البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

المعنى : من معمر آخر ونصف درهم آخر ، ونصف حمام آخر ، فعاد الضمير على درهم والحمام لفظا لا معنى. كذلك الضمير في قوله : لو كانوا ، يعود على إخوانهم لفظا والمعنى : لو كان إخواننا الآخرون. ويكون معنى الآية : وقالوا مخافة هلاك إخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كان إخواننا الآخرون الذين تقدّم موتهم وقتلهم عندنا ـ أي مقيمين ـ لم يسافروا ما ماتوا وما قتلوا ، فتكون هذه المقالة تثبيطا لإخوانهم الباقين عن الضرب في الأرض وعن الغزو ، وإيهاما لهم أن يصيبهم مثل ما أصاب إخوانهم الآخرين الذين سبق موتهم وقتلهم بالضرب في الأرض والغزو ، ويكون العامل في إذا هلاك وهو مصدر ينحل بأن والمضارع ، أي مخافة أن يهلك إخوانهم الباقون إذا ضربوا في الأرض ، أو كانوا غزا. وهذا أبلغ في المعنى إذ عرضوا للأحياء بالإقامة لئلا يصيبهم ما أصاب من مات أو قتل. قالوا : ويجوز أن يكون وقالوا في معنى. ويقولون : وتعمل في إذا ، ويجوز أن يكون إذا بمعنى إذ فيبقى ، وقالوا على مضيه. وفي الكلام إذ ذاك حذف تقديره : إذا ضربوا في الأرض فماتوا ، أو كانوا غزا فقتلوا. وما أجهل من يدعي أنّه لو لا الضرب في الأرض والغزو وترك القعود في الوطن لما مات المسافر ولا الغازي ، وأين عقل هؤلاء من عقل أبي ذؤيب على جاهليته حيث يقول :

يقولون لي : لو كان بالرمل لم يمت

نسيبة والطّراق يكذب قيلها

ولو أنني استودعته الشمس لارتقت

إليه المنايا عينها ، ورسولها

قال الرازي : وذكر الغزو بعد الضرب ، لأن من الغزو ما لا يكون ضربا ، لأن الضرب الإبعاد ، والجهاد قد يكون قريب المسافة ، فلذلك أفرد الغزو عن الضرب انتهى. يعني : أنّ بينهما عموما وخصوصا فتغايرا ، فصح إفراده ، إذ لم يندرج من جهة تحته. وقيل : لا يفهم الغزو من الضرب ، وإنما قدم لكثرته كما قال تعالى : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (١).

وقرأ الجمهور غزا بتشديد الزاي ، وقرأ الحسن والزهري بتخفيف الزاي. ووجه على حذف أحد المضعفين تخفيفا ، وعلى حذف التاء ، والمراد : غزاة. وقال بعض من وجه على أنّه حذف التاء وهو : ابن عطية ، قال : وهذا الحذف كثير في كلامهم ، ومنه قول الشاعر يمدح الكسائي :

__________________

(١) سورة المزمل : ٧٣ / ٢٠.

٤٠١

أبى الذمّ أخلاق الكسائي وانتحى

به المجد أخلاق الأبوّ السوابق

يريد الأبوة. جمع أب ، كما أن العمومة جمع عم ، والبنوّة جمع ابن. وقد قالوا : ابن وبنوّ انتهى. وقوله : وهذا الحذف كثير في كلامهم ليس كما ذكر ، بل لا يوجد مثل رام ورمى ، ولا حام وحمى ، يريد : رماة وحماة. وإن أراد حذف التاء من حيث الجملة كثير في كلامهم فالمدعي إنما هو الحذف من فعله ، ولا نقول أنّ الحذف ـ أعني حذف التاء ـ كثير في كلامهم ، لأنه يشعر أن بناء الجمع جاء عليها ، ثم حذفت كثيرا وليس كذلك ، بل الجمع جاء على فعول نحو : عم وعموم ، وفحل وفحول ، ثم جيء بالتاء لتأكيد معنى الجمع ، فلا نقول في عموم : أنه حذفت منه التاء كثيرا لأن الجمع لم يبن عليها ، بخلاف قضاة ورماة فإن الجمع بني عليها. وإنما تكلف النحويون لدخولها فيما كان لا ينبغي أن تدخل فيه ، إنّ ذلك على سبيل تأكيد الجمع ، لمّا رأوا زائدا لا معنى له ذكروا أنّه جاء بمعنى التوكيد ، كالزوائد التي لا يفهم لها معنى غير التأكيد. وأمّا البيت فالذي يقوله النحويون فيه : أنه مما شذ جمعه ولم يعل ، فيقال فيه : أبي كما قالوا : عصى في عصا ، وهو عندهم جمع على فعول ، وليس أصله أبوه. ولا يجمع ابن على بنوّة ، وإنما هما مصدران. والجملة من لو وجوابها هي معمول القول فهي في موضع نصب على المفعول ، وجاءت على نظم ما بعد إذا من تقديم نفي الموت على نفي القتل ، كما قدم الضرب على الغزو. والضمير في : لو كانوا ، هو لقتلى أحد ، قاله : الجمهور. أو للسرية الذين قتلوا ببئر معونة قاله : بكر بن سهل الدمياطي. وقرأ الجمهور : وما قتلوا بتخفيف التاء. وقرأ الحسن : بتشديدها للتكثير في المحال ، لا بالنسبة إلى محل واحد ، لأنه لا يمكن التكثير فيه.

(لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) اختلفوا في هذه اللام فقيل : هي لام كي. وقيل : لام الصيرورة. فإذا كانت لام كي فبما ذا تتعلق ، ولما ذا يشار بذلك؟ فذهب بعضهم : إلى أنّها تتعلق بمحذوف يدل عليه معنى الكلام وسياقه ، التقدير : أوقع ذلك ، أي القول والمعتقد في قلوبهم ليجعله حسرة عليهم. وإنما احتيج إلى تقدير هذا المحذوف لأنه لا يصح أن تتعلق اللام على أنها لام كي يقال : لأنهم لم يقولوا تلك المقالة ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ، فلا يصح ذلك أن يكون تعليلا لقولهم ، وإنما قالوا ذلك تثبيطا للمؤمنين عن الجهاد. ولا يصح أن يتعلق بالنهي وهو : لا يكونوا كالذين كفروا. لأن جعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ، لا يكون سببا لنهي الله المؤمنين عن مماثلة الكفار.

٤٠٢

قال الزمخشري : وقد أورد سؤالا على ما تتعلق به ليجعل ، قال : أو لا يكونوا بمعنى : لا يكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ، ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصة ، ويصون منها قلوبكم انتهى كلمه. وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه ، لأن جعل الحسرة لا يكون سببا للنهي كما قلنا ، إنما يكون سببا لحصول امتثال النهي وهو : انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم ، إذ لم يوافقوهم فيما قالوه واعتقدوه. فلا تضربوا في الأرض ولا تغزوا ، فالتبس على الزمخشري استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء ، وفهم هذا فيه خفاء ودقة. وقال ابن عيسى وغيره : اللام متعلقة بالكون ، أي : لا تكونوا كهؤلاء ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم دونكم انتهى. ومنه أخذ الزمخشري قوله : لكن ابن عيسى نص على ما تتعلق به اللام ، وذاك لم ينص. وقد بينا فساد هذا القول.

وإذا كانت لام الصيرورة والعاقبة تعلقت بقالوا ، والمعنى : أنهم لم يقولوا لجعل الحسرة ، إنما قالوا ذلك لعلة ، فصار مآل ذلك إلى الحسرة والندامة ، ونظروه بقوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ، ولم يلتقطوه لذلك ، إنما آل أمره إلى ذلك. وأكثر أصحابنا لا يثبتون للام هذا المعنى ـ أعني أن تكون اللام للعاقبة والمآل ـ وينسبون هذا المذهب للأخفش. وأما الإشارة بذلك فقال الزجاج : هو إشارة إلى الظن ، وهو أنهم إذا ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يقتلوا ، كان حسرتهم على من قتل منهم أشدّ. وقال الزمخشري : ما معناه الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول. وقال ابن عطية : الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم ، جعل الله ذلك حسرة ، لأن الذي يتيقن أن كل موت وقتل بأجل سابق يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه ، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت يتحسر ويتلهف انتهى. وهذه أقوال متوافقة فيما أشير بذلك إليه. وقيل : الإشارة بذلك إلى نهي الله تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد ، لأنهم إذا رأوا أن الله قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم. وقال ابن عطية : ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معا ، فتأمله انتهى.

وهذه كلها أقوال تخالف الظاهر. والذي يقتضيه ظاهر الآية أن الإشارة إلى المصدر المفهوم من قالوا ، وأن اللام للصيرورة ، والمعنى : أنهم قالوا هذه المقالة قاصدين التثبيط عن الجهاد والإبعاد في الأرض ، سواء كانوا معتقدين صحتها أو لم يكونوا معتقديها ، إذ كثير من الكفار قائل بأجل واحد ، فخاب هذا القصد ، وجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم

٤٠٣

أي غما على ما فاتهم ، إذ لم يبلغوا مقصدهم من التثبيط عن الجهاد. وظاهر جعل الحسرة وحصولها أنه يكون ذلك في الدنيا وهو الغم الذي يلحقهم على ما فات من بلوغ مقصدهم. وقيل : الجعل يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة ، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة. وأسند الجعل إلى الله ، لأنه هو الذي يضع الغم والحسرة في قلوبهم عقوبة لهم على هذا القول الفاسد.

(وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) رد عليهم في تلك المقالة الفاسدة ، بل ذلك بقضائه الحتم والأمر بيده. قد يحيي المسافر والغازي ، ويميت المقيم والقاعد. وقال خالد بن الوليد عنه موته : ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة ، وها أنا ذا أموت كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء. وقيل : هذه الجملة متعلقة بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا) (١) أي : لا تقولوا مثل قولهم ، فإن الله هو المحيي ، من قدر حياته لم يقتل في الجهاد ، والمميت من قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد ، قاله : الرازي. وقال أيضا : المراد منه إبطال شبهتهم ، أي لا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت ، لأن قضاءه لا يتبدل. ولا يلزم ذلك في الأعمال ، لأنّ له أن يفعل ما يشاء انتهى. ورد عليه هذا الفرق بين الموت والحياة وسائر الأعمال ، لأن سائر الأعمال مفروغ منها كالموت والحياة ، فما قدر وقوعه منها فلا بد من وقوعه ، وما لم يقدر فيستحيل وقوعه ، فإذا لا فرق.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) قال الراغب : علق ذلك بالبصر لا بالسمع ، وإن كان الصادر منهم قولا مسموعا لا فعلا مرئيا. لما كان ذلك القول من الكافر قصدا منهم إلى عمل يحاولونه ، فخص البصر بذلك كقولك لمن يقول شيئا وهو يقصد فعلا يحاوله : أنا أرى ما تفعله. وقرأ ابن كثير والأخوان بما يعملون بالياء على الغيبة ، وهو وعيد للمنافقين. وقرأ الباقون بالتاء على خطاب المؤمنين ، كما قال : لا تكونوا ، فهو توكيد للنهي ووعيد لمن خالف ، ووعد لمن امتثل.

(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) تقدم قبل هذا تكذيب الكفار في دعواهم : أنّ من مات أو قتل في سفر وغزو لو كان أقام ما مات وما قتل ، ونهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل هذه المقالة ، لأنها سبب للتخاذل عن الغزو وأخبر في هذه الجملة أنه أن تم ما يحذرونه من القتل في سبيل الله أو الموت فيه ، فما

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٥٦.

٤٠٤

يحصل لهم من مغفرة الله ورحمته بسبب ذلك خير مما يجمعون من حطام الدنيا ومنافعها ، لو لم يهلكوا بالقتل أو الموت ، وأكد ذلك بالقسم. لأن اللام في لئن هي الموطئة للقسم ، وجواب القسم هو : لمغفرة. وكان نكرة إشارة إلى أن أيسر جزء من المغفرة والرحمة خير من الدنيا ، وأنه كاف في فوز المؤمن. وجاز الابتداء به لأنه وصف بقوله من الله. وعطف عليه نكرة ومسوغ الابتداء بها ، كونها عطفت على ما يسوغ به الابتداء. أو كونها موصوفة في المعنى إذ التقدير : ورحمة منه. وثمّ صفة أخرى محذوفة لا بد منها وتقديرها : ورحمة لكم. وخير هنا على بابها من كونها افعل تفضيل ، كما روي عن ابن عباس : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء. وارتفاع خير على أنه خبر عن قوله : لمغفرة.

قال ابن عطية وتحتمل الآية أن يكون قوله : لمغفرة إشارة إلى القتل أو الموت في سبيل الله ، فسمى ذلك مغفرة ورحمة ، إذ هما مقترنان به. ويجيء التقدير لذلك : مغفرة ورحمة. وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر. وقوله : خير صفة لا خبر ابتداء انتهى قوله. وهو خلاف الظاهر. وجواب الشرط الذي هو إن قتلتم محذوف ، لدلالة جواب القسم عليه. وقول الزمخشري : سدّ مسدّ جواب الشرط إن عنى أنه حذف لدلالته عليه فصحيح ، وإن عنى أنه لا يحتاج إلى تقدير فليس بصحيح. وظاهر الآية يدل على أنه جعلت المغفرة والرحمة لمن اتفق له أحد هذين : القتل في سبيل الله ، أو الموت فيه.

وقال الرازي : لمغفرة من الله إشارة إلى تعبده خوفا من عقابه ، ورحمة إشارة إلى تعبده لطلب ثوابه انتهى. وليس بالظاهر. وقدم القتل هنا لأنه ابتداء إخبار ، فقدّم الأشرف الأهم في تحصيل المغفرة والرحمة ، إذ القتل في سبيل الله أعظم ثوابا من الموت في سبيله.

قال الراغب : تضمنت هاتان الآيتان إلزاما هو جار مجرى قياسين شرطيين اقتضيا الحرص على القتل في سبيل الله تمثيله : إن قتلتم في سبيل الله ، أو متّم ، حصلت لكم المغفرة والرحمة ، وهما خير مما تجمعون. فإذا الموت والقتل في سبيل الله خير مما تجمعون. ولئن متم أو قتلتم فالحشر لكم حاصل. وإذا كان الموت والقتل لا بد منه والحشر فنتيجة ذلك أن القتل والموت اللذين يوجبان المغرفة والرحمة خير من القتل والموت اللذين لا يوجبانهما انتهى.

وقرأ الابنان والأبوان بضم الميم في جميع القرآن ، وحفص في هذين أو متم ، ولئن

٤٠٥

متم ، وكسر الباقون. والضم أقيس وأشهر. والكسر مستعمل كثيرا وهو شاذ في القياس ، جعله المازني من فعل يفعل ، نظير دمت تدوم ، وفضلت تفضل ، وكذا أبو علي ، فحكما عليه بالشذوذ. وقد نقل غيرهما فيه لغتين إحداهما : فعل يفعل ، فتقول مات يموت. والأخرى : فعل يفعل نحو مات يمات ، أصله موت. فعلى هذا ليس بشاذ ، إذ هو مثل خاف يخاف ، فأصله موت يموت. فمن قرأ بالكسر فعلى هذه اللغة ولا شذوذ فيه ، وهي لغة الحجاز يقولون : متم من مات يمات قال الشاعر :

عيشي ولا تومي بأن تماتي

وسفلى مضر يقولون : متّم بضم الميم من مات يموت ، نقله الكوفيون. وقرأ الجمهور : تجمعون بالتاء على سياق الخطاب في قوله : ولئن قتلتم. وقرأ قوم منهم حفص عن عاصم بالياء ، أي مما يجمعه الكفار المنافقون وغيرهم.

(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) هذا خطاب عام للمؤمن والكافر. أعلم فيه أن مصير الجميع إليه ، فيجازي كلا بعمله ، هكذا قال بعضهم. وكأنه لما رأى الموت والقتل أطلقا ولم يقيدا بذكر سبيل الله كما قيدا في الآية ، فهم أنّ ذلك عام. والظاهر أنّه خطاب للمؤمنين كالخطاب السابق ، ولذلك قدره الزمخشري : لإلى الرّحيم الواسع الرحمة المميت العظيم الثواب تحشرون. قال : ولوقوع اسم الله هذا الموقع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به سيان ليس بالخفي انتهى. يشير بذلك إلى مذهبه : من أن التقديم يؤذن بالاختصاص ، فكان المعنى عنده : فإلى الله لا غيره تحشرون. وهو عندنا لا يدل بالوضع على ذلك ، وإنما يدل التقديم على الاعتناء بالشيء والاهتمام بذكره ، كما قال سيبويه : وزاده حسنا هنا أنّ تأخر الفعل هنا فاضلة ، فلو تأخر المجرور لفات هذا الغرض وتضمنت الآية تحقير أمر الدنيا والحرص على الشهادة ، وأنّ مصير العالم كلهم إلى الله ، فالموافاة على الشهادة أمثل بالمرء ليحرز ثوابها ويجده وقت الحشر. وقدّم الموت هنا على القتل لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر ، وتزهيد في الدنيا والحياة ، والموت فيها مطلق لم يقيد بشيء. فإما أن يكون الخطاب مختصا بمن خوطب قبل أو عاما واندرج أولئك فيه ، فقدّم لعمومه ، ولأنه أغلب في الناس من القتل ، فهذه ثلاثة مواضع. ما ماتوا وما قتلوا : فقدم الموت على القتل لمناسبة ما قبله من قوله : (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى) (١)

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٥٦.

٤٠٦

وتقدّم القتل على الموت بعد ، لأنه محل تحريض على الجهاد ، فقدم الأهم والأشرف. وقدم الموت هنا لأنه الأغلب ، ولم يؤكد الفعل الواقع جوابا للقسم المحذوف لأنه فصل بين اللام المتلقى بها القسم وبينه بالجار والمجرور. ولو تأخر لكان : لتحشرن إليه كقوله : ليقولن ما يحبسه. وسواء كان الفصل بمعمول الفعل كهذا ، أو بسوف. كقوله : (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (١) أو بقد كقول الشاعر :

كذبت لقد أصبى على المرء عرسه

وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي

قال أبو علي : الأصل دخول النون فرقا بين لام اليمين ولام الابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلات ، فبدخول لام اليمين على الفضلة وقع الفصل ، فلم يحتج إلى النون. وبدخولها على سوف وقع الفرق ، فلم يحتج إلى النون ، لأن لام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالا ، أمّا إذا كان مستقبلا فلا.

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) متعلق الرحمة المؤمنون. فالمعنى : فبرحمة من الله عليهم لنت لهم ، فتكون الرحمة امتن بها عليهم. أي : دمثت أخلاقك ولان جانبك لهم بعد ما خالفوا أمرك وعصوك في هذه القراءة ، وذلك برحمة الله إياهم. وقيل : متعلق الرحمة المخاطب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي برحمة الله إياك جعلك لين الجانب موطأ الأكناف ، فرحمتهم ولنت لهم ، ولم تؤاخذهم بالعصيان والفرار وإفرادك للأعداء ، ويكون ذلك امتنانا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويحتمل أن يكون متعلق الرحمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن جعله على خلق عظيم ، وبعثه بتتميم محاسن الأخلاق والمؤمنين ، بأن لينه لهم.

وما هنا زائدة للتأكيد ، وزيادتها بين الباء وعن ومن والكاف ، وبين مجروراتها شيء معروف في اللسان ، مقرر في علم العربية. وذهب بعض الناس إلى أنها منكرة تامة ، ورحمة بدل منها. كأنه قيل : فبشيء أبهم ، ثم أبدل على سبيل التوضيح ، فقال : رحمة. وكان قائل هذا يفر من الإطلاق عليها أنهار زائدة. وقيل : ما هنا استفهامية. قال الرازي : قال المحققون : دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز ، وهنا يجوز أن تكون ما استفهامية للتعجب تقديره : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، وذلك بأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم أنه ما أظهر البتة تغليظا في القول ، ولا خشونة في الكلام ، علموا أنّ هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك انتهى كلامه. وما قاله المحققون :

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٤٩.

٤٠٧

صحيح ، لكنّ زيادة ما للتوكيد لا ينكره في أماكنه من له أدنى تعلق بالعربية ، فضلا عن من يتعاطى تفسير كلام الله ، وليس ما في هذا المكان مما يتوهمه أحد مهملا فلا يحتاج ذلك إلى تأويلها بأن يكون استفهاما للتعجب. ثمّ إنّ تقديره ذلك : فبأي رحمة ، دليل على أنّه جعل ما مضافة للرحمة ، وما ذهب إليه خطأ من وجهين : أحدهما : أنه لا تضاف ما الاستفهامية ، ولا أسماء الاستفهام غير أي بلا خلاف ، وكم على مذهب أبي إسحاق. والثاني : إذا لم تصح الإضافة فيكون إعرابه بدلا ، وإذا كان بدلا من اسم الاستفهام فلا بد من إعادة همزة الاستفهام في البدل ، وهذا الرجل لحظ المعنى ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه والتسور عليه. قول الزجاج في ما هذه؟ إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين.

(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) بين تعالى أن ثمرة اللين هي المحبة ، والاجتماع عليه. وأن خلافها من الجفوة والخشونة مؤد إلى التفرق ، والمعنى : لو شافهتهم بالملامة على ما صدر منهم من المخالفة والفرار لتفرّقوا من حولك هيبة منك وحياء ، فكان ذلك سببا لتفرّق كلمة الإسلام وضعف مادته ، وإطماعا للعدو واللين والرفق ، فيكون فيما لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله تعالى. وقال تعالى في حق الكفار : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (١) وفي وصفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكتب المنزلة أنه ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق. والوصفان قيل بمعنى واحد ، فجمعا للتأكيد. وقيل : الفظاظة الجفوة قولا وفعلا. وغلظ القلب : عبارة عن كونه خلق صلبا لا يلين ولا يتأثر ، وعن الغلظ تنشأ الفظاظة تقدم ما هو ظاهر للحس على ما هو خاف ، وإنما يعلم بظهور أثره.

(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أمره تعالى بالعفو عنهم ، وذلك فيما كان خاصا به من تبعة له عليهم ، وبالاستغفار لهم فيما هو مختص بحق الله تعالى وبمشاورتهم. وفيها فوائد تطييب نفوسهم ، والرفع من مقدارهم بصفاء قلبه لهم ، حيث أهلهم للمشاورة ، وجعلهم خواص بعد ما صدر منهم ، وتشريع المشاورة لمن بعده ، والاستظهار برأيهم فيما لم ينزل فيه وحي. فقد يكون عندهم من أمور الدنيا ما ينتفع به ، واختبار عقولهم ، فينزلهم منازلهم ، واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح. وجرى على مناهج العرب وعادتها في الاستشارة في الأمور ، وإذا لم يشاور أحدا منهم حصل في نفسه شيء ،

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٧٣.

٤٠٨

ولذلك عز على عليّ وأهل البيت كونهم استبد عليهم في المشورة في خلافة أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنهم أجمعين ، وفيما ذا أمر أن يشاورهم. قيل : في أمر الحرب والدنيا وقيل : في الدين والدنيا ما لم يرد نص ، ولذلك استشار في أسرى بدر.

وظاهر هذه الأوامر يقتضي أنه أمر بهذه الأشياء ، ولا تدل على تريب زماني. وقال ابن عطية : أمر بتدريج بليغ ، أمر بالعفو عنهم فيما يخصه ، فإذا صاروا في هذه الدرجة أمر بالاستغفار فيما لله ، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور انتهى. وفيه بعض تلخيص ، ولا يظهر هذا التدريج من اللفظ ، ولكن هذه حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض. أمر أولا بالعفو عنهم ، إذ عفوه عنهم مسقط لحقه ، ودليل على رضاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، وعدم مؤاخذته. ولما سقط حقه بعفوه استغفر لهم الله ليكمل لهم صفحه وصفح الله عنهم ، ويحصل لهم رضاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضا الله تعالى. ولما زالت عنهم التبعات من الجانبين شاورهم إيذانا بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة ، إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقدا فيه المودة والعقل والتجربة. والظاهر أن قوله : فاعف عنهم أمر له بالعفو. وقيل : معناه سلني العفو عنهم لأعفو عنهم ، والمعفو عنه والمسئول الاستغفار لأجله. قيل : فرارهم يوم أحد ، وترك إجابته ، وزوال الرّماة عن مراكزهم. وقيل : ما يبدون من هفواتهم وألسنتهم من السقطات التي لا يعتقدونها ، كمناداتهم من وراء الحجرات. وقول بعضهم : إن كان ابن عمتك وجر رداءه حتى أثر في عنقه ، وغير ذلك مما وقع منهم على سبيل الهفوة. ومن غريب النقول والمقول وضعيفه الذي ينزه عنه القرآن قول بعضهم : أن قوله تعالى : وشاورهم في الأمر ، أنه من المقلوب. والمعنى : وليشاوروك في الأمر. وذكر المفسرون هنا جملة مما ورد في المشاورة من الآيات والأحاديث والآثار. وذكر ابن عطية : إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدّين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف له. والمستشار في الدّين عالم دين ، وقلّ ما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن : ما كمل دين امرئ لم يكمل عقله ، وفي الأمور الدنيوية عاقل مجرب واد في المستشير انتهى كلام ابن عطية ، وفيه بعض تلخيص. وقراءة الجمهور : في الأمر ، وليس على العموم. إذ لا يشاور في التحليل والتحريم. والأمر : اسم جنس يقع للكل وللبعض. وقرأ ابن عباس : في بعض الأمر (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي : فإذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاجعل تفويضك فيه إلى الله تعالى ، فإنه العالم بالأصلح لك ، والأرشد لأمرك ، لا يعلمه من أشار عليك. وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير

٤٠٩

الرأي وتنقيحه ، والفكر فيه. وإن ذلك مطلوب شرعا خلافا لما كان عليه بعض العرب من : ترك المشورة ، ومن : الاستبداد برأيه من غير فكر في عاقبة ، كما قال :

إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه

ونكب عن ذكر العواقب جانبا

ولم يستشر في رأيه غير نفسه

ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا

وقرأ الجمهور عزمت على الخطاب كالذي قبله. وقرأ عكرمة وجابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر الصادق عزمت بضم التاء على أنها ضمير لله تعالى والمعنى فإذا عزمت لك على شيء أي أرشدتك إليه وجعلتك تقصده ويكون قوله على الله من باب الالتفات إذ لو جرى على نسق ضم التاء لكان فتوكل عليّ ونظيره في نسبة العزم إلى الله على سبيل التجوز قول أم سلمة ، ثم عزم الله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) حث على التوكل على الله ، إذ أخبر أنّه يحب من توكل عليه ، والمرء ساع فيما يحصل له محبة الله تعالى.

وقد تضمنت هذه الآيات فنونا من البيان والبديع والإبهام في : ولا تلوون على أحد ، فمن قال : هو الرسول أبهمه تعظيما لشأنه ، ولأن التصريح فيه هضم لقدره. والتجنيس المماثل في : غما بغمّ ، ثم أنزل عليكم من بعد الغمّ. والطباق : في يخفون ويبدون ، وفي فاتكم وأصابكم. والتجنيس المغاير في : تظنون وظن ، وفي فتوكل والمتوكلين. وذكر بعضهم ذلك في فظا ولانفضوا ، وليس منه ، لأنه قد اختلفت المادّتان والتفسير بعد الإبهام في ما لا يبدون يقولون. والاحتجاج النظري في : لو كنتم في بيوتكم والاعتراض في : قل إن الأمر كله لله. والاختصاص في : بذات الصدور ، وفي بما تعملون بصير ، وفي يحب المتوكلين. والإشارة في قوله : ليجعل الله ذلك حسرة. والاستعارة في : إذا ضربوا في الأرض ، وفي لنت ، وفي غليظ القلب. والتكرار في : ما ماتوا ، وما قتلوا ، وما بعدهما ، وفي : على الله إن الله. وزيادة الحرف للتأكيد في : فبما رحمة. والالتفات والحذف في عدة مواضع.

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) هذا التفات ، إذ هو خروج من غيبة إلى الخطاب. ولما أمره بمشاورتهم وبالتوكل عليه ، أوضح أنّ ما صدر من النصر أو الخذلان إنما هو راجع لما يشاء. وأنّه متى نصركم لا يمكن أن يغلبكم أحد ، ومتى خذلكم فلا ناصر لكم فيما وقع لكم من النصر ، أو بكم من الخذلان كيومي : بدر وأحد ، فبمشيئته. وفي هذا تسلية لهم عما وقع لهم من الفرار. ثم أمرهم

٤١٠

بالتوكل ، وناط الأمر بالمؤمنين ، فنبه على الوصف الذي يناسب معه التوكل وهو الإيمان ، لأن المؤمن مصدق بأن الله هو الفاعل المختار بيده النصر والخذلان. وأشركهم مع نبيهم في مطلوبية التوكل ، وهو إضافة الأمور إلى الله تعالى وتفويضها إليه.

والتوكل على الله من فروض الإيمان ، ولكنه يقترن بالتشمير في الطاعة والجزامة بغاية الجهد ، ومعاطاة أسباب التحرز ، وليس الإلقاء باليد والإهمال لما يجب مراعاته بتوكل ، وإنما هو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قيدها وتوكل» ونظير هذه الآية : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) (١) والضمير في من بعده عائد على الله تعالى ، إمّا على حذف مضاف أي : من بعد خذلانه ، أي من بعد ما يخذل من الذي ينصر. وإما أن لا يحتاج إلى تقدير هذا المحذوف ، بل يكون المعنى : إذا جاوزته إلى غيره وقد خذلك فمن ذا الذي تجاوزه إليه فينصرك؟ ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على المصدر المفهوم من قوله : وإن يخذلكم ، أي : من بعد الخذلان. وجاء جواب : إن ينصركم الله بصريح النفي العام ، وجواب وإن يخذلكم يتضمن النفي وهو الاستفهام ، وهو من تنويع الكلام في الفصاحة والتلطف بالمؤمنين حتى لا يصرّح لهم بأنه لا ناصر لهم ، بل أبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يقتضي السؤال عن الناصر ، وإن كان المعنى على نفي الناصر. لكن فرّق بين الصريح والمتضمن ، فلم يجر المؤمنين في ذلك مجرى الكفار الذي نص عليه بالصريح أنه لا ناصر لهم كقوله : (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) (٢) وظاهره النصرة أنها في لقاء العدو ، والإعانة على مكافحته ، والاستيلاء عليه. وأكثر المفسرين جعلوا النصرة بالحجة القاهرة ، وبالعاقبة في الآخرة. فقالوا : المعنى إن حصلت لكم النصرة فلا تعدوا ما يعرض من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غلبة ، وإن خذلكم في ذلك فلا تعدوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا نصرة ، فالنصرة والخذلان معتبران بالمئال. وفي قوله : إن ينصركم الله إشارة إلى الترغيب في طاعة الله ، لأنه بين فيما تقدم أنّ من اتقى الله نصره.

وقال الزمخشري في قوله : وعلى الله ، وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض اليه ، لعلمهم أنّه لا ناصر سواه ، ولأن إيمانكم يوجب ذلك ويقتضيه انتهى كلامه. وأخذ الاختصاص من تقديم الجار والمجرور وذلك على طريقته ، بأن تقديم المفعول يوجب الحصر والاختصاص. وقرأ الجمهور : يخذلكم من خذل. وقرأ عبيد بن عمير : يخذلكم

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٢.

(٢) سورة محمد : ٤٧ / ١٣.

٤١١

من أخذل رباعيا ، والهمزة فيه للجعل أي : يجعلكم (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) قال ابن عباس ، وعكرمة ، وابن جبير : فقدت قطيفة حمراء من المغانم يوم بدر فقال بعض من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لعلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها ، فنزلت ، وقائل ذلك مؤمن لم يظن في ذلك حرجا. وقيل : منافق. وروي أن المفقود سيف. وقال النقاش : قالت الرماة يوم أحد : الغنيمة الغنيمة ، أيها الناس إنّا نخشى أن يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أخذ شيئا فهو له ، فلما ذكروا ذلك قال : «خشيتم أن نغل» فنزلت. وروي نحوه عن الكلبي ومقاتل. وقيل غير هذا من ذلك ما قال ابن إسحاق : إنما نزلت إعلاما بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكتم شيئا مما أمر بتبليغه.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها من حيث أنها تضمنت حكما من أحكام الغنائم في الجهاد ، وهي من المعاصي المتوعد عليها بالنار كما جاء في قصة مدعم ، فحذرهم من ذلك. وتقدم لنا الكلام في معنى ما كان لزيد أن يفعل. وقرأ ابن عباس وابن كثير وأبو عمرو وعاصم أن يغلّ من غلّ مبنيا للفاعل ، والمعنى : أنه لا يمكن ذلك منه ، لأن الغلول معصية ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم من المعاصي ، فلا يمكن أن يقع في شيء منها. وهذا النفي إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوهم فيه ذلك ، ولا أن ينسب إليه شيء من ذلك. وقرأ ابن مسعود وباقي السبعة : أن يغل بضم الياء وفتح الغين مبنيا للمفعول. فقال الجمهور : هو من غل. والمعنى : ليس لأحد أن يخونه في الغنيمة ، فهي نهي للناس عن الغلول في المغانم ، وخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذكر وإن كان ذلك حراما مع غيره ، لأن المعصية بحضرة النبي أشنع لما يحب من تعظيمه وتوقيره ، كالمعصية بالمكان الشريف ، واليوم المعظم. وقيل : هو من أغل رباعيا ، والمعنى : أنه يوجد غالا كما تقول : أحمد الرجل وجد محمودا. وقال أبو علي الفارسي : هو من أغل أي نسب إلى الغلول. وقيل له : غللت كقولهم : أكفر الرجل ، نسب إلى الكفر.

(وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظاهر هذا أنه يأتي بعين ما غل ، ورد ذلك في صحيح البخاري ومسلم. ففي الحديث ذكر الغلول وعظمه وعظم أمره ، ثم قال : «لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول : يا رسول الله أغثني فأقول : ما أملك لك من الله شيئا ، قد أبلغتك» الحديث وكذلك ما جاء في حديث ابن اللتبية : «والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلا جاء به يحمله يوم القيامة على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر». وروي عنه أيضا وفرس له حمجة وفي حديث مدعم : «أن الشملة التي غلت من المغانم يوم حنين لتشتعل عليه نارا ومجيئه بما غلّ

٤١٢

فضيحة له على رؤوس الاشهاد يوم القيامة» وقال الكلبي بمثل له ذلك الشيء الذي غله في النار ، ثم يقال له : انزل فخذه ، فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ صومعته وقع في النار ، ثم كلف أن ينزل إليه فيخرجه ، يفعل ذلك به. وقيل : يأتي حاملا إثم ما غلّ. وقيل : يؤخذ من حسناته عوض ما غل. وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم الغلول والوعيد عليه.

(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) هذه جملة معطوفة على الجملة الشرطية لما ذكر من مسألة الغلول ، وما يجري لصاحبها يوم القيامة. ذكر أن ذلك الجزاء ليس مختصا بمن غلّ ، بل كل نفس توفى جزاء ما كسبت من غير ظلم ، فصار الغال مذكورا مرتين : مرّة بخصوصه ، ومرّة باندراجه في هذا العام ليعلم أنه غير متخلص من تبعة ما غل ، ومن تبعة ما كسبت من غير الغلول. وتقدّم تفسير هذه الجملة ، فأغنى عن إعادته هنا.

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) هذا الاستفهام معناه النفي ، أي ليس من اتبع رضا الله فامتثل أوامره واجتنب مناهيه كمن عصاه فباء بسخطه ، وهذا من الاستعارة البديعية. جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به ، وجعل العاصي كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئا عن اتباعه ورجع مصحوبا بما يخالف الاتباع. وفي الآية من حيث المعنى حذف والتقدير : أفمن اتبع ما يؤول به إلى رضا الله عنه ، فباء برضاه كمن لم يتبع ذلك فباء بسخطه. وقال سعيد بن جبير والضحاك والجمهور : أفمن اتبع رضوان الله فلم يغل كمن باء بسخط من الله حين غل. وقال الزجاج : أفمن اتبع رضوان الله باتباع الرسول يوم أحد ، كمن باء بسخط من الله بتخلفه وهم جماعة من المنافقين. وقال الزّجاج أيضا : رضوان الله الجهاد ، والسخط الفرار. وقيل : رضا الله طاعته ، وسخطه عقابه. وقيل : سخطه معصيته قاله ابن إسحاق. ويعسر ما يزعم الزمخشري من تقدير معطوف بين همزة الاستفهام وبين حرف العطف في مثل هذا التركيب ، وتقديره متكلف جدا فيه ، رجح إذ ذاك مذهب الجمهور : من أن الفاء محلها قبل الهمزة ، لكن قدّمت الهمزة لأن الاستفهام له صدر الكلام. وتقدّم اختلاف القراء في رضوان في أوائل هذه السورة ، والظاهر استئناف.

(وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) : أخبر أنّ من باء بسخط من الله فمكانه الذي يأوي إليه هو جهنم ، وأفهم هذا أن مقابله وهو من اتبع رضوان الله مأواه الجنة. ويحتمل أن تكون في صلة من فوصلها بقوله : باء. وبهذه الجملة كان المعنى : كمن باء بسخط الله ، وآل إلى النار. وبئس المصير : أي جهنم.

٤١٣

(هُمْ دَرَجاتٌ) قال ابن عباس والحسن : لكل درجات من الجنة والنار. وقال أبو عبيدة : كقوله : هم طبقات. وقال مجاهد وقتادة : أي ذوو درجات ، فإن بعض المؤمنين أفضل من بعض. وقيل : يعود على الغال وتارك الغلول ، والدرجة : الرتبة. وقال الرازي : تقديره لهم درجات. قال بعض المصنفين رادّا عليه : اتبع الرّازي في ذلك أكثر المفسرين بجهله وجهلهم بلسان العرب ، لأن حذف لام الجر هنا لا مساغ له ، لأنه إنما تحذف لام الجر في مواضع الضرورة ، أو لكثرة الاستعمال ، وهذا ليس من تلك المواضع. على أن المعنى دون حذفها حسن متمكن جدا ، لأنه لما قال : أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ، وكأنه منتظر للجواب قيل له في الجواب : لا ، ليسوا سواء ، بل هم درجات.

(عِنْدَ اللهِ) على حسب أعمالهم. وهذا معنى صحيح لا يحتاج معه إلى تقدير حذف اللام ، لو كان سائغا كيف وهو غير سائغ انتهى كلام المصنف. ويحمل تفسير ابن عباس والحسن أن المعنى : لكل درجات من الجنة والنار على تفسير المعنى ، لا تفسير اللفظ الأعرابي. والظاهر من قولهم : هم درجات ، أن الضمير عائد على الجميع ، فهم متفاوتون في الثواب والعقاب ، وقد جاء التفاوت في العذاب كما جاء التفاوت في الثواب. ومعنى عند الله على هذا القول : في حكم الله. وقيل : الضمير يعود على أهل الرضوان ، فيكون عند الله معناها التشريف والمكانة لا المكان. كقوله : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (١) والدرجات إذ ذاك مخصوصة بالجنة وهذا معنى قول : ابن جبير وأبي صالح ومقاتل ، وظاهر ما قاله مجاهد والسدّي. والدرجات المنازل بعضها أغلى من بعض في المسافة أو في التكرمة. وقرأ الجمهور درجات ، فهي مطابقة للفظ هم. وقرأ النخعي درجة بالإفراد.

(وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي : عالم بأعمالهم ودرجاتها ، فمجازيهم على حسبها. وتضمنت هذه الآيات الطباق في : ينصركم ويخذلكم ، وفي رضوان الله وبسخط. والتكرار في : ينصركم وينصركم ، وفي الجلالة في مواضع. والتجنيس المماثل : في يغل وما غل. والاستفهام الذي معناه النفي في : أفمن اتبع الآية. والاختصاص في : فليتوكل المؤمنون ، وفي : وما كان لنبي ، وفي : بما يعملون خص العمل دون القول لأن العمل جل ما يترتب عليه الجزاء. والحذف في عدة مواضع.

__________________

(١) سورة القمر : ٥٤ / ٥٥.

٤١٤

لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠)

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) مناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر الفريقين : فريق الرضوان ، وفريق السخط ، وأنهم درجات عند الله مجملا من غير تفصيل ، فصّل أحوالهم وبدأ بالمؤمنين ، وذكر ما امتن عليهم به من بعث الرسول إليهم تاليا لآيات الله ، ومبينا لهم طريق الهدى ، ومطهرا لهم من أرجاس الشرك ، ومنقذا لهم من غمرة الضلالة بعد أن كانوا فيها. وسلاهم عما أصابهم يوم أحد من الخذلان والقتل والجرح ، لما أنالهم يوم بدر من الظفر والغنيمة. ثم فصّل حال المنافقين الذين هم أهل السخط بما نص عليه تعالى.

ومعنى من تطوّل وتفضل ، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون ببعثه ، والظاهر عمومه. فعلى هذا يكون معنى من أنفسهم من أهل ملتهم ، كما قال : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (١) والمعنى : من جنس بني آدم ، والامتنان بذلك لحصول الأنس بكونه من

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٢٨.

٤١٥

الإنس ، فيسهل المتلقى منه ، وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين ، ولمعرفة قوى جنسهم. فإذا ظهرت المعجزة أدركوا أنّ ذلك ليس في قوى بني آدم ، فعلموا أنّه من عند الله ، فكان ذلك داعية إلى الإجابة. ولو كان الرسول من غير الجنس لتخيل أن تلك المعجزة هي في طباعه ، أشار إلى هذه العلة الماتريدي.

وقيل : المراد بالمؤمنين العرب ، لأنه ليس حيّ من أحياء العرب إلا له فيهم نسب ، من قبل أمهاته ، إلا بني تغلب لنصرانيتهم قاله : النقاش ، فصار بعثه فيهم شرفا لهم على سائر الأمم.

ويكون معنى من أنفسهم : أي من جنسهم عربيا مثلهم. وقيل : من ولد إسماعيل ، كما أنهم من ولده. قال ابن عباس وقتادة : قال من أنفسهم لكونه معروف النسب فيهم ، معروفا بالأمانة والصدق. قال أبو سليمان الدمشقي : ليسهل عليهم التعليم منه ، لموافقة اللسان. وقال الماوردي : لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم انتهى.

والمنة عليهم بكونه من أنفسهم ، إذ كان اللسان واحدا ، فيسهل عليهم أخذ ما يجب أخذه عنه. وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة ، فكان ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به. وقرىء شاذا : لمن منّ الله على المؤمنين بمن الجارة ومن مجرور بها بدل قد منّ. قال الزمخشري : وفيه وجهان : أن يراد لمن منّ الله على المؤمنين منه أو بعثه فيهم ، فحذف لقيام الدلالة. أو يكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك : أخطب ما يكون الأمير ، إذا كان قائما بمعنى لمن منّ الله على المؤمنين وقت بعثه انتهى.

أمّا الوجه الأوّل فهو سائغ ، وقد حذف المبتدأ مع من في مواضع منها : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) (١) (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ) (٢) و (ما دُونَ ذلِكَ) على قول. وأما الوجه الثاني فهو فاسد ، لأنه جعل إذ مبتدأة ولم يستعملها العرب متصرفة البتة ، إنما تكون ظرفا أو مضافا إليها اسم زمان ، ومفعولة باذكر على قول. أمّا أن تستعمل مبتدأة فلم يثبت ذلك في لسان العرب ، ليس في كلامهم نحو : إذ قام زيد طويل وأنت تريد وقت قيام زيد طويل. وقد قال أبو علي الفارسي : لم ترد إذ وإذا في كلام العرب إلا ظرفين ، ولا يكونان فاعلين ولا مفعولين ، ولا مبتدأين انتهى كلامه. وأمّا قوله : في محل الرفع كإذا ، فهذا التشبيه فاسد ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٥٩.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ١٦٤.

٤١٦

لأن المشبه مرفوع بالابتداء ، والمشبه به ليس مبتدأ. إنما هو ظرف في موضع الخبر على زعم من يرى ذلك. وليس في الحقيقة في موضع رفع ، بل هو في موضع نصب بالعامل المحذوف ، وذلك العامل هو مرفوع. فإذا قال النحاة : هذا الظرف الواقع خبرا في محل الرفع ، فيعنون أنه لما قام مقام المرفوع صار في محله ، وهو في التحقيق في موضع نصب كما ذكرنا. وأما قوله في قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما ، فهذا في غاية الفساد. لأن هذا الظرف على مذهب من يجعله في موضع خبر المبتدأ الذي هو أخطب ، لا يجيز أن ينطق به ، إنما هو أمر تقديري. ونصّ أرباب هذا المذهب وهم القائلون بإعراب أخطب مبتدأ ، أنّ هذه الحال سدت مسد الخبر ، وأنه مما يجب حذف الخبر فيه لسد هذه الحال مسده. وفي تقرير هذا الخبر أربعة مذاهب ، ذكرت في مبسوطات النحو.

وقرأ الجمهور : من أنفسهم بضم الفاء ، جمع نفس. وقرأت فاطمة ، وعائشة ، والضحاك ، وأبو الجوزاء : من أنفسهم بفتح الفاء من النفاسة ، والشيء النفيس. وروي عن أنس أنه سمعها كذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى عليّ عنه عليه‌السلام : «أنا من أنفسكم نسبا وحسبا وصهرا ، ولا في آبائي من آدم إلى يوم ولدت سفاح كلها نكاح والحمد لله».

قيل : والمعنى من أشرفهم ، لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل ، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان ، وخندف ذروة مضر ، ومدركة ذروة خندف ، وقريش ذروة مدركة ، وذروة قريش محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفيما خطب به أبو طالب في تزويج خديجة رضي‌الله‌عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر : الحمد لله الذي جعلنا من ذرية ابراهيم ، وزرع إسماعيل ، وضئضىء معه ، وعنصر مضر ، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه ، وجعل لنا بيتا محجوجا ، وحرما آمنا ، وجعلنا الحكام على الناس ، ثم إنّ ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل. وقال ابن عباس : ما خلق الله نفسا هي أكرم على الله من محمد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أقسم بحياة أحد غيره فقال : لعمرك.

(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) تقدّم تفسير هذه الجمل.

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل بعثه.

(لَفِي ضَلالٍ) أي حيرة واضحة فهداهم به. وإن هنا هي الخفيفة من الثقيلة ، وتقدّم

٤١٧

الكلام عليها وعلى اللام في قوله : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) (١) والخلاف في ذلك فأغنى عن إعادته هنا. وقال الزمخشري : إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، وتقديره : وإنّ الشأن والحديث كانوا من قبل لفي ضلال مبين. انتهى. وقال مكي : وقد ذكر أنه قبل إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، أي : وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين ، قال : وهذا قول الكوفيين. وأما سيبويه فإنه قال : إن مخففة من الثقيلة ، واسمها مضمر ، والتقدير على قوله : وإنهم كانوا من قبل في ضلال مبين. فظهر من كلام الزمخشري أنه حين خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن والحديث. ومن كلام مكي أنها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير عائد على المؤمنين ، وكلا هذين الوجهين لا نعرف. نحو : يا ذهب إليه. إنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنّك إذا قلت : إن زيدا قائم ثم خففت ، فمذهب البصريين فيها إذ ذاك وجهان : أحدهما : جواز الأعمال ، ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشدّدة ، إلا أنها لا تعمل في مضمر. ومنع ذلك الكوفيون ، وهم محجوجون بالسماع الثابت من لسان العرب. والوجه الثاني : وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل ، لا في ظاهر ، ولا في مضمر لا ملفوظ به ولا مقدّر البتة. فإن وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر ، ولزمت اللام في ثاني مضمونيها إن لم ينف ، وفي أولهما إن تأخر فنقول : إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيدا قائم. وإن وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من فواتح الابتداء. وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم. والجملة من قوله : وإن كانوا ، حالية. والظاهر أن العامل فيها هو : ويعلمهم ، فهو حال من المفعول.

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا) الهمزة للاستفهام الذي معناه الإنكار. وقال ابن عطية : دخلت عليها ألف التقرير ، على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال. وقال الزمخشري : ولمّا نصب بقلتم وأصابتكم في محل الجرّ بإضافة لما إليه ، وتقديره : أقلتم حين أصابتكم ، وأنّى هذا نصب لأنه مقول ، والهمزة للتقرير والتقريع. (فإن قلت) : على م عطفت الواو هذه الجملة؟ (قلت) : على ما مضى من قصة أحد من قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ)» (٢) ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف ، فكأنه قال : أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا؟ انتهى.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٣.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٥٢.

٤١٨

أمّا العطف على ما مضى من قصة أحد من قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ). ففيه بعد ، وبعيد أن يقع مثله في القرآن. وأمّا العطف على محذوف فهو جار على ما تقرر في غير موضع من مذهبه ، وقد رددناه عليه. وأما على مذهب الجمهور سيبويه وغيره قالوا : وأصلها التقديم ، وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها. وأمّا قوله : ولما نصب إلى آخره وتقديره : وقلتم حينئذ كذا ، فجعل لمّا بمعنى حين فهذا ليس مذهب سيبويه ، وإنما هو مذهب أبي علي الفارسي. زعم أنّ لمّا ظرف زمان بمعنى حين ، والجملة بعدها في موضع جرّ بها ، فجعلها من الظروف التي تجب إضافتها إلى الجمل ، وجعلها معمولة للفعل الواقع جوابا لها في نحو : لما جاء زيد عمرو ، فلما في موضع نصب بجاء من قولك : جاء عمرو. وأمّا مذهب سيبويه فأما حرف لا ظرف ، وهو حرف وجوب لوجوب ، ومذهب سيبويه هو الصحيح. وقد بينا فساد مذهب أبي علي من وجوه في كتابنا المسمى : بالتكميل.

والمصيبة : هي ما نزل بالمؤمنين يوم أحد من قتل سبعين منهم ، وكفهم عن الثبات للقتال. وإسناد الإصابة إلى المصيبة هو مجاز ، كإسناد الإرادة إلى الجدار ، والمثلان اللذان أصابوهما. قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والربيع ، وجماعة : قتلهم يوم بدر سبعين ، وأسرهم سبعين ، فالمثلية وقعت في العدد من إصابة الرجال. وقال الزجاج : قتلهم يوم بدر سبعين وقتلهم يوم أحد اثنين وعشرين ، فهو قتل بقتل ، ولا مدخل للأسرى في الآية ، لأنهم فدوا فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين ، وقيل : المثلية في الانهزام. هزم المؤمنون الكفار يوم بدر ، وهزموهم أولا يوم أحد ، وهزمهم المشركون في آخر يوم أحد. وملخص ذلك : هل المثلية في الإصابة من قتل وأسر ، أو من قتل ، أو من هزيمة؟ ثلاثة أقوال ، والأظهر الأول. لأن قوله : قد أصبتم مثليها هو على طريق التفضل منه تعالى على المؤمنين بإدالتهم على الكفار ، والتسلية لهم على ما أصابهم ، فيكون ذلك بالأبلغ في التسلية. وتنبيههم على أنهم قتلوا منهم سبعين ، وأسروا سبعين أبلغ في المنة وفي التسلية. وأدعى إلى أن يذكروا نعم الله عليهم السابقة ، وأن يتناسوا ما جرى عليهم يوم أحد.

وأنى هذا : جملة من مبتدأ وخبر ، وهي في موضع نصب على أنها معمولة لقوله : قلتم. قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار لما أصابهم ، والمعنى : كيف أصابنا هذا ونحن نقاتل أعداء الله ، وقد وعدنا بالنصر وإمداد الملائكة؟! فاستفهموا على سبيل التعجب عن ذلك. وأنى سؤال عن الحال هنا ، ولا يناسب أن يكون هنا بمعنى أين أو متى ،

٤١٩

لأنّ الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا ، إنما الاستفهام وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك ، سألوا عنها على سبيل التعجب. وقال الزمخشري : أنى هذا من أين هذا ، كقوله : «أنى لك هذا» (١) لقوله : «من عند أنفسكم» (٢) وقوله : «من عند الله» (٣) انتهى كلامه. والظرف إذا وقع خبر للمبتدأ ألا يقدر داخلا عليه حرف جر غير في ، أما أن يقدّر داخلا عليه من فلا ، لأنه إنما انتصب على إسقاط في. ولك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بوساطة في إلّا أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به ، فتقدير الزمخشري : أنى هذا ، من أين هذا تقدير غير سائغ ، واستدلاله على هذا التقدير بقوله : من عند أنفسكم ، وقوله : من عند الله ، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها. وأمّا على ما قررناه ، فإنّ الجواب جاء على مراعاة المعنى ، لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ. وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقا له في اللفظ ، ومراعى فيه المعنى لا اللفظ. والسؤال بأنى سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر ، والجواب بقوله : من عند أنفسكم يتضمن تعيين الكيفية ، لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى. لو قيل على سبيل التعجب والإنكار : كيف لا يحج زيد الصالح ، وأجيب ذلك بأن يقال : بعدم استطاعته حصل الجواب وانتظم من المعنى ، أنه لا يحج وهو غير مستطيع.

(قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) الإضمار في هو راجع إلى المصيبة على المعنى ، لا على اللفظ. وتقدم تفسير المصيبة في تفسير مقابل المثلين : أهو القتل المقابل للقتل والأسر ، أو المقابل للقتل فقط؟ أو الانهزام المقابل للانهزامين؟ والمعنى : أن سبب هذه المصيبة صدر من عند أنفسكم. فقيل : هو الفداء الذي آثروه على القتل يوم بدر من غير إذن الله تعالى ، قال معناه : عمر بن الخطاب ، وعليّ ، والحسن ، وروى عليّ في ذلك : أنّه لما فرغت هزيمة المشركين يوم بدر جاء جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الأسرى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : أن يقدموا الأسرى فتضرب أعناقهم ، أو يأخذوا الفداء على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسرى ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس ، فذكر ذلك لهم فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ، ويستشهد منا عدتهم ، فليس في ذلك ما نكره». فقتل

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٣٧.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٥.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٣٧.

٤٢٠