البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

وما سحتموهم. وقيل : كانوا يتوارثون بالتبني لقوم يموتون قبل الوصية ووجوبها ، فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصى له. وقيل : المعاقدة هنا الزواج ، والنكاح يسمى عقدا ، فذكر الوالدين والأقربين ، وذكر معهم الزوج والزوجة. وقيل : المعاقدة هنا الولاء. وقيل : هي حلف أبي بكر الصديق أن لا يورث عبد الرحمن شيئا ، فلما أسلم أمره الله أن يؤتيه نصيبه من المال ، قال أبو روق : وفيهما نزلت.

فتلخص من هذه الأقوال في المعاقدة أهي الحلف أن لا يورث الحالف؟ أم المؤاخاة؟ أم التبني؟ أم الوصية المشروحة؟ أم الزواج؟ أم الموالاة؟ سبعة أقوال. قال ابن عطية : ولفظة المعاقدة والإيمان ترجح أنّ المراد الأحلاف ، لأنّ ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان انتهى.

وكيفية الحلف في الجاهلية : كان الرجل يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وثاري ثارك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك. فيكون للحليف التسدس من ميراث الحليف ، فنسخ الله ذلك. وعلى الأقوال السابقة جاء الخلاف في قوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) أهو منسوخ أم لا؟ وقد استدل بها على ميراث مولى الموالاة وبه قال : أبو يوسف ، وأبو حنيفة ، وزفر ، ومحمد ، قالوا : من أسلم على يد رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره ، فميراثه له. وروي نحوه عن يحيى بن سعيد ، وربيعة ، وابن المسيب ، والزهري ، وابراهيم ، والحسن ، وعمر ، وابن مسعود. وقال مالك ، وابن شبرمة ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي : ميراثه للمسلمين. وقد أطال الكلام في هذه المسألة أبو بكر الرازي ناصرا مذهب أبي حنيفة.

وقرأ الكوفيون : عقدت بتخفيف القاف من غير ألف ، وشدّد القاف حمزة من رواية عليّ بن كبشة ، والباقون عاقدت بألف ، وجوزوا في إعراب الذين وجوها. أحدها : أن يكون مبتدأ والخبر فآتوهم. والثاني : أن يكون منصوبا من باب الاشتغال نحو : زيدا فاضربه. الثالث : أن يكون مرفوعا معطوفا على الوالدان والأقربون ، والضمير في فآتوهم عائد على موالي إذا كان الوالدان ومن عطف عليه موروثين ، وإن كانوا وارثين فيجوز أن يعود على موالي ، ويجوز أن يعود على الوالدين والمعطوف عليه. الرابع : أن يكون منصوبا معطوفا على موالي قاله : أبو البقاء ، وقال : أي وجعلنا الذين عاقدت ورّاثا ، وكان ذلك ونسخ انتهى. ولا يمكن أن يكون على هذا التقدير الذي قدّره أن يكون معطوفا على موالي

٦٢١

لفساد العطف ، إذ يصير التقدير : ولكل إنسان ، أو : لكل شيء من المال جعلنا ورّاثا. والذين عاقدت أيمانكم ، فإن كان من عطف الجمل وحذف المفعول الثاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك ، أي جعلنا ورّاثا لكل شيء من المال ، أي : لكل إنسان ، وجعلنا الذين عاقدت أيمانكم ورّاثا. وهو بعد ذلك توجيه متكلف ، ومفعول عاقدت ضمير محذوف أي : عاقدتهم أيمانكم ، وكذلك في قراءة عقدت هو محذوف تقديره : عقدت حلفهم ، أو عهدهم أيمانكم. وإسناد المعاقدة أو العقد للإيمان سواء أريد بها القسم ، أم الجارحة ، مجاز بل فاعل ذلك هو الشخص.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) لما ذكر تعالى تشريع التوريث ، وأمر بإيتاء النصيب ، أخبر تعالى أنه مطلع على كل شيء فهو المجازي به ، وفي ذلك تهديد للعاصي ، ووعد للمطيع ، وتنبيه على أنه شهيد على المعاقدة بينكم. والصلة فأوفوا بالعهد.

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) قيل : سبب نزول هذه الآية أنّ امرأة لطمها زوجها فاستعدت ، فقضى لها بالقصاص ، فنزلت. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أردت أمرا وأراد الله غيره» قاله : الحسن ، وقتادة ، وابن جريج ، والسدي وغيرهم. فذكر التبريزي والزمخشري وابن عطية : أنها حبيبة بنت زيد بن أبي زهير زوج الرّبيع بن عمر ، وأحد النقباء من الأنصار. وطولوا القصة وفي آخرها : فرفع القصاص بين الرجل والمرأة ، وقال الكلبي : هي حبيبة بنت محمد بن سلمة زوج سعيد بن الربيع. وقال أبو روق : هي جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى زوج ثابت بن قيس بن شماس. وقيل : نزل معها : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (١) وفي سبب من عين المرأة أن زوجها لطمها بسبب نشوزها. وقيل : سبب النزول قول أم سلمة المتقدم : لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة قيل : المراد بالرجال هنا من فيهم صدامة وحزم ، لا مطلق من له لحية. فكم من ذي لحية لا يكون له نفع ولا ضر ولا حرم ، ولذلك يقال : رجل بين الرجولية والرجولة. ولذلك ادعى بعض المفسرين أنّ في الكلام حذفا تقديره : الرجال قوامون على النساء إن كانوا رجالا. وأنشد :

أكل امرئ تحسبن امرأ

ونار توقد بالليل نارا

والذي يظهر أنّ هذا إخبار عن الجنس لم يتعرض فيه إلى اعتبار أفراده ، كأنه قيل :

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ١١٤.

٦٢٢

هذا الجنس قوام على هذا الجنس. وقال ابن عباس : قوّامون مسلطون على تأديب النساء في الحق. ويشهد لهذا القول طاعتهن لهم في طاعة الله. وقوام : صفة مبالغة ، ويقال : قيام وقيم ، وهو الذي يقوم بالأمر ويحفظه. وفي الحديث : «أنت قيّام السموات والأرض ومن فيهن» والباء في بما للسبب ، وما مصدرية أي : بتفضيل الله. ومن جعلها بمعنى الذي فقد أبعد ، إذ لا ضمير في الجملة وتقديره محذوفا لا مسوّغ لحذفه ، فلا يجوز.

والضمير في بعضهم عائد على الرجال والنساء. وذكر تغليبا للمذكر على المؤنث ، والمراد بالبعض الأول الرجال ، وبالثاني النساء. والمعنى : أنهم قوّامون عليهن بسبب تفضيل الله الرجال على النساء ، هكذا قرروا هذا المعنى. قالوا : وعدل عن الضميرين فلم يأت بما فضل الله عليهن لما في ذكر بعض من الإبهام الذي لا يقتضي عموم الضمير ، فرب أنثى فضلت ذكرا. وفي هذا دليل على أن الولاية تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة ، وذكروا أشياء مما فضل به الرجال على النساء على سبيل التمثيل. فقال الربيع : الجمعة والجماعة. وقال الحسن : النفقة عليهن. وينبو عنه قوله : وبما أنفقوا. وقيل : التصرف والتجارات. وقيل : الغزو ، وكمال الدين ، والعقل. وقيل : العقل والرأي ، وحل الأربع ، وملك النكاح ، والطلاق ، والرجعة ، وكمال العبادات ، وفضيلة الشهادات ، والتعصيب ، وزيادة السهم في الميراث ، والديات ، والصلاحية للنبوة ، والخلافة ، والإمامة ، والخطابة ، والجهاد ، والرمي ، والآذان ، والاعتكاف ، والحمالة ، والقسامة ، وانتساب الأولاد ، واللحى ، وكشف الوجوه ، والعمائم التي هي تيجان العرب ، والولاية ، والتزويج ، والاستدعاء إلى الفراش ، والكتابة في الغالب ، وعدد الزوجات ، والوطء بملك اليمين (١).

وبما أنفقوا من أموالهم : معناه عليهن ، وما : مصدرية ، أو بمعنى الذي ، والعائد محذوف فيه مسوّغ الحذف. قيل : المعنى بما أخرجوا بسبب النكاح من مهورهن ، ومن النفقات عليهن المستمرة. وروى معاذ : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها». قال القرطبي : فهم الجمهور من قوله : وبما أنفقوا من أموالهم ، أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها ، وإذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد لزوال المعقود الذي شرع لأجله النكاح. وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على

__________________

(١) هكذا وجد بياض في نسخة الأصل التي بأيدينا وكذا عموم النسخ التي قوبلت عليها ا ه. مصححه.

٦٢٣

ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة ، وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة : لا يفسخ لقوله : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) (١).

(فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) قال ابن عباس : الصالحات المحسنات لأزواجهنّ ، لأنهن إذا أحسن لأزواجهن فقد صلح حالهن معهم. وقال ابن المبارك : المعاملات بالخير. وقيل : اللائي أصلحن الله لأزواجهن قال تعالى : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) (٢). وقيل : اللواتي أصلحن أقوالهن وأفعالهن. وقيل : الصلاة الدين هنا.

وهذه الأقوال متقاربة. والقانتات : المطيعات لأزواجهن ، أو لله تعالى في حفظ أزواجهن ، وامتثال أمرهم ، أو لله تعالى في كل أحوالهن ، أو قائمات بما عليهن للأزواج ، أو المصليات ، أقوال آخرها للزجاج. حافظات للغيب : قال عطاء وقتادة : يحفظن ما غاب عن الأزواج ، وما يجب لهن من صيانة أنفسهن لهن ، ولا يتحدثن بما كان بينهم وبينهن. وقال ابن عطية : الغيب ، كل ما غاب عن علم زوجها مما استتر عنه ، وذلك يعم حال غيبة الزوج ، وحال حضوره. وقال الزمخشري : الغيب خلاف الشهادة ، أي حافظات لمواجب الغيب إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن ، حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الزوج والبيوت والأموال انتهى. والألف واللام في الغيب تغني عن الضمير ، والاستغناء بها كثير كقوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) (٣) أي رأسي. وقال ذو الرّمة :

لمياء في شفتيها حوّة لعس

وفي اللثات وفي أنيابها شنب

تريد : وفي لثاتها. وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرّتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية.

وقرأ الجمهور : برفع الجلالة ، فالظاهر أن تكون ما مصدرية ، والتقدير : بحفظ الله إياهن. قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد. ويحتمل هذا الحفظ وجوها أي : يحفظ ، أي : بتوفيقه إياهن لحفظ الغيب ، أو لحفظه إياهن حين أوصى بهن الأزواج في كتابه وأمر رسوله ، فقال : «استوصوا بالنساء خيرا» أو بحفظهن حين وعدهن الثواب العظيم على حفظ الغيب ، وأوعدهن العذاب الشديد على الخيانة. وجوزوا أن تكون ما بمعنى الذي ، والعائد

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٠.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٠.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٤.

٦٢٤

على ما محذوف ، والتقدير : بما حفظه الله لهن من مهور أزواجهن ، والنفقة عليهن ، قاله الزجاج. وقال ابن عطية : ويكون المعنى إما حفظ الله ورعايته التي لا يتم أمر دونها ، وإما أوامره ونواهيه للنساء ، وكأنها حفظه ، فمعناه : أن النساء يحفظن بإزاء ذلك وبقدره. وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة.

وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : بنصب الجلالة فالظاهر أنّ ما بمعنى الذي ، وفي حفظ ضمير يعود على ما مرفوع أي : بالطاعة والبر الذي حفظ الله في امتثال أمره. وقيل : التقدير بالأمر الذي حفظ حق الله وأمانته ، وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم. وقدره ابن جني : بما حفظ دين الله ، أو أمر الله. وحذف المضاف متعين تقديره : لأن الذات المقدسة لا ينسب إليها أنها يحفظها أحد. وقيل : ما مصدرية ، وفي حفظ ضمير مرفوع تقديره : بما حفظن الله ، وهو عائد على الصالحات. قيل : وحذف ذلك الضمير ، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر كما قال : فإن الحوادث أودى بها.

يريد : أو دين بها. والمعنى : يحفظن الله في أمره حين امتثلنه. والأحسن في هذا أن لا يقال أنه حذف الضمير ، بل يقال : إنه عاد الضمير عليهن مفردا ، كأنه لوحظ الجنس ، وكأن الصالحات في معنى من صلح ، وهذا كله توجيه شذوذ أدّى إليه قول من قال في هذه القراءة : إنّ ما مصدرية. ولا حاجة إلى هذا القول ، بل ينزه القرآن عنه. وفي قراءة عبد الله ومصحفه : فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله ، فأصلحوا إليهن. وينبغي حملها على التفسير لأنها مخالفة لسواد الإمام ، وفيها زيادة. وقد صح عنه بالنقل الذي لا شك فيه أنه قرأ : وأقرأ على رسم السواد ، فلذلك ينبغي أن تحمل هذه القراءة على التفسير. قال ابن جني : والتكسير أشبه بالمعنى ، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصودة هنا. ومعنى قوله : فأصلحوا إليهن أي أحسنوا ضمن أصلحوا معنى أحسنوا ، ولذلك عداه بإلى. روى في الحديث : «يستغفر للمرأة المطيعة لزوجها الطير في الهواء ، والحيتان في البحر ، والملائكة في السماء ، والسباع في البراري». قالت أم سلمة : قلت : يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور؟ فقال : نساء الدنيا أفضل من الحور. قلت : يا رسول الله بم؟ قال : بصلاتهن ، وصيامهن ، وعبادتهن ، وطاعة أزواجهن.

(وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَ) لما ذكر تعالى صالحات الأزواج وأنهن من المطيعات الحافظات للغيب ، ذكر مقابلهن وهن العاصيات للأزواج. والخوف هنا قيل : معناه اليقين ، ذهب في ذلك إلى أنّ الأوامر التي

٦٢٥

بعد ذلك إنما يوجبها وقوع النشوز لا توقعه ، واحتج في جواز وقوع الخوف موقع اليقين بقول أبي محجن الثقفي رضي‌الله‌عنه :

ولا تدفنني بالفلاة فإنني

أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

وقيل الخوف على بابه من بعض الظن. قال :

أتاني كلام من نصيب بقوله

وما خفت يا سلام أنك عاتبي

أي : وما ظننت. وفي الحديث : «أمرت بالسواك حتى خفت لأدردن» وقيل : الخوف على بابه من ضد الأمن ، فالمعنى : يحذرون ويتوقعون ، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادئ ما يتخوف.

والنشوز : أن تتعوج المرأة ويرتفع خلقها وتستعلي على زوجها ، ويقال : نسور بالسين والراء المهملتين ، ويقال : نصور ، ويقال : نشوص. وامرأة ناشر وناشص. قال الأعشى :

تجللها شيخ عشاء فأصبحت

مضاعية تأتي الكواهن ناشصا

قال ابن عباس : نشوزهنّ عصيانهنّ. وقال عطاء : نشوزها أن لا تتعطر ، وتمنعه من نفسه ، وتتغير عن أشياء كانت تتصنع للزوج بها. وقال أبو منصور : نشوزها كراهيتها للزوج. وقيل : امتناعها من المقام معه في بيته ، وإقامتها في مكان لا يريد الإقامة فيه. وقيل : منعها نفسها من الاستمتاع بها إذا طلبها لذلك. وهذه الأقوال كلها متقاربة.

ووعظهن : تذكيرهن آمر الله بطاعة الزوج ، وتعريفهن أنّ الله أباح ضربهن عند عصيانهن ، وعقاب الله لهن على العصيان قاله : ابن عباس. وقال مجاهد : يقول لها : اتقي الله ، وارجعي إلى فراشك. وقيل : يقول لها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» وقال : «لا تمنعه نفسها ولو كانت على قتب». وقال : «أيما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح» وزاد آخرون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم : العبد الآبق وامرأة بات عليها زوجها ساخطا وإمام قوم هم له كارهون».

وهجرهن في المضاجع : تركهن لكراهة في المراقد. والمضجع المكان الذي يضطجع فيه على جنب. وأصل الاضطجاع الاستلقاء ، يقال : ضجع ضجوعا واضطجع استلقى للنوم ، وأضجعته أملته إلى الأرض ، وكل شيء أملته من إناء وغيره فقد أضجعته.

٦٢٦

قال ابن عباس وابن جبير : معناه لا تجامعوهن. وقال الضحاك والسدي : اتركوا كلامهن ، وو لوهن ظهوركم في الفراش. وقال مجاهد : فارقوهن في الفرش ، أي ناموا ناحية في فرش غير فرشهن. وقال عكرمة والحسن : قولوا لهن في المضاجع هجرا ، أي كلاما غليظا. وقيل : اهجروهن في الكلام ثلاثة أيام فما دونها. وكنى بالمضاجع عن البيوت ، لأن كل مكان يصلح أن يكون محلا للاضطجاع. وقال النخعي ، والشعبي ، وقتادة ، والحسن : من الهجران ، وهو البعد وقيل : اهجروهن بترك الجماع والاجتماع ، وإظهار التجهم ، والإعراض عنهن مدة نهايتها شهرا كما فعل عليه‌السلام «حين حلف أن لا يدخل على نسائه شهرا» وقيل : اربطوهن بالهجار ، وأكرهوهن على الجماع من قولهم : هجر البعير إذا شده بالهجار ، وهو حبل يشدّ به البعير قاله : الطبري ورجحه. وقدح في سائر الأقوال. وقال الزمخشري في قول الطبري : وهذا من تفسير الثقلاء انتهى. وقيل في للسبب : أي اهجروهن بسبب تخلفهن عن الفرش. وقرأ عبد الله والنخعي : في المضجع على الإفراد وفيه معنى الجمع ، لأنه اسم جنس.

وضربهن هو أن يكون غير مبرح ولا ناهك ، كما جاء في الحديث. قال ابن عباس : بالسواك ونحوه. والضرب غير المبرح هو الذي لا يهشم عظما ، ولا يتلف عضوا ، ولا يعقب شينا ، والناهك البالغ ، وليجتنب الوجه. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «علق سوطك حيث يراه أهلك» وعن أسماء بنت الصديق رضي‌الله‌عنها : كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير ، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها. وهذا يخالف قول ابن عباس ، وكذلك ما رواه ابن وهب عن مالك : أن أسماء زوج الزبير كانت تخرج حتى عوتبت في ذلك وعيب عليها وعلى ضرّاتها ، فعقد شعر واحدة بالأخرى ، ثم ضربهما ضربا شديدا ، وكانت الضرّة أحسن اتقاء ، وكانت أسماء لا تتقي الضرب ، فكان الضرب بها أكثر ، فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي‌الله‌عنه فقال : يا بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح ، ولعله أن يكون زوجك في الجنة.

وظاهر الآية يدل : على أنه يعظ ، ويهجر في المضجع ، ويضرب التي يخاف نشوزها. ويجمع بينها ، ويبدأ بما شاء ، لأن الواو لا ترتب. وقال بهذا قوم وقال الجمهور : الوعظ عند خوف النشوز ، والضرب عند ظهوره. وقال ابن عطية : هذه العظة والهجر والضرب مراتب ، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها. وقال الزمخشري : أمر بوعظهن أولا ، ثم بهجرانهن في المضاجع ، ثم بالضرب إن لم ينجع فيهن الوعظ

٦٢٧

والهجران. وقال الرازي ما ملخصه : يبدأ بلين القول في الوعظ ، فإن لم يفسد فبخشنه ، ثم يترك مضاجعتها ، ثم بالإعراض عنها كلية ، ثم بالضرب الخفيف كاللطمة واللكزة ونحوها مما يشعر بالاحتقار وإسقاط الحرمة ، ثم بالضرب بالسوط والقضيب اللين ونحوه مما يحصل به الألم والإنكاء ولا يحصل عنه هشم ولا إراقة دم ، فإن لم يفد شيء من ذلك ربطها بالهجار وهو الحبل ، وأكرهها على الوطء ، لأن ذلك حقه. وأي شيء من هذه رجعت به عن نشوزها على ما رتبناه لم يجز له أن ينتقل إلى غيره لقوله :

(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) انتهى. وقوله : فإن أطعنكم أي : وافقنكم وانقدن إلى ما أوجب الله عليهن من طاعتكم. يدل على أنهن كن عاصيات بالنشوز ، وأن النشوز منهن كان واقعا ، فإذن ليس الأمر مرتبا على خوف النشوز. وآخرها يدل على أنه مرتب على عصيانهن بالنشوز ، فهذا مما حمل على تأول الخوف بمعنى التيقن. والأحسن عندي أن يكون ثمّ معطوفا حذف لفهم المعنى واقتضائه له ، وتقديره : واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن. كما حذف في قوله : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ) (١) تقديره فضرب فانفجرت ، لأن الانفجار لا يتسبب عن الأمر ، إنما هو متسبب عن الضرب. فرتبت هذه الأوامر على الملفوظ به. والمحذوف : أمر بالوعظ عند خوف النشوز ، وأمر بالهجر والضرب عند النشوز.

ومعنى فلا تبغوا : فلا تطلبوا عليهن سبيلا من السبل الثلاثة المباحة وهي : الوعظ ، والهجر ، والضرب. وقال سفيان : معناه لا تكلفوهن ما ليس في قدرتهن من الميل والمحبة ، فإن ذلك إلى الله. وقيل : يحتمل أن يكون تبغوا من البغي وهو الظلم ، والمعنى : فلا تبغوا عليهن من طريق من الطرق. وانتصاب سبيلا على هذا هو على إسقاط الخافض. وقيل : المعنى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا من سبل البغي لهن والإضرار بهن توصيلا بذلك إلى نشوزهن أي : إذا كانت طائعة فلا يفعل معها ما يؤدي إلى نشوزها. ولفظ عليهن يؤذن بهذا المعنى. وسبيلا نكرة في سياق النفي ، فيعم النهي عن الأذى بقول أو فعل.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) لما كان في تأديبهن بما أمر تعالى به الزوج اعتلاء للزوج على المرأة ، ختم تعالى الآية بصفة العلو والكبر ، لينبه العبد على أن المتصف بذلك حقيقة هو الله تعالى. وإنما أذن لكم فيما أذن على سبيل التأديب لهن ، فلا تستعلوا عليهن ، ولا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٠.

٦٢٨

تتكبروا عليهن ، فإنّ ذلك ليس مشروعا لكم. وفي هذا وعظ عظيم للأزواج ، وإنذار أنّ قدرة الله عليكم فوق قدرتكم عليهن. وفي حديث أبي مسعود وقد ضرب غلاما له اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد. أو يكون المعنى : إنكم تعصونه تعالى على علو شأنه وكبرياء سلطانه ، ثم يتوب عليكم ، فيحق لكم أن تعفوا عنهن إذا أطعنكم.

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) الخلاف في الخوف هنا مثله في : واللاتي تخافون. ولما كان حال المرأة مع زوجها إمّا الطواعية ، وإمّا النشوز. وكان النشوز إمّا تعقبه الطواعية ، وإمّا النشوز المستمر ، فإن أعقبته الطواعية فتعود كالطائعة أولا. وإن استمر النشوز واشتدّ ، بعث الحكمان.

والشقاق : المشاقة. والأصل شقاقا بينهما ، فاتسع وأضيف. والمعنى على الظرف كما تقول : يعجبني سير الليلة المقمرة. أو يكون استعمل اسما وزال معنى الظرف ، أو أجرى البين هنا مجرى حالهما وعشرتهما وصحبتهما.

والخطاب في : وإن خفتم ، وفي فابعثوا ، للحكام ، ومن يتولى الفصل بين الناس. وقيل : للأولياء لأنهم الذين يلون أمر الناس في العقود والفسوخ ، ولهم نصب الحكمين. وقيل : خطاب للمؤمنين. وأبعد من ذهب إلى أنه خطاب للأزواج ، إذ لو كان خطابا للأزواج لقال : وإن خافا شقاق بينهما فليبعثا ، أو لقال : فإن خفتم شقاق بينكم ، لكنه انتقال من خطاب الأزواج إلى خطاب من له الحكم والفصل بين الناس ، وإلى أنه خطاب للأزواج ذهب الحسن والسدي. والضمير في بينهما عائد على الزوجين ، ولم يجر ذكرهما ، لكن جرى ما يدل عليهما من ذكر الرجال والنساء.

والحكم : هو من يصلح للحكومة بين الناس والإصلاح. ولم تتعرّض الآية لما ذا يحكمان فيه ، وإنما كان من الأهل ، لأنه أعرف بباطن الحال ، وتسكن إليه النفس ، ويطلع كل منهما حكمه على ما في ضميره من حب وبغض وإرادة صحبة وفرقة. قال جماعة من العلماء : لا بد أن يكونا عارفين بأحوال الزوجين ، عدلين ، حسني السياسة والنظر في حصول المصلحة ، عالمين بحكم الله في الواقعة التي حكما فيها. فإن لم يكن من أهلهما من يصلح لذلك أرسل من غيرهما عدلين عالمين ، وذلك إذا أشكل أمرهما ورغبا فيمن يفصل بينها. وقال بعض العلماء : إنما هذا الشرط في الحكمين اللذين يبعثهما الحاكم. وأما الحكمان اللذان يبعثهما الزوجان فلا يشترط فيهما إلا أن يكونا بالغين عاقلين مسلمين ،

٦٢٩

من أهل العفاف والستر ، يغلب على الظن نصحهما. واختلفوا في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان ، فذهب الجمهور إلى أنهما ينظران في كل شيء ، ويحملان على الظالم ، ويمضيان ما رأيا من بقاء أو فراق ، وبه قال : مالك ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وأبو ثور. وهو مروي عن : علي ، وعثمان ، وابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، ومجاهد ، وأبي سلمة ، وطاووس. قال مالك : إذا رأيا التفريق فرقا ، سواء أوافق مذهب قاضي البلد أو خالفه ، وكلاه أم لا ، والفراق في ذلك طلاق بائن ، وقالت طائفة : لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرّحا بتقديمهما عليه ، فالحكمان وكيلان : أحدهما للزوج ، والآخر للزوجة ، ولا تقع الفرقة إلا برضا الزوجين ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وعن الشافعي القولان. وقال الحسن وغيره : ينظر الحكمان في الإصلاح وفي الأخذ والإعطاء ، إلا في الفرقة فإنّها ليست إليهما. وأما ما يقول الحكمان ، فقال جماعة : يقول حكم الزوج له أخبرني ما في خاطرك ، فإن قال : لا حاجة لي فيها ، خذ لي ما استطعت وفرق بيننا ، علم أن النشوز من قبله. وإن قال : أهواها ورضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيننا ، علم أنه ليس بناشز ويقول الحكم من جهتها لها كذلك ، فإذا ظهر لهما أن النشوز من جهته وعظاه ، وزجراه ، ونهياه.

(إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) الضمير في يريدا عائد على الحكمين قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما. وفي بينهما عائد على الزوجين ، أي : قصدا إصلاح ذات البين ، وصحت نيتهما ، ونصحا لوجه الله ، وفق الله بين الزوجين وألف بينهما ، وألقى في نفوسهما المودة. وقيل : الضميران معا عائدان على الحكمين أي : إن قصدا إصلاح ذات البين ، وفق الله بينهما فيجتمعان على كلمة واحدة ، ويتساعدان في طلب الوفاق حتى يحصل الغرض. وقيل : الضميران عائدان على الزوجين أي : إن يرد الزوجان إصلاحا بينهما ، وزوال شقاق ، يزل الله ذلك ويؤلف بينهما. وقيل : يكون في يريدا عائدا على الزوجين ، وفي بينهما عائدا على الحكمين : أي : إن يرد الزوجان إصلاحا وفق الله بين الحكمين فاجتمعا على كلمة واحدة ، وأصلحا ، ونصحا.

وظاهر الآية أنه لا بد من إرسال الحكمين وبه قال الجمهور.

وروي عن مالك : أنه يجزي إرسال واحد ، ولم تتعرض الآية لعدالة الحكمين ، فلو كانا غير عدلين فقال عبد الملك : حكمهما منقوض. وقال ابن العربي : الصحيح نفوذه. وأجمع أهل الحل والعقد : على أن الحكمين يجوز تحكيمهما. وذهبت الخوارج : إلى أن

٦٣٠

التحكيم ليس بجائز ، ولو فرّق الحكمان بين الزوجين خلعا برضا الزوجين. فهل يصح من غير أمر سلطان؟ ذهب الحسن وابن سيرين : إلى أنه لا يجوز الصلح إلا عند السلطان. وذهب عمر وعثمان وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين : إلى أنه يصح من غير أمر السلطان منهم : مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) يعلم ما يقصد الحكمان ، وكيف يوفقا بين المختلفين ، ويخبر خفايا ما ينطقان به في أمر الزوجين.

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) مناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر أنّ الرجال قوامون على النساء بتفضيل الله إياهم عليهن ، وبإنفاق أموالهم ، ودل بمفهوم اللقب أنه لا يكون قواما على غيرهن ، أوضح أنه مع كونه قواما على النساء هو أيضا مأمور بالإحسان إلى الوالدين ، وإلى من عطفه على الوالدين. فجاءت حثا على الإحسان ، واستطرادا لمكارم الأخلاق. وأن المؤمن لا يكتفي من التكاليف الإحسانية بما يتعلق بزوجته فقط ، بل عليه غيرها من بر الوالدين وغيرهم. وافتتح التوصل إلى ذلك بالأمر بإفراد الله تعالى بالعبادة ، إذ هي مبدأ الخير الذي تترتب الأعمال الصالحة عليه. ونظير : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (١) وتقدم شرح قوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) (٢) إلا أن هنا وبذي ، وهناك وذي ، وإعادة الباء تدل على التوكيد والمبالغة ، فبولغ في هذه الآية لأنها في حق هذه الأمة ، ولم يبالغ في حق تلك ، لأنها في حق بني إسرائيل. والاعتناء بهذه الأمة أكثر من الاعتناء بغيرها ، إذ هي خير أمة أخرجت للناس. وقرأ ابن أبي عبلة : وبالوالدين إحسان بالرفع ، وهو مبتدأ وخبر فيه ما في المنصوب من معنى الأمر ، وإن كان جملة خبرية نحو قوله :

فصبر جميل فكلانا مبتلي

(وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) قال ابن عباس : ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد ، ومقاتل في آخرين : هو الجار القريب النسب ، والجار الجنب هو الجار الأجنبي ، الذي لا قرابة بينك وبينه. وقال بلعاء بن قيس :

لا يجتوينا مجاور أبدا

ذو رحم أو مجاور جنب

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٨٣.

٦٣١

وقال نوف الشامي : هو الجار المسلم.

(وَالْجارِ الْجُنُبِ) هو : الجار اليهودي ، والنصراني. فهي عنده قرابة الإسلام ، وأجنبية الكفر. وقالت فرقة ، هو الجار القريب المسكن منك ، والجنب هو البعيد المسكن منك. كأنه انتزع من الحديث الذي فيه : إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال : «إلى أقربهما منك بابا». وقال ميمون بن مهران : والجار ذي القربى أريد به الجار القريب. قال ابن عطية : وهذا خطأ في اللسان ، لأنه جمع على تأويله بين الألف واللام والإضافة ، وكان وجه الكلام : وجار ذي القربى انتهى. ويمكن تصحيح قول ميمون على أن لا يكون جمعا بين الألف واللام والإضافة على ما زعم ابن عطية بأن يكون قوله : ذي القربى بدلا من قوله : والجار ، على حذف مضاف التقدير : والجار جار ذي القربى ، فحذف جار لدلالة الجار عليه ، وقد حذفوا البدل في مثل هذا. قال الشاعر :

رحم الله أعظما دفنوها

بسجستان طلحة الطلحات

يريد : أعظم طلحة الطلحات. ومن كلام العرب : لو يعلمون العلم الكبيرة سنة ، يريدون : علم الكبيرة سنة. والجنب : هو البعيد ، سمي بذلك لبعده عن القرابة. وقال : فلا تحرمني نائلا عن جنابة. والمجاورة مساكنة الرجل الرجل في محلة ، أو مدينة ، أو كينونة أربعين دارا من كل جانب ، أو يعتبر بسماع الأذان ، أو بسماع الإقامة ، أقوال أربعة ثانيها : قول الأوزاعي. وروى في ذلك حديثا أنه عليه الصلاة والسلام «أمر مناديه ينادي : «ألا إنّ أربعين دارا جوار ، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» والمجاورة مراتب ، بعضها ألصق من بعض ، أقربها الزوجة. قال الأعشى :

أجارتنا بيني فإنك طالقة

وقرىء : والجار ذا القربى. قال الزمخشري : نصبا على الاختصاص كما قرىء (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (١) تنبيها على عظم حقه لإدلائه بحقي الجوار والقربى انتهى ، وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه : والجار الجنب بفتح الجيم وسكون النون ، ومعناه البعيد. وسئل أعرابي عن الجار الجنب فقال : هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٣٨.

٦٣٢

(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك : هو الرفيق في السفر. وقال علي وابن مسعود والنخعي ، وابن أبي ليلى : الزوجة. وقال ابن زيد : هو من يعتريك ويلمّ بك لتنفعه. وقال الزمخشري : هو الذي صحبك بأن حصل يجنبك إما رفيقا في سفر ، وإما جارا ملاصقا ، وإما شريكا في تعلم علم أو حرفة ، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد ، أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه ، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه ، وتجعله ذريعة للإحسان. وقال مجاهد أيضا : هو الذي يصحبك سفرا وحضرا. وقيل : الرفيق الصالح.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) تقدّم شرحه.

(وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قيل : ما وقعت على العاقل باعتبار النوع كقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) (١) وقيل : لأنها أعم من من ، فتشمل الحيوانات على إطلاقها من عبيد وغيرهم ، والحيوانات غير الأرقاء أكثر في يد الإنسان من الأرقاء ، فغلب جانب الكثرة ، فأمر الله تعالى بالإحسان إلى كل مملوك من آدمي وحيوان غيره. وقد ورد غير ما حديث في الوصية بالارقاء خيرا في صحيح مسلم وغيره. ومن غريب التفسير ما نقل عن سهل التستري قال : الجار ذو القربى هو القلب ، والجار الجنب النفس ، والصاحب بالجنب العقل الذي يجهر على اقتداء السنة والشرائع ، وابن السبيل الجوارح المطيعة.

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) نفى تعالى محبته عمن اتصف بهاتين الصفتين : الاختيال وهو التكبر ، والفخر هو عد المناقب على سبيل التطاول بها والتعاظم على الناس. لأنّ من اتصف بهاتين الصفتين حملتاه على الإخلال بمن ذكر في الآية ممن يكون لهم حاجة إليه. وقال أبو رجاء الهروي : لا تجد سيىء الملكة إلا وجدته مختالا فخورا ، ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا. قال الزمخشري : والمختال التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه ، فلا يتحفى بهم ، ولا يلتفت إليهم. وقال غيره : ذكر تعالى الاختيال لأن المختال يأنف من ذوي قرابته إذا كانوا فقراء ، ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء ، ومن الأيتام لاستضعافهم ومن المساكين لاحتقارهم ، ومن ابن السبيل لبعده عن أهله وماله ، ومن مماليكه لأسرهم في يده انتهى. وتظافرت هذه النقول على أن ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية إنما جاء تنبيها على أنّ من اتصف بالخيلاء والفخر يأنف من

__________________

(١) سورة سورة النساء : ٤ / ٣.

٦٣٣

الإحسان للأصناف المذكورين ، وأن الحامل له على ذلك اتصافه بتينك الصفتين. والذي يظهر لي أنّ مساقهما غير هذا المساق الذي ذكروه ، وذلك أنه تعالى لما أمر بالإحسان للأصناف المذكورة والتحفي بهم وإكرامهم ، كان في العادة أن ينشأ عن من اتصف بمكارم الأخلاق أن يجد في نفسه زهوا وخيلاء ، وافتخارا بما صدر منه من الإحسان. وكثيرا ما افتخرت العرب بذلك وتعاظمت في نثرها ونظمها به ، فأراد تعالى أن ينبه على التحلي بصفة التواضع ، وأن لا يرى لنفسه شفوقا على من أحسن إليه ، وأن لا يفخر عليه كما قال تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) (١) فنفى تعالى محبته عن المتحلي بهذين الوصفين. وكان المعنى أنهم أمروا بعبادة الله تعالى ، وبالإحسان إلى الوالدين. ومن ذكر معهما : ونهوا عن الخيلاء والفخر ، فكأنه قيل : ولا تختالوا وتفخروا على من أحسنتم إليه ، إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا. إلا أنّ ما ذكرناه لا يتم إلا على أن يكون الذين يبخلون مبتدأ مقتطعا مما قبله ، أما إن كان متصلا بما قبله فيأتي المعنى الذي ذكره المفسرون ، ويأتي إعراب الذين يبخلون ، وبه يتضح المعنى الذي ذكروه ، والمعنى الذي ذكرناه إن شاء الله تعالى.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) نزلت هذه الآية في قوم كفار. روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد ، وحضرمي : أنها نزلت في أحبار اليهود بخلوا بالإعلام بأمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكتموا ما عندهم من العلم في ذلك ، وأمروا بالبخل على جهتين : أمروا أتباعهم بجحود أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا للأنصار : لم تنفقون على المهاجرين فتفتقرون؟ وقيل : نزلت في المنافقين. وقيل : في مشركي مكة.

وعلى اختلاف سبب النزول اختلف أقوال المفسرين من المعنى بالذين يبخلون. وقيل : هي عامّة في كل من يبخل ويأمر بالبخل من اليهود وغيرهم. والبخل في كلام العرب : منع السائل شيئا مما في يد المسئول من المال ، وعنده فضل. قال طاووس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس. والبخل في الشريعة ، هو منع الواجب. وقال الراغب : لم يرد البخل بالمال ، بل بجميع ما فيه نفع للغير انتهى. ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين ومن ذكر معهما من المحتاجين على

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٤.

٦٣٤

سبيل ابتداع أمر الله ، بيّن أنّ من لا يفعل ذلك قسمان. أحدهما : البخيل الذي لا يقدم على إنفاق المال البتة حتى أفرط في ذلك وأمر بالبخل. والثاني : الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، لا لغرض أمر الله وامتثاله وطاعته. وذمّ تعالى القسمين بأن أعقب القسم الأول : وأعتدنا للكافرين ، وأعقب الثاني بقوله : (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً) (١).

والبخل أنواع : بخل بالمال ، وبخل بالعلم ، وبخل بالطعام ، وبخل بالسلام ، وبخل بالكلام ، وبخل على الأقارب دون الأجانب ، وبخل بالجاه ، وكلها نقائص ورذائل مذمومة عقلا وشرعا وقد جاءت أحاديث في مدح السماحة وذم البخل منها : «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن : البخل وسوء الخلق» وظاهر قوله بالبخل أنه متعلق بقوله : ويأمرون ، كما تقول : أمرت زيدا بالصبر ، فالبخل مأمور به. وقيل : متعلق الأمر محذوف ، والباء في بالبخل حالية ، والمعنى : ويأمرون الناس بشكرهم مع التباسهم بالبخل ، فيكون نحو ما أشار إليه الشاعر بقوله :

أجمعت أمرين ضاع الحزم بينهما

تيه الملوك وأفعال المماليك

وقرأ الجمهور : بالبخل بضم الباء وسكون الخاء. وعيسى بن عمر والحسن : بضمهما. وحمزة الكسائي : بفتحهما ، وابن الزبير وقتادة وجماعة. بفتح الباء ، وسكون الخاء. وهي كلها لغات. قال الفرّاء : البخل مثقلة لأسد ، والبخل خفيفة لتميم ، والبخل لأهل الحجاز. ويخففون أيضا فتصير لغتهم ولغة تميم واحدة ، وبعض بكر بن وائل بقولون البخل قال جرير :

تريدين أن ترضي وأنت بخيلة

ومن ذا الذي يرضي الأخلاء بالبخل

وأنشدني المفضل :

وأوفاهم أوان بخل

وينشد هذا البيت بفتحتين وضمتين :

وإن امرأ لا يرتجى الخير عنده

لذو بخل كل على من يصاحب

واختلفوا في إعراب الذين يبخلون ، فقيل : هو في موضع نصب بدل من قوله : من كان. وقيل : من قوله مختالا فخورا. أفرد اسم كان ، والخبر على لفظ من ، وجمع الذين

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٣٨.

٦٣٥

حملا على المعنى. وقيل : انتصب على الذم. ويجوز عندي أن يكون صفة لمن ، ولم يذكروا هذا الوجه. وقيل : هو في موضع رفع على إضمار مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين. وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون بدلا من الضمير في فخورا ، وهو قلق. فهذه ستة أوجه يكون فيها الذين يبخلون متعلقا بما قبله ، ويكون الباخلون منفيا عنهم محبة الله تعالى ، وتكون الآية إذن في المؤمنين ، والمعنى : أحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمى الله ، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم وهي : الخيلاء ، والفخر ، والبخل ، والأمر به ، وكتمان ما أعطاهم الله من الرزق والمال. وقيل : الذين يبخلون في موضع رفع على الابتداء ، واختلفوا في الخبر : أهو محذوف؟ أم ملفوظ به؟ فقيل : هو ملفوظ به وهو قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) (١) ويكون الرابط محذوفا تقديره : مثقال ذرة لهم ، أو لا يظلمهم مثقال ذرة. وإلى هذا ذهب الزجاج ، وهو بعيد متكلف لكثرة الفواصل بين المبتدأ والخبر ، ولأن الخبر لا ينتظم مع المبتدأ معناه : انتظاما واضحا لأنّ سياق المبتدأ وما عطف عليه ظاهرا من قوله : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، لا يناسب أن يخبر عنه بقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ، بل مساق أنّ الله لا يظلم أن يكون استئناف كلام إخبارا عن عدله وعن فضله تعالى وتقدس. وقيل : هو محذوف فقدره الزمخشري : الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقاء بكل ملامة. وقدره ابن عطية : معذبون أو مجازون ونحوه. وقدره أبو البقاء : أولئك قرناؤهم الشيطان ، وقدره أيضا : مبغضون. ويحتمل أن يكون التقدير : كافرون (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) (٢) فإن كان ما قبل الخبر مما يقتضي كفرا حقيقة كتفسيرهم البخل بأنه بخل بصفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبإظهار نبوّته. والأمر بالبخل لأتباعهم أي : بكتمان ذلك ، وكتمهم ما تضمنته التوراة من نبوّته وشريعته ، كان قوله : وأعتدنا للكافرين ، حقيقة فإن كان ما قبل الخبر كفر نعمة كتفسيرهم : أنها في المؤمنين ، كان قوله : وأعتدنا للكافرين كفر نعمة ولكل من هذه التقادير مناسب من الآية ، والآية على هذه التقادير. وقول الزجاج : في الكفار ، ويبين ذلك سبب النزول المتقدم. وتقدم تفسير البخل والأمر به ، والكتمان على هذا الوجه في سبب النزول. وأعتدنا للكافرين : أي أعددنا وهيأنا. والعتيد : الحاضر المهيأ والمهين الذي فيه خزي وذل ، وهو أنكى وأشد على المعذب.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤٠.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٣٧.

٦٣٦

(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) تقدم تفسير مثل هذه الآية في قوله : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (١) وهنا : ولا باليوم الآخر ، وهناك : واليوم الآخر. قال السدّي ، والزجاج وأبو سليمان الدّمشقي والجمهور : هم المنافقون نزلت فيهم ، وإنفاقهم هو إعطاؤهم الزكاة ، وإخراجهم المال في السفر للغزو رئاء ودفعا عن أنفسهم ، لا إيمانا ولا حبا في الدّين. وقال ابن عباس : ومقاتل ، ومجاهد : نزلت في اليهود. وضعفه الطبري من حيث أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر. ووجه ابن عطية هذا القول بأنهم لم يؤمنوا على ما ينبغي جعل إيمانهم كلا إيمان من حيث لا ينفعهم. وقيل : هم مشركو مكة ، لأنهم كانوا ينكرون البعث. وإنفاق اليهود هو ما أعانوا به قريشا في غزوة أحد وغزوة الخندق ، وإنفاق مشركي مكة هو ما كان في عداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلبهم الانتصار.

وفي إعراب والذين ينفقون وجوه : أحدها : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، ويقدر : معذبون ، أو قرينهم الشيطان ، ويكون العطف من عطف الجمل. والثاني : أن يكون معطوفا على الكافرين ، فيكون مجرورا قاله : الطبري. والثالث : أن يكون معطوفا على الذين يبخلون ، فيكون إعرابه كإعراب الذين يبخلون. والعطف في هذين الوجهين من عطف المفردات. ورئاء مصدر راء ، أو انتصابه على أنه مفعول من أجله ، وفيه شروطه فلا ينبغي أن يعدل عنه. وقيل : هو مصدر في موضع الحال قاله : ابن عطية ، ولم يذكر غيره. وظاهر قوله : ولا يؤمنون أنه عطف على صلة الذين ، فيكون صلة. ولا يضر الفصل بين أبعاض الصلة بمعمول للصلة ، إذ انتصاب رئاء على وجهيه بينفقون. وجوّزوا أن يكون : ولا يؤمنون في موضع الحال ، فتكون الواو واو الحال أي : غير مؤمنين ، والعامل فيها ينفقون أيضا. وحكى المهدوي : أنه يجوز انتصاب رئاء على الحال من نفس الموصول لا من الضمير في ينفقون ، فعلى هذا لا يجوز أن يكون : ولا يؤمنون معطوفا على الصلة ، ولا حالا من ضمير ينفقون ، لما يلزم من الفصل بين أبعاض الصلة ، أو بين معمول الصلة بأجنبي وهو رئاء المنصوب على الحال من نفس الموصول ، بل يكون قوله : ولا يؤمنون مستأنف. وهذا وجه متكلف. وتعلق رئاء بقوله : ينفقون واضح ، إما على المفعول له ، أو الحال ، فلا ينبغي أن يعدل عنه. وتكرار لا وحرف الجر في قوله : ولا باليوم الآخر مفيد لانتفاء كل واحد من الإيمان بالله ، ومن الإيمان باليوم الآخر. لأنك إذا قلت :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٤.

٦٣٧

لا أضرب زيدا وعمرا ، احتمل أن لا تجمع بين ضربيهما. ولذلك يجوز أن تقول بعد ذلك : بل أحدهما. واحتمل نفي الضرب عن كل واحد منهما على سبيل الجمع ، وعلى سبيل الإفراد. فإذا قلت : لا أضرب زيدا ولا عمرا ، تعين هذا الاحتمال الثاني الذي كان دون تكرار.

(وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) لما ذكر تعالى من اتصف بالبخل والأمر به ، وكتمان فضل الله تعالى ، والإنفاق رئاء ، وانتفاء إيمانه بالله وباليوم الآخر ، ذكر أن هذه من نتائج مقارنة الشيطان ومخالطته وملازمته للمتصف بذلك ، لأنها شر محض ، إذ جمعت بين سوء الاعتقاد الصادر عنه الإنفاق رئاء ، وسائر تلك الأوصاف المذمومة. ولذلك قدم تلك الأوصاف وذكر ما صدرت عنه وهو انتفاء الإيمان بالموجد ، وبدار الجزاء. ثم ذكر أنّ ذلك من مقارنة الشيطان.

والقرين هنا فعيل بمعنى مفاعل ، كالجليس والخليط أي : المجالس والمخالط. والشيطان هنا جنس لا يراد به إبليس وحده وهو كقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (١) وله متعلق بقرينا أي : قرينا له. والفاء جواب الشرط ، وساء هنا هي التي بمعنى بئس للمبالغة في الذم ، وفاعلها على مذهب البصريين ضمير عام ، وقرينا تمييز لذلك الضمير. والمخصوص بالذمّ محذوف وهو العائد على الشيطان الذي هو قرين ، ولا يجوز أن يكون ساء هنا هي المتعدية ومفعولها محذوف وقرينا حال ، لأنها إذ ذاك تكون فعلا متصرفا فلا تدخله الفاء ، أو تدخله مصحوبة بقد. وقد جوّزوا انتصاب قرينا على الحال ، أو على القطع ، وهو ضعيف. وبولغ في ذمّ هذا القرين لحمله على تلك الأوصاف الذميمة. قال الزمخشري وغيره : ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار انتهى. فتكون المقارنة إذ ذاك في الآخرة يقرن به في النار فيتلاعنان ويتباغضان كما قال : (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٢) و (إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ) (٣). وقال الجمهور : هذه المقاربة هي في الدنيا كقوله : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ) (٤) و (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٥) و (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) (٦) قال ابن عطية : وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٧) وذلك مردود ، لأنّ بدلا حال ، وفي هذا نظر. والذي قاله

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٣٦.

(٢) سورة ابراهيم : ١٤ / ٤٩.

(٣) سورة الفرقان : ٢٥ / ١٣.

(٤) سورة فصلت : ٤١ / ٢٥.

(٥) سورة الزخرف : ٤٣ / ٣٦.

(٦) سورة ق : ٥٠ / ٢٧.

(٧) سورة الكهف : ١٨ / ٥٠.

٦٣٨

الطبري صحيح ، وبدلا تمييز لا حال ، وهو مفسر للضمير المستكن في بئس على مذهب البصريين ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره : هم أي الشيطان وذريته. وإنما ذهب إلى إعراب المنصوب بعد نعم وبئس حالا الكوفيون على اختلاف بينهم مقرر في علم النحو.

وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩)

(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) ظاهر هذا الكلام أنه ملتحم لحمة واحدة ، والمراد بذلك : ذمّهم وتوبيخهم وتجهيلهم بمكان سعادتهم ، وإلا فكل الفلاح والمنفعة في اتصافهم بما ذكر تعالى. فعلى هذا الظاهر يحتمل أن يكون الكلام جملتين ، وتكون لو على بابها من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، والتقدير : وماذا عليهم في الإيمان بالله واليوم الآخر والإنفاق في سبيل الله لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله لحصلت لهم السعادة. ويحتمل أن يكون جملة واحدة ، وذلك على مذهب من يثبت أن لو تكون مصدرية في معنى : أن كأنه قيل : وماذا عليهم أن آمنوا ، أي في الإيمان بالله ، ولا جواب لها إذ ذاك ، فيكون كقوله :

وماذا عليه أن ذكرت أوانسا

كغزلان رمل في محاريب أقيال

قالوا : ويجوز أن يكون قوله : وماذا عليهم ، مستقلا لا تعلق له بما بعده ، بل ما بعده مستأنف. أي : وماذا عليهم يوم القيامة من الوبال والنكال باتصافهم بالبخل وتلك الأوصاف المذمومة ، ثم استأنف وقال : لو آمنوا ، وحذف جواب لو. وقال ابن عطية : وجواب لو في قوله : ماذا ، فهو جواب مقدم انتهى. فإن أراد ظاهر هذا الكلام فليس موافقا لكلام النحويين ، لأن الاستفهام لا يقع جواب لو ، ولأن قولهم : أكرمتك لو قام زيد ، إن ثبت أنه من كلام العرب حمل على أن أكرمتك دال على الجواب ، لا جواب كما قالوا في قولهم : أنت ظالم إن فعلت. وإن أراد تفسير المعنى فيمكن ما قاله.

وماذا : يحتمل أن تكون كلها استفهاما ، والخبر في عليهم. ويحتمل أن يكون ما هو الاستفهام ، وذا بمعنى الذي وهو الخبر ، وعليهم صلة ذا. وإذا كان لو آمنوا بالله واليوم الآخر من متعلقات قوله : وماذا عليهم ، كان في ذلك تفجع عليهم واحتياط وشفقة ، وقد تعلقت المعتزلة بذلك. قال أبو بكر الرازي : تدل على بطلان مذهب الجهمية أهل الجبر ،

٦٣٩

لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما أجاز أن يقال ذلك فيهم ، لأنّ عذرهم واضح وهو أنّهم غير متمكنين مما دعوا إليه ، ولا قادرين ، كما لا يقال للأعمى : ماذا عليه لو أبصر ، ولا يقال للمريض ماذا عليه لو كان صحيحا. وفي ذلك أوضح دليل على أنّ الله قد قطع عذرهم في فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات ، وأنهم متمكنون من فعلها انتهى كلامه. وهو قول المعتزلة والمذاهب في هذا أربعة كما تقرر : الجبرية ، والقدرية ، والمعتزلة ، وأهل السنة. قال ابن عطية : والانفصال عن شبهة المعتزلة أنّ المطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم وإقبالهم على الإيمان ، وأما الاختراع فالله المنفرد به انتهى. ولما وصفهم تعالى بتلك الأوصاف المذمومة كان فيه الترقي من وصف قبيح إلى أقبح منه ، فبدأ أولا بالبخل ، ثم بالأمر به ، ثم بكتمان فضل الله ، ثم بالإنفاق رياء ، ثم بالكفر بالله وباليوم الآخر. ولما وبخهم وتلطف في استدعائهم بدأ بالإيمان بالله واليوم الآخر ، إذ بذلك تحصل السعادة الأبدية ، ثم عطف عليه الإنفاق أي : في سبيل الله ، إذ به يحصل نفي تلك الأوصاف القبيحة من البخل ، والأمر به وكتمان فضل الله والإنفاق رئاء الناس.

(وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) خبر يتضمن وعيدا وتنبيها على سوء بواطنهم ، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم.

قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبلاغة والبديع. التكرار وهو في : نصيب مما اكتسبوا ، ونصيب مما اكتسبن. والجلالة : في واسئلوا الله ، إن الله ، وحكما من أهله ، وحكما من أهلها ، وبعضكم على بعض ، والجار ذي القربى ، والجار الجنب ، والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. وقوله : لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفوا مما رزقهم الله وقرينا وساء قرينا. والجلالة في : مما رزقهم الله ، وكان الله. والتجنيس المغاير في : حافظات للغيب بما حفظ الله ، وفي : يبخلون وبالبخل. ونسق الصفات من غير حرف في : قانتات حافظات. والنسق بالحروف على طريق ذكر الأوكد فالأوكد في : وبالوالدين إحسانا وما بعده. والطباق المعنوي في : نشوزهنّ فإن أطعنكم ، وفي : شقاق بينهما ويوفق الله. والاختصاص في قوله : من أهله ومن أهلها ، وفي قوله : عاقدت أيمانكم. والإبهام في قوله : به شيئا وإحسانا ، وما ملكت فشيوع شيئا وإحسانا وما واضح. والتعريض في : مختالا فخورا. أعرض بذلك إلى ذم الكبر المؤدّي للبعد عن الأقارب الفقراء واحتقارهم واحتقار من ذكر معهم. والتأكيد بإضافة الملك إلى اليمين في :

٦٤٠