البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

وأما كونه خارجا عن أقوال البصريين فلأنه جعل اللام مؤكدة مقوية لتعدي يريد ، والمفعول متأخر ، وأضمر أن بعد هذه اللام. وأما كونه خارجا عن قول الكوفيين فإنهم يجعلون النصب باللام ، لا بأن ، وهو جعل النصب بأن مضمرة بعد اللام. وذهب بعض النحويين إلى أن اللام في قوله : ليبين لكم ، لام العاقبة ، قال : كما في قوله : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١) ولم يذكر مفعول يبين.

قال عطاء : يبين لكم ما يقربكم. وقال الكلبي : يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير. وقيل : ما فصل من المحرمات والمحللات. وقيل : شرائع دينكم ، ومصالح أموركم. وقيل : طريق من قبلكم إلى الجنة. ويجوز عندي أن يكون من باب الإعمال ، فيكون مفعول ليبين ضميرا محذوفا يفسره مفعول ويهديكم ، نحو : ضربت وأهنت زيدا ، التقدير : ليبينها لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، أي ليبين لكم سنن الذين من قبلكم.

والسنن : جمع سنة ، وهي الطريقة. واختلفوا في قوله : سنن الذين من قبلكم ، هل ذلك على ظاهره من الهداية لسننهم؟ أو على التشبيه؟ أي : سننا مثل سنن الذين قبلكم. فمن قال بالأول أراد أنّ السنن هي ما حرم علينا وعليهم بالنسب والرضاع والمصاهرة. وقيل : المراد بالسنن ما عنى في قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (٢) وقيل : المراد بها ما ذكره في قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) (٣) وقيل : طرق من قبلكم إلى الجنة. وقيل : مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين ، والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم ، وهذا قريب مما قبله. وعلى هذه الأقوال فيكون الذين من قبلكم المراد به الأنبياء وأهل الخير. وقيل : المراد بقوله سنن طرق أهل الخير والرشد والغي ، ومن كان قبلكم من أهل الحق والباطل ، لتجتنبوا الباطل ، وتتبعوا الحق.

والذين قالوا : إنّ ذلك على التشبيه قالوا : إن المعنى أنّ طرق الأمم السابقة في هدايتها كان بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وبيان الأحكام ، وكذلك جعل طريقكم أنتم. فأراد أن يرشدكم إلى شرائع دينكم وأحكام ملتكم بالبيان والتفصيل ، كما أرشد الذين من قبلكم من المؤمنين. وقيل : الهداية في أحد أمرين : أما أنا خوطبنا في كل قصة نهيا أو أمرا

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٨.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ١٢٣.

(٣) سورة الشورى : ٤٢ / ١٣.

٦٠١

كما خوطبوا هم أيضا في قصصهم ، وشرع لنا كما شرع لهم ، فهدايتنا سننهم في الإرشاد ، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم. والأمر الثاني : أنّ هدايتنا سننهم في أنّ سمعنا وأطعنا كما سمعوا وأطاعوا ، فوقع التماثل من هذه الجهة.

والمراد بالهداية هنا الإرشاد والتوضيح ، ولا يتوجه غير ذلك بقرينة السنن ، والذين من قبلناهم المؤمنون من كل شريعة. وقال صاحب ري الظمآن وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي : قوله تعالى : يريد الله ليبين لكم ، أي : يريد أن يبين ، أو يريد إنزال الآيات ليبين لكم. وقوله تعالى : ويهديكم ، قال المفسرون : معناهما واحد ، والتكرار لأجل التأكيد ، وهذا ضعيف. والحق أنّ المراد من الأول تبيين التكاليف ، ثم قال : ويهديكم. وفيه قولان : أحدهما : أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله من النساء في الآيات المتقدمة ، فقد كان الحكم كذلك أيضا في جميع الشرائع ، وإن كانت مختلفة في نفسها ، متفقة في باب المصالح انتهى. وتقدم معنى هذه الأقوال التي ذكرها. وقوله : أي يريد أن يبين ، موافق لقول الزمخشري.

(وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي يردكم من عصيانه إلى طاعته ، ويوفقكم لها.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) عليم بأحوالكم وبما تقدم من الشرائع والمصالح ، حكيم يصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان.

(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) تعلق الإرادة أولا بالتوبة على سبيل العلية على ما اخترناه من الأقوال ، لأن قوله : ويتوب عليكم ، معطوف على العلة ، فهو علة. ونعلقها هنا على سبيل المفعولية ، فقد اختلف التعلقان فلا تكرار. وكما أراد سبب التوبة فقد أراد التوبة عليهم ، إذ قد يصح إرادة السبب دون الفعل. ومن ذهب إلى أنّ متعلق الإرادة في الموضعين واحد كان قوله : والله يريد أن يتوب عليكم تكرارا لقوله : ويتوب عليكم ، لأن قوله : ويتوب عليكم ، معطوف على مفعول ، فهو مفعول به. قال ابن عطية : وتكرار إرادة الله للتوبة على عباده تقوية للإخبار الأول ، وليس المقصد في الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات ، فقدمت إرادة الله توطئة مظهرة لفساد متبعي الشهوات. انتهى كلامه. فاختار مذهب الكوفيين في أن جعلوا قوله : ليبين ، في معنى أن يبين ، فيكون مفعولا ليريد ، وعطف عليه : ويتوب ، فهو مفعول مثله ، ولذلك قال : وتكرار إرادة الله التوبة على عباده إلى آخر كلامه. وكان قد

٦٠٢

حكى قول الكوفيين وقال : وهذا ضعيف ، فرجع أخيرا إلى ما ضعفه ، وكان قد قدم أنّ مذهب سيبويه : أنّ مفعول : يريد ، محذوف ، والتقدير : يريد الله هذا التبيين.

والشهوات جمع شهوة ، وهي ما يغلب على النفس محبته وهواه. ولما كانت التكاليف الشرعية فيها قمع النفس وردها عن مشتهياتها ، كان اتباع شهواتها سببا لكل مذمّة ، وعبر عن الكافر والفاسق بمتبع الشهوات كما قال تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (١) واتباع الشهوة في كل حال مذموم ، لأن ذلك ائتمار لها من حيث ما دعته الشهوة إليه. أما إذا كان الاتباع من حيث العقل أو الشرع فذلك هو اتباع لهما لا للشهوة. ومتبعو الشهوات هنا هم الزناة قاله : مجاهد. أو اليهود والنصارى قاله : السدي. أو اليهود خاصة لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب ، أو المجوس كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب ، ونكاح بنات الأخ ، وبنات الأخت ، فلما حرّمهنّ الله قالوا : فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة ، والعمة عليكم حرام ، فانكحوا بنات الأخ والأخت ، أو متبعو كل شهوة قاله : ابن زيد ، ورجحه الطبري. وظاهره العموم والميل ، وإن كان مطلقا فالمراد هنا الميل عن الحق ، وهو الجور والخروج عن قصد السبيل. ولذلك قابل إرادة الله بإرادة متبعي الشهوات ، وشتان ما بين الإرادتين. وأكد فعل الميل بالمصدر على سبيل المبالغة ، لم يكتف حتى وصفه بالعظم. وذلك أن الميول قد تختلف ، فقد يترك الإنسان فعل الخير لعارض شغل أو لكسل أو لفسق يستلذ به ، أو لضلالة بأن يسبق له سوء اعتقاد. ويتفاوت رتب معالجة هذه الأشياء ، فبعضها أسهل من بعض ، فوصف مثل هؤلاء بالعظم ، إذ هو أبعد الميول معالجة وهو الكفر. كما قال تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (٢) (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) (٣).

وقرأ الجمهور : أن تميلوا بتاء الخطاب. وقرىء : بالياء على الغيبة. فالضمير في يميلوا يعود على الذين يتبعون الشهوات. وقرأ الجمهور : ميلا بسكون الياء. وقرأ الحسن : بفتحها ، وجاءت الجملة الأولى اسمية ، والثانية فعلية لإظهار تأكيد الجملة الأولى ، لأنها أدل على الثبوت. ولتكرير اسم الله تعالى فيها على طريق الإظهار والإضمار. وأما الجملة الثانية فجاءت فعلية مشعرة بالتجدد ، لأن أرادتهم تتجدد في كل وقت. والواو في قوله :

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٥٩.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٨٩.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٤٤.

٦٠٣

ويريد للعطف على ما قررناه. وأجاز الراغب أن تكون الواو للحال لا للعطف ، قال : تنبيها على أنه يريد التوبة عليكم في حال ما تريدون أن تميلوا ، فخالف بين الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجملة الأولى ، وتأخيره في الجملة الثانية ، ليبين أنّ الثاني ليس على العطف انتهى. وهذا ليس بجيد ، لأنّ إرادته تعالى التوبة علينا ليست مقيدة بإرادة غيره الميل ، ولأنّ المضارع باشرته الواو ، وذلك لا يجوز ، وقد جاء منه شيء نادر يؤوّل على إضمار مبتدأ قبله ، لا ينبغي أن يحمل القرآن عليه ، لا سيما إذا كان للكلام محمل صحيح فصيح ، فحمله على النادر تعسف لا يجوز.

(يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) لم يذكر متعلق التخفيف ، وفي ذلك أقوال : أحدها أن يكون في إباحة نكاح الأمة وغيره من الرخص. الثاني في تكليف النظر وإزالة الحيرة فيما بين لكم مما يجوز لكم من النكاح وما لا يجوز. الثالث : في وضع الإصر المكتوب على من قبلنا ، وبمجيء هذه الملة الحنيفية سهلة سمحة. الرابع : بإيصالكم إلى ثواب ما كلفكم من تحمل التكاليف. الخامس : أن يخفف عنكم إثم ما ترتكبون من المآثم لجهلكم.

وأعربوا هذه الجملة حالا من قوله : والله يريد أن يتوب عليكم ، والعامل في الحال يريد ، التقدير : والله يريد أن يتوب عليكم مريدا أن يخفف عنكم ، وهذا الإعراب ضعيف ، لأنه قد فصل بين العامل والحال بجملة معطوفة على الجملة التي في ضمنها العامل ، وهي جملة أجنبية من العامل والحال ، فلا ينبغي أن تجوز إلا بسماع من العرب. ولأنه رفع الفعل الواقع حالا الاسم الظاهر ، وينبغي أن يرفع ضميره لا ظاهره ، فصار نظير : زيد يخرج يضرب زيد عمرا. والذي سمع من ذلك إنما هو في الجملة الابتدائية ، أو في شيء من نواسخها. أما في جملة الحال فلا أعرف ذلك. وجواز ذلك فيما ورد إنما هو فصيح حيث يراد التفخيم والتعظيم ، فيكون الربط في الجملة الواقعة خبرا بالظاهر. أما جملة الحال أو الصفة فيحتاج الربط بالظاهر فيها إلى سماع من العرب ، والأحسن أن تكون الجملة مستأنفة ، فلا موضع لها من الإعراب. أخبر بها تعالى عن إرادته التخفيف عنا ، كما جاء (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (١).

(وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) قال مجاهد وطاووس وابن زيد : الإخبار عن ضعف

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٨٥.

٦٠٤

الإنسان إنما هو في باب النساء ، أي لما علمنا ضعفكم عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء. قال طاووس : ليس يكون الإنسان أضعف منه في أمر النساء. وقال ابن المسيب : ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا أتاهم من النساء ، فقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشق بالأخرى ، وأن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء.

قال الزمخشري : ضعيفا لا يصبر عن الشهوات ، وعلى مشاق الطاعات. قال ابن عطية : ثم بعد هذا المقصد أي : تخفيف الله بإباحة الإماء ، يخرج الآية مخرج التفضل ، لأنها تتناول كل ما خفف الله عن عباده وجعله الدين يسرا ، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاما حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب. قال الراغب : ووصف الإنسان بأنه خلق ضعيفا ، إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى نحو : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) (١) أو باعتباره بنفسه دون ما يعتريه من فيض الله ومعونته ، أو اعتبارا بكثرة حاجاته وافتقار بعضهم إلى بعض ، أو اعتبارا بمبدئه ومنتهاه كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) (٢) فأما إذا اعتبر بعقله وما أعطاه من القوة التي يتمكن بها من خلافة الله في أرضه ويبلغ بها في الآخرة إلى جواره تعالى ، فهو أقوى ما في هذا العالم. ولهذا قال تعالى : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٣). وقال الحسن : ضعيفا لأنه خلق من ماء مهين. قال الله تعالى : الذي خلقكم من ضعف.

وقرأ ابن عباس ومجاهد : وخلق الإنسان مبنيا للفاعل مسندا إلى ضمير اسم الله ، وانتصاب ضعيفا على الحال. وقيل : انتصب على التمييز. لأنه يجوز أن يقدر بمن ، وهذا ليس بشيء. وقيل : انتصب على إسقاط حرف الجر ، والتقدير : من شيء ضعيف ، أي من طين ، أو من نطفة وعلقة ومضغة. ولما حذف الموصوف والجار انتصبت الصفة بالفعل نفسه. قال ابن عطية : ويصح أن يكون خلق بمعنى جعل ، فيكسبها ذلك قوّة التعدي إلى مفعولين ، فيكون قوله : ضعيفا مفعولا ثانيا انتهى. وهذا هو الذي ذكره من أنّ خلق يتعدى إلى اثنين بجعلها بمعنى جعل ، لا أعلم أحدا من النحويين ذهب إلى ذلك ، بل الذي ذكر الناس أنّ من أقسام جعل أن يكون بمعنى خلق ، فيتعدّى إلى مفعول واحد ، كقوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (٤) أما العكس فلم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمناه ،

__________________

(١) سورة النازعات : ٧٦ / ٢٧.

(٢) سورة الروم : ١٩ / ٥٤.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٧٠.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ١.

٦٠٥

والمتأخرون الذين تتبعوا هذه الأفعال لم يذكروا ذلك ، وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البيان والبديع. منها : التجوّز بإطلاق اسم الكل على البعض في قوله : يأتين الفاحشة ، لأن أل تستغرق كل فاحشة وليس المراد بل بعضها ، وإنما أطلق على البعض اسم الكل تعظيما لقبحه وفحشه ، فإن كان العرف في الفاحشة الزنا ، فليس من هذا الباب إذ تكون الألف واللام للعهد. والتجوّز بالمراد من المطلق بعض مدلوله في قوله : فآذوهما إذ فسر بالتعيير أو الضرب بالنعال ، أو الجمع بينهما ، وبقوله : سبيلا والمراد الحد ، أو رجم المحصن. وبقوله : فأعرضوا عنهما أي اتركوهما. وإسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله : حتى يتوفاهنّ الموت ، وفي قوله : حتى إذا حضر أحدهم الموت. والتجنيس المغاير في : فإن تابا إن الله كان توّابا ، وفي : أرضعنكم ومن الرضاعة ، وفي : محصنات فإذا أحصنّ. والتجنيس المماثل في : فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا ، وفي : ولا تنكحوا ما نكح. والتكرار في : اسم الله في مواضع ، وفي : إنما التوبة وليست التوبة ، وفي : زوج مكان زوج ، وفي : أمّهاتكم وأمّهاتكم اللاتي ، وفي : إلا ما قد سلف ، وفي : المؤمنات في قوله : المحصنات المؤمنات ، وفي : فتياتكم المؤمنات ، وفي : فريضة ومن بعد الفريضة ، وفي : المحصنات من النساء والمحصنات ، ونصف ما على المحصنات ، وفي : بعضكم من بعض ، وفي : يريد في أربعة مواضع ، وفي : يتوب وأن يتوب ، وفي : إطلاق المستقبل على الماضي ، في : واللاتي يأتين الفاحشة وفي : واللذان يأتيانها منكم ، وفي : يعملون السوء وفي : ثم يتوبون ، وفي : يريد وفي : ليبين ، لأن إرادة الله وبيانه قديمان ، إذ تبيانه في كتبه المنزلة والإرادة والكلام من صفات ذاته وهي قديمة. والإشارة والإيماء في قوله : كرها ، فإن تحريم الإرث كرها يومىء إلى جوازه طوعا ، وقد صرح بذلك في قوله : فإن طبن ، وفي قوله : ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ ، فله أن يعضلها على غير هذه الصفة لمصلحة لها تتعلق بها ، أو بمالها ، وفي : إنه كان فاحشة أومأ إلى نكاح الأبناء في الجاهلية نساء الآباء ، وفي : أحل لكم ما وراء ذلكم إشارة إلى ما تقدم في المحرمات ، ذلك لمن خشي العنت إشارة إلى تزويج الإماء. والمبالغة في تفخيم الأمر وتأكيده في قوله : وآتيتم إحداهنّ قنطارا عظم الأمر حتى ينتهي عنه. والاستعارة في قوله : وأخذن منكم ميثاقا غليظا ، استعار الأخذ للوثوق بالميثاق والتمسك به ، والميثاق معنى لا يتهيأ فيه الأخذ حقيقة ، وفي : كتاب الله عليكم أي فرض الله ، استعار للفرض لفظ الكتاب لثبوته وتقريره ، فدل بالأمر المحسوس على المعنى المعقول. وفي : محصنين ، استعار لفظ الإحصان وهو

٦٠٦

الامتناع في المكان الحصين للامتناع بالعقاب ، واستعار لكثرة الزنا السفح وهو صب الماء في الأنهار والعيون بتدفق وسرعة ، وكذلك : فآتوهن أجورهن استعار لفظ الأجور للمهور ، والأجر هو ما يدل على عمل ، فجعل تمكين المرأة من الانتفاع بها كأنه عمل تعمله. وفي قوله : طولا استعارة للمهر يتوصل به للغرض ، والطول وهو الفضل يتوصل به إلى معالي الأمور. وفي قوله : يتبعون الشهوات استعار الاتباع والميل اللذين هما حقيقة في الإجرام لموافقة هوى النفس المؤدي إلى الخروج عن الحق. وفي قوله : أن يخفف ، والتخفيف أصله من خفة الوزن وثقل الجرم ، وتخفيف التكاليف رفع مشاقها من النفس ، وذلك من المعاني. وتسمية الشيء بما يؤول إليه في قوله : أن ترثوا النساء كرها ، سمي تزويج النساء أو منعهن للأزواج إرثا ، لأن ذلك سبب الإرث في الجاهلية. وفي قوله : وخلق الإنسان ضعيفا جعله ضعيفا باسم ما يؤول إليه ، أو باسم أصله. والطباق المعنوي في قوله : وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ، وقد فسر الخير الكثير بما هو محبوب. وفي قوله : والمحصنات من النساء ، أي حرام عليكم ثم قال : وأحل لكم. والذي يظهر أنه من الطباق اللفظي ، لأن صدر الآية حرمت عليكم أمهاتكم ، ثم نسق المحرمات ، ثم قال : وأحل لكم ، فهذا هو الطباق. وفي قوله : محصنين غير مسافحين ، والمحصن الذي يمنع فرجه ، والمسافح الذي يبذله. والاحتراس في قوله : اللاتي دخلتم بهن احترز من اللاتي لم يدخل بهن ، وفي وربائبكم اللاتي في حجوركم احترس من اللاتي ليست في الحجور. وفي قوله : والمحصنات من النساء إذ المحصنات قد يراد بها الأنفس المحصنات ، فيدخل تحتها الرجال ، فاحترز بقوله : من النساء. والاعتراض بقوله : والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض. والحذف في مواضع لا يتم المعنى إلا بها.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى

٦٠٧

بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥) وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨))

الجار : القريب المسكن منك ، وألفه منقلبة عن واو لقولهم : جاورت ، ويجمع على جيران وجيرة. والجنب : البعيد. والجنابة البعد قال :

فلا تحرمني نائلا عن جنابة

فإني امرؤ وسط القباب غريب

٦٠٨

وهو من الاجتناب ، وهو أن يترك الرجل جانبا. وقال تعالى : (وَاجْنُبْنِي) (١) أي بعدني ، وهو وصف على فعل كناقة سرح.

المختال : المتكبر ، وهو اسم فاعل من اختال ، وألفه منقلبة عن ياء لقولهم : الخيلاء والمخيلة. ويقال : خال الرجل يخول خولا إذا تكبر وأعجب بنفسه ، فتكون هذه مادة أخرى ، لأن تلك مركبة من خيل خ ي ل ، وهذه مادة من خ ول. الفخور : فعول من فخر ، والفخر عد المناقب على سبيل الشغوف والتطاول.

القرين : فعيل بمعنى مفاعل ، من قارنه إذا لازمه وخالطه ، ومنه سميت الزوجة قرينة. ومنه قيل لما يلزمن الإبل والبقر : قرينان ، وللحبل الذي يشدان به قرن قال الشاعر :

وابن اللبون إذا ما لز في قرن

لم يستطع صوله البزل القناعيس

وقال :

كمدخل رأسه لم يدنه أحد

من القرينين حتى لزه القرن

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) تقدم شرح نظير هذه الجملة في قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا) (٢) ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما بين كيفية التصرف في النفوس بالنكاح ، بيّن كيفية التصرف في الأموال الموصلة إلى النكاح ، وإلى ملك اليمين ، وأن المهور والأثمان المبذولة في ذلك لا تكون مما ملكت بالباطل ، والباطل هو كل طريق لم تبحه الشريعة ، فيدخل فيه : السرقة ، والخيانة ، والغصب ، والقمار ، وعقود الربا ، وأثمان البياعات الفاسدة ، فيدخل فيه بيع العربان وهو : أن يأخذ منك السلعة ويكري الدابة ويعطي درهما مثلا عربانا ، فإن اشترى ، أو ركب ، فالدرهم من ثمن السلعة أو الكراء ، وإلا فهو للبائع. فهذا لا يصح ولا يجوز عند جماهير الفقهاء ، لأنه من باب أكل المال بالباطل. وأجاز قوم منهم : ابن سيرين ، ومجاهد ، ونافع بن عبيد ، وزيد بن أسلم : بيع العربان على ما وصفناه ، والحجج في كتب الفقه.

وقد اختلف السلف في تفسير قوله : بالباطل. فقال ابن عباس والحسن : هو أن يأكله بغير عوض. وعلى هذا التفسير قال ابن عباس : هي منسوخة ، إذ يجوز أكل المال بغير عوض إذا كان هبة أو صدقة أو تمليكا أو إرثا ، أو نحو ذلك مما أباحت الشريعة أخذه بغير

__________________

(١) سورة ابراهيم : ١٤ / ٣٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٨٨.

٦٠٩

عوض. وقال السدي : هو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم ، وغير ذلك مما لم يبح الله تعالى أكل المال به. وعلى هذا تكون الآية محكمة وهو قول ابن مسعود والجمهور. وقال بعضهم : الآية مجملة ، لأن معنى قوله : بالباطل ، بطريق غير مشروع. ولمّا لم تكن هذه الطريق المشروعة مذكورة هنا على التفصيل ، صارت الآية مجملة. وإضافة الأموال إلى المخاطبين معناه : أموال بعضكم. كما قال تعالى : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) (١) وقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٢) وقيل : يشمل قوله : أموالكم ، مال الغير ومال نفسه. فنهى أن يأكل مال غيره إلا بطريق مشروع ، ونهى أن يأكل مال نفسه بالباطل ، وهو : إنفاقه في معاصي الله تعالى. وعبرهنا عن أخذ المال بالأكل ، لأن الأكل من أغلب مقاصده وألزمها.

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) هذا استثناء منقطع لوجهين : أحدهما : أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل فتستثنى منها سواء أفسرت قوله بالباطل بغير عوض كما قال : ابن عباس ، أم بغير طريق شرعي كما قاله غيره. والثاني : أن الاستثناء إنما وقع على الكون ، والكون معنى من المعاني ليس مالا من الأموال. ومن ذهب إلى أنه استثناء متصل فغير مصيب لما ذكرناه. وهذا الاستثناء المنقطع لا يدل على الحصر في أنه لا يجوز أكل المال إلا بالتجارة فقط ، بل ذكر نوع غالب من أكل المال به وهو : التجارة ، إذ أسباب الرزق أكثرها متعلق بها.

وفي قوله : عن تراض دلالة على أنّ ما كان على طريق التجارة فشرطه التراضي ، وهو من اثنين : الباذل للثمن ، والبائع للعين. ولم يذكر في الآية غير التراضي ، فعلى هذا ظاهر الآية يدل على أنه لو باع ما يساوي مائة بدرهم جاز إذا تراضيا على ذلك ، وسواء أعلم مقدار ما يساوي أم لم يعلم. وقالت فرقة : إذا لم يعلم قدر الغبن وتجاوز الثلث ، ردّ البيع. وظاهرها يدل على أنه إذا تعاقد بالكلام أنه تراض منهما ولا خيار لهما ، وإن لم يتفرقا. وبه قال : أبو حنيفة ، ومالك ، وروى نحوه عن عمر. وقال الثوري ، والليث ، وعبيد الله بن الحسن ، والشافعي : إذا عقدا فهما على الخيار ما لم يتفرّقا ، واستثنوا صورا لا يشترط فيها التفرق ، واختلفوا في التفرق. فقيل : بأن يتوارى كل منهما عن صاحبه. وقال الليث : بقيام كل منهما من المجلس. وكل من أوجب الخيار يقول : إذا خيره في المجلس فاختار ، فقد

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٥.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٢٩.

٦١٠

وجب البيع. وروى خيار المجلس عن عمر أيضا. وأطال المفسرون بذكر الاحتجاج لكل من هذه المذاهب ، وموضوع ذلك كتب الفقه.

والتجارة اسم يقع على عقود المعاوضات المقصود منها طلب الأرباح. وأن تكون في موضع نصب أي : لكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه. وقرأ الكوفيون : تجارة بالنصب ، على أن تكون ناقصة على تقدير مضمر فيها يعود على الأموال ، أو يفسره التجارة ، والتقدير : إلا أن تكون الأموال تجارة ، أو يكون التقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض منكم. كما قال : إذا كان يوما ذا كوكب أشنعا. أي إذا كان هواي اليوم يوما ذا كوكب. واختار قراءة الكوفيين أبو عبيد ، وقرأ باقي السبعة : تجارة بالرفع ، على أنّ كان تامة. وقال مكي بن أبي طالب : الأكثر في كلام العرب أن قولهم إلا أن تكون في الاستثناء بغير ضمير فيها على معنى يحدث أو يقع ، وهذا مخالف لاختيار أبي عبيد. وقال ابن عطية : تمام كان يترجح عند بعض لأنها صلة ، فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها ، وهذا ترجيح ليس بالقوي ، ولكنه حسن انتهى ما ذكره. ويحتاج هذا الكلام إلى فكر ، ولعله نقص من النسخة شيء يتضح به هذا المعنى الذي أراده. وعن تراض : صفة للتجارة أي : تجارة صادرة عن تراض.

(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ظاهره النهي عن قتل الإنسان نفسه كما يفعله بعض الجهلة بقصد منه ، أو بحملها على غرر يموت بسببه ، كما يصنع بعض الفتاك بالملوك ، فإنهم يقتلون الملك ويقتلون بلا شك. وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد ، وأقر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم احتجاجه. وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردّة والزنا بعد الإحصان. قال ابن عطية : وأجمع المتأوّلون أنّ القصد النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضا. وقال الزمخشري عن الحسن : إن المعنى لا تقتلوا إخوانكم انتهى. وعلى هذا المعنى أضاف القتل إلى أنفسهم لأنهم كنفس واحدة ، أو من جنس واحد ، أو من جوهر واحد. ولأنه إذا قتل قتل على سبيل القصاص ، وكأنه هو الذي قتل نفسه. وما ذكره ابن عطية من إجماع المتأوّلين ذكر غيره فيه الخلاف. قال ما ملخصه : يحتمل أن يراد حقيقة القتل ، فيحتمل أن يكون المعنى : لا يقتل بعضكم بعضا. ويحتمل أن يكون المعنى : لا يقتل أحد نفسه لضر نزل به ، أو ظلم أصابه ، أو جرح أخرجه عن حد الاستقامة. ويحتمل أن يراد مجاز القتل أي : يأكل المال بالباطل ، أو بطلب المال والانهماك فيه ، أو يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى الهلاك ، أو يفعل هذه

٦١١

المعاصي والاستمرار عليها. فيكون القتل عبر به عن الهلاك مجازا كما جاء : شاهد قتل ثلاثا نفسه ، والمشهود له ، والمشهود عليه أي : أهلك. وقرأ علي والحسن : ولا تقتلوا بالتشديد.

(إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) حيث نهاكم عن إتلاف النفوس ، وعن أكل الحرام ، وبين لكم جهة الحل التي ينبغي أن يكون قوام الأنفس. وحياتها بما يكتسب منها ، لأنّ طيب الكسب ينبني عليه صلاح العبادات وقبولها. ألا ترى إلى ما ورد من حجّ بمال حرام أنه إذا قال : لبيك قال الله له : لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك. وألا ترى إلى الداعي ربه ومطعمه حرام وملبسه حرام كيف جاء أنّى يستجاب له؟ وكان النهي عن أكل المال بالباطل متقدما على النهي عن قتل أنفسهم ، لأنه أكثر وقوعا ، وأفشى في الناس من القتل ، لا سيما إن كان المراد ظاهر الآية من أنه نهى أن يقتل الإنسان نفسه ، فإن هذه الحالة نادرة. وقيل : رحيما حيث لم يكلفكم قتل أنفسكم حين التوبة كما كلف بني إسرائيل قتلهم أنفسهم ، وجعل ذلك توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) الإشارة بذلك إلى ما وقع النهي عنه في هذه الجملة من أكل المال بالباطل ، وقتل الأنفس. لأن النهي عنهما جاء متسقا مسرودا ، ثم ورد الوعيد حسب النهي. وذهب إلى هذا القول جماعة. وتقييد أكل المال بالباطل بالاعتداء والظلم على هذا القول ليس المعنى أن يقع على جهة لا يكون اعتداء وظلما ، بل هو من الأوصاف التي لا يقع الفعل إلا عليه. وقيل : إنما قال : عدوانا وظلما ليخرج منه السهو والغلط ، وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام. وأما تقييد قتل الأنفس على تفسير قتل بعضنا بعضا بقوله : عدوانا وظلما ، فإنما ذلك لأنّ القتل يقع كذلك ، ويقع خطأ واقتصاصا. وقيل الإشارة بذلك إلى أقرب مذكور وهو : قتل الأنفس ، وهو قول عطاء ، واختيار الزمخشري. قال : ذلك إشارة إلى القتل أي : ومن يقدم على قتل الأنفس عدوانا وظلما لا خطأ ولا اقتصاصا انتهى. ويكون نظير قوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) (١) وذهب الطبري : إلى أنّ ذلك إشارة إلى ما سبق من النهي الذي لم يقترن به وعيد وهو من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَ) (٢) إلى هذا النهي الذي هو ولا تقتلوا أنفسكم ، فأما ما قبل ذلك من النهي فقد اقترن به الوعيد. وما

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٩٣.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٩.

٦١٢

ذهب إليه الطبري بعيد جدا لأن كل جملة قد استقلت بنفسها ، ولا يظهر لها تعلق بما بعدها إلا تعلق المناسبة ، ولا تعلق اضطرار المعنى. وأبعد من قول الطبري ما ذهب إليه جماعة من أن ذلك إشارة إلى كل ما نهى عنه من القضايا ، من أول السورة إلى النهي الذي أعقبه قوله : ومن يفعل ذلك. وجوز الماتريدي أن يكون ذلك إشارة إلى أكل المال بالباطل ، قال : وذلك يرجع إلى ما سبق من أكل المال بالباطل ، أو قتل النفس بغير حق ، أو إليهما جميعا انتهى. فعلى هذا القول يكون في المشار إليه بذلك خمسة أقوال.

وانتصاب عدوانا وظلما على المفعول من أجله ، وجوزوا أن يكونا مصدرين في موضع الحال ، أي : معتدين وظالمين. وقرىء عدوانا بالكسر. وقرأ الجمهور : نصليه بضم النون. وقرأ النخعي والأعمش : بفتحها من صلاة ، ومنه شاة مصلية. وقرىء أيضا : نصليه مشددا. وقرىء : يصليه بالياء ، والظاهر أن الفاعل هو ضمير يعود على الله أي : فسوف يصليه هو أي : الله تعالى. وأجاز الزمخشري أن يعود الضمير على ذلك قال : لكونه سببا للمصلي ، وفيه بعد. ومدلول نارا مطلق ، والمراد ـ والله أعلم ـ تقييدها بوصف الشدّة ، أو ما يناسب هذا الجرم العظيم من أكل المال بالباطل وقتل الأنفس.

(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) ذلك إشارة إلى إصلائه النار ، ويسره عليه تعالى سهولته ، لأن حجته بالغة وحكمه لا معقب له. وقال الزمخشري : لأن الحكمة تدعو إليه ، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه ، وفيه دسيسة الاعتزال.

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) مناسبة هذه الآية ظاهره ، لأنه تعالى لمّا ذكر الوعيد على فعل بعض الكبائر ، ذكر الوعد على اجتناب الكبائر. والظاهر أنّ الذنوب تنقسم إلى كبائر وسيئات ، وهي التي عبر عنها أكثر العلماء بالصغائر. وقد اختلفوا في ذلك ، فذهب الجمهور إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر ، فمن الصغائر النظرة واللمسة والقبلة ونحو ذلك مما يقع عليه اسم التحريم ، وتكفر الصغائر باجتناب الكبائر. وذهب جماعة من الأصوليين منهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني ، وأبو المعالي ، وأبو نصر عبد الرحيم القشيري : إلى أن الذنوب كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال : الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر ، والقبلة المحرّمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا ، ولا ذنب يغفر باجتناب ذنب آخر ، بل كل ذنب كبيرة وصاحبه ومرتكبه في المشيئة غير الكفر. وحملوا قوله تعالى : كبائر ما تنهون عنه

٦١٣

على أنواع الشرك والكفر قالوا : ويؤيده قراءة كبير على التوحيد ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة» فقال له رجل : يا رسول الله وإن كان يسيرا؟ قال : «وإن كان قضيبا من أراك» فقد جاء الوعيد على اليسير ، كما جاء على الكثير. وروي عن ابن عباس مثل قول هؤلاء قال : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة.

والذين ذهبوا إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر ، وأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر على ما اقتضاه ظاهر الآية وعضده الحديث الثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحيح مسلم من قوله : «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله» وفي صحيح مسلم : «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر».

واختلفوا في الكبائر فقال ابن مسعود : هي ثلاث : القنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله. وروي عنه أيضا أنها أربع : فزاد الإشراك بالله. وقال علي : هي سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة. وقال عبيد بن عمير : الكبائر سبع كقول عليّ في كل واحدة منها آية في كتاب الله ، وجعل الآية في التعرب : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) (١) الآية وفي البخاري : «اتقوا السبع الموبقات» فذكر هذه إلا التعرب ، فجاء بدله السحر. وقد ذهب قوم إلى أن هذه الكبائر هي هذه السبع التي ثبتت في البخاري. وقال ابن عمر : فذكر هذه إلا السحر ، وزاد الإلحاد في المسجد الحرام. والذي يستسخر بالوالدين من العقوق. وقال ابن مسعود أيضا والنخعي : هي جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ، وهي : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) (٢) وقال ابن عباس أيضا فيما روي عنه : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وقال ابن عباس أيضا : الكبائر كل ما ورد عليه وعيد بنار ، أو عذاب ، أو لعنة ، أو ما أشبه ذلك. وإلى نحو من هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي القرطبي ، قال : قد أطلت التفتيش عن هذا منذ سنين فصحّ لي أن كلّ ما توعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر ، ووجدناه عليه‌السلام قد أدخل في الكبائر بنص لفظه أشياء غير التي ذكر في الحديث ـ يعني

__________________

(١) سورة محمد : ٤٧ / ٢٥.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٣١.

٦١٤

الذي في البخاري ـ فمنها : قول الزور ، وعقوق الوالدين ، والكذب عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعريض المرء أبويه للسبّ بأن يسبّ آباء الناس ، وذكر عليه‌السلام الوعيد الشديد بالنار على الكبر ، وعلى كفر نعمة المحسن في الحق ، وعلى النياحة في المآتم ، وحلق الشعر فيها ، وخرق الجيوب ، والنميمة ، وترك التحفظ من البول ، وقطيعة الرحم ، وعلى الخمر ، وعلى تعذيب الحيوان بغير الذكاة لأكل ما يحل أكله منها أو ما أبيح أكله منها ، وعلى إسبال الإزار على سبيل التجوه ، وعلى المنان بما يفعل من الخير ، وعلى المنفق سلعته بالحلف الكاذب ، وعلى المانع فضل مائه من الشارب ، وعلى الغلول ، وعلى متابعة الأئمة للدنيا فإن أعطوا منها وفي لهم وإن لم يعطوا منها لم يوف لهم ، وعلى المقتطع بيمينه حق امرئ مسلم ، وعلى الإمام الغاش لرعيته ، ومن ادعى إلى غير أبيه ، وعلى العبد الآبق ، وعلى من غل ، ومن ادعى ما ليس له ، وعلى لاعن من لا يستحق اللعن ، وعلى بغض الأنصار ، وعلى تارك الصلاة ، وعلى تارك الزكاة ، وعلى بغض عليّ رضي‌الله‌عنه ، ووجدنا الوعيد الشديد في نص القرآن قد جاء على الزناة ، وعلى المفسدين في الأرض بالحرابة ، فصح بهذا قول ابن عباس انتهى كلامه. يعني قوله هي : إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وروي عن ابن عباس أنه قال : هي إلى سبعمائة أقرب ، لأنه لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار.

وقد اختلف القائلون بأنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر ، هل التكفير قطعي؟ أو غالب ظن؟ فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث ذهبوا إلى أنه قطعيّ كما دلت عليه الآية والأحاديث ، والأصوليون قالوا : هو على غلبة الظن ، وقالوا : لو كان ذلك قطعيا لكانت الصغائر في حكم المباح يقطع بأن لا تبعة فيه ، ووصف مدخلا بقوله : كريما ومعنى كرمه : فضيلته ، ونفى العيوب عنه كما تقول : ثوب كريم ، وفلان كريم المحتد. ومعنى تكفير السيئات إزالة ما يستحق عليها من العقوبات ، وجعلها كأن لم تكن ، وذلك مرتب على اجتناب الكبائر.

وقرأ ابن عباس وابن جبير : إن تجتنبوا كبير على الافراد ، وقد ذكرنا من احتج به على أنه أريد الكفر. وأمّا من لم يقل ذلك فهو عنده جنس.

وقرأ المفضل عن عاصم : يكفر ويدخلكم بالياء على الغيبة.

وقرأ ابن عباس : من سيئاتكم بزيادة من.

٦١٥

وقرأ نافع : مدخلا هنا ، وفي الحج بفتح الميم ، ورويت عن أبي بكر. وقرأ باقي السبعة بضمها وانتصاب المضموم الميم إمّا على المصدر أي : إدخالا ، والمدخل فيه محذوف أي : ويدخلكم الجنة إدخالا كريما. وإمّا على أنه مكان الدخول ، فيجيء الخلاف الذي في دخل ، أهي متعدية لهذه الأماكن على سبيل التعدية للمفعول به؟ أم على سبيل الظرف؟ فإذا دخلت همزة النقل فالخلاف. وأما انتصاب المفتوح الميم فيحتمل أن يكون مصدر الدخل المطاوع لأدخل ، التقدير : ويدخلكم فتدخلون دخولا كريما ، وحذف فتدخلون لدلالة المطاوع عليه ، ولدلالة مصدره أيضا. ويحتمل أن يراد به المكان ، فينتصب إذ ذاك إما بيدخلكم ، وإما بدخلتم المحذوفة على الخلاف ، أهو مفعول به أو ظرف.

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) قال قتادة والسدي : لما نزل (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (١) قال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الحسنات كالميراث.

وقال النساء : إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كالميراث. وقال عكرمة : قال النساء : وددنا أنّ الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر مثل ما يصيب الرجال. وزاد مجاهد : أن ذلك عن أم سلمة. وأنها قالت : وإنما لنا نصف الميراث فنزلت. وروي عنها أنها قالت : ليتنا كنا رجالا فنزلت.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما نهى عن أكل المال بالباطل ، وعن قتل الأنفس ، وكان ما نهى عنه مدعاة إلى التبسط في الدنيا والعلو فيها وتحصيل حطامها ، نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض ، إذ التمني لذلك سبب مؤثر في تحصيل الدنيا وشوق النفس إليها بكل طريق ، فلم يكتف بالنهي عن تحصيل المال بالباطل وقتل الأنفس ، حتى نهى عن السبب المحرّض على ذلك ، وكانت المبادرة إلى النهي عن المسبب آكد لفظاعته ومشقته فبدىء به ، ثم أتبع بالنهي عن السبب حسما لمادة المسبب ، وليوافق العمل القلبي العمل الخارجي فيستوي الباطن والظاهر في الامتناع عن الأفعال القبيحة. وظاهر الآية يدل على النهي أن يتمنى الإنسان لنفسه ما فضل به عليه غيره ، بل عليه أن يرضى بما قسم الله له.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١١.

٦١٦

وتمني ذلك هو أن يكون له مثل ما لذلك المفضل. وقال ابن عباس وعطاء : هو أن يتمنى مال غيره. وقال الزمخشري : نهوا عن الحسد ، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال ، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد ، وبما يصلح للمقسوم له من بسط في الرزق أو قبض انتهى. وهو كلام حسن. وظاهر النهي إنما يتناول ما فضل الله به بعضهم على بعض. أما تمني أشياء من أحوال صالحة له في الدنيا وأعمال يرجو بها الثواب في الآخرة فهو حسن لم يدخل في الآية. وقد جاء في الحديث : «وددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيى ثم أقتل» وفي آخر الآية : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) (١) فدل على جواز ذلك. وإذا كان مطلق تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض منهيا عنه ، فإن يكون ذلك بقيد زوال نعمة من فضل عليه عنه بجهة الأحرى. والأولى إذ هو الحسد المنهي عنه في الشرع ، والمستعاذ بالله منه في نص القرآن. وقد اختلفوا إذا تمنى حصول مثل نعمة المفضل عليه له من غير أن تذهب عن المفضل ، فظاهر الآية المنع ، وبه قال المحققون ، لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ، ومضرة عليه في الدنيا ، فلا يجوز أن يقول : اللهم أعطني دارا مثل دار فلان ، ولا زوجا مثل زوجه ، بل يسأل الله ما شاء من غير تعرض لمن فضل عليه. وقد أجازه بعض الناس.

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) قال ابن عباس وقتادة : معناه من الميراث ، لأن العرب كانت لا تورث النساء. وضعف هذا القول لأن لفظ الاكتساب ينبو عنه ، لأن الاكتساب يدل على الاعتمال والتطلب للمكسوب ، وهذا لا يكون في الإرث ، لأنه مال يأخذه الوارث عفوا بغير اكتساب فيه ، وتفسير قتادة هذا متركب على ما قاله في سبب نزول الآية. وقيل : يعبر بالكسب عن الإصابة ، كما روي أنّ بعض العرب أصاب كنزا فقال له ابنه : بالله يا أبه أعطني من كسبك نصيبا ، أي مما أصبت. ومنه قول خديجة رضي‌الله‌عنها : وتكسب المعدوم. قالوا : ومنه قول الشاعر :

فإن أكسبوني نزر مال فإنني

كسبتهم حمدا يدوم مع الدهر

وقالت فرقة : المعنى أن الله تعالى جعل لكل من الصنفين مكاسب تختص به ، فلا يتمنى أحد منها ما جعل للآخر. فجعل للرجال الجهاد والإنفاق في المعيشة ، وحمل

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٣٢.

٦١٧

التكاليف الشاقة كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك. وجعل للنساء الحمل ومشقته ، وحسن التبعل ، وحفظ غيب الزوج ، وخدمة البيوت. وقيل : المعنى مما اكتسب من نعيم الدنيا ، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له. وهذه الأقوال الثلاثة هي بالنسبة لأحوال الدنيا. وقالت فرقة : المعنى نصيب من الأجر والحسنات. وقال الزمخشري : جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف الله من حاله الموجبة للبسط والقبض كسبا له انتهى. وفي قوله : عرف الله نظر ، فإنه لا يقال في الله عارف ، نص الأئمة على ذلك ، لأن المعرفة في اللغة تستدعي قبلها جهلا بالمعروف ، وذلك بخلاف العلم ، فإنه لا يستدعي جهلا قبله. وتسمية ما قسم الله كسبا له فيه نظر أيضا ، فإنّ الاكتساب يقتضي الاعتمال والتطلب كما قلناه ، إلا إن قلنا أنّ أكثر ما قسم له يستدعي اكتسابا من الشخص ، فأطلق الاكتساب على جميع ما قسم له تغليبا للأكثر. وفي تعليق النصيب بالاكتساب حض على العمل ، وتنبيه على كسب الخير.

(وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) أي من زيادة إحسانه ونعمه. لما نهاهم عن تمني ما فضل به بعضهم ، أمرهم بأن يعتمدوا في المزيد عليه تبارك وتعالى. وظاهر قوله : من فضله ، العموم فيما يتعلق بأحوال الدنيا وأحوال الآخرة ، لأن ظاهر قوله : (وَلا تَتَمَنَّوْا) (١) ما فضل العموم أيضا ، وهو قول الجمهور. وقال ابن جبير وليث بن أبي سليم : هذا في العبادات والدين وأعمال البر ، وليس في فضل الدنيا. وفي قوله : من فضله ، دلالة على عدم تعيين المطلوب ، لكن يطلب من فضل الله ما يكون سببا لإصلاح دينه ودنياه على سبيل الإطلاق ، كما قال تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) (٢).

وقرأ ابن كثير والكسائي : وسلوا بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على السين ، وذلك إذا كان أمرا للمخاطب ، وقبل السين واو أو فاء نحو : (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ) (٣) و (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) (٤). وقرأ باقي السبعة بالهمز. قال ابن عطية : إلا في قوله : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) (٥) فإنهم أجمعوا على الهمز فيه انتهى. وهذا الذي ذكره ابن عطية وهم ، بل نصوص المقرءين في كتبهم على أن واسألوا ما أنفقتم من جملة المختلف فيه. بيّن ابن كثير والكسائي ، وبين الجماعة ، ونص على ذلك بلفظه ابن شيطا في كتاب التذكار ، ولعل الوهم وقع له في ذلك

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٣٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٠١.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ٢٤.

(٤) سورة النحل : ١٦ / ٤٣ ، وسورة الأنبياء : ٢١ / ٧.

(٥) سورة الممتحنة : ٦٠ / ١٠.

٦١٨

من قول ابن مجاهد في كتاب السبعة له ، ولم يختلفوا في قوله : (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) (١) أنه مهموز لأنه لغائب انتهى. وروى الكسائي عن إسماعيل بن جعفر عن أبي جعفر وشيبة : أنهما لم يهمزا وسل ولا فسل ، مثل قراءة الكسائي ، وحذف الهمزة في سل لغة الحجاز ، وإثباتها لغة لبعض تميم. وروى اليزيدي عن أبي عمرو : أن لغة قريش سل. فإذا أدخلوا الواو والفاء همزوا ، وسأل يقتضي مفعولين ، والثاني لقوله : واسألوا الله هو قوله : من فضله. كما تقول : أطعمت زيدا من اللحم ، وكسوته من الحرير ، والتقدير : شيئا من فضله ، وشيئا من اللحم ، وشيئا من الحرير. وقال بعض النحويين : من زائدة ، والتقدير : وسلوا الله فضله ، وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش. وقال ابن عطية : ويحسن عندي أن يقدر المفعول أمانيكم إذ ما تقدم يحسن هذا المعنى.

(إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي علمه محيط بجميع الأشياء فهو عالم بما فضل به بعضكم على بعض وما يصلح لكلّ منكم من توسيع أو تقتير فإياكم والاعتراض بتمنّ أو غيره وهو عالم أيضا بسؤالكم من فضله فيستجيب دعاءكم (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) لمّا نهى عن التمني المذكور ، وأمر بسؤال الله من فضله ، أخبر تعالى بشيء من أحوال الميراث ، وأنّ في شرعه ذلك مصلحة عظيمة من تحصيل مال للوارث لم يسع فيه ، ولم يتعنّ بطلبه ، فرب ساع لقاعد. وكلّ لا تستعمل إلا مضافة ، إما للظاهر ، وإما لمقدر ، واختلفوا في تعيين المقدّر هنا ، فقيل : المحذوف إنسان ، وقيل : المحذوف مال. والمولى : لفظ مشترك بين معان كثيرة ، منها : الوارث وهو الذي يحسن أن يفسر به هنا ، لأنه يصلح لتقدير إنسان وتقدير مال ، وبذلك فسر ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم : أن الموالي العصبة والورثة ، فإذا فرّعنا على أنّ المعنى : ولكلّ إنسان ، احتمل وجوها :

أحدها : أن يكون لكلّ متعلقا بجعلنا ، والضمير في ترك عائد على كل المضاف لإنسان ، والتقدير : وجعل لكل إنسان وارثا مما ترك ، فيتعلق مما بما في معنى موالي من معنى الفعل ، أو بمضمر يفسره المعنى ، التقدير : يرثون مما ترك ، وتكون الجملة قد تمت عند قوله : مما ترك ، ويرتفع الوالدان على إضمار كأنه قيل : ومن الوارث؟ فقيل : هم الوالدان والأقربون ورّاثا ، والكلام جملتان.

__________________

(١) سورة الممتحنة : ٦٠ / ١٠.

٦١٩

والوجه الثاني : أن يكون التقدير وجعلنا لكل إنسان موالي ، أي ورّاثا. ثم أضمر فعل أي : يرث الموالي مما ترك الوالدان ، فيكون الفاعل بترك الوالدان. وكأنه لما أبهم في قوله : وجعلنا لكل إنسان موالي ، بيّن أن ذلك الإنسان الذي جعل له ورثة هو الوالدان والأقربون ، فأولئك الورّاث يرثون مما ترك والداهم وأقربوهم ، ويكون الوالدان والأقربون موروثين. وعلى هذين الوجهين لا يكون في : جعلنا ، مضمر محذوف ، ويكون مفعول جعلناه لفظ موالي. والكلام جملتان.

الوجه الثالث : أن يكون التقدير : ولكل قوم جعلناهم موالي أي : ورّاثا نصيب مما ترك والداهم وأقربوهم ، فيكون جعلنا صفة لكلّ ، والضمير من الجملة الواقعة صفة محذوف ، وهو مفعول جعلنا. وموالي منصوب على الحال ، وفاعل ترك الوالدان. والكلام منعقد من مبتدأ وخبر ، فيتعلق لكل بمحذوف ، إذ هو خبر المبتدأ المحذوف القائم مقامه صفته وهو الجار والمجرور ، إذ قدر نصيب مما ترك. والكلام إذ ذاك جملة واحدة كما تقول : لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله ، أي حظ من رزق الله. وإذا فرعنا على أن المعنى : ولكل مال ، فقالوا : التقدير ولكل مال مما تركه الوالدان والأقربون ، جعلنا موالي أي ورّاثا يلونه ويحرزونه. وعلى هذا التقدير يكون مما ترك في موضع الصفة لكل ، والوالدان والأقربون فاعل بترك ويكونون موروثين ، ولكل متعلق بجعلنا. إلا أن في هذا التقدير الفصل بين الصفة والموصوف بالجملة المتعلقة بالفعل الذي فيها المجرور وهو نظير قولك : بكل رجل مررت تميمي ، وفي جواز ذلك نظر.

واختلفوا في المراد بالمعاقدة هنا. فقال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وقتادة وغيرهم : هي الحلف. فإنّ العرب كانت تتوارث بالحلف ، فقرر ذلك بهذه الآية ثم نسخ بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (١) وعنه أيضا هي : الحلف ، والنصيب هو المؤازرة في الحق والنصر ، والوفاء بالكلف ، لا الميراث. وقال ابن عباس أيضا : هي المؤاخاة ، كانوا يتوارثون بها حتى نسخ. وعنه كان المهاجرون يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم حتى نسخ بما تقدم ، وبقي اثنان : النصيب من النصر والمعونة ، ومن المال على جهة الندب في الوصية. وقال ابن المسيب : هي التبني والنصيب الذي أمرنا بإتيانه ، هو الوصية لا الميراث ، ومعنى عاقدت أيمانكم في هذا القول : عاقدتهم أيمانكم

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٧٥.

٦٢٠