البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

سفيان انتهى كلامه. فعلى هذا القول تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب. وإنما قال : والمراد بالشيطان نعيم ، أو أبو سفيان ، لأنه لا يكون صفة ، والمراد به إبليس. لأنه إذا أريد به إبليس كان إذ ذاك علما بالغلبة ، إذ أصله صفة كالعيوق ، ثم غلب على إبليس ، كما غلب العيوق على النجم الذي ينطلق عليه.

وقال ابن عطية : وذلكم في الإعراب ابتداء ، والشيطان مبتدأ آخر ، ويخوف أولياءه خبر عن الشيطان ، والجملة خبر الابتداء الأوّل. وهذا الإعراب خبر في تناسق المعنى من أن يكون الشيطان خبر ذلكم ، لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة انتهى. وهذا الذي اختاره إعراب لا يجوز ، إن كان الضمير في أولياءه عائدا على الشيطان ، لأن الجملة الواقعة خبرا عن ذلكم ليس فيها رابط يربطها بقوله : ذلكم ، وليست نفس المبتدأ في المعنى نحو قولهم : هجيري أبي بكر لا إله إلا الله ، وإن كان عائدا على ذلكم ، ويكون ذلك عن الشيطان جاز ، وصار نظير : إنما هند زيد يضرب غلامها والمعنى : إذ ذاك ، إنما ذلكم الركب ، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أولياءه ، أي : أولياء الركب ، أو أبي سفيان. والضمير المنصوب في تخافوهم الظاهر عوده على أولياءه ، هذا إذا كان المراد بقوله : أولياءه كفار قريش ، وغيرهم من أولياء الشيطان. وإن كان المراد به المنافقين ، فيكون عائدا على الناس من قوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) (١) قوى نفوس المسلمين فنهاهم عن خوف أولياء الشيطان ، وأمر بخوفه تعالى ، وعلق ذلك على الإيمان. أي إنّ وصف الإيمان يناسب أن لا يخاف المؤمن إلا الله كقوله : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) (٢) وأبرز هذا الشرط في صفة الإمكان ، وإن كان واقعا إذ هم متصفون بالإيمان ، كما تقول : إن كنت رجلا فافعل كذا. وأثبت أبو عمرو ياء وخافون وهي ضمير المفعول ، والأصل الإثبات. ويجوز حذفها للوقف على نون الوقاية بالسكون ، فتذهب الدلالة على المحذوف (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) لما نهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان ، وأمرهم بخوفه وحده تعالى ، نهى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحزن لمسارعة من سارع في الكفر. والمعنى : لا يتوقع حزنا ولا ضررا منهم ، ولذلك علله بقوله : إنهم لن يضروا الله شيئا ، أي : لن يضروا نبي الله والمؤمنين. والمنفي هنا ضرر خاص ، وهو إبطال الإسلام وكيده حتى يضمحلّ ، فهذا لن يقع أبدا ، بل أمرهم يضمحل ويعلو أمرك عليهم.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٧٣.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٩.

٤٤١

قيل : نزلت في المنافقين. وقيل : نزلت في قوم ارتدوا. وقيل : المراد كفار قريش. وقيل : رؤساء اليهود. والأولى حمله على العموم كقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) (١) وقيل : مثير الحزن وهو شفقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإيثاره إسلامهم حتى ينقذهم من النار ، فنهى عن المبالغة في ذلك كقوله تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) (٢) وقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٣) وهذا من فرط رحمته للناس ، ورأفته بهم.

وقرأ نافع : يحزنك من أحزن ، وكذا حيث وقع المضارع ، إلا في لا يحزنهم الفزع الأكبر ، فقرأه من حزن كقراءة الجماعة في جميع القرآن. يقال : حزن الرّجل أصابه الحزن ، وحزنته جعلت فيه ذلك ، وأحزنته جعلته حزينا. وقرأ النحوي : يسرعون من أسرع في جميع القرآن. قال ابن عطية : وقراءة الجماعة أبلغ ، لأن من يسارع غيره أشد اجتهادا من الذي يسرع وحده. وفي ضمن قوله : إنهم لن يضروا الله شيئا دلالة على أنّ وبال ذلك عائد عليهم ، ولا يضرون إلا أنفسهم. وانتصب شيئا على المصدر ، أي شيئا من الضرر. وقيل : انتصابه على إسقاط حرف الجر أي شيء (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) بين تعالى أنّ ما هم عليه من المسارعة في الكفر هو بإرادة الله تعالى ، أنهم لا يهديهم إلى الإيمان ، فيكون لهم نصيب من نعيم الآخرة. فهذه تسلية منه تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ترك الحرب ، لأن مراد الله منهم هو ما هم عليه ، ولهم بدل النعيم عذاب عظيم. قال الزمخشري : (فإن قلت) : هل قيل : لا يجعل الله لهم حظا في الآخرة ، وأي فائدة في ذكر الإرادة؟ (قلت) : فائدته الإشعار بأن الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصا لم يبق معه صارف قط ، حين يسارعون في الكفر تنبيها على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه ، حتى أن أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم انتهى. وفيه دسيسة اعتزال لأنه استشعر أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة موجبة ، أن سبب ذلك هو مريد له تعالى وهو : الكفر. ومن مذهبه أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يشاؤه ، فتأول تعلق إرادته بانتفاء حظهم من الآخرة بتعلقها بانتفاء رحمته لهم لفرط كفرهم.

ونقل الماوردي في يريد ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يحكم بذلك. والثاني : يريد في

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٤١.

(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ٨.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ٣.

٤٤٢

الآخرة أن يحرمهم ثوابهم لإحباط أعمالهم بكفرهم. والثالث : يريد يحبط أعمالهم بما استحقوه من ذنوبهم قاله : ابن إسحاق : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) هذا عام في الكفار كلهم. وقوله : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) (١) كان عاما ، فكرر هذا على سبيل التوكيد وإن كان خاصا بالمنافقين أو المرتدين أو كفار قريش ، فيكون ليس تكريرا على سبيل التأكيد ، بل حكم على العام بأنهم لن يضروا الله شيئا. ويندرج فيه ذلك الخاص أيضا ، فيكون الحكم في حقهم على سبيل التأكيد ، ويكون قد جمع للخاص العذاب بنوعيه من العظم والألم ، وهو أبلغ في حقهم في العذاب. وجعل ذلك اشتراء. من حيث تمكنهم من قبول الخير والشر ، فآثروا الكفر على الإيمان. (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) معنى نملي : نمهل ونمد في العمر. والملاءة المدة من الدهر ، والملوان الليل والنهار. ويقال : ملاك الله نعمته ، أي منحكها عمرا طويلا ، وقرأ حمزة تحسبنّ بتاء الخطاب ، فيكون الذين كفروا مفعولا أول. ولا يجوز أن يكون : أنما نملي لهم خير ، في موضع المفعول الثاني ، لأنه ينسبك منه مصدر المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول من حيث المعنى ، والمصدر لا يكون الذات ، فخرج ذلك على حذف مضاف من الأول أي : ولا تحسبن شأن الذين كفروا. أو من الثاني أي : ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب ، أنّ الإملاء خير لأنفسهم حتى يصح كون الثاني هو الأول. وخرجه الأستاذ أبو الحسن بن الباذش والزمخشري : على أن يكون أنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل من الذين. قال ابن الباذش : ويكون المفعول الثاني حذف لدلالة الكلام عليه ، ويكون التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا خيرية إملائنا لهم كائنة أو واقعة. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد؟ (قلت) : صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحيّ ، ألا تراك تقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك انتهى كلامه. وهذا التخريج الذي خرجه ابن الباذش والزمخشري سبقهما إليه الكسائي والفراء ، فالأوجه هذه القراءة التكرير والتأكيد. التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا ، ولا تحسبن أنما نملي لهم. قال الفرّاء ومثله : هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم ، أي ما ينظرون إلا أن

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٤١.

٤٤٣

تأتيهم انتهى. وقد ردّ بعضهم قول الكسائي والفراء فقال : حذف المفعول الثاني من هذه الأفعال لا يجوز عند أحد ، فهو غلط منهما انتهى.

وقد أشبعنا الكلام في حذف أحد مفعولي ظن اختصارا فيما تقدم من قول الزمخشري في قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) (١) إن تقديره : ولا تحسبنهم. وذكرنا هناك أنّ مذهب ابن ملكون أنه لا يجوز ذلك ، وأن مذهب الجمهور الجواز لكنه عزيز جدا بحيث لا يوجد في لسان العرب إلا نادرا وأن القرآن ينبغي أن ينزه عنه. وعلى البدل خرج هذه القراءة أبو إسحاق الزجاج ، لكن ظاهر كلامه أنها بنصب خير. قال : وقد قرأ بها خلق كثير ، وساق عليها مثالا قول الشاعر :

فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنه بنيان قوم تهدما

بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل ، وعلى هذا يكون : أنما نملي بدل ، وخيرا : المفعول الثاني أي إملائنا خيرا. وأنكر أبو بكر بن مجاهد هذه القراءة التي حكاها الزجاج ، وزعم أنه لم يقرأ بها أحد. وابن مجاهد في باب القراءات هو المرجوع إليه.

وقال أبو حاتم : سمعت الأخفش يذكر قبح أن يحتج بها لأهل القدر لأنه كان منهم ، ويجعله على التقديم والتأخير كأنه قال : ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ، إنما نملي لهم خير لأنفسهم انتهى. وعلى مقالة الأخفش يكون إنما نملي لهم ليزدادوا إثما في موضع المفعول الثاني ، وإنما نملي لهم خير مبتدأ وخبر ، أي إملاؤنا لهم خير لأنفسهم. وجاز الابتداء بأن المفتوحة ، لأن مذهب الأخفش جواز ذلك. ولإشكال هذه القراءة زعم أبو حاتم وغيره أنها لحن وردّوها. وقال أبو علي الفارسي : ينبغي أن تكون الألف من إنما مكسورة في هذه القراءة ، وتكون إن وما دخلت عليه في موضع المفعول الثاني. وقال مكي في مشكله : ما علمت أحدا قرأ تحسبن بالتاء من فوق ، وكسر الألف من إنما. وقرأ باقي السبعة والجمهور يحسبنّ بالياء ، وإعراب هذه القراءة ظاهر ، لأن الفاعل هو الذين كفروا ، وسدّت إنما نملي لهم خير مسد مفعولي يحسبنّ كما تقول : حسبت أن زيدا قائم. وتحتمل ما في هذه القراءة وفي التي قبلها أن تكون موصولة بمعنى الذي ، ومصدرية ، أي : أن الذي نملي ، وحذف العائد أي : عليه وفيه شرط جواز الحذف من كونه

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٩.

٤٤٤

متصلا معمولا لفعل تام متعينا للربط ، أو أنّ إملائنا خير. وجوّز بعضهم أن يسند الفعل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون فاعل الغيب كفاعل الخطاب ، فتكون القراءتان بمعنى واحد.

وقرأ يحيى بن وثاب : ولا يحسبن بالياء ، وإنما نملي بالكسر. فإن كان الفعل مسندا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون المفعول الأول الذين كفروا ، ويكون إنما نملي لهم جملة في موضع المفعول الثاني. وإن كان مسندا للذين كفروا فيحتاج يحسبن إلى مفعولين. فلو كانت إنما مفتوحة سدت مسد المفعولين ، ولكن يحيى قرأ بالكسر ، فخرج على ذلك التعليق فكسرت إن ، وإن لم تكن اللام في حيزها. والجملة المعلق عنها الفعل في موضع مفعولي يحسبن ، وهو بعيد : لحذف اللام نظير تعليق الفعل عن العمل ، مع حذف اللام من المبتدأ كقوله :

إني وجدت ملاك الشيمة الأدب

أي لملاك الشيمة الأدب ، ولو لا اعتقاد حذف اللام لنصب. وحكى الزمخشري أن يحيى بن وثاب قرأ بكسر إنما الأولى ، وفتح الثانية. ووجه ذلك على أن المعنى : ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما كما يفعلون ، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان. والجملة من إنما نملي لهم خير لأنفسهم اعتراض بين الفعل ومعموله ، ومعناه : أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المدة ، وترك المعاجلة بالعقوبة. وظاهر الذين كفروا العموم.

وقال ابن عباس : نزلت في اليهود والنصارى والمنافقين. وقال عطاء : في قريظة والنضير. وقال مقاتل : في مشركي مكة. وقال الزجاج : هؤلاء قوم أعلم الله نبيه أنهم لا يؤمنون أبدا ، وليست في كل كافر ، إذ قد يكون الإملاء مما يدخله في الإيمان ، فيكون أحسن له. وقال مكي : هذا هو الصحيح من المعاني. وقال ابن عطية : معنى هذه الآية الرد على الكفار في قولهم : إنّ كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضا الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده. وأخبر الله تعالى أنّ ذلك التأخير والإهمال إنما هو إملاء واستدراج لتكثير الآثام. قال عبد الله بن مسعود : ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا والموت خير لها أمّا البرّة فلتسرع إلى رحمة الله. وقرأ : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) (١) وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثما ، وقرأ هذه الآية انتهى.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩٨.

٤٤٥

وقال الزمخشري : والإملاء لهم تحليتهم ، وشأنهم مستعار من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء. وقيل : هو إمهالهم وإطالة عمرهم ، والمعنى : أن الإملاء خير لهم من منعهم أو قطع آجالهم ، إنّما نملي لهم جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها ، كأنه قيل : ما بالهم يحسبون الإملاء خيرا لهم ، فقيل : إنما نملي لهم ليزدادوا إثما. (فإن قلت) : كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضا لله تعالى في إملائه لهم؟ (قلت) : هو علة الإملاء ، وما كلّ علة بغرض. ألا تراك تقول : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشرّ ، وليس شيء منها بغرض لك ، وإنما هي علل وأسباب. فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإملاء ، وسببا فيه. (فإن قلت) : كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء ، كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟ (قلت) : لمّا كان في علم الله المحيط بكلّ شيء أنّهم مزدادون إثما ، فكان الإملاء وقع لأجله وبسببه على طريق المجاز انتهى كلامه. وكله جار على طريقة المعتزلة. وقال الماتريدي : المعتزلة تناولوها على وجهين : أحدهما : على التقديم والتأخير. أي : ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادو إثما ، إنما نملي لهم خير لأنفسهم. الثاني : أنّ هذا إخبار منه سبحانه وتعالى عن حسبانهم فيما يؤول إليه أمرهم في العاقبة ، بمعنى أنهم حسبوا أن إمهالهم في الدّنيا وإصابتهم الصحة والسلامة والأموال خير لأنفسهم في العاقبة ، بل عاقبة ذلك شرّ. وفي التأويل الأول إفساد النظم ، وفي الثاني تنبيه على من لا يجوز تنبيهه. فإنّ الإخبار عن العاقبة يكون لسهو في الابتداء أو غفله ، والعالم في الابتداء لا ينبه نفسه انتهى كلامه. وكتبوا ما متصلة بأن في الموضعين. قيل : وكان القياس الأولى في علم الخط أن تكتب مفصولة ، ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا تخالف ، ونتبع سنة الإمام في المصاحف. وأما الثانية ، فحقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون العمل ، ولا يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي. ولا مصدرية ، لأن لام كي لا يصحّ وقوعها خبر للمبتدأ ولا لنواسخه. وقيل : اللام في ليزدادوا للصيرورة. (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) هذه الواو في : ولهم ، للعطف. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : فما معنى قوله : ولهم عذاب مهين على هذه القراءة ، يعني قراءة يحيى بن وثاب بكسر إنما الأولى وفتح الثانية؟ (قلت) : معناه ولا تحسبوا أن إملاءنا لزيادة الإثم وللتعذيب ، والواو للحال. كأنه قيل : ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين انتهى. والذين نقلوا قراءة يحيى لم يذكروا أن أحدا قرأ الثانية بالفتح إلا هو ، إنما ذكروا أنه قرأ الأولى بالكسر. ولكنّ الزمخشري من ولوعه بنصرة مذهبه يروم رد كل شيء إليه. ولما قرر في هذه القراءة أنّ المعنى على نهي

٤٤٦

الكافر أن يحسب إنما يملي الله لزيادة الإثم ، وأنه إنما يملي لأجل الخير كان قوله : ولهم عذاب مهين يدفع هذا التفسير ، فخرج ذلك على أن الواو للحال حتى يزول هذا التدافع الذي بين هذه القراءة وبين ظاهر آخر الآية. ووصف تعالى عذابه في مقاطع هذه الآيات الثلاث : بعظيم ، وأليم ، ومهين. ولكل من هذه الصفات مناسبة تقتضي ختم الآية بها. أما الأولى فإن المسارعة في الشيء والمبادرة في تحصيله والتحلي به يقتضي جلالة ما سورع فيه ، وأنه من النفاسة والعظم بحيث يتسابق فيه ، فختمت الآية بعظم الثواب وهو جزاؤهم على المسارعة في الكفر إشعارا بخساسة ما سابقوا فيه. وأما الثانية فإنه ذكر فيها اشتراء الكفر بالإيمان ، ومن عادة المشتري الاغتباط بما اشتراه والسرور به والفرح ، فختمت الآية لأن صفقته خسرت بألم العذاب ، كما يجده المشتري المغبون في تجارته. وأما الثالثة فإنه ذكر الإملاء وهو الإمتاع بالمال والبنين والصحة وكان هذا الإمتاع سببا للتعزز والتمتع والاستطاعة فختمت الآية بإهانة العذاب لهم. وأن ذلك الإملاء المنتج عنه في الدنيا التعزز والاستطالة مآله في الآخرة إلى إهانتهم بالعذاب الذي يهين الجبابرة. (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) الخطاب في أنتم للمؤمنين ، والمعنى : على ما أنتم عليه أيها المؤمنون من اختلاطكم بالمنافقين. وإشكال أمرهم وإجراء المنافق مجرى المؤمن ، ولكنه ميز بعضا من بعض بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء من الأقوال والأفعال قاله : مجاهد ، وابن جريج ، وابن إسحاق. وقيل : الخطاب للكفار ، والمعنى : على ما أنتم عليه أيها الكفار من اختلاطكم بالمؤمنين قاله : قتادة ، والسدي. قال السدي وغيره : قال الكفار في بعض جدلهم : أنت يا محمد تزعم في الرّجل منا أنّه من أهل النار ، وأنّه إذا اتبعك من أهل الجنة ، فكيف يصح هذا؟ ولكن أخبرنا بمن يؤمن منا ، وبمن يبقى على كفره ، فنزلت. فقيل لهم : لا بد من التمييز. وقال ابن عباس : وأكثر المفسرين الخطاب للكفار والمنافقين. وقيل : الخطاب للمؤمنين والكافرين ، وهو قريب مما قاله الزمخشري : غاية ما فيه أنه بدل الكافرين بالمنافقين فقال : (فإن قلت) : لمن الخطاب في أنتم؟ (قلت) : للمصدقين جميعا من أهل الإخلاص والنفاق ، كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض ، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم ، لاتفاقكم على التصديق جميعا حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه بإخباره بأحوالكم. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب ، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله

٤٤٧

قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد ، وإنفاق الأموال في سبيل الله ، فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم ، وشاهدا بضمائركم ، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال ، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها ، فإنّ ذلك مما استأثر الله به انتهى. ومعنى هذا القول لابن كيسان. قال ابن كيسان : المعنى ما يذركم على الإقرار حتى يختبركم بالشرائع والتكاليف ، فأخذه الزمخشري والقول الذي قبله ونمقهما ببلاغته وحسن خطابته.

وقيل : المعنى ما كان الله ليذر أولادكم الذين حكم عليهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك حتى يفرق بينكم وبينهم. وقيل : كانوا يستهزؤون بالمؤمنين سرا فقال : لا يدعكم على ما أنتم عليه من الطعن فيهم والاستهزاء ، ولكن يمتحنكم لتفتضحوا ويظهر نفاقكم عندهم ، لا في دار واحدة ، ولكن يجعل لهم دارا أخرى يميز فيها الخبيث من الطيب ، فيجعل الخبيث في النار ، والطيب في الجنة. والخبيث الكافر ، والطيب المؤمن ، وتمييزه بالهجرة والجهاد. وقال مجاهد : الطيب المؤمن ، والخبيث المنافق ، ميز بينهما يوم أحد. وقيل : الخبيث الكافر ، والطيب المؤمن ، وتمييزه بإخراج أحدهما من صلب الآخر. وقيل : تمييز الخبيث هو إخراج الذنوب من إحياء المؤمنين بالبلايا والرزايا. وقيل : الخبيث العاصي ، والطيب المطيع ، والألف واللام في الخبيث والطيب للجنس أو للعهد ، إذ كان المعهود في ذلك الوقت أن الخبيث هو الكافر والطيب هو المؤمن كما قال : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) (١) الآية.

واللام في قوله : ليذر هي المسماة لام الجحود ، وهي عند الكوفيين زائدة لتأكيد النفي ، وتعمل بنفسها النصب في المضارع. وخبر كان هو الفعل بعدها فتقول : ما كان زيد يقوم ، وما كان زيد ليقوم ، إذا أكدت النفي. ومذهب البصريين أنّ خبر كان محذوف ، وأن النصب بعد هذه اللام بأن مضمرة واجبة الإضمار ، وأنّ اللام مقوية لطلب ذلك المحذوف لما بعدها ، وأنّ التقدير : ما كان الله مريدا ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ، أي : ما كان مريدا لترك المؤمنين. وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتابنا المسمى بالتكميل في شرح التسهيل.

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٢٦.

٤٤٨

وحتى للغاية المجرّدة ، والتقدير : إلى أن يميزها كذا قالوا ، وهو مشكل على أن تكون غاية على ظاهر اللفظ ، لأنه يكون المعنى : لا يتركهم مختلطين إلى أن يميز ، فيكون قد غيا نفي الترك إلى وجود التمييز ، فإذا وجد التمييز تركهم على ما هم عليه من الاختلاط ، وصار نظير ما أضرب زيدا إلى أن يجيء عمرو ، فمفهومه : إذا جاء عمرو ضربت زيدا ، وليس المراد من الآية هذا المعنى ، وإنما هي غاية لما تضمنه الكلام السابق من المعنى الذي يصح أن يكون غاية له. ومعنى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه : أنه تعالى يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان ، إلى أن يميز الخبيث من الطيب. وقرأ الأخوان : يميز من ميز ، وباقي السبعة يميز من ماز. وفي رواية عن ابن كثير : يميز من أماز ، والهمزة ليست للنقل ، كما أن التضعيف ليس للنقل ، بل أفعل وفعل بمعنى الثلاثي المجرّد كحزن وأحزن ، وقدر الله وقدّر.

(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) لمّا قدم أنه تعالى هو الذي يميز الخبيث من الطيب وليس لهم تمييز ذلك ، أخبر أنه لا يطلع أحدا من المخاطبين على الغيب.

(وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي) أي : يختار ويصطفي (مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيطلعه على ما شاء من المغيبات. فوقوع لكنّ هنا لكون هنا لكون ما بعدها ضدا لما قبلها في المعنى. إذ تضمن اجتباء من شاء من رسله اطلاعه إياه على ما أراد تعالى من علم الغيب ، فاطلاع الرسول على الغيب هو باطلاع الله تعالى بوحي إليه ، فيخبر بأنّ في الغيب كذا من نفاق هذا وإخلاص هذا فهو عالم بذلك من جهة الوحي ، لا من جهة اطلاعه نفسه من غير واسطة وحي على المغيبات. قال السدي وغيره : ليطلعكم على الغيب ، فيمن يؤمن ، ومن يبقى كافرا ، ولكنّ هذا رسول مجتبى. وقال مجاهد وابن جريج وغيره : هي في أمر أحد أي : ليطلعكم على أنكم تهزمون ، أو تكفون عن القتال. وقيل : ليطلعكم على المنافقين تصريحا بهم ، وتسمية بأعيانهم ، ولكن بقرائن أفعالهم وأقوالهم. والغيب هنا ما غاب عن البشر مما هو في علم الله تعالى من الحوادث التي تحدث ، ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين ، ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس. وقال الزجاج وغيره : روي أن بعض الكفار قال : لم لا يكون جميعنا أنبياء؟ فنزلت. وقيل : قالوا : لم لم يوح إلينا في أمر محمد؟ فنزلت. وقيل : قالوا : نحن أكثر أموالا وأولادا فهلا كان الوحي إلينا ، فنزلت. وقيل : كانت الشياطين يصعدون إلى السماء فيسترقون السمع ، فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث

٤٤٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزلها الله بعد بعثته. ولكن الله يصطفي من يشاء فيجعله رسولا فيوحي إليه ، أي : ليس الوحي من السماء لغير الأنبياء. وظاهر الآية هو ما قدّمناه من أنه تعالى هو الذي يميز بين الخبيث والطيب ، أخبر أنكم لا تدركون أنتم ذلك ، لأنه تعالى لم يطلعكم على ما أكنته القلوب من الإيمان والنفاق ، ولكنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ذلك ، فتطلعون عليه من جهة الرسول بإخباره لكم عن ذلك بوحي الله. وهذا معنى ما روي أيضا عن السدي أنه قال : حكم بأنه يظهر هذا التمييز. ثم بيّن بهذه الآية أنه لا يجوز أن يجعل هذا التمييز في عوام الناس بأن يطلعهم على غيبه فيقولون : إنّ فلانا منافق ، وفلانا مؤمن. بل سنة الله تعالى جارية بأن لا يطلع عوام الناس ، ولا سبيل لهم إلى معرفة ذلك إلا بالامتحان. فأمّا معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب فهو من خواص الأنبياء ، ولهذا قال تعالى : ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ، فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن وهذا منافق. وهذه الأقوال كلها والتفاسير مشعرة بأنّ هذا الغيب الذي نفى الله اطلاع الناس عليه راجع إلى أحوال المؤمنين والمنافقين ، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل العموم. أي : ما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالمغيبات من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عنه ، بل الله يخص من يشاء من عباده بذلك وهو الرسول ، فتندرج أحوال المنافق والمؤمن في هذا العام.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) لما ذكر أنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على المغيبات ، أمر بالتصديق بالمجتبى ، والمجتبى ومن يشاء هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ ثبتت نبوته باطلاع الله إياه على المغيبات ، وإخباره لكم بها في غير ما موطن. وجمع في قوله ورسله تنبيها على أنّ طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحدة ، وهو ظهور المعجز على أيديهم. قال الزمخشري في قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسله ، بأن تقدروه حق قدره ، وتعلمونه وحده مطلعا على الغيوب ، وأن ينزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عبادا مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، ولا يخبرون إلا بما أخبر الله به من الغيوب ، وليسوا من علم الغيب في شيء انتهى.

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) رتب حصول الأجر العظيم على الإيمان ، والمعنى : الإيمان السابق ، وهو الإيمان بالله ورسله ، وعلى التقوى وهي زائدة على الإيمان ، وكأنها مرادة في الجملة السابقة فكأنه قيل : فآمنوا بالله ورسله واتقوا الله.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)

٤٥٠

قال السدي وجماعة : نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله. وقال ابن عباس في رواية عطية ، ومجاهد وابن جريج وجماعة ، واختاره الزجاج : في أهل الكتاب وبخلهم تبيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : نزلت في مانعي الزكاة المفروضة قاله : ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وابن عباس في رواية أبي صالح والشعبي ومجاهد. وقيل : في النفقة على العيال وذوي الأرحام.

ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد في الآيات السابقة ، شرع في التحريض هنا على بذل الأموال في الجهاد وغيره ، وبيّن الوعيد الشديد لمن يبخل ، والبخل الشرعي عبارة عن منع بذل الواجب. وقرأ حمزة تحسبن بالتاء ، فتكون الذين أول مفعولين لتحسبن ، وهو على حذف مضاف أي : بخل الذين. وقرأ باقي السبعة بالياء. فإن كان الفعل مسندا إلى ضمير الرسول أو ضمير أحد فيكون الذين هو المفعول الأول على ذلك التقدير وإن كان الذين هو الفاعل ، فيكون المفعول الأول محذوفا تقديره : بخلهم ، وحذف لدلالة يبخلون عليه. وحذفه كما قلنا : عزيز جدا عند الجمهور ، فلذلك الأولى تخريج هذه القراءة على قراءة التاء من كون الذين هو المفعول الأول على حذف مضاف ، وهو فصل. وقرأ الأعمش بإسقاط هو ، وخيرا هو المفعول بتحسبن. قال ابن عطية : ودل قوله : يبخلون على هذا البخل المقدر ، كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر :

إذا نهى السفيه جرى إليه

وخالف والسفيه إلى خلاف

والمعنى : جرى إلى السفه انتهى. وليست الدلالة فيهما سواء لوجهين : أحدهما أن الدال في الآية هو الفعل ، وفي البيت هو اسم الفاعل ، ودلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة اسم الفاعل ، ولذلك كثر إضمار المصدر لدلالة الفعل عليه في القرآن وكلام العرب ، ولم تكثر دلالة اسم الفاعل على المصدر إنما جاء في هذا البيت أو في غيره إن وجد. والثاني أن في الآية حذفا لظاهر ، إذ قدروا المحذوف بخلهم ، وأما في البيت فهو إضمار ، لا حذف. ويظهر لي تخريج غريب في الآية تقتضيه قواعد العربية ، وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال ، إذا جعلنا الفعل مسندا للذين ، وذلك أن تحسبن تطلب مفعولين ، ويبخلون يطلب مفعولا بحرف جر ، فقوله : ما آتاهم يطلبه يحسبن ، على أن يكون المفعول الأول ، ويكون هو فصلا ، وخيرا المفعول الثاني ويطلبه يبخلون بتوسط حرف الجر ، فاعمل الثاني على الأفصح في لسان العرب ، وعلى ما جاء في القرآن وهو يبخلون. فعدي بحرف

٤٥١

الجر واحد معموله ، وحذف معمول تحسبن الأول ، وبقي معموله الثاني ، لأنه لم يتنازع فيه ، إنما التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول. وساغ حذفه وحده ، كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه : متى رأيت أو قلت : زيد منطلق ، لأن رأيت وقلت في هذه المسألة تنازعا زيد منطلق ، وفي الآية : لم يتنازعا إلا في المفعول الواحد ، وتقدير المعنى : ولا تحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم الناس الذين يبخلون به ، فعلى هذا التقدير والتخريج يكون هو فصلا لما آتاهم المحذوف ، لا لتقديرهم بخلهم. ونظير هذا التركيب ظن الذي مرّ بهند هي المنطلقة المعنى ، ظن هندا الشخص الذي مرّ بها هي المنطلقة ، فالذي تنازعه الفعلان هو الاسم الأول ، فاعمل الفعل الثاني وبقي الأول يطلب محذوفا ، ويطلب المفعول الثاني مثبتا ، إذ لم يقع فيه التنازع. ولما تضمن النهي انتفاء كون البخل أو المبخول به خيرا لهم ، وكان تحت الانتفاء قسمان : أحدهما أن لا خير ولا شر ، والآخر إثبات الشر ، أتى بالجملة التي تعين أحد القسمين وهو : إثبات كونه شرا لهم.

(سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) هذا تفسير لقوله : (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) (١) والظاهر حمله على المجاز ، أي سيلزمون عقابه إلزام الطوق ، وفي المثل لمن جاء بهنة تقلدها طوق الحمامة. وقال إبراهيم النخعي : سيجعل لهم يوم القيامة طوق من نار. قال مجاهد وغيره : هو من الطاقة لا من التطويق ، والمعنى : سيحملون عقاب ما بخلوا به. كقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) (٢) وقال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به. وهذا التفسير لا يناسب قوله : إن البخل هو العلم الذي تفضل الله عليهم به من أمر الرسول. وقال أبو وائل : هو الرجل يرزقه الله مالا فيمنع منه قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله ، فيجعل حية يطوقها فيقول : ما لي ولك ، فيقول : أنا مالك. وجاء في الحديث : «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمة فيسأله من فضل عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه» والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز المال كثيرة صحيحة.

(وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيه قولان : أحدهما أنه تعالى له ملك جميع ما يقع من إرث في السموات والأرض ، وأنه هو المالك له حقيقة ، فكل ما يحصل لمخلوقاته مما ينسب إليهم ملكه هو مالكه حقيقة. وإذا كان هو مالكه فما لكم تبخلون بشيء أنتم ممتعون به لا مالكوه حقيقة ، كما قال تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (٣).

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٨٠.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٨٤.

(٣) سورة الحديد : ٥٧ / ٧.

٤٥٢

والقول الثاني : أنه خبر بفناء العالم ، وأنّ جميع ما يخلفونه فهو وارثه. وهو خطاب على ما يفهم البشر ، دلّ على فناء الجميع ، وأنه لا يبقى مالك إلا الله ، وإن كان ملكه على كل شيء لم يزل.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ختم بهذه الصفة ومعناها التهديد والوعيد على قبيح مرتكبهم من البخل. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : يعملون على الغيبة جريا على يبخلون وسيطوّقون. وقرأ الباقون : بالتاء على الالتفات ، فيكون ذلك خطابا للباخلين. وقال ابن عطية : وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة ، لأنه قد تقدّم (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) (١). انتهى. فلا يكون على قوله التفاتا ، والأحسن الالتفات.

وتضمنت هذه الآيات فنونا من البلاغة والبديع. الاختصاص في : أجر المؤمنين. والتكرار في : يستبشرون ، وفي : لن يضروا الله شيئا ، وفي : اسمه في عدة مواضع ، وفي : لا يحسبن الذين كفروا ، وفي : ذكر الإملاء. والطباق في : اشتروا الكفر بالإيمان ، وفي : ليطلعكم على الغيب. والاستعارة في : يسارعون ، وفي : اشتروا ، وفي : نملي وفي : ليزدادوا إثما ، وفي : الخبيث والطيب. والتجنيس المماثل في : فآمنوا وإن تؤمنوا. والالتفات في : أنتم إن كان خطابا للمؤمنين ، إذ لو جرى على لفظ المؤمنين لكان على ما هم عليه ، وإن كان خطابا لغيرهم كان من تلوين الخطاب ، وفي : تعملون خبير فيمن قرأ بتاء الخطاب. والحذف في مواضع.

لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٧٩.

٤٥٣

ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)

الزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب. يقال : زبرت أي كتبت ، فهو بمعنى مفعول أي : مزبور ، كالركوب بمعنى المركوب. وقال امرؤ القيس :

لمن طلل أبصرته فشجاني

كخط زبور في عسيب يمان

ويقال : زبرته قرأته ، وزبرته حسنته ، وتزبرته زجرته. وقيل : اشتقاق الزبور من الزبرة ، وهي القطعة من الحديد التي تركت بحالها.

الزحزحة : التنحية والإبعاد ، تكرير الزح وهو الجذب بعجلة ويقال : مكان زحزح أي بعيد.

الفوز : النجاة مما يحذر والظفر بما يؤمل ، وسميت الأرض القفر البعيدة المخوف من الهلاك فيها مفازة على سبيل التفاؤل ، لأن من قطعها فاز. وقيل : لأنها مظنة تفويز ، ومظنة هلاك. تقول العرب : فوّز الرجل مات.

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) نزلت في فنحاص بن عازوراء ، حاوره أبو بكر في الإسلام وأن يقرض الله قرضا حسنا فقال : هذه المقالة فضربه أبو بكر ومنعه من قبله العهد ، فشكاه إلى الرسول وأنكر ما قال ، فنزلت تكذيبا لفنحاص ، وتصديقا للصديق قاله : ابن عباس ، وعكرمة ، والسدّي ، ومقاتل ، وابن إسحاق رضي‌الله‌عنهم ، وساقوا القصة مطولة. وقال قتادة : نزلت في حيي بن أخطب ، وقال هو أيضا والحسن ومعمر وغيرهم : في اليهود. وذكر أبو سليمان الدمشقي في الياس بن عمر. ولما نزل (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (١) قال أو قالوا : إنما يستقرض الفقير الغني ، والظاهر أن قائل ذلك جمع ، فيمكن أن ذلك صدر من فنحاص أو حيي أولا ، ثم تقاولها اليهود ، أو صدر ذلك من واحد فقط ، ونسب للجماعة على عادة كلام العرب في نسبتها إلى القبيلة فعل الواحد منها.

ومعنى لقد سمع الله : أنه لم يخف عليه تعالى مقالتهم ، ومقالتهم هذه إما على سبيل

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٥.

٤٥٤

الجواليقي : المتفتية والفتاة المراهقة ، والفتى الرفيق ، ومنه : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) (١) والفتى : العبد. ومنه : «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي». الميل : العدول عن طريق الاستواء. (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) قال مجاهد واختاره أبو مسلم بن بحر الأصبهاني : هذه الآية نزلت في النساء. والمراد بالفاحشة هنا : المساحقة ، جعل حدّهن الحبس إلى أن يمتن أو يتزوجن. قال : ونزلت (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) (٢) في أهل اللواط. والتي في النور : في (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) (٣) وخالف جمهور المفسرين. وبناه أبو مسلم على أصل له. وهو يرى أنه ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمر بالإحسان إلى النساء فذكر إيتاء صدقاتهن وتوريثهن ، وقد كن لا يورثن في الجاهلية ، ذكر التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة ، وفي الحقيقة هو إحسان إليهن ، إذ هو نظر في أمر آخرتهن ، ولئلا يتوهم أنّ من الإحسان إليهن أن لا تقام عليهن الحدود فيصير ذلك سببا لوقوعهن في أنواع المفاسد. ولأنه تعالى لمّا ذكر حدوده وأشار بتلك إلى جميع ما وقع من أول السورة إلى موضع الإشارة ، فكان في مبدأ السورة التحصن بالتزويج وإباحة ما أباح من نكاح أربع لمن أباح ذلك ، استطرد بعد ذلك إلى حكم من خالف ما أمر الله به من النكاح من الزواني ، وأفردهن بالذكر أولا ، لأنهن على ما قيل أدخل في باب الشهوة من الرجال ، ثم ذكرهن ثانيا مع الرجال الزانين في قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) فصار ذكر النساء الزواني مرّتين : مرة بالإفراد ، ومرّة بالشمول.

واللاتي جمع من حيث المعنى للتي ، ولها جموع كثيرة أغربها : اللاآت ، وإعرابها إعراب الهندات.

ومعنى يأتين الفاحشة : يجئن ويغشين. والفاحشة هنا الزنا بإجماع من المفسرين ، إلا ما نقل عن مجاهد وتبعه أبو مسلم في أن المراد به المساحقة ، ويأتي الكلام معه في ذلك ، وأطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح. قيل : فإن قيل : القتل والكفر أكبر من الزنا ، قيل : القوى المدبرة للبدن ثلاث : الناطقة وفسادها بالكفر

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٦٠.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٦.

(٣) سورة النور : ٢٤ / ٢.

٤٥٥

وقال أبو سفيان لحمزة رضي‌الله‌عنه لما طعنه وحشي : ذق عقق ، واستعير لمباشرة العذاب الذوق ، لأن الذوق من أبلغ أنواع المباشرة ، وحاستها متميزة جدا. والحريق : المحرق فعيل بمعنى مفعل ، كأليم بمعنى مؤلم. وقيل : الحريق طبقة من طباق جهنم. وقيل : الحريق الملتهب من النار ، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة ، والملتهبة أشدها. والظاهر أنّ هذا القول يكون عند دخولهم جهنم. وقيل : قد يكون عند الحساب ، أو عند الموت. وأنّ وما بعدها محكي بقالوا. وأجاز أبو البقاء أن يكون محكيا بالمصدر ، فيكون من باب الأعمال. قال : وإعمال الأول أصل ضعيف ، ويزداد ضعفا لأن الثاني فعل والأول مصدر ، وإعمال الفعل أقوى. والظاهر أنّ ما فيما قالوا موصولة بمعنى الذي ، وأجيز أن تكون مصدرية.

وقرأ الجمهور : سنكتب وقتلهم بالنصب. ونقول : بنون المتكلم المعظم. أو تكون للملائكة. وقرأ الحسن والأعرج سيكتب بالياء على الغيبة. وقرأ حمزة : سيكتب بالياء مبنيا للمفعول ، وقتلهم بالرفع عطفا على ما ، إذ هي مرفوعة بسيكتب ، ويقول بالياء على الغيبة. وقرأ طلحة بن مصرّف : سنكتب ما يقولون. وحكى الداني عنه : ستكتب ما قالوا بتاء مضمومة على معنى مقالتهم. وقرأ ابن مسعود : ويقال ذوقوا. ونقلوا عن أبي معاذ النحويّ أنّ في حرف ابن مسعود سنكتب ما يقولون ونقول لهم ذوقوا.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) الإشارة إلى ما تقدم من عقابهم ، ونسب ما قدموه من المعاصي القولية والفعلية والاعتقادية إلى الأيدي على سبيل التغليب ، لأن الأيدي تزاول أكثر الأعمال ، فكان كل عمل واقع بها. وهذه الجملة داخلة في المقول ، وبخوا بذلك ، وذكر لهم السبب الذي أوجب لهم العقاب. ويحتمل أن يكون خطابا لمعاصري الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم نزول الآية ، فلا يندرج تحت معمول قوله ونقول.

(وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) هذا معطوف على قوله : بما قدمت أيديكم ، أي ذلك العقاب حاصل بسبب معاصيكم ، وعدل الله تعالى فيكم. وجاء لفظ ظلام الموضوع للتكثير ، وهذا تكثير بسبب المتعلق. وذهب بعضهم إلى أن فعالا قد يجيء لا يراد به الكثرة ، كقول طرفة :

ولست بحلال التلاع مخافة

ولكن متى يسترفد القوم أرفد

لا يريد أنه قد يحل التلاع قليلا ، لأن عجز البيت يدفعه ، فدلّ على نفي البخل في

٤٥٦

كل حال ، وتمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة ، وقيل : إذا نفى الظلم الكثير اتبع القليل ضرورة ، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضرر كان للظلم القليل المنفعة أترك.

وقال القاضي : العذاب الذي توعد أن يفعله بهم : لو كان ظالما لكان عظيما ، فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا والعبيد جمع عبد ، كالكليب. وقد جاء اسم الجمع على هذا الوزن نحو الضيفن وغيره من جمع التكسير ، جواز الإخبار عنه إخبار الواحد كأسماء الجموع ، وناسب لفظ هذا الجمع دون لفظ العباد ، لمناسبة الفواصل التي قبله مما جاءت على هذا الوزن ، كما ناسب ذلك في سورة فصلت ، وكما ناسب لفظ العباد في سورة غافر ما قبله وما بعده. قال ابن عطية : وجمع عبدا في هذه الآية على عبيد لأنه مكان تشقيق وتنجية من ظلم انتهى كلامه. ولا تظهر لي هذه العلة التي ذكرها في هذا الجمع. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : فلم عطف قوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، على (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد شريكا لاجتراحهم السيئات في استحقاقهم العذاب؟ (قلت) : معنى كونه غير ظلام للعبيد : أنه عادل عليهم ، ومن العدل أن يعاقب المسيء منهم ويشيب المحسن انتهى. وفيه رائحة الاعتزال.

(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) قال الكعبي : نزلت في كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا ، وزيد بن مانوه ، وفنحاص بن عازوراء ، وحيي بن أخطب ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا ، وأنزل عليك كتابا ، وأن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدقناك. وظاهر هذا القول أنه عهد إليهم في التوراة ، فقيل : كان هذا في التوراة ، ولكن كان تمام الكلام حتى يأتيكم المسيح ومحمد ، فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان. وقيل : كان أمر القرابين ثابتا ، إلى أن نسخت على لسان المسيح. وقيل : ذكرهم هذا العهد هو من كذبهم على الله تعالى ، وافترائهم عليه ، وعلى أنبيائه.

ومعنى عهد : وصي ، والعهد أخص من الأمر ، لأنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان ، وتقدم تفسيره. وتعدى نؤمن باللام كما في قوله : (فَما آمَنَ لِمُوسى) (١) يؤمن

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٨٣.

٤٥٧

لله. والقربان : ما يتقرّب به من شاة أو بقرة أو غير ذلك ، وهو في الأصل مصدر سمي المفعول به كالرهن ، وكان حكمه قديما في الأنبياء. ألا ترى إلى قصة ابني آدم ، وكان أكل النار ذلك القربان دليلا على قبول العمل من صدقة أو عمل ، أو صدق مقالة. وإذا لم تنزل النار فليس بمقبول ، وكانت النار أيضا تنزل للغنائم فتحرقها. وإسناد الأكل إلى النار مجاز واستعارة عن إذهاب الشيء وإفنائه ، إذ حقيقة الأكل إنما توجد في الحيوان المتغذي ، والقربان وأكل النار معجز للنبي يوجب الإيمان به ، فهو وسائر المعجزات سواء. ولله أن يعين من الآيات ما شاء لأنبيائه ، وهذا نظير ما يقترحونه من الآيات على سبيل التبكيت والتعجيز. وقد أخبر تعالى أنه لو نزل ما اقترحوه لما آمنوا.

والذين قالوا صفة للذين قالوا. وقال الزجاج : الذين صفة للعبيد. قال ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى والوصف انتهى. وهو كما قال. وجوزوا قطعه للرّفع ، والنصب ، واتباعه بدلا. وفي أن لا نؤمن تقدير حرف جر ، فحذف وبقي على الخلاف فيه : أهو في موضع نصب أو جر؟ وأن يكون مفعولا به على تضمين عهد معنى الزم ، فكأنه ألزمنا أن لا نؤمن. وقرأ عيسى بن عمر بقربان بضم الراء. قال ابن عطية : اتباعا لضمة القاف ، وليس بلغة. لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين. وحكى سيبويه السلطان بضم اللام ، وقال : إن ذلك على الاتباع انتهى. ولم يقل سيبويه : إنّ ذلك على الاتباع ، بل قال : ولا نعلم في الكلام فعلان ولا فعلان ، ولا شيئا من هذا النحو لم يذكره. ولكنه جاء فعلان وهو قليل ، قالوا : السلطان وهو اسم انتهى. وقال الشارح : صاحب في اللغة لا يسكن ولا يتبع ، وكذا ذكر التصريفيون أنه بناء مستقبل. قالوا فيما لحقه زيادتان بعد اللام وعلى فعلان ولم يجيء إلا اسما : وهو قليل نحو سلطان.

(قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) رد الله تعالى عليهم وأكذبهم في اقتراحهم ، وألزمهم أنهم قد جاءتهم الرسل بالذي قالوه من الإتيان بالقربان الذي تأكله النار وبالآيات غيره ، فلم يؤمنوا بهم ، بل قتلوهم. ولم يكتفوا بتكذيبهم حتى أوقعوا بهم شر فعل ، وهو إتلاف النفس بالقتل. فالمعنى أن هذا منكم معشر اليهود تعلل وتعنت ، ولو جاءهم بالقربان لتعللوا بغير ذلك مما يقترحونه. والاقتراح لا غاية له ، ولا يجاب طالبه إلا إذا أراد الله هلاكه ، كقصة قوم صالح وغيره. وكذلك قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اقتراح قريش فأبى عليه‌السلام وقال : بل أدعوهم

٤٥٨

وأعالجهم ومعنى : إن كنتم صادقين في دعواكم أنّ الإيمان يلزم بإتيان البينات والقربان ، أو صادقين في أنّ الله عهد إليكم.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك على سبيل التسلية لما ظهر كذبهم على الله بذكر العهد الذي افتروه ، وكان في ضمنه تكذيبه إذ علقوا الإيمان به على شيء مقترح منهم على سبيل التعنت ، ولم يجبهم الله لذلك ، فسلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن هذا دأبهم ، وسبق منهم تكذيبهم لرسل جاءوا بما يوجب الإيمان من ظهور المعجزات الواضحة الدلالة على صدقهم ، وبالكتب السماوية الإلهية النيرة المزيلة لظلم الشبه.

والزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب سمي بذلك قيل : لأنه مكتوب ، إذ يقال : زبره كتبه. أو لكونه زاجرا من زبره زجره ، وبه سمي كتاب داود زبورا لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ ، أو لأحكامه. والزبر : الأحكام. وقال الزجاج : الزبور كل كتاب فيه حكمة. قيل : والكتاب هو الزبر. وجمع بين اللفظين على سبيل التأكيد ، أو لاختلاف معنييهما ، مع أن المراد واحد ، ولكن اختلف معنياهما من حيث الصفة. وقيل : الكتاب هنا جنس للتوراة والإنجيل وغيرهما ، ويحتمل أن يراد بقوله : والزبر الزواجر من غير أن يراد به الكتب. أي : جاؤوا بالمعجزات الواضحة والتخويفات والكتب النيرة.

وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه التقدير : وإن يكذبوك فتسلّ به. ولا يمكن أن يكون فقد كذب رسل الجواب لمضيه ، إذ جواب الشرط مستقبل لا محالة لترتبه على المستقبل ، وما يوجد في كلام المعربين أنّ مثل هذا من الماضي هو جواب الشرط ، فهو على سبيل التسامح لا الحقيقة. وبنى الفعل للمفعول لأنه لم يقتصر في تكذيب الرسل على تكذيب اليهود وحدهم لأنبيائهم ، بل نبه على أنّ من عادة اليهود وغيرهم من الأمم تكذيب الأنبياء ، فكان المعنى : فقد كذبت أمم من اليهود وغيرهم الرسل. قيل : ونكر رسل لكثرتهم وشياعهم. ومن قبلك : متعلق بكذب ، والجملة من قوله : جاؤوا في موضع الصفة لرسل انتهى. والباء في بالبينات تحتمل الحال والتعدية ، أي : جاؤوا أممهم مصحوبين بالبينات ، أو جاؤوا البينات. وقرأ الجمهور : والزبر. وقرأ ابن عامر : وبالزبر ، وكذا هي في مصاحف أهل الشام. وقرأ هشام بخلاف عنه وبالكتاب. وقرأ الجمهور : والكتاب. وإعادة حرف الجر في العطف هو على سبيل التأكيد. وكان ذكر

٤٥٩

الكتاب مفردا وإنّ كان مجموعا من حيث المعنى لتناسب الفواصل ، ولم يلحظ فيه أن يجمع كالمعطوف عليهما لذلك.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) تضمنت هذه الجملة وما بعدها الوعظ والتسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الدنيا وأهلها ، والوعد بالنجاة في الآخرة بذكر الموت ، والفكرة فيه تهون ما يصدر من الكفار من تكذيب وغيره. ولمّا تقدّم ذكر المكذبين الكاذبين على الله من اليهود والمنافقين وذكرهم المؤمنين ، نبهوا كلهم على أنهم ميتون ومآلهم إلى الآخرة ، ففيها يظهر الناجي والهالك ، وأنّ ما تعلقوا به في الدنيا من مال وأهل وعشيرة إنما هو على سبيل التمتع المغرور به ، كلها تضمحل وتزول ولا يبقى إلا ما عمله الإنسان ، وهو يوفاه في الآخرة ، يوفى على طاعته ومعصيته.

وقال محمد بن عمر الرازي : في هذه الآية دلالة على أن النفس لا تموت بموت البدن ، وعلى أن النفس غير البدن انتهى. وهذه مكابرة في الدلالة ، فإنّ ظاهر الآية يدل على أن النفس تموت. وقال أيضا : لفظ النفس مختص بالأجسام انتهى. وقرأ اليزيدي : ذائقة بالتنوين ، الموت بالنصب ، وذلك فيما نقله عنه الزمخشري. ونقلها ابن عطية عن أبي حيوة ، ونقلها غيرهما عن الأعمش ، ويحيى ، وابن أبي إسحاق. وقرأ الأعمش فيما نقله الزمخشري ذائقة بغير تنوين الموت بالنصب ومثله :

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلا قليلا

حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، كقراءة من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ) (١) بحذف التنوين من أحد (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لفظ التوفية يدل على التكميل يوم القيامة ، فما قبله من كون القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، هو بعض الأجور وما لم يدخل الجنة أو النار فهو غير موفى. والذي يدل عليه السياق أنّ الأجور هي ما يترتب على الطاعة والمعصية ، وإن كان الغالب في الاستعمال أنّ الأجر هو ما يترتب على عمل الطاعة. ولهذا قال ابن عطية : وخص تعالى ذكر الأجور لشرفها ، وإشارة إلى مغفرته لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمّته. ولا محالة أنّ يوم القيامة يقع فيه توفية الأجور ، وتوفية العقوبات انتهى.

(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) علق الفوز وهو نيل الحظ من الخير

__________________

(١) سورة الإخلاص : ١١٢ / ١ ـ ٢.

٤٦٠