البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

منهم يوم أحد سبعون رجلا. وقال الجمهور : هو مخالفة الرسول في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك الكفار بشر مجلس ، فخالفوا وخرجوا حتى جرت القصة. وقالت طائفة منهم ابن عباس ، ومقاتل : هو عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين. وقد لخص الزمخشري هذه الأقوال الثلاثة أحسن تلخيص. فقال : المعنى أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة ، أو لتخليتكم المركز. وعن عليّ : لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم انتهى. ولم يعين الله تعالى السبب ما هو لطفا بالمؤمنين في خطابه تعالى لهم. والظاهر في قوله : «أنّى هذا» (١) هو من سؤال المؤمنين على سبيل التعجب.

وذكر الرازي أن الله لما حكي عن المنافقين طعنهم في الرسول بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة ، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم : لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره يوم أحد ، وهو المراد من قولهم : أنّى هذا. فأجاب عنه بقوله : قل هو من عند أنفسكم ، أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم انتهى كلامه. ودل على أن قوله : أنى هذا من كلام المنافقين. وقال الماتريدي أيضا : إنّه من كلام المنافقين. والظاهر ما قلناه أنه من كلام المؤمنين ، وهم المخاطبون بقوله : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) (٢) لأن المنافقين لم تصبهم مصيبة ، لأنهم رجعوا مع عبد الله بن أبي ولم يحضروا القتال ، إلا أن تجوز في قوله : أصابتكم مصيبة بمعنى أصابت أقرباءكم وإخوانكم ، فهو يمكن على بعد.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي قادر على النصر ، وعلى منعه ، وعلى أن يصيب بكم تارة ، ويصيب منكم أخرى. ونبه بذلك على أن ما أصابهم كان لوهن في دينهم ، لا لضعف في قدرة الله ، لأن من هو قادر على كل شيء هو قادر على دفاعهم على كل حال.

(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) هو يوم أحد. والجمعان ، جمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفار قريش ، والخطاب للمؤمنين. وما موصولة مبتدأ ، والخبر قوله : فبإذن الله ، وهو على إضمار أي : فهو بإذن الله. ودخول الفاء هنا. قال الحوفي : لما في الكلام من معنى الشرط لطلبته للفعل. وقال ابن عطية : ودخلت الفاء رابطة مسددة. وذلك للإبهام الذي في ما فأشبه الكلام الشرط ، وهذا كما قال سيبويه : الذي قام فله درهمان ، فيحسن دخول الفاء إذا كان القيام سبب الإعطاء انتهى كلامه. وهو أحسن من كلام الحوفي ، لأن

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٥.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٥.

٤٢١

الحوفي زعم أن في الكلام معنى الشرط. وقال ابن عطية : فأشبه الكلام الشرط. ودخول الفاء على ما قاله الجمهور وقرروه قلق هنا ، وذلك أنهم قرّروا في جواز دخول الفاء على خبر الموصول أنّ الصلة تكون مستقلة ، فلا يجيزون الذي قام أمس فله درهم ، لأن هذه الفاء إنما دخلت في خبر الموصول لشبهه بالشرط. فكما أن فعل الشرط لا يكون ماضيا من حيث المعنى ، فكذلك الصلة.

والذي أصابهم يوم التقى الجمعان هو ماض حقيقة ، فهو إخبار عن ماض من حيث المعنى. فعلى ما قرّروه يشكل دخول الفاء هنا. والذي نذهب إليه : أنه يجوز دخول الفاء في الخبر واصلة ماضية من جهة المعنى لورود هذه الآية ، ولقوله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) (١) ومعلوم أن هذا ماض معنى مقطوع بوقوعه صلة وخبر ، أو يكون ذلك على تأويل : وما يتبين إصابته إياكم. كما تأولوا : «إن كان قميصه قدّ» (٢) أي إن تبين كون قميصه قدّ. وإذا تقرّر هذا فينبغي أن يحمل عليه قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٣) (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٤) فإن ظاهر هذه كلها إخبار عن الأمور الماضية. ويكون المعنى على التبين المستقبل.

وفسر الإذن هنا بالعلم. وعبر عنه به لأنه من مقتضياته قاله : الزّجاج. أو بتمكين الله وتخليته بين الجمعين قاله : القفال. أو بمرأى ومسمع ، أو بقضائه وقدره. وقال الزمخشري : فهو كائن بإذن الله ، استعار الإذن لتخلية الكفار ، وأنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم ، لأن الآذن مخل بين المأذون له ومراده. انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال ، لأنّ قتل الكفار للمؤمنين قبيح عنده ، فلا إذن فيه. وقال ابن عطية : يحسن دخول الفاء إذا كان سبب الإعطاء ، وكذلك ترتيب هذه الآية. فالمعنى : إنما هو وما أذن الله فيه فهو الذي أصاب ، لكن قدّم الأهم في نفوسهم والأقرب إلى حسهم. والإذن : التمكين من الشيء مع العلم به انتهى كلامه. لما كان من حيث المعنى أن الإصابة مترتبة على تمكين الله ، من ذلك حمل الآية على ذلك ، وادّعى تقديما وتأخيرا ، ولا تحتاج الآية إلى ذلك ، لأنه ليس شرطا وجزاء فيحتاج فيه إلى ذلك ، بل هذا من باب الإخبار عن شيء ماض ، والإخبار صحيح. أخبر

__________________

(١) سورة الحشر : ٥٩ / ٦.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٢٦.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٧٩.

(٤) سورة الشورى : ٤٢ / ٣٠.

٤٢٢

تعالى أنّ الذي أصابهم يوم أحد كان لا محالة بإذن الله ، فهذا إخبار صحيح ، ومعنى صحيح ، فلا نتكلف تقديما ولا تأخيرا ، ونجعله من باب الشرط والجزاء.

(وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) هو على حذف مضاف أي : وليعلم إيمان المؤمنين ، ويعلم نفاق الذين نافقوا. أو المعنى : وليميز أعيان المؤمنين من أعيان المنافقين. وقيل : ليكون العلم مع وجود المؤمنين والمنافقين مساوقا للعلم الذي لم يزل ولا يزال. وقيل : ليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء. وقد تقدم تأويل مثل هذا في قوله : (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ) (١) وقالوا : تتعلق الآية بمحذوف أي : ولكذا فعل ذلك. والذي يظهر أنه معطوف على قوله : بإذن الله ، عطف السبب على السبب. ولا فرق بين الباء واللام ، فهو متعلق بما تعلقت به الباء من قوله : فهو كائن. والذين نافقوا هنا عبد الله بن أبي وأصحابه.

(وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) القائل : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري أبو جابر بن عبد الله لما انخذل عبد الله بن أبي في نحو ثلاثمائة تبعهم عبد الله فقال لهم : اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم ، وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ، ونحو هذا من القول. فقال عبد الله بن أبي : ما أرى أن يكون قتال ، ولو علمناه لكنا معكم. فلما يئس منهم عبد الله قال : اذهبوا أعداء الله ، فسيغني الله عنكم ، ومضى حتى استشهد. قال السدي : وابن جريج ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك ، والفرّاء : معناه : كثروا السواد وإن لم تقاتلوا فتدفعون القوم بالتكثير. وقال أبو عون الأنصاري معناه : رابطوا ، وهو قريب من الأول ، لأن المرابط في الثغور دافع للعبد ، إذ لولاه لطرقها. قال أنس : رأيت عبد الله بن أم مكتوم يوم القادسية وعليه درع بجر أطرافها ، وبيده راية سوداء ، فقيل له : أليس قد أنزل الله عذرا؟ قال : بلى ولكني أكثر المسلمين بنفسي. وقيل : القتال بالأنفس ، والدفع بالأموال. وقيل : المعنى أو ادفعوا حمية ، لأنه لمّا دعاهم أولا إلى أن يقاتلوا في سبيل الله وجد عزائمهم منحلة عن ذلك ، إذ لا باعث لهم في ذلك لنفاقهم ، فاستدعى منهم أن يدفعوا عن الحوزة ، فنبه على ما يقاتل لأجله : إمّا لإعلاء الدين ، أو لحمى الذمار. ألا ترى إلى قول قزمان : والله ما قاتلت إلا على أحساب قومي. وقول الأنصاري وقد رأى قريشا تريع زرع قناة : أترعى زروع بني قيلة ولما تضارب ، مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٣.

٤٢٣

وأو على بابها من أنها لأحد الشيئين. وقيل : يحتمل أن تكون بمعنى الواو ، فطلب منهم الشيئين : القتال في سبيل الله ، والدفع عن الحريم والأهل والمال. فكفار قريش لا تفرق بين المؤمن والمنافق في القتل والسبي والنهب ، والظاهر أن قوله : وقيل لهم ، كلام مستأنف. قسم الأمر عليهم فيه بين أن يقاتلوا للآخرة ، أو يدفعوا عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم. حكى الله عنهم ما يدل على نفاقهم في هذا السؤال والجواب ، ويحتمل أن يكون قوله : وقيل لهم معطوف على نافقوا ، فيكون من الصلة.

(قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) إنما لم ترد بالفاء لأنه جواب لسؤال اقتضاه دعاؤهم إلى القتال كأنه قيل : فماذا قالوا؟ فقيل : قالوا لو نعلم ، ونعلم هنا في معنى علمنا ، لأنّ لو من القرائن التي تخلص المضارع لمعنى الماضي إذا كانت حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، فإذا كانت بمعنى إن الشرطية تخلص المضارع لمعنى الاستقبال. ومضمون هذا الجواب أنهم علقوا الاتباع على تقدير وجود علم القتال ، وعلمهم للقتال منتف ، فانتفى الاتباع واخبارهم بانتفاء علم القتال منهم إمّا على سبيل المكابرة والمكايدة ، إذ معلوم أنه إذا خرج عسكران وتلاقيا وقد قصد أحدهما الآخر من شقة بعيدة في عدد كثير وعدد ، وخرج إليهم العسكر الآخر من بلدهم للقائهم قبل أن يصلوا بلدهم واثقين بنصر الله مقاتلين في سبيل الله ، وإن كانوا أقل من أولئك ، أنه سينشب بينهم قتال لا محالة ، فأنكروا علم ذلك رأسا لما كانوا عليه من النفاق والدغل والفرح بالاستيلاء على المؤمنين. وإمّا على سبيل التخطئة لهم في ظنهم أن ذلك قتال في سبيل الله. وليس كذلك ، إنما هو رمي النفوس في التهلكة ، إذ لا مقاومة لهم بحرب الكفار لكثرتهم وقلة المؤمنين ، لأن رأي عبد الله بن أبي كان في الإقامة بالمدينة وجعلها ظهرا للمؤمنين ، وما كان يستصوب الخروج كما مرّ ذكره في قصة أحد.

(هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) وجه الأقربية التي هي الزيادة في القرب إنهم كانوا يظهرون الإيمان ، ولم تكن تظهر لهم إمارة تدل على الكفر ، فلما انخذلوا عن المؤمنين وقالوا ما قالوا زادوا قربا للكفر ، وتباعدوا عن الإيمان. وقيل : هو على حذف مضاف أي : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين.

وأقرب هنا افعل تفضيل ، وهي من القرب المقابل للبعد. ويعدّى بإلى وباللام

٤٢٤

وبمن ، فيقال : زيد أقرب لكذا ، وإلى كذا ، ومن كذا من عمرو. فمن الأولى ليست التي يتعدى بها افعل التفضيل مطلقا في نحو : زيد أفضل من عمرو. وحرفا الجر هنا يتعلقان بأقرب ، وهذا من خواص أفعل التفضيل إنه يتعلق به حرفا جر من جنس واحد ، وليس أحدهما معطوفا على الآخر. ولا بدلا منه بخلاف سائر العوامل ، فإنه لا يتعلق به حرفا جر من جنس واحد إلا بالعطف ، أو على سبيل البدل. فتقول : زيد بالنحو أبصر منه بالفقه.

والعامل في يومئذ أقرب. ومنهم متعلق بأقرب أيضا ، والجملة المعوض منها التنوين هي السابقة ، أي : هم قوم إذ قالوا : لو نعلم قتالا لاتبعناكم. وذهب بعض المفسرين فيما حكى النقاش : إلى أن أقرب ليس هو هنا المقابل للأبعد ، وإنما هو من القرب بفتح القاف والراء وهو المطلب ، والقارب طالب الماء ، وليلة القرب ليلة الوداد ، فاللفظة بمعنى الطلب. ويتعين على هذا القول التعدية باللام ، ولا يجوز أن تعدّى بإلى ولا بمن التي لا تصحب كل أفعل التفضيل ، وصار نظير زيد أقرب لعمرو من بكر. وأكثر العلماء على أن هذه الجملة تضمنت النص على كفرهم. قال الحسن : إذا قال الله : أقرب ، فهو اليقين بأنهم مشركون. كقوله : «مائة ألف أو يزيدون» (١) فالزيادة لا شك فيها ، والمكلف لا ينفك عن الكفر أو الإيمان. فلما دلت على الأقربية من الكفر لزم حصول الكفر.

وقال الواحدي في الوسيط : هذه الآية دليل على أنّ من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ، لأنه تعالى لم يطلق القول عليهم بتكفيرهم مع أنهم كانوا كافرين مع إظهارهم لقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله. قال الماتريدي : أقرب أي ألزم على الكفر ، وأقبل له مع وجود الكفر منهم حقيقة ، لا على القرب إليه قبل الوقوع والوجود لقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٢) أي هي لهم لا على القرب قبل الوجود ، لكنهم لما كانوا أهل نفاق والكفر لم يفارق قلوبهم وما كان من إيمانهم ، كان بظاهر اللسان قد يفارقها في أكثر أوقاتهم ، وصفوا به. ويحتمل أن يحمل على القرب من حيث كانوا شاكين في الأمر ، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان ، فهو أقرب إلى الكفر. أو من حيث قالوا للمؤمنين : «ألم نكن معكم» (٣) وللكافرين : «ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين» (٤) أو من حيث ما أظهروا من الإيمان كذب ، والكفر نفسه كذب. فما أظهروا من الإيمان فهو

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ١٤٧.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٥٦.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١٤١.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١٤١.

٤٢٥

كذب إلى الكذب الذي هم أقرب إليه وهو الكفر ، أو من حيث أنهم أحق به أن يعرفوا. كما جعل الله لهم أعلاما يعرفون بها ، أو من حيث لا يعبدون الله ولا يعرفونه ، بل هم عباد الأصنام لاتخاذهم لها أربابا ، أو لتقرّبهم بها إلى الله ، فإذا أصابتهم شدّة فزعوا إلى الله ، والمؤمنون يرجعون إلى الله في الشدّة والرخاء.

(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي يظهرون من الإسلام ما يحقنون به دماءهم ، ويحفظون أهليهم من السبي ، وأموالهم من النهب. وليس ما يظهرون ما تنطوي عليه ضمائرهم ، بل هو لا يتجاوز أفواههم ومخارج الحروف منها ، ولم تع قلوبهم منه شيئا. وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم ، وأنّ إيمانهم موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم ، بخلاف إيمان المؤمنين في مواطأة عقد قلوبهم للفظ ألسنتهم. قال ابن عطية : بأفواههم توكيد مثل : يطير بجناحيه انتهى. ولا يظهر أنه توكيد ، إذ القول ينطلق على اللساني والنفساني ، فهو مخصص لأحد الانطلاقين إلا إن قلنا : إنّ إطلاقه على النفساني مجاز ، فيكون إذ ذاك توكيدا لحقيقة القول.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) أي من الكفر وعداوة الدين. وقال : أعلم ، لأن علمه تعالى بهم علم إحاطة بتفاصيل ما يكتمونه وكيفياته ، ونحن نعلم بعض ذلك علما مجملا. وتضمنت هذه الجملة التوعد الشديد لهم ، إذ المعنى : ترتب الجزاء على علمه تعالى بما يكتمون.

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) هذه الآية نظير قوله : «وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض» (١) الآية وفسر الإخوان هنا بما فسر به هناك. وتحتمل لام الجر ما احتملته في تلك ، وجوزوا في إعراب الذين وجوها : الرفع على النعت للذين نافقوا ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو على أنه بدل من الواو في يكتمون ، والنصب على الذم أي : أذم الذين ، والجرّ على البدل من الضمير في بأفواههم أو في قلوبهم.

والجملة من قوله : وقعدوا حالية أي : وقد قعدوا. ووقوع الماضي حالا في مثل هذا التركيب مصحوبا بقد ، أو بالواو ، أو بهما ، أو دونهما ، ثابت من لسان العرب بالسماع.

ومتعلق الطاعة هو ترك الخروج. والقعود كما قعدوا هم ، وهذا منهم قول بالأجلين أي : لو وافقونا في التخلف والقعود ما قتلوا ، كما لم نقتل نحن. وقرأ الحسن : ما قتلوا بالتشديد.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٥٦.

٤٢٦

(قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أكذبهم الله تعالى في دعواهم ذلك ، فكأنه قيل : القتل ضرب من الموت ، فإن كان لكم سبيل إلى دفعه عن أنفسكم بفعل اختياري فادفعوا عنها الموت ، وإن لم يكن ذلك دلّ على أنكم مبطلون في دعواكم. والدرة : الدفع ، وتقدّمت مادته في قوله : «فادارأتم فيها» (١) وقال دغفل النسابة :

صادف درء السيل درأ يدفعه

والعبء لا تعرفه أو ترفعه

والمعنى : إن كنتم صادقين في دعواكم أنّ التحيل والتحرز ينجي من الموت ، فجدّوا أنتم في دفعه ، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا بل لا بد أن يتعلق بكم بعض أسباب المنون. وهب أنكم على زعمكم دفعتم بالقعود هذا السبب الخاص ، فادفعوا سائر أسباب الموت ، وهذا لا يمن لكم البتة. قال الزمخشري : (فإن قلت) : فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود ، فما معنى قوله : إن كنتم صادقين؟ (قلت) : معناه أنّ النجاة من القتل يجوز أن يكون سببها القعود عن القتال ، وأن يكون غيره. لأن أسباب النجاة كثيرة. وقد يكون قتال الرجل نجاته ، ولو لم يقاتل لقتل ، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وإنكم صادقون في مقاتلتكم وما أنكرتم أن يكون السبب غيره؟ ووجه آخر : إن كنتم صادقين في قولكم : لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا ، يعني : أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين ، كما قتلوا مقاتلين. وقوله : فادرؤا عن أنفسكم الموت ، استهزاء بهم ، أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا انتهى كلامه. وهو حسن على طوله.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) قيل : هم قتلى أحد ، وقيل : شهداء بئر معونة. وقيل : شهداء بدر. وهل سبب ذلك قول من استشهد وقد دخل الجنة فأكل من ثمارها : من يبلغ عنا إخواننا أنا في الجنة نرزق ، لا تزهدوا في الجهاد. فقال الله : أنا أبلغ عنكم ، فنزلت. أو قول من لم يستشهد من أولياء الشهداء : إذا أصابتهم نعمة نحن في النعمة والسرور ، وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور ، فنزلت.

وقرأ الجمهور : ولا تحسبن بالتاء ، أي ولا تحسبن أيها السامع. وقال الزمخشري : الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل أحد. وقرأ حميد بن قيس وهشام بخلاف عنه بالياء ، أي :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٧٢.

٤٢٧

ولا يحسبن هو ، أي : حاسب واحد. قال ابن عطية : وأرى هذه القراءة بضم الياء ، فالمعنى : ولا يحسبن الناس انتهى.

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الذين قتلوا فاعلا ، ويكون التقدير : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا ، أي : لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا. (فإن قلت) : كيف جاز حذف المفعول الأوّل؟ (قلت) : هو في الأصل مبتدأ فحذف كما حذف المبتدأ في قوله : أحياء. والمعنى : هم أحياء لدلالة الكلام عليها انتهى كلامه. وما ذهب إليه من أن التقدير : ولا تحسبنهم الذين قتلوا أمواتا لا يجوز ، لأنّ فيه تقديم المضمر على مفسره ، وهو محصور في أماكن لا تتعدى وهي باب : رب بلا خلاف ، نحو : ربه رجلا أكرمته ، وباب نعم وبئس في نحو : نعم رجلا زيد على مذهب البصريين ، وباب التنازع على مذهب سيبويه في نحو : ضرباني وضربت الزيدين ، وضمير الأمر والشأن وهو المسمى بالمجهول عند الكوفيين نحو : هو زيد منطلق ، وباب البدل على خلاف فيه بين البصريين في نحو : مررت به زيد ، وزاد بعض أصحابنا أن يكون الظاهر المفسر خبرا للضمير ، وجعل منه قوله تعالى : (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) (١) التقدير عنده : ما الحياة إلا حياتنا الدّنيا. وهذا الذي قدره الزمخشري ليس واحدا من هذه الأماكن المذكورة. وأما سؤاله وجوابه فإنه قد يتمشى على رأي الجمهور في أنه : يجوز حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها اختصارا ، وحذف الاختصار هو لفهم المعنى ، لكنه عندهم قليل جدا. قال أبو عليّ الفارسي : حذفه عزيز جدا ، كما أن حذف خبر كان كذلك ، وإن اختلفت جهتا القبح انتهى. قول أبي علي. وقد ذهب الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن ملكون الحضرمي الإشبيلي إلى منع ذلك اقتصارا ، والحجة له وعليه مذكورة في علم النحو. وما كان بهذه المثابة ممنوعا عند بعضهم عزيزا حذفه عند الجمهور ، ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى. فتأويل من تأوّل الفاعل مضمرا يفسره المعنى ، أي : لا يحسبن هو أي أحد ، أو حاسب أولى. وتتفق القراءتان في كون الفاعل ضميرا وإن اختلفت بالخطاب والغيبة. وتقدم الكلام فى معنى موت الشهداء وحياتهم في قوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) (٢) فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقرأ الحسن وابن عامر قتلوا بالتشديد. وروي عن عاصم : قاتلوا. وقرأ الجمهور : قتلوا مخففا. وقرأ الجمهور : بل

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٢٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٥٤.

٤٢٨

أحياء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : بل هم أحياء. وقرأ ابن أبي عبلة : أحياء بالنصب. قال الزمخشري : على معنى بل أحسبهم أحياء انتهى. وتبع في إضمار هذا الفعل الزجاج. قال الزجاج : ويجوز النصب على معنى : بل أحسبهم أحياء. ورده عليه أبو علي الفارسي في الإغفال وقال : لا يجوز ذلك ، لأن الأمر يقين ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة. فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن يضمر فعلا غير المحسبة اعتقدهم أو اجعلهم ، وذلك ضعيف ، إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر انتهى كلام أبي علي. وقوله : لا يجوز ذلك لأن الأمر يقين ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة معناه : أنّ المتيقن لا يعبر عنه بالمحسبة ، لأنها لا تكون لليقين. وهذا الذي ذكره هو الأكثر ، وقد يقع حسب لليقين كما تقع ظن ، لكنه في ظن كثير ، وفي حسب قليل. ومن ذلك في حسب قول الشاعر :

حسبت التقى والحمد خير تجارة

رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا

وقول الآخر :

شهدت وفاتوني وكنت حسبتني

فقيرا إلى أن يشهدوا وتغيبي

فلو قدر بعد : بل أحسبهم بمعنى أعلمهم ، لصحّ لدلالة المعنى عليه ، لا لدلالة لفظ ولا تحسبن ، لاختلاف مدلوليهما. وإذا اختلف المدلول فلا يدل أحدهما على الآخر. وقوله : ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة غير مسلم ، لأنه إذا امتنع من حيث المعنى إضماره أضمر غيره لدلالة المعنى عليه لا اللفظ. وقوله : أو اجعلهم ، هذا لا يصح البتة ، سواء كانت اجعلهم بمعنى أخلقهم ، أو صيرهم ، أو سمهم ، أو القهم. وقوله : وذلك ضعيف أي النصب ، وقوله : إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر إن عنى من حيث اللفظ فصحيح ، وإن عنى من حيث المعنى فغير مسلم له ، بل المعنى يسوغ النصب على معنى اعتقدهم ، وهذا على تسليم إن حسب لا يذهب بها مذهب العلم.

ومعنى عند ربهم : بالمكانة والزلفى ، لا بالمكان. قال ابن عطية : فيه حذف مضاف تقديره : عند كرامة ربهم ، لأن عند تقتضي غاية القرب ، ولذلك يصغر قاله سيبويه انتهى. ويحتمل عند ربهم أن يكون خبرا ثانيا ، وصفة ، وحالا. وكذلك يرزقون : يجوز أن يكون خبرا ثالثا ، وأن يكون صفة ثانية. وقدّم صفة الظرف على صفة الجملة ، لأن الأفصح هذا وهو : أن يقدم الظرف أو المجرور على الجملة إذا كانا وصفين ، ولأن المعنى في الوصف

٤٢٩

بالزلفى عند الله والقرب منه أشرف من الوصف بالرزق. وأن يكون حالا من الضمير المستكن في الظرف ، ويكون العامل فيه في الحقيقة هو العامل في الظرف.

قال ابن عطية : أخبر تعالى عن الشهداء أنهم في الجنة يرزقون ، هذا موضع الفائدة. ولا محالة أنهم ماتوا ، وإنّ أجسادهم في التراب ، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين. وفضّلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل ، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم. فقوله : بل أحياء مقدمة لقوله : يرزقون ، إذ لا يرزق إلا حي. وهذا كما يقول لمن ذم رجلا. بل هو رجل فاضل ، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل انتهى ما قاله ابن عطية. ولا يلزم ما ذكره من أن لفظة أحياء جيء بها مجتلبة لذكر الرزق ، لكون الحياة مشتركا فيها الشهيد والمؤمنون ، لأنه يجوز أن يكون هذا الإخبار بحياة الشهداء متقدما على الإخبار بأن أرواح المؤمنين على العموم حية فاستفيد ، أو لا حياة أرواح الشهداء ، ثم جاء بعد الإخبار بحياة أرواح المؤمنين. وأيضا ففي ذكره النص على نقيض ما حسبوه وهو : كون الشهداء أمواتا. والبعد عن أن يراد بقوله : يرزقون ، ما يحتمله المضارع من الاستقبال. فإذا سبقه ما يدل على الالتباس بالوصف حالة الإخبار كان حكم ما بعده حكمه ، إذ الأصل في الإخبار أن يكون من أسندت إليه متصفا بذلك في الحال ، إلا إن دلت قرينة على مضي أو استقبال من لفظ أو معنى ، فيصار إليه.

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي مسرورين بما أعطاهم الله من قربه ، ودخول جنته ، ورزقهم فيها ، إلى سائر ما أكرمهم به ، ولا تعارض بين : فرحين ، وبين (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (١) في قصة قارون. لأنّ ذاك بالملاذ الدنيوية ، وهذا بالملاذ الأخروية. ولذك جاء قل بفضل الله وبرحمته ، فبذلك فليفرحوا وجاء : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) (٢).

ومن يحتمل أن تكون للسبب ، أي : ما آتاهم الله متسبب عن فضله ، فتتعلق الباء بآتاهم. ويحتمل أن تكون للتبعيض ، فتكون في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على ما ، أي : بما آتاهموه الله كائنا من فضله. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية ، فتتعلق بآتاهم. وجوّزوا في فرحين أن يكون حالا من الضمير في يرزقون ، أو من الضمير في الظرف ، أو من الضمير في أحياء ، وأن يكون صفة لأحياء إذا نصب.

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ١٧٦.

(٢) سورة المطففين : ٨٣ / ٢٦.

٤٣٠

(وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) وهم : جميع المؤمنين ، أي : يحصل لهم البشرى بانتفاء الخوف والحزن عن إخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم في الشهادة ، فهم فرحون بما حصل لهم ، مستبشرون بما يحصل لإخوانهم المؤمنين قاله : الزجاج وابن فورك وغيرهما. وقال قتادة وابن جريج والربيع وغيرهم : هم الشهداء الذين يأتونهم بعد من إخوانهم المؤمنين الذين تركوهم يجاهدون فيستشهدون ، فرحوا لأنفسهم ولمن يلحق بهم من الشهداء ، إذ يصيرون إلى ما صاروا إليه من كرامة الله تعالى.

قال ابن عطية : وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة ، بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار. انتهى كلامه. أما قوله : ليست بمعنى طلب البشارة فصحيح ، وأما قوله : بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار ، فيعني أنها تكون بمعنى الفعل المجرد كاستغنى بمعنى غني ، واستمجد بمعنى مجد ، ونقل أنه يقال : بشر الرجل بكسر الشين ، فيكون استبشر بمعناه. ولا يتعين هذا المعنى ، بل يجوز أن يكون مطاوعا لأفعل ، وهو الأظهر أي : أبشره الله فاستبشر ، كقولهم : أكانه فاستكان ، وأشلاه فاستشلى ، وأراحه فاستراح ، وأحكمه فاستحكم ، وأكنه فاستكنّ ، وأمرّه فاستمرّ ، وهو كثير. وإنما كان هذا الأظهر هنا ، لأنه من حيث المطاوعة يكون منفعلا عن غيره ، فحصلت له البشرى بابشار الله له بذلك. ولا يلزم هذا المعنى إذا كان بمعنى المجرد ، لأنه لا يدل على المطاوعة. ومعنى : من خلفهم ، قد بقوا بعدهم ، وهم قد تقدّموهم إذا كان المعنى بالذين لم يلحقوا الشهداء ، وإن كان المعنيّ بهم المؤمنين فمعنى لم يلحقوا بهم أي : لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم.

(أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وجوزوا في إعراب ويستبشرون أن يكون معطوفا على فرحين ومستبشرين كقوله : «صافات ويقبضن» (١) أي قابضات وأن يكون على إضمارهم. والواو للحال ، فتكون حالية من الضمير في فرحين ، أو من ضمير المفعولين في آتاهم ، أو للعطف. ويكون مستأنفا من باب عطف الجملة الاسمية أو الفعلية على نظيرها.

وإن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ضمير الشأن ، وخبرها الجملة المنفية بلا. وإن ما بعدها في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل اشتمال من الذين ، فيكون هو المستبشر به في الحقيقة. أو منصوب على أنه مفعول من أجله ، فيكون علة للاستبشار ،

__________________

(١) سورة الملك : ٦٧ / ١٩.

٤٣١

والمستبشر به غيره. التقدير : لأنه لا خوف عليهم. والذوات لا يستبشر بها فلا بد من تقدير مضاف مناسب ، وتقدّم تفسير : لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فأغنى عن إعادته.

وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة ، والجد في الجهاد ، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم ، وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه في الله ، وبشرى للمؤمنين بالفوز في المآب قاله : الزمخشري. وهو كلام حسن.

قيل : وتضمنت هذه الآيات من ضروب البديع ، الطباق في قوله : لقد منّ الله الآية ، إذ التقدير منّ الله عليهم بالهداية ، فيكون في هذا المقدّر. وفي قوله : في ضلال مبين ، وفي : يقولون بأفواههم ، والقول ظاهر ويكتمون. وفي قالوا لإخوانهم وقعدوا ، إذ التقدير حين خرجوا وقعدوا هم. وفي : أمواتا بل أحياء وفي : فرحين ويحزنون. والتكرار في : وليعلم المؤمنين ، وليعلم الذين نافقوا الاختلاف متعلق العلم. وفي فرحين ويستبشرون. والتجنيس المغاير في : أصابتكم مصيبة ، والمماثل في : أصابتكم قد أصبتم. والاستفهام الذي يراد به الإنكار في : أو لما أصابتكم. والاحتجاج النظري في : قل فادرأوا عن أنفسكم. والتأكيد في : ولا هم يحزنون. والحذف في عدة مواضع لا يتم المعنى إلا بتقديرها.

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ

٤٣٢

(١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)

الحظ النصيب ، وإذا لم يقيد فإنما يستعمل في الخير. ماز وميز : فصل الشيء من الشيء. قال يعقوب : هما لغتان بمعنى واحد انتهى. والتضعيف ليس للنقل. وقيل : التشديد أقرب إلى الفخامة وأكثر في الاستعمال ، ألا ترى أنهم استعملوا المصدر على نية التشديد فقالوا : التمييز ، ولم يقولوا الميز انتهى. ويعني : ولم تقولوه مسموعا ، وأما بطريق القياس فيقال. وقيل : لا يكون مازالا في كثير من كثير ، فأما واحد من واحد فيتميز على معنى يعزل ، ولهذا قال أبو معاذ : يقال : ميزت بين شيئين ، ومزت بين الأشياء. اجتبى : اختار واصطفى ، وهي من جبيت الماء ، والمال وجبوتهما فاجتبى ، افتعل منه. فيحتمل أن تكون اللام واو أو ياء.

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) كرر الفعل على سبيل التوكيد ، إن كانت النعمة والفضل بيانا لمتعلق الاستبشار الأول ، قاله : الزمخشري. قال : وكرّر يستبشرون ليعلق به ما هو بيان لقوله : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١) من ذكر النعمة والفضل ، وأن ذلك أجر لهم على إيمانهم ، يجب في عدل الله وحكمته أن يحصل لهم ولا يضيع انتهى. وهو على طريقة الاعتزال ، في ذكره وجوب الأجر وتحصيله على إيمانهم. وسلك ابن عطية طريقة أهل السنة فقال : أكد استبشارهم بقوله : يستبشرون ، ثم بين بقوله : وفضل إدخالهم الجنة الذي هو فضل منه ، لا بعمل أحد ، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال انتهى.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٧٠.

٤٣٣

وقال غيرهما : هو بدل من الأول ، فلذلك لم يدخل عليه واو العطف. ومن ذهب إلى أنّ الجملة حال من الضمير في يحزنون ، ويحزنون هو العامل فيها ، فبعيد عن الصواب. لأن الظاهر اختلاف المنفي عنه الحزن والمستبشر ، ولأن الحال قيد ، والحزن ليس بمقيد. والظاهر أنّ قوله : يستبشرون ليس بتأكيد للأول ، بل هو استئناف متعلق بهم أنفسهم ، لا بالذين لم يلحقوا بهم. فقد اختلف متعلق الفعلين ، فلا تأكيد لأن هذا المستبشر به هو لهم ، وهو : نعمة الله عليهم وفضله. وفي التنكير دلالة على بعض غير معين ، وإشارة إلى إبهام المراد تعظيما لأمره وتنبيها على صعوبة إدراكه ، كما جاء فيها «ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» والظاهر تباين النعمة والفضل للعطف ، ويناسب شرحهما أن ينزل على قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) (١) وزيادة فالحسنى هي النعمة ، والزيادة هي الفضل لقرينة قوله : أحسنوا وقوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢).

وقال الزجاج : النعمة هي الجزاء والفضل زائد عليه قدر الجزاء. وقيل : النعمة قدر الكفاية ، والفضل المضاعف عليها مع مضاعفة السرور بها واللذة. وقيل : الفضل داخل في النعمة دلالة على اتساعها ، وأنها ليست كنعم الدنيا. وقرأ الكسائي وجماعة : وإن الله بكسر الهمزة على الاستئناف ويؤيده قراءة عبد الله ومصحفه : والله لا يضيع أجر. وقال الزمخشري : وعلى أن الجملة اعتراض ، وهي قراءة الكسائي انتهى. وليست الجملة هنا اعتراضا لأنها لم تدخل بين شيئين أحدهما يتعلق بالآخر ، وإنما جاءت لاستئناف أخبار. وقرأ باقي السبعة والجمهور : بفتح الهمزة عطفا على متعلق الاستبشار ، فهو داخل فيه. قال أبو علي : يستبشرون بتوفير ذلك عليهم ، ووصوله إليهم ، لأنه إذا لم يضعه وصل إليهم ولم يبخسوه. ولا يصح الاستبشار بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ، لأن الاستبشار إنما يكون بما لم يتقدم به علم ، وقد علموا قبل موتهم إن الله لا يضيع أجر المؤمنين ، فهم يستبشرون بأن الله ما أضاع أجورهم حتى اختصهم بالشهادة ومنحهم أتم النعمة ، وختم لهم بالنجاة والفوز ، وقد كانوا يخشون على إيمانهم ، ويخافون سوء الخاتمة المحبطة للأعمال ، فلما رأوا ما للمؤمنين عند الله من السعادة وما اختصهم به من حسن الخاتمة التي تصحّ معها الأجور وتضاعف الأعمال ، استبشروا ، لأنهم كانوا على وجل من ذلك انتهى كلامه. وفيه

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٢٦.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٧٢.

٤٣٤

تطويل شبيه بالخطابة. قيل : ويجوز أن يكون الاستبشار لمن خلفوه بعدهم من المؤمنين لما عاينوا منزلتهم عند الله.

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) قيل : الاستجابة كانت أثر الانصراف من أحد. استنفر الرسول لطلب الكفار ، فاستجاب له تسعون. وذلك لمّا ذكر للرّسول أنّ أبا سفيان في جمع كثير ، فأبى الرسول إلا أن يطلبهم ، فسبقه أبو سفيان ودخل مكة فنزلت ، قاله : عمرو بن دينار. وفي ذكر هذا السبب اختلاف في مواضع. وقيل : الاستجابة كانت من العام القابل بعد قصة أحد ، حيث تواعد أبو سفيان ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موسم بدر ، فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان فارعب ، وبدا له الرّجوع وقال لنعيم بن مسعود : وأعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى ، وهو عام جدب لا يصلح لنا ، فثبطتهم عنا وأعلمهم أنا في جمع كثير ففعل ، وخوفهم ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصحابه وأقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان فنزلت. قال معناه : مجاهد وعكرمة. وقيل : لما كان الثاني من أحد وهو يوم الأحد ، نادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الناس باتباع المشركين ، وقال : «لا يخرجن معنا إلا من شاهدنا بالأمس» وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم ، ولكن تجلدوا ، ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد وهي : على ثمانية أميال من المدينة وأقام بها ثلاثة أيام ، وجرت قصة معبد بن أبي معبد ، وقد ذكرت ومرّت قريش ، فانصرف الرسول إلى المدينة فنزلت. وروى أنه خرج أخوان وبهما جراحة شديدة ، وضعف أحدهما فكان أخوه يحمله عقبة ويمشي هو عقبة ، ولما لم تتم استجابة العبد لله إلا باستجابته للرسول جمع بينهما ، لأنّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. قيل : والاستجابتان مختلفتان ، فإنهما بالنسبة إلى الله بالتوحيد والعبادة ، وللرّسول بتلقي الرّسالة منه والنصيحة له. والظاهر أنها استجابة واحدة ، وهو إجابتهم له حين انتدبهم لاتباع الكفار على ما نقل في سبب النزول. والإحسان هنا ما هو زائد على الإيمان من الاتصاف بما يستحب مع الاتصاف بما يجب.

والظاهر إعراب الذين مبتدأ ، والجملة بعده الخبر. وجوزوا الاتباع نعتا ، أو بدلا ، والقطع إلى الرفع والنصب. ومن في منهم قال الزمخشري : للتبيين مثلها في قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (١) لأن الذين استجابوا

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ٢٩.

٤٣٥

لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا ، إلا بعضهم. وعن عروة بن الزبير قالت لي عائشة : أن أبويك لممن استجابوا لله والرسول تعني : أبا بكر والزبير انتهى. وقال أبو البقاء : منهم حال من الضمير في أحسنوا ، فعلى هذا تكون من للتبعيض وهو قول من لا يرى أن من تكون لبيان الجنس.

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قيل : أريد بالناس الأول أبو نعيم بن مسعود الأشجعي ، وهو قول : ابن قتيبة ، وضعفه ابن عطية. وبالثاني : أبو سفيان. وتقدّم ذكر قصة نعيم وذكرها المفسرون مطولة ، وفيها : أنّ أبا سفيان جعل له جعلا على تثبيط الصحابة عن بدر الصغرى وذلك عشرة من الإبل ضمنها له سهيل بن عمرو ، فقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفزع الناس وخوفهم اللقاء ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي» فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فتجهز للقتال وقال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فوافى بدرا الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون : قد جمعوا لكم ، وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام ، فأقام ببدر ينتظر أبا سفيان ، وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة ، فسمى أهل مكة حبسة جيش السويق قالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق. وكانت مع الصحابة تجارات ونفقات ، فباعوا وأصابوا للدّرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة غانمين ، وحسبها الرسول لهم غزوة ، وظفر في وجهه ذلك بمعاوية بن المغيرة بن العاص وأبي غزة الجمحي فقتلهما. فعلى هذا القول أن المثبط أبو نعيم وحده ، وأطلق عليه الناس على سبيل المجاز ، لأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ، ويلبس البرود ، وما له إلا فرس واحد ، وبرد واحد ، قاله الزمخشري. وقال أيضا : ولأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامّونه ويصلون جناح كلامه ، ويثبطون مثل تثبيطه انتهى. ولا يجيء هذا على تقدير السؤال وهو : أن نعيما وحده هو المثبط ، لأنه قد انضاف إليه ناس ، فلا يكون إذ ذاك منفردا بالتثبيط.

وقيل : الناس الأول ركب من عبد القيس مرّوا على أبي سفيان يريدون المدينة للميرة ، فجعل لهم جعلا وهو حمل إبلهم زبيبا على أن يخبروا أنه جمع ليستأصل بقية المؤمنين ، فأخبروا بذلك ، فقال الرسول وأصحابه وهم إذ ذاك بحمراء الأسد : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) والناس الثاني قريش ، وهذا القول أقرب إلى مدلول اللفظ.

٤٣٦

وجوزوا في إعراب الذين قال : أوجه الذين قبله ، والفاعل بزاد ضمير مستكن يعود على المصدر المفهوم من قال أي : فزادهم ذلك القول إيمانا. وأجاز الزمخشري أن يعود إلى القول ، وأن يعود إلى الناس إذا أريد به نعيم وحده. وهما ضعيفان ، من حيث أن الأول لا يزيد إيمانا إلا بالنطق به ، لا هو في نفسه. ومن حيث أنّ الثاني إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازا فإن الضمائر تجزي على ذلك الجمع ، لا على المفرد. فيقول : مفارقه شابت ، باعتبار الإخبار عن الجمع ، ولا يجوز مفارقه شاب ، باعتبار مفرقه شاب.

وظاهر اللفظ أن الإيمان يزيد ، ومعناه هنا : أنّ ذلك القول زادهم تثبيتا واستعدادا ، فزيادة الإيمان على هذا هي في الأعمال. وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال قوم : يزيد وينقص باعتبار الطاعات ، لأنها من ثمرات الإيمان ، وينقص بالمعصية وهو : مذهب مالك ، ونسب للشافعي. وقال قوم : من جهة أعمال القلوب كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة. وقال قوم : من طريق الأدلة وكثرتها وتظافرها على معتقد واحد. وقال قوم : من طريق نزول الفرائض والإخبار في مدة الرسول. وقال قوم : لا يقبل الزيادة والنقص ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وحكاه الباقلاني عن الشافعي. وقال أبو المعالي في الإرشاد : زيادته من حيث ثبوته وتعاوره دائما ، لأنه عرض لا يثبت زمانين ، فهو للصالح متعاقب متوال ، وللفاسق والغافل غير متوال ، فهذا معنى الزيادة والنقص. وذهب قوم : إلى ما نطق به النص ، وهو أنه يزيد ولا ينقص ، وهو مذهب المعتزلة. وروى شبهه عن ابن المبارك. والذي يظهر أن الإيمان إذا أريد به التصديق فيعلق بشيء واحد : أنه تستحيل فيه الزيادة والنقص ، فإنما ذلك بحسب متعلقاته دون ذاته ، وحجج هذه الأقوال مذكورة في المصنفات التي تضمنت هذه المسألة ، وقد أفردها بعض العلماء بالتصنيف في كتاب. ولما تقدّم من المثبطين إخبار بأنّ قريشا قد جمعوا لكم ، وأمر منهم لهم بخشيتهم لهذا الجمع الذي جمعوه ، ترتب على هذا القول شيئان : أحدهما : قلبي وهو زيادة الإيمان ، وهو مقابل للأمر بالخشية. فأخبر بحصول طمأنينة في القلب تقابل الخشية ، وأخبر بعد بما يقابل جمع الناس وهو : إنّ كافيهم شر الناس هو الله تعالى ، ثم أثنوا عليه تعالى بقوله : ونعم الوكيل ، فدلّ على أنّ قولهم : حسبنا الله هو من المبالغة في التوكل عليه ، وربط أمورهم به تعالى. فانظر إلى براعة هذا الكلام وبلاغته ، حيث قوبل قول بقول ، ومتعلق قلب بمتعلق قلب. وتقدّم الكلام في حسب في قوله : (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) (١) ومن قولهم : أحسبه الشيء كفاه. وحسب بمعنى المحسب ، أي

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٧٣.

٤٣٧

الكافي ، أطلق ويراد به معنى اسم الفاعل. ألا ترى أنه يوصف به فتقول : مررت برجل حسبك من رجل ، أي : كافيك. فتصف به النكرة ، إذ إضافته غير محضة ، لكونه في معنى اسم الفاعل غير الماضي المجرد من أل. وقال :

وحسبك من غنى شبع وريّ

أي كافيك. والوكيل : فعيل بمعنى مفعول ، أي الموكول إليه الأمور. قيل : وهذه الحسبلة هي قول ابراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار. والمخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى ، التقدير : ونعم الوكيل الله. قال ابن الأنباري : الوكيل الرّب قاله : قوم انتهى. والمعنى : أنه من أسماء صفاته تعالى كما تقول : القهار هو الله. وقيل : هو بمعنى الولي والحفيظ ، وهو راجع إلى معنى الموكول إليه الأمور. قال الفرّاء : والوكيل الكفيل (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) أي : فرجعوا من بدر مصحوبين بنعمة من الله وهي : السلامة وحذر العدوّ إياهم ، وفضل : وهو الربح في التجارة. كقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) (١) هذا الذي اختاره الزمخشري في تفسير هذا الانقلاب ، ولم يذكر غيره ، وهو قول مجاهد. قال ابن عطية : والجمهور على أن معنى هذه الآية فانقلبوا بنعمة ، يريد : في السلامة والظهور ، وفي اتباع العدو ، وحماية الحوزة ، وبفضل في الأجر الذي حازوه ، والفخر الذي تخللوه ، وأنها في غزوة أحد في الخرجة إلى حمراء الأسد. وشذ مجاهد وقال : في خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بدر الصغرى ، وذكر قصة نعيم وأبي سفيان. قال : والصواب ما قاله الجمهور : إنّ هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد ، انتهى كلامه.

والكلام في هذه الآية مبني على الخلاف في قوله : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) (٢) وقد تقدّم ذكره عند ذكر تفسيرها. وفرق بعضهم بين الانقلاب والرجوع ، بأن الانقلاب صيرورة الشيء إلى خلاف ما كان عليه. قال : ويوضح هذا أنك تقول : انقلبت الخمر خلّا ، ولا تقول : رجعت الخمر خلّا انتهى كلامه ، وفي ذلك نظر. وقيل : النعمة الأجر قاله : مجاهد. وقيل : العافية والنصر. قاله : الزجاج. قيل : والفضل ربح التجارة قاله : مجاهد ، والسدي ، والزهري. وتقدّم حكاية هذا القول عن مجاهد. وقيل : أصابوا سرية بالصفراء فرزقوا منها قاله : مقاتل. وقيل : الثواب ذكره الماوردي. والجملة من قوله :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٩٨.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٧٢.

٤٣٨

لم يمسسهم سوء في موضع الحال ، أي سالمين. وبنعمة حال أيضا ، لأن الباء فيه باء المصاحبة ، أي : انقلبوا متنعمين سالمين. والجملة الحالية المنفية بلم المشتملة على ضمير ذي الحال ، يجوز دخول الواو عليها ، وعدم دخولها. فمن الأوّل قوله تعالى : (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ) (١) ولم يوح إليه شيء ، وقول الشاعر :

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم

أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويل

ومن الثاني قوله تعالى : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) (٢) وقول قيس بن الأسلت :

واضرب القوس يوم الوغى

بالسيف لم يقصر به باعي

ووهم الأستاذ أبو الحسن بن خروف في ذلك فزعم : أنها إذا كانت الجملة ماضية معنى لا لفظا احتاجت إلى الواو كان فيها ضميرا ، ولم يكن فيها. والمستعمل في لسان العرب ما ذكرناه.

واتباعهم رضوان الله هو بخروجهم إلى العدو ، وجراءتهم ، وطواعيتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وختمها بقوله : والله ذو فضل عظيم ، مناسب لقوله : (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) (٣) تفضل عليهم بالتيسير والتوفيق في ما فعلوه ، وفي ذلك تحسير لمن تخلف عن الخروج حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء من الثواب في الآخرة والثناء الجميل في الدنيا. وروي أنهم قالوا : هل يكون هذا غزوا؟ فأعطاهم الله تعالى ثواب الغزو ، ورضي عنهم. وهذه عاقبة تفويض أمرهم إليه تعالى ، جازاهم بنعمته ، وفضله ، وسلامتهم واتباعهم رضاه.

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ما : هي الكافة لأنّ عن العمل. وهي التي يزعم معظم أهل أصول الفقه أنّها إذا لم تكن موصولة أفادت مع أنّ الحصر. وذلكم : إشارة إلى الركب المثبط. وقيل : المراد بالشيطان نعيم بن مسعود ، أو أبو سفيان. فعلى هذه الأقوال تكون الإشارة إلى أعيان. وقيل : ذلكم إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين عن رسالة أبي سفيان ، وتحميل أبي سفيان ذلك الكلام ، وجزع من جزع منه من مؤمن أو متردّد. فعلى هذا تكون الإشارة إلى معان ، ولا بد

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٩٣.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٢٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٧٤.

٤٣٩

إذ ذاك من تقدير مضاف محذوف تقديره : إنما ذلكم فعل الشيطان. وقدّره الزمخشري قول الشيطان ، أي قول إبليس. فتكون الإشارة على هذا التقدير إلى القول السابق وهو : أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. وعلى هذه الأقوال كلها فالخبر عن المبتدأ الذي هو ذلكم بالشيطان هو مجاز ، لأن الأعيان ليست من نفس الشيطان ، ولا ما جرى من قول فقط ، أو من قول ، وما انضم إليه مما صدر من العدوّ من تخويف ، وما صدر من جزع ، ليس نفس قول الشيطان ولا فعله ، وإنما نسب إليه وأضيف ، لأنه ناشيء عن وسوسته وإغوائه وإلقائه.

والتشديد في يخوّف للنقل ، كان قبله يتعدّى لواحد ، فلما ضعف صار يتعدّى لاثنين. وهو من الأفعال التي يجوز حذف مفعوليها ، وأحدهما اقتصار أو اختصار ، أو هنا تعدّى إلى واحد ، والآخر محذوف. فيجوز أن يكون الأوّل ويكون التقدير : يخوفكم أولياء ، أي شر أوليائه في هذا الوجه. لأن الذوات لا تخاف ، ويكون المخوفون إذ ذاك المؤمنين ، ويجوز أن يكون المحذوف المفعول الثاني ، أي : يخوّف أولياءه شرّ الكفار ، ويكون أولياءه في هذا الوجه هم المنافقون ، ومن في قلبه مرض المتخلفون عن الخروج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : أنه لا يتعدّى تخويفه المنافقين ، ولا يصل إليكم تخويفه. وعلى الوجه الأوّل يكون أولياءه هم الكفار : أبو سفيان ومن معه. ويدل على هذا الوجه قراءة ابن مسعود وابن عباس يخوفكم أولياءه ، إذ ظهر فيها أن المحذوف هو المفعول الأوّل. وقرأ أبيّ والنخعي : يخوفكم بأوليائه ، فيجوز أن تكون الباء زائدة مثلها في يقرأن بالسور ، ويكون المفعول الثاني هو بأوليائه ، أي : أولياءه ، كقراءة الجمهور. ويجوز أن تكون الباء للسبب ، ويكون مفعول يخوّف الثاني محذوفا أي : يخوّفكم الشرّ بأوليائه ، فيكونون آلة للتخويف. وقد حمل بعض المعربين قراءة الجمهور يخوف أولياءه على أن التقدير : بأوليائه ، فيكون إذ ذاك قد حذف مفعولا يخوف لدلالة ، المعنى على الحذف ، والتقدير : يخوفكم الشرّ بأوليائه ، وهذا بعيد. والأحسن في الإعراب أن يكون ذلكم مبتدأ ، والشيطان خبره ، ويخوف جملة حالية ، يدل على أن هذه الجملة حال مجيء المفرد منصوبا على الحال مكانها نحو قوله تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) (١) (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) (٢) وأجاز أبو البقاء أن يكون الشيطان بدلا أو عطف بيان ، ويكون يخوف خبرا عن ذلكم. وقال الزمخشري : الشيطان خبر ذلكم ، بمعنى : إنما ذلكم المثبط هو الشيطان ، ويخوّف أولياءه جملة مستأنفة بيان لتثبيطه ، أو الشيطان صفة لاسم الإشارة ، ويخوف الخبر. والمراد بالشيطان نعيم أو أبو

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٥٢.

(٢) سورة هود : ١١ / ٧٢.

٤٤٠