البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧١٠

قراءة الجماعة أتت على خلاف نظائرها في القرآن لأن كل ما يحمل على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة إنما يبتدأ أولا بالحمل على اللفظ ، ثم بليه الحمل على معنى نحو (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) (١) ثم قال : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) (٢) هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب. وهذه الآية تقدم فيها الحمل على المعنى فقال : (خالِصَةٌ) ثم حمل على اللفظ فقال : و (مُحَرَّمٌ) ومثله كل ذلك كان سيئة في قراءة نافع ومن تابعه فأنث على معنى كل لأنها اسم لجمع ما تقدّم مما نهي عنه من الخطايا ، ثم قال : (عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) (٣) فذكر على لفظ كل ، وكذلك (ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) (٤) حملا على ما ، ووحد الهاء حملا على لفظ ما.

وحكي عن العرب هذا الجراد قد ذهب فأراحنا من أنفسه جمع الأنفس ووحد الهاء وذكرها انتهى وفيه بعض تلخيص. ومن ذهب إلى أن الهاء للمبالغة أو التي في المصدر كالعافية فلا يكون التأنيث حملا على معنى ما ، وعلى تسليم أنه حمل على المعنى فلا يتعين أن يكون بدأ أولا بالحمل على المعنى ثم بالجمل على اللفظ لأن صلة ما متعلقة بفعل محذوف وذلك الفعل مسند إلى ضمير ما ولا يتعين أن يكون وقالوا : ما استقرت في بطون الأنعام ، بل الظاهر أن يكون التقدير ما استقر فيكون حمل أولا على التذكير ثم ثانيا على التأنيث ، وإذا احتمل هذا الوجه وهو الراجح لم يكن دليلا على أنه بدأ بالحمل على التأنيث أولا ثم بالحمل على اللفظ وقول مكي هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب ، أما القرآن فكذلك هو ، وأما كلام العرب فجاء فيه الحمل على اللفظ أولا ثم على المعنى وهو الأكثر وجاء الحمل على المعنى أولا ثم على اللفظ ، وأما قوله : ومثله كل ذلك كان سيئة فليس مثله ، بل حمل أولا على اللفظ في قوله : كان ألا ترى أنه أعاد الضمير مذكرا ثم على المعنى فقال : سيئة وأما قوله : وكذلك ما تركبون فليس مثله ، لأنه يحتمل أن يكون التقدير ما تركبونه فيكون قد حمل أولا على اللفظ ثم على المعنى في قوله : ظهوره ثم على اللفظ في إفراد الضمير ، وأما هذا الجراد قد ذهب فقد حمل أولا على إفراد الضمير على اللفظ ثم جمع على المعنى ثم على اللفظ في إفراد الضمير ، ومعنى لأزواجنا : لنسائنا أي معدّة أن تكون أزواجا قاله مجاهد. وقال ابن زيد : لبناتنا.

(وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) كانوا إذا خرج الجنين ميتا اشترك في أكله الرجال والنساء ، وكذلك ما مات من الأنعام الموقوفة نفسها. وقرأ أبو بكر : وإن تكن بتاء التأنيث

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٦٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٧٤.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٣٨.

(٤) الزخرف : ٤٣ / ١٢ ، ١٣.

٦٦١

(مَيْتَةً) بالنصب أي وإن تكن الأجنة التي تخرج ميتة. وقرأ ابن كثير : وإن يكن (مَيْتَةً) بالتذكير وبالرفع على كان التامة وأجاز الأخفش أن تكون الناقصة وجعل الخبر محذوفا التقدير وإن تكن في بطونها ميتة وفيه بعد. وقال الزمخشري : وقرأ أهل مكة وإن تكن (مَيْتَةً) بالتأنيث والرفع ؛ انتهى. فإن عنى ابن كثير فهو وهم وإن عنى غيره من أهل مكة فيمكن أن يكون نقلا صحيحا وهذه القراءة التي عزاها الزمخشري لأهل مكة هي قراءة ابن عامر. وقرأ باقي السبعة (وَإِنْ يَكُنْ) التذكير (مَيْتَةً) بالنصب على تقدير وإن يكن ما في بطونها ميتة. قال أبو عمرو بن العلاء : ويقوي هذه القراءة قوله : (فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) ولم يقل فيها ؛ انتهى.

وهذا ليس بجيد لأن الميتة لكل ميت ذكرا كان أو أنثى فكأنه قيل : وإن يكن ميتا (فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ). وقرأ يزيد : ميتة بالتشديد. وقرأ عبد الله (فَهُمْ فِيهِ) سواء.

(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) أي جزاء (وَصْفَهُمْ) الكذب على الله في التحليل والتحريم من قوله (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) (١).

(إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي (حَكِيمٌ) في عذابهم (عَلِيمٌ) بأحوالهم.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم وكان بعض ربيعة ومضر يئدوهنّ وهو دفنهن أحياء ، فبعضهم يئد خوف العيلة والإقتار وبعضهم خوف السبي فنزلت هذه الآية. في ذلك إخبارا بخسران فاعل ذلك ولما تقدّم تزيين قتل الأولاد وتحريم ما حرموه في قولهم (هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) جاء هنا تقديم قتل الأولاد وتلاه التحريم وفي قوله : (سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) إشارة إلى خفة عقولهم وجهلهم بأن الله هو الرزاق والمقدّر السبي وغيره ، ما رزقهم الله إظهار لإباحته لهم فقابلوا إباحة الله بتحريمهم هم وما رزقهم الله يعم السوائب والبحائر والزروع ، وترتب على قتلهم أولادهم الخسران معللا بالسفه والجهل وعلى تحريم (ما رَزَقَهُمُ) الخسران معللا بالافتراء ثم الإخبار بالضلال وانتفاء الهداية ؛ وكل واحدة من هذه السبعة سبب تام في حصول الذم فأما الخسران فلأن الولد نعمة عظيمة من الله فإذا سعى في إبطال تلك النعمة والهبة فقد خسر واستحق الذم في الدنيا بقولهم : قتل ولده خوف أن يأكل معه وفي الآخرة العقاب لأن ثمرة الولد المحبة ،

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ١١٦.

٦٦٢

ومع حصولها ألحق به أعظم المضار وهو القتل كان أعظم الذنوب فيستحق أعظم العقاب ، وأما السفه وهي الخفة المذمومة فقتل الولد لخوف الفقر وإن كان ضررا فالقتل أعظم منه ؛ وأيضا فالقتل ناجز والفقر موهوم ، وأما الجهل فيتولد عنه السفاهة والجهل أعظم القبائح ، وأما تحريم ما أحل الله فهو من أعظم الجنايات وأما الافتراء فجراءة على الله وهو من أعظم الذنوب ، وأما الضلال فهو أن لا يرشدوا في مصالح الدنيا ولا الآخرة ، وأما انتفاء الهداية فتنبيه على أنهم لم يكونوا قط فيما سلكوه من ذلك ذوي هداية. وقرأ الحسن والسلمي وأهل مكة والشام ومنهما ابن كثير وابن عامر : (قَتَلُوا) بالتشديد. وقرأ اليماني سفهاء على الجمع.

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ

٦٦٣

وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢)

الزرع : الحب المقتات : الحصاد : بفتح الحاء وكسرها كالجذاذ بالفتح والكسر وهو مصدر حصد ومصدره أيضا حصد وهو القياس. وقال سيبويه : جاؤوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على فعال وربما قالوا فيه فعال. وقال الفراء : الكسر للحجاز والفتح لنجد وتميم. الحمولة : الإبل التي تحمل الأحمال على ظهورها قاله أبو الهيثم ، ولا يدخل فيها البغال ولا الحمير وأدخل بعضهم فيها البقر إذ من عادة بعض الناس الحمل عليها. الفرش : الغنم. وقال الزجاج : أجمع أهل اللغة على أن الفرش صغار الإبل وأنشد الشاعر :

٦٦٤

أورثني حمولة وفرشا

أمشها في كل يوم مشا

وقال آخر :

وحوينا الفرش من أنعامكم

والحمولات وربات الحجل

والفرش : مشترك بين صغار الإبل. قال أبو زيد : ويحتمل إن سميت بالمصدر وهي المفروش من متاع البيت والزرع إذا فرش والفضاء الواسع واتساع خف البعير قليلا والأرض الملساء ، عن أبي عمرو وفرش النعل وفراش الطائر ونبت يلتصق بالأرض. قال الشاعر :

كمشفر الناب يلوك الفرشا

ويأتي ذكر الاختلاف في الحمولة والفرش إن شاء الله. الإبل الجمال للواحد والجمع ، ويجمع على آبال وتأبل الرجل اتخذ إبلا وقولهم : ما آبل الرجل في التعجب شاذا. الضأن : معروف بسكون الهمزة وفتحها ويقال : ضئين وكلاهما اسم جمع لضائنة وضائن. المعز : معروف بسكون العين وفتحها ويقال : معيز ومعزى وأمعوز وهي أسماء جموع لماعزة وماعز. السفح : الصب مصدر سفح يسفح والسفح موضع. الظفر : معروف وهو بضم الظاء والفاء وبسكون الفاء وبكسرهما وبسكون الفاء ، وأظفور وجمع الثلاثي أظفار وجمع أظفور أظافير وأظافر ورجل أظفر طويل الأظفار. الشحم : معروف. الحوايا : إن قدر وزنها فواعل فجمع حاوية كراوية وروايا أو جمع حاوياء كقاصعاء وقواصع ، وإن قدر وزنها فعائل فجمع حوية كمطية ومطايا وتقرير صيرورة ذلك إلى حوايا مذكور في علم التصريف وهي الدوّارة التي تكون في بطون الشياه ويأتي خلاف المفسرين فيها إن شاء الله تعالى.

هلمّ : لغة الحجاز أنها لا تلحقها الضمائر بل تكون هكذا للمفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث فهي عند النحويين اسم فعل ولغة بني تميم لحاق الضمائر على حدّ لحوقها للفعيل ، فهي عند معظم النحويين فعل لا تتصرف والتزمت العرب فتح الميم في اللغة الحجازية وإذا كان أمرا للواحد المذكر في اللغة التميمية فلا يجوز فيها ما جاز في ردّ ، ومذهب البصريين أنها مركبة من ها التي للتنبيه ومن ألمم ومذهب الفراء من هل وأمّ وتقول للمؤنثات هلممن. وحكى الفراء هلمين وتكون متعدّية بمعنى أحضر ولازمة بمعنى أقبل. الإملاق : الفقر قاله ابن عباس وغيره ، يقال : أملق الرجل إذا افتقر ويشبه أن يكون كأرمل أي لم يبق له شيء إلا الملق وهي الحجارة السود وهي الملقة ولم يبق له إلا الرمل والتراب. وقال مؤرج : هو الجوع بلغة لخم. وقال منذر بن سعيد : هو الإنفاق أملق

٦٦٥

ماله أي أنفقه. وقال محمد بن نعيم الترمذي : هو الإسراف في الإنفاق. الكيل : مصدر كال وكال معروف ، ثم يطلق على الآلة التي يكال بها كالمكيال. الميزان : مفعال من الوزن وهو آلة الوزن كالمنقاش والمضراب والمصباح ، وتختلف أشكاله باختلاف الأقاليم كالمكيال.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أخبر عنهم أنه حرموا أشياء مما رزقهم الله ، أخذ يذكر تعالى ما امتنّ به عليهم من الرزق الذي تصرّفوا فيه بغير إذنه تعالى افتراء منهم عليه واختلافا فذكر نوعي الرزق النباتي والحيواني فبدأ بالنباتي كما بدأ به في الآية المشبهة لهذا ، واستطرد منه إلى الحيواني إذ كانوا قد حرّموا أشياء من النوعين و (مَعْرُوشاتٍ) اسم مفعول يقال : عرّشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكا ينعطف عليه القضبان. وهل المعروشات ما غرسه الناس وعرّشوه وغيرها ما نبت في الصحارى والبراري؟ وهو قول ابن عباس ، أو كل شجر ذي ساق كالنخل والكرم وكل ما نجم غير ذي ساق كالزرع أو ما يثمر وما لا يثمر أو الكرم قسمت إلى ما عرش فارتفع وإلى ما كان منها منبسطا على الأرض؟ قاله ابن عباس ، أو ما حوله حائط وما لا حائط حوله وما انبسط على وجه الأرض وانتشر كالكرم والقرع والبطيخ ، وما قام على ساق كالنخل والزرع والأشجار قاله ابن عباس ، أو الكرم الذي عرش عنبه وسائر الشجر الذي لا يعرش أو ما يرتفع بعض أغصانه على بعض وما لا يحتاج إلى ذلك ، أو ما عادته أن يعرش كالكرم وما يجري مجراه وما لا يعرش كالنخل وما أشبهه؟ تسعة أقوال : والظاهر أن المعروش ما جعل له عرش كرما كان أو غيره ، وغير المعروش ما لم يجعل له ذلك ، ولما كانت هذه الآية واردة في معنى ذكر المنة والإحسان قدم ما حاجة العرب إليه أشد وما هو أكثر فيه ، كما قال تعالى : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) (١) وهو غالب قوتهم ، فقال : (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ).

ولما كانت تلك الآية جاءت عقب إنكار الكفار التوحيد وجعلهم معه آلهة ، استطرد من ذلك إلى المعاد الأخروي واستدل عليه بقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) فاندرج فيه (النَّخْلَ وَالزَّرْعَ) كان الابتداء في التقسيم بذكر الزرع لصغر حبه وهو أدل على التوحيد والقدرة التامّة وأبلغ في الاعتبار وأسرع في الانتفاع

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٧.

٦٦٦

من ما هو فوقه في الجرم ، والظاهر دخول (وَالنَّخْلَ) وما بعده في قوله : (جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) فاندرج في (جَنَّاتٍ) وخص بالذكر وجرد تعظيما لمنفعته والامتنان به ، ومن خص الجنات بقسمها بالكرم قال : ذكر النخل وما بعده ذكر أنواع أخبر تعالى بأنه أنشأها واختلاف أكله وهو المأكول ، هو بأن كل نوع من أنواع النخل والزرع طعما ولونا وحجما ورائحة يخالف به النوع الآخر والمعنى مختلفا أكل ثمره وانتصب مختلفا على أنه حال مقدرة ، لأنه لم يكن وقت الإنشاء مختلفا. وقيل : هي حال مقارنة وذلك بتقدير حذف مضاف قبله تقديره وثمر النخل وحب الزرع والضمير في (أُكُلُهُ) عائد على (النَّخْلَ وَالزَّرْعَ) وأفرد لدخوله في حكمه بالعطفية قال معناه الزمخشري وليس بجيد لأن العطف بالواو لا يجوز إفراد ضمير المتعاطفين. وقال الحوفي : والهاء في (أُكُلُهُ) عائدة على ما تقدّم من ذكر هذه الأشياء المنشآت ؛ انتهى. وعلى هذا لا يكون ذو الحال (النَّخْلَ وَالزَّرْعَ) فقط بل جميع ما أنشأ لاشتراكها كلها في اختلاف المأكول ، ولو كان كما زعم لكان التركيب مختلفا أكلها إلا أن أخذ ذلك على حذف مضاف أي ثمر جنات وروعي هذا المحذوف فقيل : (أُكُلُهُ) بالإفراد على مراعاته فيكون ذلك نحو قوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ) (١) أو كذي ظلمات ، ولذلك أعاد الضمير في (يَغْشاهُ) عليه ، والظاهر عوده على أقرب مذكور وهو (الزَّرْعَ) ويكون قد حذفت حال (النَّخْلَ) لدلالة هذه الحال عليها ، التقدير والنخل مختلفا أكله والزرع مختلفا أكله كما تأول بعضهم في قولهم : زيد وعمرو قائم أي زيد قائم وعمرو قائم ، ويحتمل أن يكون الحال مختصة بالزرع لأن أنواعه مختلفة الشكل جدّا كالقمح والشعير والذرة والقطينة والسلت والعدس والجلبان والأرز وغير ذلك ، بخلاف النخل فإن الثمر لا يختلف شكله إلا بالصغر والكبر ، وتقدّم الكلام على قوله : (الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) فأغني عن إعادته.

(كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) لما كان مجيء تلك الآية في معرض الاستدلال بها على الصانع وقدرته والحشر وإعادة الأرواح إلى الأجساد بعد العدم وإبراز الجسد وتكوينه من العظم الرميم وهو عجب الذنب ، قال : انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إشارة إلى الإيجاد أولا وإلى غايته وهنا لما كان معرض الغاية الامتنان وإظهار الإحسان بما خلق لنا قال : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) فحصل بمجموعهما الحياة الأبدية السرمدية والحياة الدنيوية السريعة

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٤٠.

٦٦٧

الانقضاء ، وتقدّم النظر وهو الفكر على الأكل لهذا السبب وهذا أمر بإباحة الأكل ويستدل به على أن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق وقيده بقوله : (إِذا أَثْمَرَ) وإن كان من المعلوم أنه إذا لم يثمر فلا أكل تنبيها على أنه لا ينتظر به محل إدراكه واستوائه ، بل متى أمكن الأكل منه فعل.

(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) والذي يظهر عود الضمير على ما عاد عليه من ثمره وهو جميع ما تقدّم ذكره مما يمكن أن يؤكل إذا أثمر. وقيل : يعود على (النَّخْلَ) لأنه ليس في الآية ما يجب أن يؤتى حقه عند جذاذه إلا النخل. وقيل : يعود على (الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) لأنهما أقرب مذكور. وأفرد الضمير للوجوه التي ذكرناها في قوله (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَآتُوا) أمر على الوجوب وتقدّم الأمر بالأكل على الأمر بالصدقة ، لأن تقدم منفعة الإنسان بما يملكه في خاصة نفسه مترجحة على منفعة غيره كما قال تعالى : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) (١) «وأحسن كما أحسن الله إليك وابدأ بنفسك ثم بمن تعول ، إنما الصدقة عن ظهر غنى». والحق هنا مجمل واختلف فيه أهو الزكاة أم غيرها؟ فقال ابن عباس وأنس بن مالك والحسن وطاوس وجابر بن زيد وابن المسيب وقتادة ومحمد بن الحنفية وابن طاوس والضحاك وزيد بن أسلم وابنه ومالك بن أنس : هو الزكاة واعترض هذا القول بأن السورة مكية وهذه الآية على قول الجمهور غير مستثناة. وحكى الزجاج : أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة. وقال محمد بن علي بن الحسين وهو الباقر وعطاء وحماد ومجاهد وإبراهيم وابن جبير ومحمد بن كعب والربيع بن أنس ويزيد بن الأصم والحكم : هو حق غير الزكاة. وقال مجاهد : إذا حضر المساكين فاطرح لهم عند الجذاذ وعند التكديس وعند الدرس وعند التصفية ، وعنه أيضا كانوا يعلقون العذق عند الصرام فيأكل منه من مس. وعن إبراهيم هو الضغث يطرحه للمساكين ولفظ ما يسقط منك من السنبل لا يمنعهم منه.

وروي عن ابن عباس وابن الحنفية وإبراهيم والحسن وعطية العوفي والسدّي : أنها منسوخة نسخها العشر ونصف العشر. قال سفيان : قلت للسدّي نسخها عن من قال عن العلماء. وقال أبو جعفر النحاس ما ملخصه : هل أريد بها الزكاة أو نسخت بالزكاة المفروضة أو بالعشر ونصف العشر أو هي محكمة يراد بها غير الزكاة أو ذلك على الندب؟ خمسة أقوال : وإذا كان معنيا به الزكاة فالظاهر إخراجه من كل ما سبق ذكره ، فيعم جميع ما

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٧٧.

٦٦٨

أخرجته الأرض وبه قال أبو حنيفة وزفر إلا الحطب والقصب والحشيش. وقال أبو يوسف ومحمد : لا شيء فيما أخرجته الأرض إلا ما كان له ثمرة باقية. وقال مالك : الزكاة في الثمار والحبوب فمن الثمار العنب والزيتون ومن الحب القمح والشعير والسلت والذرة والدخن والحمص والعدس واللوبياء والجلبان والأرز وما أشبه ذلك إذا كان خمسة أوسق. وقال الشافعي وأبو ثور : يجب في يابس مقتات مدخر لا في زيتون لأنه إدام. وقال الثوري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المبارك ويحيى بن آدم : لا يجب إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وعن أحمد أقوال : أظهرها : كمذهب أبي حنيفة إذا كان يوثق فأوجبها في اللوز لأنه مكيل ولم يوجبها في الجوز لأنه معدود. وروي عن جماعة من السلف منهم عمرو بن دينار لا صدقة في الخضر. وعن ابن عباس : كان يأخذ من دساتيح الكراث العشر بالبصرة. وعن إبراهيم في كل ما أخرجت الأرض حتى في كل عشر دساتح من بقل واحد. وقال الزهري والحسن : يزكى اثنان الخضر والفواكه إذا أينعت وبلغ ثمنها مائتي درهم ، وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه.

وأما مقدار ما يجب فيه الزكاة فقال أبو حنيفة : في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره. وقال مالك والليث وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد والشافعي : لا يخرج حتى يبلغ خمسة أوسق إذا كان مكيلا فإن كان غير مكيل ، فعن أبي يوسف ومحمد : اختلاف فيما يعتبر وذكروا هنا فروعا قالوا : لا زكاة عند أصحاب مالك في الجوز واللوز والحلوز وما أشبهها وإن كان مدّخرا ، كما لا زكاة عندهم في الإجاص والتفاح والكمثرى والمشمش ونحوه مما ييبس ولا يدخر ، وعدّ مالك التين في الفواكه. وقال ابن حبيب : فيه الزكاة وإليه ذهب جماعة من أتباع مالك إسماعيل بن إسحاق وأبو بكر الأبهري وغيرهم. وقال مالك : لا زكاة في الزيتون. وقال هو والشافعي ولا في الرمان. وقال الزهري والأوزاعي والثوري والليث : تجب الزكاة في الزيتون. وعن مالك لا يخرص الزيتون ولكن يؤخذ العشر من زيته إذا بلغ مكيله خمسة أوسق. وأبو حنيفة في هذه كلها على أصله وما خصصوه به من عموم الآية يحتاج إلى دليل ، والأدلة مذكورة في كتب الفقهاء. والظاهر أن (يَوْمَ حَصادِهِ) معمول لقوله : (وَآتُوا) والمعنى واقصدوا الإيتاء واهتموا به وقت الحصاد فلا يؤخر عن وقت إمكان الإيتاء فيه. ويجوز أن يكون معمولا لقوله : (حَقَّهُ) أي (وَآتُوا) ما استحق (يَوْمَ حَصادِهِ) فيكون الاستحقاق بإيتاء يوم الحصاد والأداء بعد التصفية ولذلك قال بعضهم : في الكلام محذوف تقدره (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) إلى تصفيته قال : فيكون الحصاد سببا للوجوب

٦٦٩

الموسع والتصفية سبب للأداء ، والظاهر وجوب إخراج الحق منه كله ما أكل صاحبه وأهله منه وما تركوه وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال جماعة : لا يدخل ما أكل هو وأهله منه في الحق ، والظاهر أنه أمر بأن يؤتى (حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فلا يخرص عليه. قال النخعي : الخرص اليوم بدعة. وقال الثوري : الخرص غير مستعمل ولا يجوز بحال وإنما على رب الحائط أن يؤدّي عشر ما يصل في يده للمساكين إذا بلغ خمسة أوسق. وقرأ العربيان وعاصم : حصاده بفتح الحاء. وقرأ باقي السبعة بكسرها.

(وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) لما أمر تعالى بالأكل من ثماره وبإيتاء حقه ، نهى عن مجاوزة الحد فقال : (لا تُسْرِفُوا) وهذا النهي يتضمن إفراد الإسراف فيدخل فيه الإسراف في أكل الثمرة حتى لا يبقى منها شيء للزكاة ، والإسراف في الصدقة بها حتى لا يبقى لنفسه ولا لعياله شيئا وقيده أبو العالية وابن جريج بالصدقة بجميع المال فيبقى هو وعياله كلّا على الناس. وقال ابن جريج : أيضا : هو نهي في الأكل فيأكل حتى لا يبقى ما تجب فيه. وقال الزهري : هو نهي عن النفقة في المعصية. وقيل : في صرف الصدقة إلى غير الجهة التي افترضت ، كما صرف المشركون إلى جهة أصنامهم. وقيل : نهي للعاملين على الصدقة عن أخذ الزائد. وروي عن ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس جذ خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا فنزلت (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تعطوا كله ، وعن ابن جريج جذ معاذ بن جبل فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منها شيئا فنزلت (لا تُسْرِفُوا). وقال أبو العالية : كانوا يعطون شيئا عند الجذاذ فتماروا فيه فأسرفوا فنزلت. وقال مجاهد : لو كان أبو قبيس لرجل ذهبا فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما واحدا في معصية الله كان مسرفا. وقال إياس بن معاوية : كل ما جاوزت فيه أمر الله فهو سرف.

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) هذا معطوف على (جَنَّاتٍ) أي وأنشأ (مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) وهل الحمولة ما قاله ابن عباس ما حمل عليه من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير والفرش الغنم؟ أو ما قاله أيضا ما انتفع به من ظهورها والفرش الراعية؟ أو ما قاله ابن مسعود والحسن ومجاهد وابن قتيبة : ما حمل من الإبل والفرش صغارها؟ أو ما قاله الحسن أيضا : الإبل والفرش الغنم؟ أو ما قاله ابن زيد : ما يركب والفرش ما يؤكل لحمه ويجلب من الغنم والفصلان والعجاجيل؟ أو ما قاله الماتريدي : مراكب النساء والفرش ما يكون للنساء أو ما قاله أيضا : كل شيء من الحيوان وغيره يقال له فرش؟ تقول

٦٧٠

العرب : أفرشه الله كذا أي جعله له أو ما قاله بعضهم : ما كان معدّا للحمل من الحيوانات ، والفرش : ما خلق لهم من أصوافها وجلودها التي يفترشونها ويجلسون عليها ، أو ما يحمل الأثقال. والفرش : ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش. أو ما قاله الضحاك : واختاره النحاس الإبل والبقر والفرش الغنم ورجح هذا بإبدال ثمانية أزواج منه عشرة أقوال ، وقدّم الحمولة على الفرش لأنها أعظم في الانتفاع إذ ينتفع بها في الحمل والأكل.

(كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي مما أحله الله لكم ولا تحرموا كفعل الجاهلية وهذا نص في الإجابة وإزالة لما سنه الكفار من البحيرة والسائبة.

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي في التحليل والتحريم من عند أنفسكم وتعلقت بها المعتزلة في أن الحرام ليس برزق وتقدّم تفسير (وَلا تَتَّبِعُوا) (١) إلى آخره في البقرة.

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) تقدّم تفسير المشركين فيما أحلوا وما حرموا ونسبتهم ذلك إلى الله ، فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان خطيبهم مالك بن عوف بن أبي الأحوص الجشمي فقال : يا محمد بلغنا أنك تحل أشياء فقال له : «إنكم قد حرمتم أشياء على غير أصل ، وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها فمن أين جاء هذا التحريم أمن قبل الذكر أم من قبل الأنثى»؟ فسكت مالك بن عوف وتحير ؛ فلو علل بالذكورة وجب أن يحرم الذكر أو بالأنوثة فكذلك أو باشتمال الرحم وجب أن يحرما لاشتمالها عليهما ، فأما تخصيص التحريم بالولد الخامس أو السابع أو ببعض دون بعض فمن أين؟ وروي أنه قال لمالك : «ما لك لا تتكلم». فقال له مالك : بل تكلم وأسمع منك. والزوج ما كان مع آخر من جنسه وهما زوجان قال : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٢) فإن كان وحده فهو فرد ويعني باثنين ذكرا وأنثى أي كبشا ونعجة وتيسا وعنزا وهذا الاستفهام هو استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع ، حيث نسبوا ما حرموه إلى الله تعالى وكانوا مرة يحرمون الذكور ومرة الإناث ومرة أولادها ذكورا أو إناثا أو مختلطة ، فبين تعالى أن هذا التقسيم هو من قبل أنفسهم لا من قبله تعالى وانتصب (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) على البدل في قول الأكثرين من قوله : (حَمُولَةً وَفَرْشاً) وهو الظاهر. وأجازوا نصبه ب (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) وهو قول

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٦٨.

(٢) سورة النجم : ٥٣ / ٤٥.

٦٧١

عليّ بن سليمان وقدره كلوا لحم ثمانية وبأنشأ مضمرة قاله الكسائي ، وعلى البدل من موضع ما من قوله : (مِمَّا رَزَقَكُمُ) وب (كُلُوا) مضمرة وعلى أنها حال أي مختلفة متعددة. وقرأ طلحة بن مصرّف والحسن وعيسى بن عمر : (مِنَ الضَّأْنِ) بفتح الهمزة. وقرأ الابنان وأبو عمرو : (وَمِنَ الْمَعْزِ) بفتح العين. وقرأ أبي ومن المعزى. وقرأ أبان بن عثمان : اثنان بالرفع على الابتداء والخبر المقدم وتقديم المفعول وتأخير الفعل دل على وقوع تحريمهم الذكور تارة والإناث أخرى ، وما اشتملت عليه الرحم أخرى ، فأنكر تعالى ذلك عليهم حيث نسبوه إليه تعالى فقال : (حَرَّمَ) أي حرم الله أي لم يحرم تعالى شيئا من ذلك لا ذكورها ولا إناثها ولا مما تحمله أرحام إناثهما ، وقدم في التقسيم الفرش على الحمولة لقرب الذكر وهما طريقان للعرب تارة يراعون القرب وتارة يراعون التقديم ، ولأنهما أيسر ما يتملكه ويقتنيه الفقير والغني كما قال الشاعر :

ألا إن لا تكن إبل فمعزى

وقدّم الضأن على المعز لغلاء ثمنه وطيب لحمه وعظم الانتفاع بصوفه.

(نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في نسبة ذلك التحريم إلى الله ، فأخبروني عن الله بعلم لا بافتراء ولا بتخرص وأنتم لا علم لكم بذلك إذ لم يأتكم بذلك وحي من الله تعالى ، فلا يمكن منكم تنبئة بذلك وفصل بهذه الجملة المعترضة بين المتعاطفين على سبيل التقريع لهم والتوبيخ حيث لم يستندوا في تحريمهم إلا إلى الكذب البحت والافتراء.

(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) انتقل من توبيخهم في نفي علمهم بذلك إلى توبيخهم في نفي شهادتهم ذلك وقت توصية الله إياهم بذلك ، لأن مدرك الأشياء المعقول والمحسوس فإذا انتفيا فكيف يحكم بتحليل أو بتحريم؟ وكيفية انتفاء الشهادة منهم واضحة وكيفية انتفاء العلم بالعقل إن ذلك مستند إلى الوحي وكانوا لا يصدّقون بالرسل ، ومع انتفاء هذين كانوا يقولون : إن الله حرم كذا افتراء عليه. قال الزمخشري : فتهكم بهم في قوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) (١) على معنى أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل ؛ انتهى. وقدم الإبل على البقر

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٣٣.

٦٧٢

لأنها أغلى ثمنا وأغنى نفعا في الرحلة ، وحمل الأثقال عليها وأصبر على الجوع والعطش وأطوع وأكثر انقيادا في الإناخة والإثارة.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فنسب إليه تحريم ما لم يحرمه الله تعالى ، فلم يقتصر على افتراء الكذب في حق نفسه وضلالها حتى قصد بذلك ضلال غيره فسنّ هذه السنة الشنعاء وغايته بها إضلال الناس فعليه وزرها ووزر من عمل بها.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) نفى هداية من وجد منه الظلم وكان من فيه الأظلمية أولى بأن لا يهديه وهذا عموم في الظاهر ، وقد تبين تخصيصه من ما يقتضيه الشرع.

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) لما ذكر أنهم حرموا ما حرموا افتراء على الله ، أمره تعالى أن يخبرهم بأن مدرك التحريم إنما هو بالوحي من الله تعالى وبشرعه لا بما تهوى الأنفس وما تختلقه على الله تعالى ، وجاء الترتيب هنا كالترتيب الذي في البقرة والمائدة وجاء هنا هذه المحرمات منكرة والدم موصوف بقوله : (مَسْفُوحاً) والفسق موصوفا بقوله : (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وفي تينك السورتين معرفا لأن هذه السورة مكية فعلق بالتنكير ، وتانك السورتان مدنيتان فجاءت تلك الأسماء معارف بالعهد حوالة على ما سبق تنزيله في هذه السورة. وروي عن ابن عامر فى ما أوحى بفتح الهمزة والحاء جعله فعلا ماضيا مبنيا للفاعل و (مُحَرَّماً) صفة لمحذوف تقديره مطعوما ودل عليه قوله (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) ويطعمه صفة لطاعم.

وقرأ الباقر (يَطْعَمُهُ) بتشديد الطاء وكسر العين والأصل يطتعمه أبدلت تاؤه طاء وأدغمت فيها فاء الكلمة. وقرأت عائشة وأصحاب عبد الله ومحمد بن الحنفية تطعمه بفعل ماض وإلا أن يكون استثناء منقطع لأنه كون وما قبله عين ، ويجوز أن يكون نصبه بدلا على لغة تميم ونصبا على الاستثناء على لغة الحجاز. وقرأ الابنان وحمزة إلا أن تكون بالتاء وابن كثير وحمزة (مَيْتَةً) بالنصب واسم (يَكُونَ) مضمر يعود على قوله : (مُحَرَّماً) وأنث لتأنيث الخبر. وقرأ ابن عامر (مَيْتَةً) بالرفع جعل كان تامة. وقرأ الباقون بالياء ونصب (مَيْتَةً) واسم كان ضمير مذكر يعود على (مُحَرَّماً) أي (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) المحرم (مَيْتَةً)

٦٧٣

وعلى قراءة ابن عامر وهي قراءة أبي جعفر فيما ذكر مكي يكون قوله : (أَوْ دَماً) معطوفا على موضع (أَنْ يَكُونَ) وعلى قراءة غيره ، يكون معطوفا على قوله : (مَيْتَةً) ومعنى (مَسْفُوحاً) مصبوبا سائلا كالدم في العروق لا كالطحال والكبد ، وقد رخص في دم العروق بعد الذبح. وقيل لأبي مجلز : القدر تعلوها الحمرة من الدم. فقال : إنما حرم الله تعالى المسفوح وقالت نحوه عائشة وعليه إجماع العلماء. وقيل : الدم حرام لأنه إذا زايل فقد سفح. والظاهر أن الضمير في (فَإِنَّهُ) عائد على (لَحْمَ خِنزِيرٍ) وزعم أبو محمد بن حزم أنه عائد على (خِنزِيرٍ) فإنه أقرب مذكور ، وإذا احتمل الضمير العود على شيئين كان عوده على الأقرب أرجح وعورض بأن المحدث عنه إنما هو اللحم ، وجاء ذكر الخنزير على سبيل الإضافة إليه لا أنه هو المحدث عنه المعطوف ، ويمكن أن يقال : ذكر اللحم تنبيها على أنه أعظم ما ينتفع به من الخنزير وإن كان سائره مشاركا له في التحريم بالتنصيص على العلة من كونه رجسا أو لإطلاق الأكثر على كله أو الأصل على التابع لأن الشحم وغيره تابع للحم.

واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة؟ وهو قول الشعبي وابن جبير فعلى هذا لا شيء محرم من الحيوان إلا فيها وليس هذا مذهب الجمهور. وقيل : هي منسوخة بآية المائدة ، وينبغي أن يفهم هذا النسخ بأنه نسخ للحصر فقط. وقيل : جميع ما حرم داخل في الاستثناء سواء كان بنص قرآن أو حديث عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاشتراك في العلة التي هي الرجسية والذي نقوله : إن الآية مكية وجاءت عقيب قوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) وكان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي من هذه الثمانية ، فالآية محكمة وأخبر فيها أنه لم يجد فيما أوحي إليه إذ ذاك من القرآن سوى ما ذكر ولذلك أتت صلة (ما) جملة مصدرة بالفعل الماضي فجميع ما حرّم بالمدينة لم يكن إذ ذاك سبق منه وحي فيه بمكة فلا تعارض بين ما حرم بالمدينة وبين ما أخبر أنه أوحي إليه بمكة تحريمه ، وذكر الخنزير وإن لم يكن من ثمانية الأزواج لأن من الناس من كان يأكله إذ ذاك ولأنه أشبه شيء بثمانية الأزواج في كونه ليس سبعا مفترسا يأكل اللحوم ويتغذى بها ، وإنما هو من نمط الثمانية في كونه يعيش بالنبات ويرعى كما ترعى الثمانية.

وذكر المفسرون هنا أشياء مما اختلف أهل العلم فيه ونلخص من ذلك شيئا ، فنقول : أما الحمر الأهلية فذهب الشعبي وابن جبير إلى أنه لا يجوز أكلها ، وأن تحريم الرسول لها إنما كان لعلة ، وأما لحوم الخيل فاختلف فيها السلف وأباحها الشافعي وابن حنبل وأبو

٦٧٤

يوسف ومحمد بن الحسن ، وعن أبي حنيفة الكراهة. فقيل : كراهة تنزيه. وقيل : كراهة تحريم وهو قول مالك والأوزاعي والحكم بن عيينة وأبي عبيد وأبي بكر الأصم وقال به من التابعين مجاهد ومن الصحابة ابن عباس ، وروي عنه خلافه وقد صنف في حكم لحوم الخيل جزءا قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن ابراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي رحمه‌الله قرأناه عليه وأجمعوا على تحريم البغال ، وأما الحمار الوحشي إذا تأنس فذهب أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والشافعي إلى جواز أكله وروى ابن القاسم عن مالك أنه إذا دجن وصار يعمل عليه كما يعمل على الأهلي أنه لا يؤكل. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد : لا يحل أكل ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير. وقال مالك : لا يؤكل سباع الوحش ولا البر وحشيا كان أو أهليا ولا الثعلب ولا الضبع ولا بأس بأكل سباع الطير الرخم والعقاب والنسور وغيرها ما أكل الجيفة وما لم يأكل. وقال الأوزاعي : الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم. وقال الشافعي : ما عدا على الناس من ذي الناب كالأسد والذئب والنمر وعلى الطيور من ذي المخلب كالنسر والبازي لا يؤكل ، ويؤكل الثعلب والضبع وكره أبو حنيفة الغراب الأبقع لا الغراب الزرعي والخلاف في الحدأة كالخلاف في العقاب والنسر وكره أبو حنيفة الضب. وقال مالك والشافعي : لا بأس به والجمهور على أنه لا يؤكل الهر الإنسي وعن مالك جواز أكله إنسيا كان أو وحشيا وعن بعض السلف جواز أكل إنسيه.

وقال ابن أبي ليلى : لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت. وقال الليث : لا بأس بأكل القنفذ وفراخ النحل ودود الجبن ودود التمر ونحوه وكذا قال ابن القاسم عن مالك في القنفذ. وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تؤكل الفأرة. وقال أبو حنيفة : لا يؤكل اليربوع. وقال الشافعي : يؤكل وعن مالك في الفأر التحريم والكراهة والإباحة ، وذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما إلى كراهة أكل الجلالة. وقال مالك والليث : لا بأس بأكلها. وقال صاحب التحرير والتحبير : وأما المخدرات كالبنج والسيكران واللفاح وورق القنب المسمى بالحشيشة فلم يصرح فيها أهل العلم بالتحريم وهي عندي إلى التحريم أقرب ، لأنها إن كانت مسكرة فهي محرّمة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أسكر كثيره فقليله حرام». وبقوله : «كل مسكر حرام» وإن كانت غير مسكرة فإدخال الضرر على الجسم حرام. وقد نقل ابن بختيشوع في كتابه : إن ورق القنب يحدث في الجسم سبعين داء وذكر منها أنه يصفر الجلد ويسوّد الأسنان ويجعل فيها الحفر ويثقب الكبد ويحمّيها ويفسد العقل ويضعف البصر ويحدث

٦٧٥

الغم ويذهب الشجاعة والبنج والسيكران كالورق في الضرر وأما المرقدات كالزعفران والمازريون فالقدر المضر منها حرام ، وقال جمهور الأطباء : إذا استعمل من الزعفران كثير قتل فرحا ؛ انتهى ، وفيه بعض تلخيص.

وقال أبو بكر الرازي في قوله : (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) دلالة على أن المحرّم من الميتة ما يتأتى فيه الأكل منها وإن لم يتناول الجلد المدبوغ ولا القرن ولا العظم ولا الظلف ولا الريش ونحوها ، وفي قوله : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) دلالة على أن دم البق والبراغيث والذباب ليس بنجس ؛ انتهى (أَوْ فِسْقاً) الظاهر أنه معطوف على المنصوب قبله سمى ما أهلّ لغير الله به فسقا لتوغله في باب الفسق ومنه (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وأنه لفسق و (أُهِلَ) صفة له منصوبة المحل وأجاز الزمخشري أن ينتصب (فِسْقاً) على أنه مفعول من أجله مقدم على العامل فيه وهو (أُهِلَ) لقوله :

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

وفصل به بين (أَوْ) و (أُهِلَ) بالمفعول له ويكون أو (أُهِلَ) معطوفا على (يَكُونَ) والضمير في (بِهِ) يعود على ما عاد عليه في (يَكُونَ) وهذا إعراب متكلف جدا وتركيب على هذا الإعراب خارج عن الفصاحة وغير جائز في قراءة من قرأ (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) بالرفع فيبقى الضمير في (بِهِ) ليس له ما يعود عليه ، ولا يجوز أن يتكلف محذوف حتى يعود الضمير عليه فيكون التقدير أو شيء (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تقدّم تفسير مثل هذا ولما كان صدر الآية مفتتحا بخطابه تعالى بقوله : (قُلْ لا أَجِدُ) اختتم الآية بالخطاب فقال : (فَإِنَّ رَبَّكَ) ودلّ على اعتنائه به تعالى بتشريف خطابه افتتاحا واختتاما.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) مناسبة هذه لما قبلها أنه لما بين أن التحريم إنما يستند للوحي الإلهي أخبر أنه حرّم على بعض الأمم السابقة أشياء ، كما حرّم على أهل هذه الملة أشياء مما ذكرها في الآية قبل فالتحريم إنما هو راجع إلى الله تعالى في الأمم جميعها وفي قوله : (حَرَّمْنا) تكذيب اليهود في قولهم : إن الله لم يحرم علينا شيئا وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه. قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والسدّي : هي ذوات الظلف كالإبل والنعام وما ليس بذي أصابع منفرجة كالبط والإوز ونحوهما ، واختاره الزجاج. وقال ابن زيد : هي الإبل خاصة وضعف هذا التخصيص.

٦٧٦

وقال الضحاك : هي النعامة وحمار الوحش وهو ضعيف لتخصيصه. وقال الكلبي : كل ذي مخلب من الطير وذي حافر من الدواب وذي ناب من السباع. وقال القتبي : الظفر هنا بمنزلة الحافر يدخل فيه كل ذي حافر من الدواب سمي الحافر ظفرا استعارة. وقال ثعلب : كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر وما يصيد فهو ذو مخلب. قال النقاش : هذا غير مطرد لأن الأسد ذو ظفر. وقال الزمخشري : ما له أصبع من دابة أو طائر ، وكان بعض ذوات الظفر حلالا لهم فلما ظلموا حرم ذلك عليهم فعم التحريم كل ذي ظفر بدليل قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (١).

وقال أبو عبد الله الرازي : حمل الظفر على الحافر ضعيف لأن الحافر لا يكاد يسمى ظفرا ولأنه لو كان كذلك لقيل : حرم عليهم كل حيوان له حافر وذلك باطل لدلالة الآية على إباحة البقر والغنم مع أنها لها حافر ، فوجب حمل الظفر على المخالب والبراثن لأن المخالب آلات لجوارح الصيد في الاصطياد فيدخل فيه أنواع السباع والكلاب والسنانير والطيور التي تصطاد ويكون هذا مختصا باليهود لدلالة (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) على الحصر فيختص التحريم باليهود ولا تكون محرمة على المسلمين وما روي من تحريم ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير ضعيف ، لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله فلا يقبل ويقوي مذهب مالك ؛ انتهى ، ملخصا وفيه منوع. أحدها : لا نسلم تخصيص ذي الظفر بما قاله. الثاني : لا نسلم الحصر الذي ادّعاه. الثالث : لا نسلم الاختصاص. الرابع : لا نسلم أن خبر الواحد في تحريم ذي الناب وذي المخلب على خلاف كتاب الله وكل من فسر الظفر بما فسره من ذوي الأقوال السابقة بذاهب إلى تحريم لحم ما فسره وشحمه وكل شيء منه. وذهب بعض المفسرين إلى أن ذلك على حذف مضاف وليس المحرم ذا الظفر وإنما المراد ما صاده ذو الظفر أي ذو المخلب الذي لم يعلم وهذا خلاف الظاهر. وقرأ أبي الحسن والأعرج (ظُفُرٍ) بسكون الفاء والحسن أيضا وأبو السمال قعنب بسكونها وكسر الطاء.

(وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) أي شحوم الجنسين ويتعلق (مِنَ) بحرمنا المتأخرة ولا يجب تقدمها على العامل ، فلو كان التركيب وحرمنا عليهم من البقر والغنم شحومها لكان تركيبا غريبا ، كما تقول : من زيد أخذت ماله ويجوز أخذت من زيد ماله ، والإضافة تدل على تأكيد التخصيص والربط إذ لو أتى في الكلام من البقر والغنم حرمنا عليهم الشحوم لكان كافيا في الدلالة على أنه لا يراد إلا شحوم البقر والغنم ، ويحتمل أن

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٠.

٦٧٧

يكون (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) معطوفا على (كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) فيتعلق (مِنَ) بحرمنا الأولى ثم جاءت الجملة الثانية مفسرة ما أبهم في من التبعيضية من المحرم فقال : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما). وقال أبو البقاء : لا يجوز أن يكون (مِنَ الْبَقَرِ) متعلقا بحرمنا الثانية بل ذلك معطوف على كل و (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) تبيين للمحرّم من البقر والغنم وكأنه يوهم أن عود الضمير مانع من التعلق إذ رتبة المجرور بمن التأخير ، لكن عن ماذا أما عن الفعل فمسلم وأما عن المفعول فغير مسلم وإن سلمنا أن رتبته التأخير عن الفعل والمفعول ليس بممنوع ، بل يجوز ذلك كما جاز ضرب غلام المرأة أبوها وغلام المرأة ضرب أبوها وإن كانت رتبة المفعول التأخير ، لكنه وجب هنا تقديمه لعود الضمير الذي في الفاعل الذي رتبته التقديم عليه فكيف بالمفعول الذي هو والمجرور في رتبة واحدة أعني في كونهما فضلة فلا يبالي فيهما بتقديم أيهما شئت على الآخر. وقال الشاعر :

وقد ركدت وسط السماء نجومها

فقدّم الظرف وجوبا لعود الضمير الذي اتصل بالفاعل على المجرور بالظرف واختلف في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائح اليهود ، فعن مالك منع أكل الشحم من ذبائحهم وروي عنه الكراهة ، وأباح ذلك بعض الناس من ذبائحهم ومن ذبحهم ما هو عليهم حرام إذا أمرهم بذلك مسلم. وقال ابن حبيب : ما كان معلوما تحريمه عليهم من كتابنا فلا يحل لنا من ذبائحهم ، وما لم نعلمه إلا من أقوالهم فهو غير محرم علينا من ذبائحهم ؛ انتهى. فظاهر قوله : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) (١) أن الشحم الذي هو من ذبائحهم لا يحل لنا أنه ليس من طعامهم فلا يدخل تحت عموم (وَطَعامُ الَّذِينَ) وحمل قوله : (وَطَعامُ الَّذِينَ) على الذبائح فيه بعد وهو خلاف الظاهر.

(إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي إلا الشحم الذي حملته ظهورهما البقر والغنم. قال ابن عباس : هو مما علق بالظهر من الشحم وبالجنب من داخل بطونهما. وقيل : سمين الظهر وهي الشرائح التي على الظهر من الشحم فإن ذلك لم يحرم عليهم. وقال السديّ وأبو صالح : الاليات مما حملت ظهورهما.

(أَوِ الْحَوايا) هو معطوف على (ظُهُورُهُما) قاله الكسائي ، وهو الظاهر أي والشحم الذي حملته (الْحَوايا). قال ابن عباس وابن جبير والحسن وقتادة ومجاهد

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥.

٦٧٨

والسدّي وابن زيد : هي المباعر. وقال علي بن عيسى : هو كل ما تحويه البطن فاجتمع واستدار. وقال ابن زيد أيضا : هي بنات اللبن. وقيل : الأمعاء والمصارين التي عليها الشحم.

(أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) هو معطوف على (ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) بعظم هو شحم الإلية لأنه على العصعص قاله السدّي وابن جريج ، أو شحم الجنب أو كل شحم في القوائم والجنب والرأس والعينين والأذنين قاله ابن جريج أيضا ، أو مخ العظم والظاهر أن هذه الثلاثة مستثناة من الشحم فهي حلال لهم. قيل : بالمحرم أذب شحم الثرب والكلى. وقيل : أو الحوايا أو ما اختلط بعظم معطوف على قوله (شُحُومَهُما) فتكون داخلة في المحرم أي حرمنا عليهم شحومهما (أَوِ الْحَوايا) أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما وتكون أو كهي في قوله (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) (١) يراد بها نفي ما يدخل عليه بطريق الانفراد ، كما تقول : هؤلاء أهل أن يعصوا فاعص هذا أو هذا فالمعنى حرم عليهم هذا وهذا. قال الزمخشري : وأو بمنزلتها في قولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين ؛ انتهى. وقال النحويون : أو في هذا المثال للإباحة فيجوز له أن يجالسهما معا وأن يجالس أحدهما ، والأحسن في الآية إذا قلنا إن ذلك معطوف على شحومهما أن تكون (أَوِ) فيه للتفصيل فصل بها ما حرم عليهم من البقر والغنم. وقال ابن عطية : وقال بعض الناس (أَوِ الْحَوايا) معطوف على الشحوم. قال : وعلى هذا يدخل الحوايا في التحريم وهذا قول لا يعضده اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه ؛ انتهى. ولم يبين دفع اللفظ والمعنى لهذا القول.

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) قال ابن عطية : (ذلِكَ) في موضع رفع وقال الحوفي : (ذلِكَ) في موضع رفع على إضمار مبتدإ تقديره الأمر ذلك ، ويجوز أن يكون نصب ب (جَزَيْناهُمْ) لأنه يتعدّى إلى مفعولين والتقدير جزيناهم ذلك. وقال أبو البقاء : (ذلِكَ) في موضع نصب ب (جَزَيْناهُمْ) ولم يبين على أيّ شيء انتصب هل على المصدر أو على المفعول بإذ؟ وقيل : مبتدأ والتقدير جزيناهموه ؛ انتهى ، وهذا ضعيف لضعف زيد ضربت. وقال الزمخشري : ذلك الجزاء (جَزَيْناهُمْ) وهو تحريم الطيبات ؛ انتهى. وظاهره أنه منتصب انتصاب المصدر ، وزعم ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشارا به إلى المصدر إلا واتبع بالمصدر فتقول : قمت هذا القيام وقعدت ذلك القعود ، ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذلك ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٠.

٦٧٩

فعلى هذا لا يصح انتصاب ذلك على أنه إشارة إلى المصدر ، والبغي هنا الظلم. وقال الحسن : الكفر. وقال أبو عبد الله الرازي : هو قتلهم الأنبياء بغير حق وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل ، ونظيره (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) (١) وهذا يقتضي أن هذا التحريم كان عقوبة لهم على ذنوبهم واستعصائهم على الأنبياء. قال القاضي : نفس التحريم لا يكون عقوبة على جرم صدر منهم ، لأن التكليف تعريض للثواب والتعريض للثواب إحسان. والجواب : أن المنع من الانتفاع يمكن لمن يرى استحقاق الثواب ، ويمكن أن يكون للجرم المتقدم وكل واحد منهما غير مستبعد.

(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في الإخبار عما (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ). وقال ابن عطية : إخبار يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم : ما حرم الله علينا وإنما اقتدينا بإسرائيل فيما حرم على نفسه ، ويتضمن إدحاض قولهم ورده عليهم. وقال التبريزي : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في إتمام جزائهم في الآخرة الذي سبق الوعيد فيكون التحريم من الجزاء المعجل لهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم. وقال الزمخشري (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أوعدنا به العصاة لا نخلفه كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة ، فلما عصوا وبغوا ألحقنا بهم الوعيد وأحللنا بهم العقاب ؛ انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) الظاهر عود الضمير على أقرب مذكور وهو اليهود وقاله مجاهد والسدّي أي (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) فيما أخبرت به أنه تعالى حرمه عليهم وقالوا : لم يحرمه الله وإنما حرمه إسرائيل قبل متعجبا من قولهم : ومعظما لافترائهم مع علمهم بما قلت : (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) حيث لم يعاجلكم بالعقوبة مع شدّة هذا الجرم كما تقول عند رؤية معصية عظيمة. ما أحلم الله وأنت تريد لإمهاله العاصي. وقيل : الضمير للمشركين الذين كان الكلام معهم في قوله : (أَنْبِئُونِي) وقوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أي (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) في النبوة والرسالة وتبليغ أحكام الله. وقال الزمخشري : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) في ذلك وزعموا أن الله واسع المغفرة وأنه لا يؤاخذنا بالبغي ويخلف الوعيد جودا وكرما (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) لأهل طاعته (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) مع سعة رحمته (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فلا تغترّ برجاء رحمته عن خوف نقمته ؛ انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال و (الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) عام يندرج فيه مكذبو الرسل وغيرهم من المجرمين ، ويحتمل أن يكون من وقوع الظاهر موقع المضمر أي

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٠.

٦٨٠