه استحق عليهم الإثم ، ويعني أنه ضمير عائد على الإثم لأن الإثم محذوف ، لأنه لا يجوز حذف المفعول الذي لم يسم فاعله وقد سبقه أبو عليّ والحوفي إلى هذا التقدير وأجازوا وجهين آخرين.

أحدهما : أن كون التقدير استحق عليهم الإيصاء.

والثاني : أن يكون من الذين استحق عليهم الوصية.

وأما ما ذكره الزمخشري من ارتفاع قوله (الْأَوْلَيانِ) باستحق فقد أجازه أبو علي كما تقدم ثم منعه قال لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئا منها. وأما (الْأَوْلَيانِ) بالميت فلا يجوز أن يستحقا فيسند (اسْتَحَقَ) إليهما إلا أن الزمخشري إنما رفع قوله (الْأَوْلَيانِ) باستحق على تقدير حذف مضاف ناب عنه (الْأَوْلَيانِ) ، فقدره استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال فيسوغ توجيهه.

وأجاز ابن عطية أيضا أن يرتفع (الْأَوْلَيانِ) باستحق وطول في تقرير ذلك وملخصه أنه حمل استحق هنا على الاستعارة بأنه ليس استحقاقا حقيقة لقوله (اسْتَحَقَّا إِثْماً) وإنما معناه أنهم غلبوا على المال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو لأهل دينه فجعل تسورهم عليه استحقاقا مجازا والمعنى من الجماعة التي غابت وكان حقها أن تحضر وليها ، قال فلما غابت وانفرد هذا الموصي استحقت هذه الحال وهذان الشاهدان من غير أهل الدين الولاية وأمر

٣٩٨

الأوليين على هذه الجماعة ثم يبنى الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازا ، ويقوي هذا الغرض أن يعدى الفعل بعلى لما كان باقتدار وحمل هنا على الحال ، ولا يقال استحق منه أو فيه إلا في الاستحقاق الحقيقي على وجهه ، وأما استحق عليه فيقال في الحمل والغلبة والاستحقاق المستعار انتهى.

والضمير في (مَقامَهُما) عائد على شاهدي الزور و (مِنَ الَّذِينَ) هم ولاة الميت. وقال النحاس في قول من قدر الذين استحق عليهم الإيصاء هذا من أحسن ما قيل فيه لأنه لم يجعل حرف بدلا من حرف يعني أنه لم يجعل على بمعنى في ولا بمعنى من ، وقد قيل بهما أي من الذين استحق منهم الإثم لقوله : (إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) (١) أي من الناس استحق عليهم الإثم أي من الناس وأجاز ابن العربي تقدير الإيصاء واختار أبو عبد الله الرازي وابن أبي الفضل أن يكون التقدير من الذين استحق عليهم المال ، قال أبو عبد الله وقد أكثر الناس في أنه لم وصف موالي بهذا الوصف ، وذكروا فيه قولا والأصح عندي فيه وجه واحد وهو أنهم وصفوا بذلك بأنه لما أخذ مالهم استحق عليهم مالهم فإن من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال تعلق ملكه له فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليك ذلك المال انتهى.

و (الْأَوْلَيانِ) بمعنى الأقربين إلى الميت أو الأوليان بالحلف ؛ وذلك أن الوصيين ادعيا أن مورث هذين الشاهدين باعهما الإناء وهما أنكرا ذلك فاليمين حق لهما ، كإنسان أقر لآخر بدين وادعى أنه قضاه فترد اليمين على الذي ادعى أولا لأنه صار مدعى عليه وتلخص في إعراب (الْأَوْلَيانِ) على هذه القراءة وجوه الابتداء والخبر لمبتدأ محذوف والبدل من ضمير (يَقُومانِ) والبدل من آخران والوصف لآخران والمفعولية باستحق على حذف مضاف مختلف في تقديره.

وأما القراءة الثانية وهي بناء (اسْتَحَقَ) للفاعل ورفع الأوليين فقال الزمخشري معناه من الورثة الذين استحق عليهم أوليان من سهم بالشهادة أن يجردوهما لقيام الشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين انتهى.

وقال ابن عطية ما ملخصه (الْأَوْلَيانِ) رفع باستحق وذلك على أن يكون المعنى (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) مالهم وتركهم شاهدا الزور فسميا أوليين أي صيرهما عدم الناس أولى بهذا الميت ، وتركته فجازا فيها ، أو يكون المعنى من الذين حق عليهم أن يكون الأوليان منهم فاستحق بمعنى حق كاستعجب وعجب ، أو يكون (اسْتَحَقَ) بمعنى سعى واستوجب فالمعنى من القوم الذين حضر أوليان منهم فاستحقا عليهم أي استحقا لهم وسعيا فيه واستوجباه بأيمانهما

__________________

(١) سورة المطففين : ٨٣ / ٢.

٣٩٩

وقربانهما انتهى. وقال بعضهم المفعول محذوف أي (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) وصيتهما.

وأما القراءة الثالثة وهي قراءة (اسْتَحَقَ) مبنيا للمفعول والأولين جمع الأول فخرج على أن الأولين وصف للذين ، قال أبو البقاء أو بدل من الضمير المجرور بعلى ، قال الزمخشري أو منصوب على المدح ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها انتهى ؛ وهذا على تفسير أن قوله : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أنهم الأجانب لا أنهم الكفار ، وقال ابن عطية معناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم أي غلبوا عليه ثم وصفهم بأنهم أولون أي في الذكر في هذه الآية وذلك في قوله : (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) انتهى.

وأما القراءة الرابعة وهي قراءة الحسن فالأولان مرفوع باستحق. قال الزمخشري ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعي وهو أبو حنيفة وأصحابه لا يرون ذلك فوجهه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما اختانا فحلفا فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتماه فأنكر الورثة فكان اليمين على الورثة لإنكارهم الشراء.

وأما القراءة الخامسة وهي قراءة ابن سيرين فانتصاب الأوليين على المدح.

(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا) أي فيقسم الآخران القائمان مقام شهادة التحريف أن ما أخبرا به حق والذي ذكرناه من نص القصة أحق مما ذكراه أولا وحرفا فيه وما زدنا على الحد. وقال ابن عباس ليميننا أحق من يمينهما ومن قال الشهادة في أول القصة ليست بمعنى اليمين قال هنا الشهادة يمين وسميت شهادة لأنها يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة. قال ابن الجوزي (أَحَقُ) أصح لكفرهما وإيماننا انتهى.

(إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) ختما بهذه الجملة تبريا من الظلم واستقباحا له وناسب الظلم هنا لقولهما (وَمَا اعْتَدَيْنا) والاعتداء والظلم متقاربان وناسب ختم ما أقسم عليه شاهدا الزور بقوله (لَمِنَ الْآثِمِينَ) لأن عدم مطابقة يمينهما للواقع وكتمهما الشهادة يجران إليهما الإثم.

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي ذلك الحكم السابق ولما كان الشاهدان لهما حالتان : حالة يرتاب فيها إذا شهدا ، فإذ ذاك يحبسان بعد الصلاة ويحلفان اليمين المشروعة في الآية قوبلت هذه الحالة بقوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أي على ما شهدا حقيقة دون إنكار ولا تحريف ولا

٤٠٠