البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

مني إنك أنت السميع العليم ، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك ، ويكون : تفعل ، بمعنى الفعل المجرد نحو : تعجب وعجب ، وتبرأ وبرىء.

والباء في : بقبول ، قيل : زائدة ، ويكون إذ ذاك ينتصب انتصاب المصدر على غير الصدر ، وقيل : ليست بزائدة.

والقبول اسم لما يقبل به الشيء : كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد ، وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ، أو : مصدر على تقدير حذف مضاف أي : بذي قبول حسن ، أي : بأمر ذي قبول حسن ، وهو الاختصاص.

(وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) عبارة عن حسن النشأة والجودة في خلق وخلق ، فأنشأها على الطاعة والعبادة. قال ابن عباس : لما بلغت تسع سنين صامت النهار وقامت الليل حتى أربت على الأحبار. وقيل : لم تجر عليها خطيئة. قال قتادة : حدّثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب كما يصيب بنو آدم. وقيل : معنى (أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أي : جعل ثمرتها مثل عيسى.

وانتصب : نباتا ، على أنه مصدر على غير الصدر ، أو مصدر لفعل محذوف أي : فنبتت نباتا حسنا ، ويقال : القبول الحسن تربيتها على نعت العصمة حتى قالت : (أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) (١) والنبات الحسن الاستقامة على الطاعة وإيثار رضا الله في جميع الأوقات.

(وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) قال قتادة : ضمها إليه. وقال أبو عبيدة : ضمن القيام بها ، ومن القبول الحسن والنبات الحسن أن جعل تعالى كافلها والقيم بأمرها وحفظها نبيا. أوحى الله إلى داود عليه‌السلام : إذا رأيت لي طالبا فكن له خادما.

وقرأ الكوفيون : وكفلها ، بتشديد الفاء ، وباقي السبعة بتخفيفها. وأبيّ : وأكفلها ، ومجاهد : فتقبلها بسكون اللام ، ربها ، بالنصب على النداء ، و : أنبتها ، بكسر الباء وسكون التاء ، و : كفلها ، بكسر الفاء مشدّدة وسكون اللام على الدعاء من أم مريم لمريم. وقرأ عبد الله المزني : وكفلها ، بكسر الفاء وهي لغة يقال : كفل يكفل وكفل يكفل ، كعلم يعلم.

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ١٨.

١٢١

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : زكريا ، مقصورا وباقي السبعة ممدودا ، وتقدم ذكر اللغات فيه.

روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم في بيت المقدس كالحجة في الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة! فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم ، وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها. فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها. فانطلقوا ، وكانوا سبعة وعشرين ، إلى نهر. قيل : هو نهر الأردن وهو قول الجمهور. وقيل : في عين ماء كانت هناك ، فألقوا فيه أقلامهم ، فارتفع قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها. قيل : واسترضع لها. وقال الحسن : لم تلتقم ثديا قط. وقال عكرمة : ألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا عكس جرية الماء. وقيل : عامت مع الماء معروضة ، وبقي قلم زكريا واقفا كأنما ركز في طين ، قال ابن إسحاق : إن زكريا كان تزوّج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين ، ولدت امرأة زكريا يحيى ، وولدت امرأة عمران مريم. وقال السدّي ، وغيره : كان زكريا تزوّج ابنة أخرى لعمران. ويعضد هذا القول قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يحيى وعيسى : ابنا الخالة. وقيل : إنما كفلها لأن أمّها هلكت ، وكان أبوها قد هلك وهي في بطن أمّها. وقيل : كان زكريا ابن عمها وكانت أختها تحته. وقال ابن إسحاق : ترعرعت وأصاب بني إسرائيل مجاعة ، فقال لهم زكريا : اني قد عجزت عن إنفاق مريم ، فاقترعوا على من يكفلها ، ففعلوا ، فخرج إليهم رجل يقال له جريج ، فجعل ينفق عليها ، وهذا استهام غير الأول ، هذا المراد منه دفعها للإنفاق عليها ، والأول المراد منه : أخذها ، فعلى هذا القول يكون زكريا قد كفلها من لدن الطفولة دون استهام ، والذي عليه الناس أن زكريا إنما كفلها بالاستهام ، ولم يدل القرآن على أن غير زكريا كفلها ، وكان زكريا أولى بكفالتها ، لأنه من أقربائها من جهة أبيها ، ولأن خالتها أو أختها تحته ، على اختلاف القولين ، ولأنه كان نبيا ، فهو أولى بها لعصمته.

وزكريا هو ابن أذن بن مسلم من ولد سليمان بن داود عليهم‌السلام. وذكر النقيب أبو البركات الجواني النسابة : أن يحيى بن زكريا ، واليسع ، والياس ، والعزير من ولد هارون أخي موسى ، فلا يكون على هذا زكريا من ولد سليمان ، ولا يكون ابن عم مريم ، لأن مريم من ذرية سليمان عليه‌السلام ، وسليمان من يهوذا بن يعقوب ، وموسى وهارون من لاوي بن يعقوب.

١٢٢

قال ابن إسحاق : ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا في المسجد ، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليه إلّا بسلم ، مثل باب الكعبة ، ولا يصعد إليها غيره. وقيل : كان يغلق عليها سبعة أبواب إذا خرج. قال مقاتل : كان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح لا يأمن عليه أحدا ، فإذا حاضت أخرجها إلى منزله تكون مع خالتها أم يحيى أو أختها ، فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس. وقيل : كانت مطهرة من الحيض.

(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً). قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي : وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء. وقال الحسن : تكلمت في المهد ولم تلقم ثديا قط ، وإنما كانت يأتيها رزقها من الجنة.

والذي ورد في الصحيح أن الذي تكلم في المهد ثلاثة : عيسى ، وصاحب جريج ، وابن المرأة. وورد من طريق شاذ : صاحب الأخدود. والأغرب أن مريم منهم.

وقيل : كان جريح النجار ، واسمه يوسف بن يعقوب ، وكان ابن عم مريم حين كفلها بالقرعة وقد ضعف زكريا عن القيام بها ، يأتيها من كسبه بشيء لطيف على قدر وسعه ، فيزكو ذلك الطعام ويكثر ، فيدخل زكريا عليها فيتحقق أنه ليس من وسع جريج ، فيسألها. وهذا يدل على أن ذلك كان بعد أن كبرت وهو الأقرب للصواب.

وقيل : كانت ترزق من غير رزق بلادهم. قال ابن عباس : كان عنبا في مكتل ولم يكن في تلك البلاد عنب ، وقاله ابن جبير ، ومجاهد. وقيل : كان بعض الصالحين يأتيها بالرزق.

والذي يدل عليه ظاهر الآية أن الذي كفلها بالتربية هو زكريا لا غيره ، فإن الله تعالى كفاه لما كفلها مؤونة رزقها ، ووضع عنه بحسن التكفل مشقة التكلف.

و : كلما ، تقتضي التكرار ، فيدل على كثرة تعهده وتفقده لأحوالها. ودلت الآية على وجود الرزق عندها كل وقت يدخل عليها ، والمعنى : أنه غذاء يتغذى به لم يعهده عندها ، ولم يوجهه هو. وأبعد من فسر الرزق هنا بأنه فيض كان يأتيها من الله من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي ، فسماه رزقا. قال الراغب : واللفظ محتمل ، انتهى ، وهذا شبيه بتفسير الباطنية.

(قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) استغرب زكريا وجود الرزق عندها وهو لم يكن أتى به ، وتكرر وجوده عندها كلما دخل عليها ، فسأل على سبيل التعجب من

١٢٣

وصول الرزق إليها ، وكيف أتى هذا الرزق؟ و : أنّى ، سؤال عن الكيفية وعن المكان وعن الزمان ، والأظهر أنه سؤال عن الجهة ، فكأنه قال : من أي جهة لك هذا الرزق؟ ولذلك قال أبو عبيدة : معناه من أين؟ ولا يبعد أن يكون سؤالا عن الكيفية ، أي كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك؟ وقال الكميت :

أنّى ومن أين أتاك الطرب

من حيث لا صبوة ولا طرب

وجوابها سؤاله بأنه (مِنْ عِنْدِ اللهِ) ظاهره أنه لم : يأت به آدمي البتة ، بل هو رزق يتعهدني به الله تعالى. وظاهره أنه كان يسأل كلما وجد عندها رزقا ، لأن من الجائز في الفعل أن يكون هذا الثاني من جهة غير الجهة التي تقدّمت ، فتجيبه بأنه من عند الله ، وتحيله على مسبب الأسباب ، ومبرز الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود المحض ، فعند ذلك يستريح قلب زكريا بكونه لم يسبقه أحد إلى تعهد مريم ، وبكونه يشهد مقاما شريفا ، واعتناء لطيفا بمن اختارها الله تعالى بأن جعلها في كفالته.

وهذا الخارق العظيم ، قيل : هو بدعوة زكريا لها بالرزق ، فيكون من خصائص زكريا. وقيل : كان تأسيسا لنبوّة ولدها عيسى. وهذان القولان شبيهان بأقوال المعتزلة حيث ينفون وجود الخارق على غير النبي ، إلا إن كان ذلك في زمان نبي ، فيكون ذلك معجزة لذلك النبي.

والظاهر أنها كرامة خص الله بها مريم ، ولو كان خارقا لأجل زكريا لم يسأل عنه زكريا ، وأما كون ذلك لأجل نبوة عيسى ، فهو كان لم يخلق بعد.

قال الزجاج : وهذا الخارق من الآية التي قال تعالى : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (١) وقال الجبائي : يجوز أن يكون من معجزات زكريا ، دعا لها على الإجمال لأن يوصل لها رزقها ، وربما غفل عن تفاصيل ذلك ، فلما رأى شيئا معينا في وقت معين ، سأل عنه ، فعلم أنه معجزة ، فدعا به ، أو سأل عن ذلك خشية أن يكون الآتي به إنسانا ، فأخبرته أنه (مِنْ عِنْدِ اللهِ) ويحتمل أن يكون على أيدي المؤمنين ، وسأل لئلا يكون على وجه لا ينبغي.

(إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) تقدّم تفسير هذه الجملة ، والظاهر أنها من كلام مريم وقال الطبري : ليس من كلام مريم ، وأنه خبر من الله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ..

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩١.

١٢٤

وروى جابر حديثا مطولا فيه تكثير الخبز واللحم على سبيل خرق العادة لفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألها : من أين لك هذا؟ فقالت : هو من عند الله. فحمد الله ، وقال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل.

قيل : وفي هذه الآيات أنواع من الفصاحة. العموم الذي يراد به الخصوص في قوله : على العالمين ، والإختصاص في قوله : آدم ، ونوحا ، وآل إبراهيم ، وآل عمران. وإطلاق اسم الفرع على الأصل. والمسبب على السبب ، في قوله : ذرية ، فيمن قال المراد الأباء ، والإبهام في قوله : ما في بطني ، لما تعذر عليها الإطلاع على ما في بطنها أتت بلفظ : ما ، الذي يصدق على الذكر والأنثى ، والتأكيد في قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) والخبر الذي يراد به الاعتذار في قولها : وضعتها أنثى ، والاعتراض في قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) ، في قراءة من سكن التاء أو كسرها. وتلوين الخطاب ومعدوله في قوله : والله أعلم بما وضعت ، في قراءة من كسر التاء ، خرج من خطاب الغيبة في قولها : فلما وضعتها ، إلى خطاب المواجهة في قوله : بما وضعت. والتكرار في : وأنى ، وفي : زكريا ، وزكريا ، وفي : من عند الله ، إن الله. والتجنيس المغاير في : فتقبلها ربها بقبول ، وأنبتها نباتا ، وفي : رزقا ويرزق. والإشارة ، وهو أن يعبر باللفظ الظاهر عن المعنى الخفي ، في قوله : هو من عند الله ، أي هو رزق لا يقدر على الإتيان به في ذلك الوقت إلّا الله. وفي قوله : رزقا ، أتى به منكّرا مشيرا إلى أنه ليس من جنس واحد ، بل من أجناس كثيرة ، لأن النكرة تقتضي الشيوع والكثرة. والحذف في عدة مواضع لا يصح المعنى إلا باعتبارها.

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) أصل : هنالك ، أن يكون إشارة للمكان ، وقد يستعمل للزمان وقيل بهما في هذه الآية ، أي في ذلك المكان دعا زكريا ، أو : في ذلك الوقت لما رأى هذا الخارق العظيم لمريم ، وأنها ممن اصطفاها الله ، ارتاح إلى طلب الولد واحتاج إليه لكبر سنه ، ولأن يرث منه ومن آل يعقوب ، كما قصه تعالى في سورة مريم ، ولم يمنعه من طلب كون امرأته عاقرا ، إذ رأى من حال مريم أمرا خارجا عن العادة ، فلا يبعد أن يرزقه الله ولدا مع كون امرأته كانت عاقرا ، إذ كانت حنة قد رزقت مريم بعد ما أيست من الولد.

وانتصاب : هنالك ، بقوله : دعا ، ووقع في تفسير السجاوندي : أن هناك في المكان ، وهنا لك في الزمان ، وهو وهم ، بل الأصل أن يكون للمكان سواء اتصلت به اللام والكاف أو الكاف فقط أو لم يتصلا. وقد يتجوز بها عن المكان إلى الزمان ، كما أن أصل : عند ، أن يكون للمكان ، ثم يتجوز بها للزمان ، كما تقول : آتيك عند طلوع الشمس.

١٢٥

قيل : واللام في : هنالك ، دلالة على بعد المسافة بين الدعاء والإجابة ، فإنه نقل المفسرون أنه كان بين دعائه وإجابته أربعون سنة. وقيل : دخلت اللام لبعد منال هذا الأمر لكونه خارقا للعادة ، كما أدخل اللام في قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) (١) لبعد مناله وعظم ارتفاعه وشرفه. وقال الماتريدي : كانت نفسه تحدثه بأن يهب الله له ولدا يبقى به الذكر إلى يوم القيامة ، لكنه لم يكن يدعو مراعاة للأدب ، إذ الأدب أن لا يدعو لمراد إلّا فيما هو معتاد الوجود وإن كان الله قادرا على كل شيء ، فلما رأى عندها ما هو ناقض للعادة حمله ذلك على الدعاء في طلب الولد غير المعتاد. انتهى.

وقوله : كانت تحدثه نفسه بذلك ، يحتاج إلى نقل. وفي قوله : (هُنالِكَ دَعا) دلالة على أن يتوخى العبد بدعائه الأمكنة المباركة والأزمنة المشرفة.

(قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) هذه الجملة شرح للدعاء وتفسير له ، وناداه بلفظ : رب ، إذ هو مربيه ومصلح حاله ، وجاء الطلب بلفظ : هب ، لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلتها شيء يكون عوضا للواهب ، ولما كان ذلك يكاد يكون على سبيل ما لا تسبب فيه : لا من الوالد لكبر سنه ، ولا من الوالدة لكونها عاقرا لا تلد ، فكان وجوده كالوجود بغير سبب ، أتى هبة محضة منسوبة إلى الله تعالى بقوله : من لدنك ، أي من جهة محض قدرتك من غير توسط سبب.

وتقدّم أن : لدن ، لما قرب ، و : عند ، لما قرب ولما بعد ، وهي أقل إبهاما من : لدن ، ألا ترى أن : عند ، تقع جوابا لأين ، ولا تقع له جوابا : لدن؟.

و (مِنْ لَدُنْكَ) متعلق : بهب ، وقيل : في موضع الحال من : ذرية ، لأنه لو تأخر لكان صفة ، فعلى هذا تتعلق بمحذوف ، والذرية جنس يقع على واحد ، فأكثر. وقال الطبري : أراد بالذرية هنا واحدا دليل ذلك طلبه : وليا ، ولم يطلب : أولياء. قال ابن عطية : وفيما قاله الطبري تعقب ، وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد ، وهكذا كان طلب زكريا. انتهى.

وفسر : طيبة ، بأن تكون سليمة في الخلق وفي الدين تقية. وقال الراغب : صالحة ، واستعمال الصالح في الطيب كاستعمال الخبيث في ضده ، على أن في الطيب زيادة معنى على الصالح. وقيل : أراد : بطيبة ، أنها تبلغ في الدين رتبة النبوّة ، فإن كان أراد بالذرية

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢.

١٢٦

مدلولها من كونها اسم جنس ، ولم يقيد بالوحدة ، فوصفها : بطيبة ، واضح! وإن كان أراد ذكرا واحدا ، فأنث لتأنيث اللفظ ، كما قال :

أبوك خليفة ولدته أخرى

سكات إذا ما عضّ ليس بأدردا

وكما قال :

أبوك خليفة ولدته أخرى

وأنت خليفة ذاك الكمال

وفي قوله : (هَبْ لِي) دلالة على طلب الولد الصالح ، والدعاء بحصوله وهي سنة المرسلين والصديقين والصالحين.

(إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) لما دعا ربه بأنه يهب له ولدا صالحا ، أخبر بأنه تعالى مجيب الدعاء. وليس المعنى على السماع المعهود ، بل مثل قوله : سمع الله لمن حمده. عبر بالسماع عن الإجابة إلى المقصد ، واقتفى في ذلك جده الأعلى إبراهيم عليه‌السلام إذ قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) (١) فأجاب الله دعاءه ورزقه على الكبر كما رزق إبراهيم على الكبر ، وكان قد تعود من الله إجابة دعائه. ألا ترى إلى قوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (٢)؟.

قيل : وذكر تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ : أحدها : هذا ، والثاني : (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) (٣) إلى آخره. والثالث : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) (٤) فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات بهذه الثلاث الصيغ ، ودل على أن بين الدعاء والإجابة زمانا. انتهى. ولا يدل على ذلك تكرير الدعاء ، كما قيل : لأنه حالة الحكاية قد يكون حكي في قوله (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) (٥) على سبيل الإيجاز ، وفي سورة مريم على سبيل الإسهاب ، وفي هذه السورة على سبيل التوسط.

وهذه الحكاية في هذه الصيغ إنما هي بالمعنى ، إذ لم يكن لسانهم عربيا ، ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير العطف بالفاء في قوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) وفي قوله : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) (٦) وظاهر قوله في مريم : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ) (٧) اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه.

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٩.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٤.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٤.

(٥ ـ ٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٩.

(٦) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٠.

(٧) سورة مريم : ١٩ / ٧.

١٢٧

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) قيل : النداء يستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به ، فلم يكن هذا إخبارا من الملائكة على عرف الوحي ، بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري كعب بن مالك ، من أعلى الجبل. قاله ابن عطية ، وغيره. ولا يظهر ذلك ، بل المناداة تكون لتبشير ولتحزين ولغير ذلك ، كما جاء. «يا أهل النار خلود بلا موت» وجاء : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) (١) وإنما فهمت البشارة في الآية من قولهم (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ) لا إن لفظ نادته يدل على ذلك ، لا بالوضع ولا بالاستعمال. ويحتمل أن يكون نداؤهم إياه على سبيل الوحي ، أي : أوحي إليهم بأن ينادوه ، أو يكون نادوه من تلقاء أنفسهم ، كما يقال لك : بلغ زيدا كذا وكذا ، فتقول له : يا زيد جرى كذا وكذا. وهما قولان للمفسرين.

وفي الكلام حذف تقديره : فتقبل الله دعاءه ، ووهب له يحيى ، وبعث إليه الملائكة بذلك ، فنادته. وذكر أنه كان بين دعائه والاستجابة له أربعون سنة ، والظاهر خلاف ذلك.

والظاهر أن مناديه جماعة من الملائكة لصيغة اللفظ ، وقد بعث تعالى ملائكة إلى قوم لوط وإلى إبراهيم وفي غير ما قصة.

وذكر الجمهور أن المنادي هو جبريل وحده ، ويؤيده قراءة عبد الله ومصحفه : فناداه جبريل وهو قائم. وقال الزمخشري : وإنما قيل الملائكة على قولهم : فلان يركب الخيل ، يعني : إن الذي ناداه هو من جنس الملائكة ، لا يريد خصوصية الجمع ، كما أن قولهم : فلان يركب الخيل لا يريد خصوصية الجمع ، إنما يريد مركوبه من هذا الجنس. وخرج عليه الذين قال لهم الناس ، وهو نعيم بن مسعود. وقال الفضل : الرئيس يخبر عنه أخبار الجمع لاجتماع أصحابه معه ، أو لاجتماع الصفات الجميلة فيه ، المتفرقة في غيره. فعبر عنه بالكثرة لذلك. قيل : وجبريل رئيس الملائكة.

وقرأ حمزة ، والكسائي : فناداه ، ممالة وباقي السبعة : فنادته ، بتاء التأنيث و : الملائكة ، جمع تكسير ، فيجوز أن يلحق العلامة ، وإن لا يلحق. تقول : قام الرجال ، وقامت الرجال. وإلحاق العلامة قيل. أحسن ، ألا ترى : إذ قالت الملائكة؟ ولما جاءت رسلنا؟ ومحسّن الحذف هنا الفصل بالمفعول.

(وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) ذكر البغوي أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٣٦.

١٢٨

القربان ، ويفتح باب المذبح ، فلا يدخلون حتى يؤذن. فبينما هو قائم يصلي في المحراب ، يعني المسجد عند المذبح ، والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول ، إذا هو برجل عليه ثياب بيض ، ففزع منه ، فناداه ، وهو جبريل : يا زكريا! إن الله يبشرك. وقيل : المحراب موقف الإمام من المسجد ، وهو قول جمهور المفسرين. وقيل : القبلة. والظاهر أن المحراب هو المحراب الذي قبله في قوله : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) ففي المكان الذي رأى فيه خرق العادة ، فيه دعا ، وفيه جاءته البشارة. وهذا يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم.

وقيل : الصلاة هنا الدعاء ، وفي الآية دليل على جواز نداء المتلبس بالصلاة وتكليمه ، وإن كان في ذلك شغل له عن صلاته.

وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول ، أو من الملائكة ، و : يصلي ، يحتمل أن يكون صفة : لقائم ، ويحتمل أن يكون حالا من الضمير المستكن في : قائم ، أو : من ضمير المفعول ، على مذهب من جوّز حالين من ذي حال واحد ، ويحتمل أن يكون خبرا ثانيا : لهو ، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لمبتدأ واحد ، وإن لم تكن في معنى خبر واحد.

ويتعلق : في المحراب ، بقوله : يصلي ، ولا يجوز أن يتعلق : بقائم ، في وجه من احتمالات إعراب : يصلي ، إلا في وجه واحد ، وهو أن يكون : يصلي ، حالا من الضمير الذي استكن في : قائم ، فيجوز. لأنه إذ ذاك يتحد العامل فيه وفي : يصلى ، وهو : قائم ، لأن العامل إذ ذاك في الحال هو : قائم ، إذ هو العامل في ذي الحال ، وبه يتعلق المجرور.

وفي قوله : (قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) قالوا : دلالة على جواز قيام الإمام في محرابه ، وقد كرهه أبو حنيفة ، وقال : كان ذلك شرعا لمن قبلنا.

ورقق ورش راء : المحراب ، وأمال الراء ابن ذكوان إذا كان : المحراب ، مجرورا ونسب ذلك أبو علي إلى ابن عامر. ولم يقيد بالجر.

(أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) قرأ ابن عامر ، وحمزة : إن الله ، بكسر الهمزة. فعند البصريين الكسر على إضمار القول ، أي : وقالت. وعند الكوفيين لا إضمار ، لأن غير القول مما هو في معناه : كالنداء والدعاء ، يجري مجرى القول في الحكاية ، فكسرت بنادته ، لأن معناه : قالت له.

١٢٩

وقرأ الباقون بفتح الهمزة ، وهو معمول لباء محذوفة في الأصل ، أي بتبشير :

وحين حذفت فالموضع نصب بالفعل أوجر بالباء المحذوفة ، قولان قد تقدما في غير ما موضع من هذا الكتاب.

وقرأ عبد الله : يا زكرياء إن الله. فقوله : يا زكرياء ، هو معمول النداء. فهو في موضع نصب ، ولا يجوز فتح : إن ، على هذه القراءة ، لأن الفعل قد استوفى مفعوليه ، وهما : الضمير والمنادى. وتبليغ البشارة على لسان الرسول إلى المرسل إليه ليست بشارة من الرسول ، بل من المرسل. ألا ترى إضافة ذلك إليه في قوله : يبشرك؟ وقد قال في سورة مريم : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ) (١) فأسند ذلك إليه تعالى. وقرأ حمزة ، والكسائي : يبشرك ، في الموضعين في قصة زكريا وقصة مريم ، وفي الإسراء ، وفي الكهف ، وفي الشورى ، من : بشر ، مخففا. وافقهما ابن كثير ، وأبو عمرو في الشورى ، زاد حمزة في الحجر : ألا فبم تبشرون ، ومريم. وقرأ الباقون : يبشر ، من بشر المضعف العين وقرأ عبد الله يبشر في جميع القرآن من أبشر ، وهي لغى ثلاث ذكرها غير واحد من اللغويين. وقال الشاعر :

بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة

أتتك من الحجاج يتلى كتابها

وقال الآخر :

يا بشر حق لوجهك التّبشير

هلا غضبت لنا وأنت أمير

بيحيى ، متعلق بقوله : نبشرك ، والمعنى : بولادة يحيى منك ومن امرأتك ، فإن كان أعجميا فمنع صرفه للعلمية والعجمة ، وإن كان عربيا فللعلمية ووزن الفعل ، كيعمر. وقد ذكرنا هذا.

وهذا الذي عليه كثير من المفسرين لاحظوا فيه معنى الاشتقاق من الحياة.

قال قتادة : سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان. وقال الحسن بن المفضل : حي بالعصمة والطاعة. وقال أبو القاسم بن حبيب : سمي يحيى لأنه استشهد ، والشهداء أحياء. روي في الحديث : «من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة». وقال مقاتل : سمي يحيى لأنه أحياه بين شيخ وعجوز. وقال الزجاج : حي بالعلم والحكمة التي أوتيها.

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٧.

١٣٠

وقال ابن عباس : ان الله أحيا به عقر أمّه. وقيل : معناه يموت فسمي يحيى تفاؤلا ، كالمفازة والسليم. وقيل : لأن الله أحيا به الناس بالهدى.

(مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) الجمهور على أن الكلمة هو عيسى ، وسيأتي لم سمي كلمة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدّي وغيرهم.

قال الربيع ، وغيره : كان يحيى أوّل من صدق بعيسى وشهد أنه كلمة من الله ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ، قاله الأكثرون وقيل : بثلاث سنين ، وقتل قبل رفع عيسى ، وكانت أمّ يحيى تقول لمريم : إني لأجد الذي في بطني يتحرك ، وفي رواية : يسجد ، وفي رواية : يومي برأسه لما في بطنك ، فذلك تصديقه ، وهو أول التصديق.

وقال أبو عبيدة ، وغيره (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي : بكتاب من الله التوراة والإنجيل وغيرهما ، أوقع المفرد موقع الجمع ، فالكلمة اسم جنس ، وقد سمت العرب القصيدة كلمة. روي أن الحويدرة ذكر لحسان ، فقال : لعن الله كلمته ، أي قصيدته. وفي الحديث : «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل»

وقيل معنى : (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) هنا أي : بوعد من الله ، وقرأ أبو السمال العدوي : بكلمة ، بكسر الكاف وسكون اللام في جميع القرآن ، وهي لغة فصيحة مثل : كتف وكتف ، ووجهه أنه أتبع فاء الكلمة لعينها ، فيقل اجتماع كسرتين ، فسكن العين. ومنهم من يسكنها مع فتح الفاء استثقالا للكسرة في العين.

وانتصب : مصدّقا ، على الحال. قال ابن عطية : وهي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

(وَسَيِّداً) قال ابن عباس : السيد الكريم. وقال قتادة : الحليم ، ومنه قول الشاعر :

سيد لا تحل حبوته

بوادر الجاهلين إن جهلوا

وقال عكرمة : من لا يغلبه الغضب. وقال الضحاك : الحسن الخلق. وقال سالم : التقي. وقال ابن زيد : الشريف. وقال ابن المسيب : الفقيه العالم. وقال أحمد بن عاصم : الراضي بقضاء الله. وقال الخليل : المطاع الفائق أقرانه. وقال أبو بكر الورّاق : المتوكل. وقال الترمذي : العظيم الهمة. وقال الثوري : السيد من لا يحسد من قولهم : الحسود لا يسود. وقال أبو إسحاق : السيد الذي يفوق في الخير قومه. وقال بعض أهل اللغة : السيد المالك الذي

١٣١

تجب طاعته. ولهذا قيل للزوج : سيد. وقيل : سيد الغلام ، وقال سلمة عن الفراء : السيد المالك ، والسيد الرئيس ، والسيد الحكيم ، والسيد السخي.

وجاء في الحديث : «السيد من أعطى مالا ورزق سماحا ، فأدنى الفقراء ، وقلت شكايته في الناس». وفي معناه : من بذل معروفه وكف أذاه. وقال في الحديث لبني سلمة وقد سألهم من سيدكم فقالوا الجدّ بن قيس على بخله فقال عليه‌السلام : «وأي داء أدوى من البخل؟ سيدكم عمرو بن الجموح». وسمى أيضا سعد بن معاذ سيدا في قوله : «قوموا إلى سيدكم». أي رئيسكم والمطاع فيكم. وسمى الحسن بن علي : سيدا. في قوله : «إن ابني هذا سيد ، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».

وقال الزمخشري : السيد الذي يسود قومه أي يفوقها في الشرف. وكان يحيى قائما لقومه ، قائما للناس كلهم في أنه لم يرتكب سيئة قط ، ويا لها من سيادة؟! انتهى كلامه.

وقال ابن عطية ما ملخصه : خصه الله بذكر السؤدد ، وهو الاعتمال في رضا الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل ، وتفصيله : بذل الندى وهو الكرم ، وكف الأذى وهي العفة في الفرج واليد واللسان ، واحتمال العظائم وهنا هو الحلم من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإنقاذ من الهلكات. وقد يوجد من الثقات العلماء من لا يبرز في هذه الخصال ، وقد يوجد من يبرز فيها ، فيسمى سيدا وإن قصر في مندوب ، ومكافحة في حق وقلة مبالاة باللائمة.

وقال ابن عمر : ما رأيت أسود من معاوية؟ قيل له : وأبو بكر وعمر؟ قال : هما خير منه ، ومعاوية أسود منهما! انتهى كلامه.

وهذه الأقوال التي ذكرت في تفسير السيد كلها يصلح أن يكون تفسيرا في وصف يحيى عليه‌السلام ، وأحق الناس بصفات الكمال هم النبيون.

وفي قوله : وسيدا ، دلالة على إطلاق هذا الاسم على من فيه سيادة ، وهو من أوصاف المدح. ولا يقال ذلك للظالم والمنافق والكافر.

وورد النهي : «لا تقولوا للمنافق سيدا» ، وما جاء من قوله (أَطَعْنا سادَتَنا) (١) فعلى ما في اعتقادهم وزعمهم.

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦٧.

١٣٢

قيل : وما جاء في حديث وفد بني عامر من قولهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنت سيدنا وذو الطول علينا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «السيد هو الله ، تكلموا بكلامكم» ، فمحمول على أنه رآهم متكلفين لذلك ، أو كان ذلك قبل أن يعلم أنه سيد البشر ، وقد سمى هو الحسن بن علي سيدا ، وكذلك سعد بن معاذ ، وعمرو بن الجموح.

(وَحَصُوراً) هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، وعطاء ، وأبو الشعثاء ، والحسن ، والسدي ، وابن زيد ، قال الشاعر :

وحصورا لا يريد نكاحا

لا ولا يبتغي النساء الصّباحا

وقد روي أنه تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره. وقيل : الحاصر نفسه عن الشهوات. وقيل : عن معاصي الله. وقيل : الحصور الهيوب. وقال ابن مسعود أيضا ، وابن عباس أيضا ، والضحاك ، والمسيب : هو العنين الذي لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل.

وإيراد الحصور وصفا في معرض الثناء الجميل إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب ، والذي يقتضيه مقام يحيى عليه‌السلام أنه كان يمنع نفسه من شهوات الدنيا من النساء وغيرهن ، ولعل ترك النساء زهادة فيهن كان شرعهم إذ ذاك.

قال مجاهد : كان طعام يحيي العشب ، وكان يبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه ، وكان الدمع اتخذ مجرى في وجهه.

قيل : ومن هذا حاله فهو في شغل عن النساء وغيرهن من شهوات الدنيا.

وقيل : الحصور الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. قال الأخطل :

وشارب مربح بالكأس نادمني

لا بالحصور ولا فيها بسآر

فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللهو.

وقد روي أنه : مر وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب ، فقال : ما للعب خلقت.

والحصور والحصر كما تم السر. قال جرير :

ولقد تشاقطني الوشاة فصادفوا

حصرا بسرك يا أميم ضنينا

وجاء في الحديث عن ابن العاصي ، ما معناه : أن يحيى لم يكن له ما للرجل إلّا مثل هذا العود ، يشير إلى عويد صغير.

وفي رواية أبي هريرة : كان ذكره مثل هذه القذاة ، يشير إلى

١٣٣

قذاة من الأرض أخذها. وقد استدل بقوله (وَحَصُوراً) من ذهب إلى أن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح ، وهو مذهب الجمهور خلافا لمذهب أبي حنيفة ، فإنه بالعكس.

(وَنَبِيًّا) هذا الوصف الأشرف ، وهو أعلى الأوصاف ، فذكر أولا الوصف الذي تبنى عليه الأوصاف بعده ، وهو : التصديق الذي هو الإيمان ، ثم ذكر السيادة وهي الوصف يفوق به قومه ، ثم ذكر الزهادة وخصوصا فيما لا يكاد يزهد فيه وذلك النساء ، ثم ذكر الرتبة العليا وهي : رتبة النبوّة. وفي هذه الأوصاف تشابه من أوصاف مريم عليها‌السلام ، وذلك أن زكريا لما رأى ما اشتملت عليه مريم من الأوصاف الجميلة ، وما خصها الله تعالى به من الخوارق للعادة ، دعا ربه أن يهب له ذرية طيبة ، فأجابة إلى ذلك ، ووهب له يحيى على وفق ما طلب ، فالتصديق مشترك بين مريم ويحيى ، وكانت مريم سيدة بني إسرائيل بنص الرسول في حديث فاطمة ، وكان يحيى سيدا ، فاشتركا في هذا الوصف. وكانت مريم عذراء بتولا لم يمسسها بشر وكان يحيى لا يقرب النساء. وكانت مريم أتاها الملك رسولا من عند الله وحاورها عن الله بمحاورات حتى زعم قوم أنها كانت نبية ، وكان يحيى نبيا ، وحقيقة النبوّة هو أن يوحي الله إليه ، فقد اشتركا في هذا الوصف.

(مِنَ الصَّالِحِينَ) يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المعنى من أصلاب الأنبياء ، كما قال : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) ويحتمل أن يكون المعنى : وصالحا من جملة الصالحين. كما قال تعالى في وصف إبراهيم (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١) قال ابن الأنباري : معناه من صالحي الحال عند الله قال الكرماني : خص الأنبياء بذكر الصلاح لأنه لا يتخلل صلاحهم خلاف ذلك. وقال الزجاج : الصالح هو الذي يؤدي ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم. انتهى.

وقد قال سليمان بعد حصول النبوّة له (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (٢) قيل : وتحقيق ذلك أن للأنبياء قدرا من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوّة ، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر ، فمن كان أكثر نصيبا من الصلاح كان أعلى قدرا.

وقال الماتريدي : الصلاح يتحقق في كل نبي من جميع الوجوه ، وفي غيرهم

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٣٠.

(٢) سورة النمل : ٢٧ / ١٩.

١٣٤

لا يتحقق إلّا بعضها ، وإن كان الاسم ينطلق على الكل لكن سبب استحقاق الاسم في الأنبياء هو تحقيق الصلاح من جميع الوجوه ، وفي غيرهم من بعضها ، فخصه بالذكر حتى ينقطع احتمال جواز النبوّة في مطلق المؤمنين ، فكان تقييده باسم الصلاح مفيدا.

وقيل : من الصالحين في الدنيا والآخرة ، فيكون إشارة إلى الدوام على الإيمان ، والأمن من خوف الخاتمة.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) كان قد تقدّم سؤاله به : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) فلا شك في إمكانية ذلك ، وجوازه : وإذا كان ذلك ممكنا وبشرته به الملائكة ، فما وجه هذا الاستفهام؟.

وأجيب بوجوه :

أحدها : أنه سؤال عن الكيفية ، والمعنى : أيولد لي على سن الشيخوخة وكون امرأتي عاقرا؟ أي بلغت سن من لا تلد ، وكان قد بلغ تسعا وتسعين سنة ، وامرأته بلغت ثمانيا وتسعين سنة. وقال ابن عباس : كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة. وقال الكلبي : ابن اثنتين وتسعين سنة.

أم أعاد أنا وامرأتي إلى سن الشبيبة وهيئة من يولد له؟ فأجيب : بأنه يولد له على هذه الحال. قال معناه : الحسن ، والأصم.

الثاني : أنه لما بشر بالولد استعلم : أيكون ذلك الولد من صلبه نفسه أم من بينه؟.

الثالث : أنه كان نسي السؤال ، وكان بين السؤال والتبشير أربعون سنة. ونقل عن سفيان أنه كان بينهما ستون سنة.

الرابع : أن هذا الاستعلام هو على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى ، يحدث ذلك عند معاينة الآيات وهو يرجع معناه إلى ما قاله بعضهم : إن ذلك من شدّة الفرح ، لكونه كالمدهوش عند حصول ما كان مستبعدا له عادة.

الخامس : إنما سأل لأنه كان عاجزا عن الجماع لكبر سنه ، فسأل ربه : هل يقويه على الجماع وامرأته على القبول على حال الكبر؟

السادس : سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر أم من غيرها.

السابع : أنه لما بشر بالولد أتاه الشيطان ليكدر عليه نعمة ربه ، فقال له : هل تدري

١٣٥

من ناداك؟ قال : ملائكة ربي! قال له : بل ذلك الشيطان ، ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك ، فخالطت قلبه وسوسة ، فقال : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) ليبين الله له من الوحي ، قاله عكرمة ، والسدي. قال القاضي : لو اشتبه على الرسل كلام الملك بكلام الشيطان لم يبق الوثوق بجميع الشرائع.

وأجيب : بأن ما قاله لا يلزم لاحتمال أن تقوم المعجزة على الوحي بما يتعلق بالدين ، وأما ما يتعلق بمصالح الدنيا فربما لا يؤكد بالمعجزة ، فيبقى الاحتمال ، فيطلب زواله.

وقال الزمخشري : استبعاد من حيث العادة. كما قالت مريم. انتهى. وعلى ما قاله : لو كان استبعادا لما سأله بقوله : (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) لأنه لا يسأل إلّا ما كان ممكنا لا سيما الأنبياء ، لأن خرق العادة في حقهم كثير الوقوع.

و : يكون ، يجوز أن تكون تامّة وفاعلها غلام ، أي : أنّى يحدث لي غلام؟ ويجوز أن تكون ناقصة ، ولا يتعين إذ ذاك تقديم الخبر على الاسم ، لأنه قيل : دخول كان مصحح لجواز الابتداء بالنكرة ، إذ تقدّم أداة الاستفهام مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة ، والجملتان بعد كل منهما حال ، والعامل فيهما : يكون ، إن كانت تامة ، أو العامل في : لي ، إن كانت ناقصة.

وقيل : (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) حال من المفعول في : بلغني ، والعامل بلغني ، وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدّد شيئا فشيئا ، فلم يكن وصفا لازما ، وكانت الثانية اسمية والخبر : عاقر ، لأن كونها عاقرا أمر لازم لها لم يكن وصفا طارئا عليها ، فناسب لذلك أن تكون الأولى جملة فعلية ، وناسب أن تكون الثانية جملة اسمية ، ومعنى : بلغني الكبر ، أثر فيّ : وحقيقة البلوغ في الإجرام ، وهو أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه.

وأسند البلوغ إلى الكبر توسعا في الكلام ، كأن الكبر طالب له ، لأن الحوادث طارئة على الإنسان ، فكأنها طالبة له وهو المطلوب ، وقيل : هو من المقلوب ، كما جاء : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (١) وكما قال :

مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت

نجران أو بلغت سوآتهم هجر

وقال الراغب : إذا بلغت الكبر فقد بلغك الكبر. انتهى. وهنا قدّم حال نفسه وأخر حال

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٦٩.

١٣٦

امرأته ، وفي مريم عكس ، فقال الماتريدي : لا تراعى الألفاظ في الحكاية إنما تراعى المعاني المدرجة في الألفاظ.

وقال غيره : صدر الآيات في مريم مطابق لهذا الترتيب هنا ، لأنه قدم : أنه وهن العظم منه (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) (١) وقال : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) (٢) فلما أعاد ذكرها في الاستعلام أخر ذكر الكبر ليوافق عتيا رؤوس الآي ، وهو باب مقصود في الفصاحة يترجح إذا لم يخل بالمعنى ، والعطف هنا بالواو ، فليس التقديم والتأخير مشعرا بتقدم زمان ، وإنما هذا من باب تقديم المناسب في فصاحة الكلام.

(قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) الكاف : للتشبيه ، وذلك : إشارة إلى الفعل ، أي : مثل ذلك الفعل ، وهو تكوّن الولد بين الفاني والعاقر ، يفعل الله ما يشاء من الأفعال الغريبة فيكون إخبارا من الله أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلا ، مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء ، بل سبب إيجاده هو تعلق الإرادة : سواء كان من الأفعال الجارية على العادة أم من التي لا تجري على العادة؟ وإذا كان تعالى يوجد الأشياء من العدم الصرف بلا مادة ولا سبب ، فكيف بالأشياء التي لها مادة وسبب وإن كان ذلك على خلاف العادة؟ وتكون الكاف على هذا الوجه في موضع نصب على أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : فعلا مثل ذلك الفعل ، أو على انها في موضع الحال من ضمير المصدر المحذوف : من يفعل ، وذلك على مذهب سيبويه ، وقد تقدّم لنا مثل هذا ، ويحتمل أن يكون كذلك الله مبتدأ وخبرا ، وذلك على حذف مضاف ، أي صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع ، ويكون (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) شرحا للإبهام الذي في اسم الإشارة ، وقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة : الله ، قال : (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) بيان له ، أي يفعل ما يشاء من الأفاعيل الخارقة للعادات. انتهى.

وقال ابن عطية : أي : كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله. انتهى.

وعلى هذا الاحتمال ، تكون الكاف في موضع رفع ، لأن الجار والمجرور في موضع خبر المبتدأ والكلام جملتان ، وعلى التفسير الأول الكلام جملة واحدة. قال ابن عطية وغيره : واللفظ لابن عطية : ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته ، كأنه قال : رب على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا؟ فقال له : كما أنتما يكون لكما الغلام. والكلام تام على هذا التأويل في قوله : كذلك ، وقوله : الله يفعل ما يشاء ،

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٤.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٥.

١٣٧

جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب. انتهى كلامه. فيكون : كذلك ، متعلقا بمحذوف وشرح الراغب المعنى فقال : يهب لك الولد وأنت بحالتك. والظاهر من هذه الأقوال الثلاثة هو الأول.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) قال الربيع ، والسدي ، وغيرهما : إن زكريا قال : يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك ، والبشارة حق ، فاجعل لي آية ، علامة أعرف بها صحة ذلك! فعوقب على هذا الشك في أمر الله بأن منع الكلام ثلاثة أيام مع الناس. وقالت فرقة من المفسرين : لم يشك قط زكريا ، وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد ، وتتم به البشارة ، فلما قيل له : (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يكون العلوق بيحيى.

واختلفوا في منعه الكلام : هل كان لآفة نزلت به أم لغير آفة؟ فقال جبير بن نفير : ربا لسانه في فيه حتى ملأه ، ثم أطلقه الله بعد ثلاث. وقال الربيع ، وغيره : أخذ الله عليه لسانه فجعل لا يقدر على الكلام معاقبة على سؤال آية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة. وقالت طائفة : لم تكن آفة ، ولكنه منع مجاورة الناس ، فلم يقدر عليها ، وكان يقدر على ذكر الله ، قاله الطبري ، وذكر نحوه عن محمد بن كعب ، وكانت الآية حبس اللسان لتخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها ، وكأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلّا عن الشكر.

وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ، ومنتزعا منه وكان الإعجاز في هذه الآية من جهة قدرته على ذكر الله ، وعجزه عن تكليم الناس ، مع سلامة البنية واعتدال المزاج ، ومنه جهة وقوع العلوق وحصوله على وفق الاخبار.

وقيل : أمر أن يصوم ثلاثة أيام ، وكانوا لا يتكلمون في صومهم. وقال أبو مسلم : يحتمل أن يكون معناه : آيتك أن تصير مأمورا بأن لا تكلم الخلق ، وأن تشتغل بالذكر شكرا على إعطاء هذه الموهبة ، وإذا أمرت بذلك فقد حصل المطلوب. قيل : فسأل الله أن يفرض عليه فرضا يجعله شكرا لذلك.

والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه سأل آية تدل على أنه يولد له ، فأجابه بأن آيته انتفاء الكلام منه مع الناس ثلاثة أيام إلّا رمزا ، وأمر بالذكر والتسبيح وانتفاء الكلام قد يكون

١٣٨

لمتكلف به ، أو بملزومه في شريعتهم ، وهو الصوم ، وقد يكون لمنع قهري مدّة معينة لآفة تعرض في الجارحة ، أو لغير آفة ، قالوا : مع قدرته على الكلام بذكر الله. قال الزمخشري : ولذلك قال : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) إلى آخره يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس ، وهي من الآيات الباهرة. انتهى.

ولا يتعين ما قاله لما ذكرناه من احتمالات وجوه الانتفاء ، ولأن الأمر بالذكر والتسبيح ليس مقيدا بالزمان الذي لا يكلم الناس ، وعلى تقدير تقييد ذلك لا يتعين أن يكون الذكر والتسبيح بالنطق بالكلام ، وظاهر : اجعل ، هنا أنها بمعنى صيّر ، فتتعدّى لمفعولين : الأول آية ، والثاني المجرور ، قبله وهو : لي ، وهو يتعين تقديمه ، لأنه قبل دخول : اجعل ، هو مصحح لجواز الابتداء بالنكرة.

وقرأ ابن أبي عبلة : أن لا تكلم ، برفع الميم على أن : أن ، هي المخففة من الثقيلة ، أي أنه لا تكلم ، واسمها محذوف ضمير الشأن ، أو على إجراء : أن ، مجرى : ما المصدرية ، وانتصاب : ثلاثة أيام ، على الظرف خلافا للكوفيين ، إذ زعموا أنه كان اسم الزمان يستغرقه الفعل ، فليس بظرف ، وإنما ينتصب انتصاب المفعول به نحو : صمت يوما ، فانتصاب ثلاثة أيام عندهم على أنه مفعول به ، لأن انتفاء الكلام منه للناس كان واقعا في جميع الثلاثة ، لم يخل جزء منها من انتفاء فيه. والمراد : ثلاثة أيام بلياليها ، يدل على ذلك قوله في سورة مريم : (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) (١) وهذا يضعف تأويل من قال : أمر بالصوم ثلاثة أيام ، وكانوا لا يتكلمون في صومهم ، والليالي تبعد مشروعية صومها ، ولم يعين ابتداء ثلاثة أيام ، بل أطلق فقال : ثلاثة أيام ، فإن كان ذلك بتكليف فيمكن أن يكون ذلك موكولا إلى اختياره ، يمتنع من تكليم الناس ثلاثة أيام متى شاء ، ويمكن أن يكون ذلك من حين الخطاب ، وإن كان بمنع قهري فيظهر أنه من حين الخطاب.

قيل : وفي ذلك دلالة على نسخ القرآن بالسنة ، وهذا على تقدير قدرة زكريا على الكلام في تلك الأيام الثلاثة ، وأن شرعه مشرع لنا وإن نسخه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا صمت يوم إلى الليل.

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ١٠.

١٣٩

وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن معناه : لا صمت يوم ، أي عن ذكر الله ، وأما الصمت عما لا منفعة فيه ، فحسن.

واستثناء الرمز ، قيل : هو استثناء منقطع ، إذ الرمز لا يدخل تحت التكليم ، من أطلق الكلام في اللغة على الإشارة الدالة على ما في نفس المشير ، فلا يبعد أن يكون هذا استثناء متصلا على مذهبه. ولذلك أنشد النحويون :

أرادت كلاما فاتقت من رقيبها

فلم يك إلّا ومؤها بالحواجب

وقال :

إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوادر واستعمل المولدون هذا المعنى. قال حبيب :

كلمته بجفون غير ناطقة

فكان من ردّه ما قال حاجبه

وكونه استثناء متصلا بدأ به الزمخشري. قال : لما أدّى مؤدّي الكلام ، وفهم منه ما يفهم منه ، سمي كلاما.

وأما ابن عطية فاختار أن يكون منقطعا. قال : والكلام المراد به في الآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء أنه منقطع ، وبدأ به أوّلا ، فقال استثناء الرمز وهو استثناء منقطع ، ثم قال : وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها ، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلا ، والرمز هنا : تحريك بالشفتين ، قاله مجاهد. أو : إشارة باليد والرأس ، قاله الضحاك ، والسدّي ، وعبد الله بن كثير. أو : إشارة باليد ، قاله الحسن. أو : إيماء ، قاله قتادة. فالإيماء هو الإشارة لكنه لم يعين بماذا أشار. وروي عن قتادة : إشارة باليد أو اشارة بالعين ، روي ذلك عن الحسن.

وقيل : رمزه الكتابة على الأرض. وقيل : الإشارة بالأصبع المسبحة. وقيل : باللسان. ومنه قول الشاعر :

ظل أياما له من دهره

يرمز الأقوال من غير خرس

وقيل : الرمز الصوت الخفي.

وقرأ علقمة بن قيس ، ويحيى بن وثاب : رمزا ، بضم الراء والميم ، وخرج على أنه

١٤٠