البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

ربنا إنك. كرر الدعاء تنبيها على ملازمته ، وتحذيرا من الغفلة عنه لما فيه من إظهار الافتقار.

والتقديم والتأخير ، وذلك في ذكر إنزال الكتب ، لم يجىء الإخبار عن ذلك على حسب الزمان ، إذ التوراة أولا ، ثم الزبور ، ثم الإنجيل ، ثم القرآن. وقدم القرآن لشرفه ، وعظم ثوابه ونسخه لما تقدم ، وبقائه ، واستمرار حكمه إلى آخر الزمان. وثنى بالتوراة لما فيها من الأحكام الكثيرة ، والقصص ، وخفايا الاستنباط.

وروى ... (١) : أن التوراة حين نزلت كانت سبعين وسقا ، ثم ثلث بالإنجيل ، لأنه كتاب فيه من المواعظ والحكم ما لا يحصى ، ثم تلاه بالزبور لأن فيه مواعظ وحكما لم تبلغ مبلغ الإنجيل ، وهذا إذا قلنا إن الفرقان هو الزبور ، وفي قوله : (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) قدم الأرض على السماء وإن كانت السماء أكثر في العوالم ، وأكبر في الأجرام ، وأكبر في الدلائل والآيات ، وأجزل في الفضائل لطهارة سكانها ، بخلاف سكان الأرض ، ليعلمهم ، اطلاعه على خفايا أمورهم ، فاهتم بتقديم محلهم عسى أن يزدجروا عن قبيح أفعالهم ، لأنه إذا أنبه على أن الله لا يخفى عليه شيء من أمره ، استحيا منه.

والالتفات (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ) ثم قال (إِنَّ اللهَ) وفي قوله : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) ثم قال (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ).

والتأكيد : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) فاكد بلفظة : هم ، وأكد بقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) قوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وأكد بقوله (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) قوله (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ).

والتوسع بإقامة المصدر مقام اسم الفاعل في قوله : هدى ، والفرقان ، أي : هاديا ، والفارق. وبإقامة الحرف مقام الظرف في قوله : من الله ، أي : عند الله ، على قول من أوّل : من ، بمعنى : عند.

والتجنيس المغاير في قوله : وهب ، والوهاب.

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ

__________________

(١) مكان النقاط اسم غير واضح.

٤١

يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)

العبرة : الاتعاظ يقال : منه اعتبر ، وهو الاستدلال بشيء على شيء يشبهه ، واشتقاقها من العبور ، وهو مجاوزة الشيء إلى الشيء ، ومنه : عبر النهر ، وهو شطه ، والمعبر : السفينة ، والعبارة يعبر بها إلى المخاطب بالمعاني ، وعبرت الرؤيا مخففا ومثقلا : نقلت ما عندك من علمها إلى الرائي أو غيره ممن يجهل : وكان الاعتبار انتقالا عن منزلة الجهل إلى منزلة العلم ، ومنه ، العبرة ، وهي الدمع ، لأنها تجاوز العين.

الشهوة : ما تدعو النفس إليه ، والفعل منه : اشتهى ، ويجمع بالألف والتاء فيقال : شهوات ، ووجدت أنا في شعر العرب جمعها على : شهى ، نحو : نزوة ونزى ، و : كوة وكوى ، على قول من زعم أن : كوى ، جمع كوة بفتح الكاف ، وهذا مع : قرية وقرى ، ذكره النحويون مما جاء على وزن فعلة معتل اللام ، وجمع على فعل ، واستدركت أنا : شهى ، وقالت امرأة من بني نضر بن معاوية :

فلو لا الشّهى والله كنت جديرة

بأن أترك اللذات في كل مشهد

القنطار : فنعال نونه زائدة ، قاله ابن دريد ، فيكون وزنه : فنعالا من : قطر يقطر وقيل : أصل ووزن فعلال ، وفيه خلاف : أهو واقع على عدد مخصوص؟ أم هو وزن لا يحد ولا يحصر؟ والقائلون بأنه عدد مخصوص اختلفوا في ذلك العدد ، ويأتي ذلك في التفسير ، إن شاء الله تعالى.

ويقال منه : قنطر الرجل إذا كان عنده قناطير ، أو قنطار من المال. وقال الزجاج : هو مأخوذ من : قنطرت الشيء ، عقدته وأحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها. وقيل : قنطرته : عبيته شيئا على شيء ، ومنه سمي القنطرة. فشبه المال الكثير الذي يعبى بعضه على بعض بالقنطرة.

٤٢

الذهب : معروف ، وهو مؤنث يجمع على ذهاب وذهوب. وقيل : الذهب جمع ذهبية.

والفضة : معروفة ، وجمعها فضض ، فالذهب مشتق من الذهاب ، والفضة من انفض الشيء : تفرق ، ومنه : فضضت القوم.

الخيل : جمع لا واحد له من لفظه ، بل واحده : فرس. وقيل : واحده خايل ، كراكب وركب ، قاله أبو عبيدة. سميت بذلك لاختيالها في مشيها. وقيل : اشتقاقه من التخيل ، لأنه يتخيل في صورة من هو أعظم منه. وقيل : الاختيال مأخوذ من التخيل.

النعم : الإبل فقط ، قال الفراء : وهو مذكر ولا يؤنث ، يقولون هذا نعم وارد. وقال الهروي : النعم ، يذكر ويؤنث ، وإذا جمع انطلق على الإبل والبقر والغنم. وقال ابن قتيبة :

الأنعام : الإبل والبقر والغنم ، واحدها نعم ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، وسميت بذلك لنعومة مسها وهو لينها ، ومنه : الناعم ، والنعامة ، والنعامى : الجنوب ، سميت بذلك للين هبوبها.

المآب : مفعل من آب يؤوب إيابا. أي : رجع ، يكون للمصدر والمكان والزمان.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) سبب نزولها أن يهود بني قينقاع قالوا بعد وقعة بدر : إن قريشا كانوا أغمارا ، ولو حاربتنا لرأيت رجالا. وقيل : نزلت في قريش قبل بدر بسنتين ، فحقق الله تعالى ذلك. وقيل : لما غلب قريشا ببدر ، قالت اليهود : هو النبي المبعوث الذي في كتابنا ، لا تهزم له راية. فقالت لهم شياطينهم : لا تعجلوا حتى نرى أمره في وقعة أخرى. فلما كانت أحد كفروا جميعهم ، وقالوا : ليس بالنبي المنصور.

وقيل : في أبي سفيان وقومه ، جمعوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد بدر ، فنزلت. ولما أخبر تعالى قيل : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) وأنهم وقود النار (١) ناسب ذلك الوعد الصادق اتباعه هذا الوعد الصادق ، وهو كالتوكيد لما قبله ، فالغلبة تحصل بعدم انتفاعهم بالأموال والأولاد ، والحشر لجهنم مبدأ كونهم يكونون لها وقودا.

وقرأ حمزة ، والكسائي : سيغلبون ويحشرون ، بالياء على الغيبة وقرأ باقي السبعة :

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٠.

٤٣

بالتاء ، خطابا ، فتكون الجملة معمولا للقول. ومن قرأ بالياء فالظاهر أن الضمير : للذين كفروا ، وتكون الجملة إذ ذاك ليست محكية بقل ، بل محكية بقول آخر ، التقدير : قل لهم قولي سيغلبون ، وإخباري أنه يقع عليهم الغلبة والهزيمة. كما قال تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) (١) فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيغلبون ، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيغلبون ، وأجاز بعضهم ، وهو : الفراء ، وأحمد بن يحيى ، وأورده ابن عطية ، احتمالا أن يعود الضمير في : سيغلبون ، في قراءة التاء على قريش ، أي : قل لليهود ستغلب قريش ، وفيه بعد.

والظاهر أن : الذين كفروا ، يعم الفريقين المشركين واليهود ، وكل قد غلب بالسيف ، والجزية ، والذلة ، وظهور الدلائل والحجج ، وإلى معناها الغاية ، وإن جهنم منتهى حشرهم ، وأبعد من ذهب إلى أن : إلى ، في معنى : في ، فيكون المعنى : إنهم يجمعون في جهنم وبئس المهاد ، يحتمل أن يكون من جملة المقول ، ويحتمل أن يكون استئناف كلام منه تعالى ، قاله الراغب ؛ والمخصوص بالذم محذوف لدلالة ما قبله عليه ، التقدير : وبئس المهاد جهنم. وكثيرا ما يحذف لفهم المعنى ، وهذا مما يستدل به لمذهب سيبويه : أنه مبتدأ والجملة التي قبله في موضع الخبر ، إذ لو كان خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر للزم من ذلك حذف الجملة برأسها من غير أن يبقى ما يدل عليها ، وذلك لا يجوز ، لأن حذف المفرد أسهل من حذف الجملة. وأمّا من جعل : المهاد ، ما مهدوا لأنفسهم ، أي : بئسما مهدوا لأنفسهم ، وكان المعنى عنده ، و : بئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم ، ففيه بعد ، ويروى عن مجاهد.

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) قال في (ري الظمآن) : أجمع المفسرون على أنها وقعة بدر ، والخطاب للمؤمنين ، قاله أبن مسعود ، والحسن. فعلى هذا معنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما أمر أن يقول للكفار ما قال ، أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين ، كما قال من قال يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ونحن نأمن على النساء في المذهب ، وكما قال عدي بن حاتم ، حين أخبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : فأين ذعار طيء الذين سعروا البلاد؟ الحديث بكماله.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٣٨.

٤٤

وقيل : الخطاب للكافرين ، وهو ظاهر ، ولا سيما على قراءة من قرأ : ستغلبون ، بالتاء. ويخرج ذلك من قول ابن عباس ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفا لهم ، وإعلاما بأن الله سينصر دينه. وقد أراكم في ذلك مثالا بما جرى لمشركي قريش من الخذلان والقتل والأسر.

وقيل : الخطاب لليهود ، قاله الفراء ، وابن الأنباري وابن جرير ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفا لهم ، كأنه قيل : لا تغتروا بدربتكم في الحرب ، ومنعة حصونكم ، ومجالبتكم لمشركي قريش ، فإن الله غالبكم ، وقد علمتم ما حل بأهل بدر ، ولم يلحق التاء : كان ، وإن كان قد أسند إلى مؤنث ، وهو الآية ، لأجل أنه تأنيث مجازي. وازداد حسنا بالفصل ، وإذا كان الفصل محسنا في المؤنث الحقيقي ، فهو أولى في المؤنث المجازي ، ومن كلامهم : حضر القاضي امرأة. وقال :

إن امرأ غره منكن واحدة

بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور

وقيل : ذكر لأن معنى الآية البيان ، فهو كما قال :

برهرهة رودة رخصة

كخرعوبة البانة المنفطر

ذهب إلى القضيب ، وفي قوله (فِي فِئَتَيْنِ) محذوف تقديره في : قصة فئتين ، ومعنى : التقتا ، أي للحرب والقتال.

(فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ) أي : فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله ، وفئة أخرى تقاتل في سبيل الشيطان ، فحذف من الأولى ما أثبتت مقابله في الثانية ، ومن الثانية ما أثبت نظيره في الأولى ، فذكر في الأولى لازم الإيمان ، وهو القتال في سبيل الله. وذكر في الثانية ملزوم القتال في سبيل الشيطان ، وهو الكفر.

والجمهور برفع : فئة ، على القطع ، التقدير : إحداهما ، فيكون : فئة ، على هذا خبر مبتدأ محذوف ، أو التقدير : منهما ، فيكون مبتدأ محذوف الخبر.

وقيل : الرفع على البدل من الضمير في التقتا.

وقرأ مجاهد ، والحسن ، والزهري وحميد : فئة ، بالجر على البدل التفصيلي ، وهو بدل كل من كل ، كما قال :

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزمان فشلّت

٤٥

ومنهم من رفع : كافرة ، ومنهم من خفضها على العطف ، فعلى هذه القراءة تكون : فئة ، الأولى بدل بعض من كل ، فيحتاج إلى تقدير ضمير أي : فئة منهما تقاتل في سبيل الله ، وترتفع أخرى على وجهي القطع إما على الابتداء وإما على الخبر.

وقرأ ابن السميفع ، وابن أبي عبلة : فئة ، بالنصب. قالوا : على المدح ، وتمام هذا القول : إنه انتصب الأول على المدح ، والثاني على الذم ، كأنه قيل : أمدح فئة تقاتل في سبيل الله ، وأذم أخرى كافرة.

وقال الزمخشري : النصب في : فئة ، على الاختصاص وليس بجيد ، لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهما ، وأجاز هو ، وغيره قبله كالزجاج : أن ينتصب على الحال من الضمير في : التقتا ، وذكر : فئة ، على سبيل التوطئة.

وقرأ الجمهور : تقاتل ، بالتاء على تأنيث الفئة ، وقرأ مجاهد ، ومقاتل : يقاتل بالياء على التذكير ، قالوا : لأن معنى الفئة القوم فرد إليه ، وجرى على لفظه.

(يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) قرأ نافع ، ويعقوب ، وسهل ، ترونهم ، بالتاء على الخطاب وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة وقرأ ابن عباس ، وطلحة : ترونهم بضم التاء على الخطاب وقرأ السلمي بضم الياء على الغيبة ، فأما من قرأ بالتاء المفتوحة فهو جار على ما قبله من الخطاب ، فيكون الضمير في : لكم ، للمؤمنين ، والضمير المرفوع في : ترونهم ، للمؤمنين أيضا. وضمير النصب في : ترونهم ، وضمير الجر في : مثليهم ، عائد على الكافرين ، والتقدير : ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي أنفسهم في العدد ، فيكون ذلك أبلغ في الآية ، أنهم رأوا الكفار في مثلي عددهم ، ومع ذلك نصرهم الله عليهم ، وأوقع المسلمون بهم. وهذه حقيقة التأييد بالنصر ، كقوله تعالى (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) (١) واستبعد هذا المعنى لأنهم جعلوا هذه الآية ، وآية الأنفال ، قصة واحدة ، وهناك نص على أنه تعالى قلل المشركين في أعين المؤمنين ، فلا يجامع هذا التكثير في هذه الآية على هذا التأويل ، ويحتمل على من قرأ بتاء الخطاب أن يكون الخطاب للمؤمنين ، والضمير المنصوب في : ترونهم للكافرين والمجرور للمؤمنين. والتقدير : ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي المؤمنين ، واستبعد هذا إذ كان التركيب يقتضي أن يكون : ترونهم مثليكم.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٩.

٤٦

وأجيب بأنه من الالتفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) (١) ويحتمل أن يعود الضمير في : مثليهم ، على الفئة المقاتلة في سبيل الله ، أي : ترون أيها المؤمنون الفئة الكافرة مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله وهم أنفسهم. والمعنى : ترونهم مثليكم ، وهذا تقليل ، إذ كانوا نيفا على ألف ، والمسلمون في تقدير ثلث. منهم ، فأرى الله المسلمين الكافرين في ضعفي المسلمين على ما قرر في قوله : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) (٢) لتجترؤا عليهم.

وإذن كان الضمير في : لكم ، للكافرين وفي : ترونهم ، الخطاب لهم ، والمنصوب والمجرور للمؤمنين. والتقدير : ترون أيها الكافرون المؤمنين مثلي أنفسهم.

ويحتمل أن يكون الضمير المجرور عائدا على الفئة الكافرة ، أي : مثلي الفئة الكافرة وهم أنفسهم ، فيكون الله تعالى قد أرى المشركين المؤمنين أضعاف أنفس المؤمنين ، أو أضعاف الكافرين على قلة المؤمنين ليهابوهم ويجبنوا عنهم ، وكانت تلك الرؤية مددا من الله للمؤمنين ، كما أمدهم تعالى بالملائكة ، فإن كانت هذه ، وآية الأنفال في قصة واحدة ، فالجمع بين هذا التكثير وذاك التقليل باعتبار حالين ، قللوا أولا في أعين الكفار حتى يجترؤا على ملاقاة المؤمنين ، وكثروا حالة الملاقاة حتى قهروا وغلبوا ، كقوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٣) (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٤) وأما من قرأ بالياء المفتوحة. فالظاهر أن الجملة صفة لقوله : وأخرى كافرة ، وضمير الرفع عائد عليها على المعنى ، إذ لو عاد على اللفظ لكان : تراهم ، وضمير النصب عائد على : فئة تقاتل في سبيل الله ، وضمير الجرّ في : مثليهم ، عائد على فئة أيضا ، وذلك على معنى الفئة ، إذ لو عاد على اللفظ لكان التركيب : تراها مثليها ، أي ترى الفئة الكافرة الفئة المؤمنة في مثلي عدد نفسها. أي : ستمائة ونيف وعشرين ، أو مثلي أنفس الفئة الكافرة ، أي ألفين ، أو قريبا من ألفين.

ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل عائدا على الفئة المؤمنة على المعنى ، والضمير المنصوب والمجرور عائدا على الفئة الكافرة على المعنى ، أي : ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي نفسها.

ويحتمل أن يعود الضمير المجرور على الفئة الكافرة ، أي : مثلي الفئة الكافرة.

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٢٢.

(٢) سورة الأنفال : ٨ / ٦٦.

(٣) سورة الصافات : ٣٧ / ٢٤.

(٤) سورة الرحمن : ٥٥ / ٣٩.

٤٧

والجملة إذ ذاك صفة لقوله : وأخرى كافرة ، ففي الوجه الأول الرابط الواو ، وفي هذا الوجه الرابط ضمير النصب. وإذا كان الضمير في : لكم ، لليهود ؛ فالآية كما أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله لهم احتجاجا عليهم ، وتثبيتا لصورة الوعد السابق من أن الكفار : سيغلبون.

فمن قرأ بالتاء كان معناه : لو حضرتم ، أو : إن كنتم حضرتم ، وساغ هذا الخطاب لوضوح الأمر في نفسه ، ووقوع اليقين به ، لكل إنسان في ذلك العصر ، ومن قرأ بالياء فضمير الفاعل يحتمل أن يكون للفئة المؤمنة ، ويحتمل أن يكون للفئة الكافرة على ما تقرر قبل.

والرؤية في هاتين القراءتين بصرية تتعدّى لواحد ، وانتصب : مثليهم ، على الحال. قاله أبو علي ، ومكي ، والمهدوي. ويقوي ذلك ظاهر قوله : رأي العين ، وانتصابه على هذا انتصاب المصدر المؤكد.

قال الزمخشري : رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات. وقيل : الرؤية هنا من رؤية القلب ، فيتعدى لإثنين ، والثاني هو : مثليهم. ورد هذا بوجهين : أحدهما : قوله تعالى : رأي العين ، والثاني : أن رؤية القلب علم ، ومحال أن يعلم الشيء شيئين.

وأجيب عن الأول : بأن انتصابه انتصاب المصدر التشبيهي ، أي : رأيا مثل رأي العين أي يشبه رأي العين وليس في التحقيق به. وعن الثاني : بأن معنى الرؤية هنا الاعتقاد ، فلا يكون ذلك محالا. وإذا كانوا قد أطلقوا العلم في اللغة على الاعتقاد دون اليقين ، فلأن يطلقوا الرأي عليه أولى. قال تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) (١) أي فإن اعتقدتم إيمانهن ، ويدل على هذا قراءة من قرأ : ترونهم ، بضم التاء ، أو الياء. قالوا : فكأن المعنى أن اعتقاد التضعيف في جمع الكفار أو المؤمنين كان تخمينا وظنا ، لا يقينا. فلذلك ترك في العبارة ضرب من الشك ، وذلك أن : أري ، بضم الهمزة تقولها فيما عندك فيه نظر ، وإذا كان كذلك ، فكما استحال أن يحمل الرأي هنا على العلم ، يستحيل أن يحمل على النظر بالعين ، لأنه كما لا يقع العلم غير مطابق للمعلوم ، كذلك لا يقع النظر البصري مخالفا للمنظور إليه ، فالظاهر أن ذلك إنما هو على سبيل التخمين والظن ، وإنه لتمكن ذلك في اعتقادهم. شبه برؤية العين.

__________________

(١) سورة الممتحنة : ٦٠ / ١٠.

٤٨

والرأي مصدر : رأى ، يقال : رأى رأيا ورؤية ورؤيا ، ويغلب رؤيا في المنام ورؤية في البصرية يقظة ، ورأيا في الاعتقاد ، يقال : هذا رأي فلان ، قال :

رأى الناس إلا من رأى مثل رأيه

خوارج تراكين قصد المخارج

ومعنى : مثليهم ، قدرهم مرتين. وزعم الفراء أن معنى : يرونهم مثليهم ، ثلاثة أمثالهم كقول القائل : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها. وغلطه الزجاج. وقال : إنما مثل الشيء مساو له. ومثلاه مساويه مرتين.

وقال ابن كيسان : أوقع الفراء في هذا التأويل أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المسلمين يوم بدر ، فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلّا على عدتهم ، وهذا بعيد ، وليس المعنى عليه ، وإنما المعنى أراهم الله على غير عدتهم بجهتين : إحداهما : أنه رأى الصلاح في ذلك ، لأن المؤمنين يقوي قلوبهم بذلك. والأخرى : أنه آية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انتهى كلام ابن كيسان.

وتظاهرت الروايات أن جميع الكفار ببدر كانوا نحو الألف أو تسعمائة ، والمؤمنين ثلاثمائة وأربعة عشر. وقيل : وثلاثة عشرة ، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، ورجع طالب بن أبي طالب وأتباع ، وناس كثير حتى بقي للقتال من يقرب من الثلثين ، فذكر الله المثلين ، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه أحد. وحكي عن ابن عباس : أن المشركين كانوا في قتال بدر ستمائة وستة وعشرين ، وقد ذهب الزجاج وغيره إلى أنهم كانوا نحو الألف.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يوم بدر القوم ألف». وقال ابن عباس : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا. وقال في رواية : لقد قللوا في أعيننا حتى لقد قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة. فأسرنا منهم رجلا فقلنا : كم كنتم؟ قال : ألفا. ونقل أن المشركين لما أسروا ، قالوا للمسلمين : كم كنتم؟ قالوا : كنا ثلاثمائة وثلاثة عشرة ، قالوا : ما كنا نراكم إلّا تضعفون علينا! وتكثير كل طائفة في عين الأخرى ، وتقليلها بالنسبة إلى وقتين جائز ، فلا يمتنع.

(وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) أي : يقويه بعونه. وقيل : النصر الحجة. ونسبة التأييد إليه يدل على أن المؤيد هم المؤمنون ، ومفعول : من يشاء ، محذوف أي : من يشاء نصره.

٤٩

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : النصر. وقيل : رؤية الجيش مثليهم (لَعِبْرَةً) أي اتعاظا ودلالة. (لِأُولِي الْأَبْصارِ) إن كانت الرؤية بصرية ، فالمعنى : للذين أبصروا الجمعين ، وإن كانت اعتقادية ، فالمعنى : لذوي العقول السليمة القابلة للاعتبار.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) قرأ الجمهور : زين مبنيا للمفعول ، والفاعل محذوف ، فقيل : هو الله تعالى ، قاله عمر ، لأنه قال حين نزلت : الآن يا رب حين زينتها ، فنزلت (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ) (١) الآية ، ومعنى التزيين : خلقها وإنشاء الجبلة على الميل إليه ، وهذا كقوله : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ) (٢) فزينها تعالى للابتلاء ، ويدل عليه قراءة : زين للناس حب ، مبنيا للفاعل ، وهو الضمير العائد على الله في قوله : (وَاللهُ يُؤَيِّدُ).

وقيل : المزين الشيطان ، وهو ظاهر قول الحسن ، قال : من زينها : ما أحد أشد ذما لها من خالقها! ويصح إسناد التزيين إلى الله تعال بالإيجاد والتهيئة للانتفاع ، ونسبته إلى الشيطان بالوسوسة ، وتحصيلها من غير وجهها. وأشارت الآية إلى توبيخ معاصري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود وغيرهم ، المفتونين بالدنيا ، وأضاف المصدر إلى المفعول ، وهو الكثير في القرآن ، وعبر عن المشتهيات : بالشهوات ، مبالغة. إذ جعلها نفس الأعيان ، وتنبيها على خستها ، لأن الشهوة مسترذلة عند العقلاء ، يذم متبعها ويشهد له بالانتظام في البهائم ، وناهيك لها ذما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره» وأتى بذكر الشهوات أولا مجموعة على سبيل الإجمال ، ثم أخذ في تفسيرها شهوة شهوة ليدل على أن المزين ما هو إلّا شهوة دنيوية لا غير ، فيكون في ذلك تنفير عنها ، وذم لطالبها وللذي يختارها على ما عند الله ، وبدأ في تفصيلها بالأهم فالأهم ، بدأ بالنساء لأنهنّ حبائل الشيطان وأقرب وأكثر امتزاجا : «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكنّ». ويقال ؛ فيهنّ فتنتان : قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام ، وفي البنين فتنة واحدة وهي جمع المال.

وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء ، وفروع عنهنّ ، وشقائق النساء في الفتن ، الولد مبخلة مجبنة :

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٥.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٧.

٥٠

وإنما أولادنا بيننا

أكبادنا تمشي على الأرض

لو هبت الريح على بعضهم

لامتنعت عيني من الغمض

المرء مفتون بابنه وبشعره.

وقدّموا على الأموال لأن حب الإنسان ولده أكثر من حبه ماله ، وحيث ذكر الامتنان والإنعام أو الاستعانة والغلبة. قدمت الأموال على الأولاد.

وظاهر قوله : والبنين ، الذكران. وقيل يشمل : الإناث ، وغلب التذكير.

(وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) ثلث بالأموال لما في المال من الفتنة ، ولأنه يحصل به غالب الشهوات ، ولأن المرء يرتكب الأخطار في تحصيله للولد.

واختلف في : القنطار ، أهو عدد مخصوص ، أم ليس كذلك؟ فقيل : ألف ومائتا أوقية ، وقيل : اثنا عشر ألف أوقية ، وقيل : ألف ومائتا دينار. وكل هذه رويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأول : رواه أبيّ ، وقال به معاذ ، وابن عمر ، وعاصم بن أبي النجود ، والحسن في رواية. والثاني : رواه أبو هريرة وقال به. والثالث : رواه الحسن ، ورواه العوفي عن ابن عباس.

وقيل : اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار ذهبا ، وروي عن ابن عباس ، وعن الحسن ، والضحاك.

وقال ابن المسيب : ثمانون ألفا. وقال مجاهد ، وروي عن ابن عمر : سبعون ألف دينار. وقال السدي : ثمانية آلاف مثقال ، وهي مائة رطل. وقال الكلبي : ألف مثقال ذهب أو فضة. وقال قتادة : مائة رطل من الذهب ، أو ثمانون ألف درهم من الفضة. وقال سعيد بن جبير ، وعكرمة : مائة ألف ، ومائة منّ ، ومائة رطل ، ومائة مثقال ، ومائة درهم. ولقد جاء الإسلام يوم جاء ، وبمكة مائة رجل قد قنطروا. وقيل : أربعون أوقية من ذهب أو فضة ، ذكره مكي ، وقاله ابن سيده في (المحكم). وقيل : ثمانية آلاف مثقال ، وهي مائة رطل. وقال ابن سيده في (المحكم) القنطار : بلغة بربر : ألف مثقال. وروى أنس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) (١) قال : ألف دينار. وحكى الزجاج أنه قيل : إن القنطار هو رطل ذهبا أو فضة. قال ابن عطية ، وأظنه وهما ، وإن القول مائة رطل ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٠.

٥١

فسقطت مائة للناقل. انتهى. وقال أبو حمزة الثمالي : القنطار بلسان إفريقية والأندلس : ثمانية آلاف مثقال وهذا يكون في الزمان الأول.

وأما الآن فهو عندنا : مائة رطل ، والرطل عندنا ، ستة عشر أوقية. وقال أبو بصرة ، وأبو عبيدة : ملء مسك ثور ذهبا. قال ابن سيده : وكذا هو بالسريانية. وقال ابن الكلبي : وكذا هو بلغة الروم. وقال الربيع بن أنس : المال الكثير بعضه على بعض. وقال ابن كيسان : المال العظيم. وقال أبو عبيدة : القنطار عند العرب وزن لا يحد ، وقال الحكم : القنطار ما بين السماء والأرض من مال. وقال ابن عطية : القنطار معيار يوزن به ، كما أن الرطل معيار.

ويقال : لما بلغ ذلك الوزن قنطارا. أي يعدل القنطار ، وأصح الأقوال الأول ، والقنطار يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية. انتهى.

والمقنطرة : مفعللة ، أو مفيعلة من القنطار. ومعناه المجتمعة ، كما يقول : الألوف المؤلفة ، والبدرة المبدرة. اشتقوا منها وصفا للتوكيد. وقيل : المقنطرة المضعفة ، قاله قتادة والطبري.

وقيل : المقنطرة تسعة قناطير ، لأنه جمع جمع ، قاله النقاش. وهذا غير صحيح. وقال ابن كيسان : لا تكون المقنطرة أقل من تسعة. وقال الفراء : لا تكون أكثر من تسعة ، وهذا كله تحكم. وقال السدي : المقنطرة المضروبة دنانير ، أو دراهم. وقال الربيع والضحاك المنضد : الذي بعضه فوق بعض ، وقيل : المخزونة المدخورة. وقال يمان : المدفونة المكنوزة. وقيل : الحاضرة العتيدة ، قاله ابن عطية.

وقال مروان بن الحكم ، ما المال إلّا ما حازته العيان (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) تبيين للقناطير ، وهو في موضع الحال منها ، أي كائنا من الذهب (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) أي : الراعية في المروج ، سامت سرحت وأخذت سومها من الرعي : أي غاية جهدها ، ولم تقصر على حال دون حال ، فيكون قد عدي الفعل بالتضعيف ، كما عدي بالهمزة في قولهم : أسمتها ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، ومجاهد ، والربيع. وروي عن مجاهد : أنها المطهمة الحسان. وقال السدي : هي الرائقة من سيما الحسن. وقال عكرمة : سومها الحسن ، واختاره النحاس.

من قولهم : رجل وسيم ، ولا يكون ذلك لاختلاف المادتين ، إلّا إن ادعى القلب.

٥٢

وقال أبو عبيدة ، والكسائي : المعلّمة بالشيات. وروي عن ابن عباس ، وهو من السومة ، وهي العلامة. قال أبو طالب :

أمين محب للعباد مسوّم

بخاتم ربّ طاهر للخواتم

قال أبو زيد : أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى : وقال ابن فارس في (المجمل) المسومة : هي المرسل عليها ركبانها. وقال ابن زيد : المعدّة للجهاد. وقال ابن المبرد : المعروفة في البلدان. وقال ابن كيسان : البلق. وقيل : ذوات الأوضاح من الغرة والتحجيل. وقيل : هي الهماليج.

(وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) يحتمل أن يكون المعاطيف من قوله : والقناطير ، إلى آخرها. غير ما أتى تبيينا معطوفا على الشهوات ، أي : وحب القناطير وكذا وكذا. ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله : من النساء ، فيكون مندرجا في الشهوات. ولم يجمع الحرث لأنه مصدر في الأصل. وقيل : يراد به المفعول ، وتقدّم الكلام فيه عند قوله (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) (١).

(ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أشار : بذلك ، وهو مفرد إلى الأشياء السابقة وهي كثيرة ، لأنه أراد ذلك المذكور ، أو المتقدم ذكره. والمعنى : تحقير أمر الدنيا ، والإشارة إلى فنائها وفناء ما يستمتع به فيها ، وأدغم أبو عمرو في الإدغام الكبير ثاء : والحرث ، في : ذال : ذلك ، واستضعف لصحة الساكن قبل الثاء.

(وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أي : المرجع ، وهو إشارة إلى نعيم الآخرة الذي لا يفنى ولا ينقطع.

ومن غريب ما استنبط من الأحكام في هذه الآية أن فيها دلالة على إيجاب الصدقة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة ، فالنساء والبنون فيهم النفقة ، وباقيها فيها الصدقة ، قاله الماتريدي.

وذكروا في هذه الآية أنواعا من الفصاحة والبلاغة : الخطاب العام ويراد به الخاص في قوله : (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) على قول عامّة المفسرين هم اليهود ، وهذا من تلوين الخطاب. والتجنيس المغاير : في (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) والاحتراس : في (رَأْيَ الْعَيْنِ) قالوا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٧١.

٥٣

لئلا يعتقد أنه من رؤية القلب ، فهو من باب الحزر وغلبة الظن. والإبهام : في (زُيِّنَ لِلنَّاسِ). والتجنيس المماثل : في (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ). والحذف : في مواضع ، وهي كل موضع يضطر فيه إلى تصحيح المعنى بتقدير محذوف.

قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)

الرضوان : مصدر رضي ، وكسر رائه لغة الحجاز ، وضمها لغة تميم وبكر ، وقيس ، وغيلان. وقيل : الكسر للاسم ، ومنه : رضوان خازن الجنة ، والضم للمصدر.

السحر : بفتح الحاء وسكونها ، قال قوم منهم الزجاج : الوقت قبل طلوع الفجر ، ومنه يقال : تسحر أكل في ذلك الوقت ، واستحر : سار فيه. قال :

بكرن بكورا واستحرت بسحرة

فهنّ لوادي الرس كاليد للفم

واستحر الطائر صاح وتحرك فيه قال :

يعل به برد أنيابها

إذا غرّد الطائر المستحر

وأسحر الرجل واستحر ، دخل في السحر. قال :

وأدلج من طيبة مسرعا

فجاء إلينا وقد أسحرا

وقال بعض اللغويين السحر : من ثلث الليل الآخر إلى الفجر ، وجاء في بعض الأشعار عن العرب أن السحر يستمر حكمه فيما بعد الفجر. وقيل : السحر عند العرب يكون من آخر الليل ثم يستمر إلى الاسفار. وأصل السحر الخفاء للطفه ، ومنه السحر والسحر.

٥٤

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) نزلت حين قال عمر عند ما نزل : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) (١) يا رب الآن حين زينتها. ولما ذكر تعالى أن (عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (٢) ذكر المآب وأنه خير من متاع الدنيا ، لأنه خير خال من شوب المضار ، وباق لا ينقطع. والهمزة في : أؤنبئكم ، الأولى همزة الاستفهام دخلت على همزة المضارعة. وقرىء في السبعة بتحقيق الهمزتين من غير إدخال ألف بينهما ، وبتحقيقهما ، وإدخال ألف بينهما ، وبتسهيل الثانية من غير ألف بينهما. ونقل ورش الحركة إلى اللام ، وحذف الهمزة. وبتسهيلها وإدخال ألف بينهما.

وفي هذه الآية تسلية عن زخارف الدنيا ، وتقوية لنفوس تاركها وتشريف الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، ولما قال : ذلك متاع ، فأفرد ، جاء : بخير من ذلكم ، فأفرد اسم الإشارة ، وإن كان هناك مشارا به إلى ما تقدّم ذكره ، وهو كثير. فهذا مشار به إلى ما أشير بذلك ، و : خير ، هنا أفعل التفضيل ، ولا يجوز أن يراد به خير من الخيور ، ويكون : من ذلكم ، صفة لما يلزم في ذلك من أن يكون ما رغبوا فيه بعضا مما زهدوا فيه.

(لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) يحتمل أن يكون للذين متعلقا بقوله : بخير من ذلكم ، و : جنات ، خبر مبتدأ محذوف أي : هو جنات ، فتكون ذلك تبيينا لما أبهم في قوله : بخير من ذلكم. ويؤيد ذلك قراءة يعقوب : جنات ، بالجر بدلا من : بخير ، كما تقول : مررت برجل زيد ، بالرفع و : زيد بالجر ، وجوّز في قراءة يعقوب أن يكون : جنات ، منصوبا على إضمار : أعني ، ومنصوبا على البدل على موضع بخير ، لأنه نصب. ويحتمل أن يكون : للذين ، خبرا لجنات ، على أن تكون مرتفعة على الابتداء ، ويكون الكلام تم عند قوله : بخير من ذلكم ، ثم بين ذلك الخير لمن هو ، فعلى هذا العامل في : عند ربهم ، العامل في : للذين ، وعلى القول الأول العامل فيه قوله : بخير.

(خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) تقدّم تفسير هذا وما قبله.

(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) بدأ أولا بذكر المقر ، وهو الجنات التي قال فيها (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) (٣) «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» ثم انتقل من ذكرها إلى ذكر ما يحصل به الأنس التامّ من الأزواج المطهرة ، ثم انتقل من ذلك إلى ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم ، فحصل بمجموع ذلك اللذة

__________________

(٢ ـ ١) سورة آل عمران : ٣ / ١٤.

(٣) سورة الزخرف : ٤٣ / ٧١.

٥٥

الجسمانية والفرح الروحاني ، حيث علم برضا الله عنه ، كما جاء في الحديث أنه تعالى : «يسأل أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا.

ففي هذه الآية الانتقال من عال إلى أعلى منه ، ولذلك جاء في سورة براءة ، قد ذكر تعالى الجنات والمساكن الطيبة فقال : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (١) يعنى أكبر مما ذكر من الجنات والمساكن. وقال الماتريدي : أهل الجنة مطهرون لأن العيوب في الأشياء علم الفناء ، وهم خلقوا للبقاء ، وخص النساء بالطهر لما فيهنّ في الدنيا من فضل المعايب والأذى.

وقال أبو بكر : ورضوان ، بالضم حيث وقع إلّا في ثاني العقود ، فعنه خلاف. وباقي السبعة بالكسر ، وقد ذكرنا أنهما لغتان. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي بصير بأعمالهم ، مطلع عليها ، فيجازي كلا بعمله ، فتضمنت الوعد والوعيد. ولما ذكر المتقين أفهم مقابلهم فختم الآية بهذا.

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) لما ذكر أن الجنة للمتقين ذكر شيئا من صفاتهم ، فبدأ بالإيمان الذي هو رأس التقوى ، وذكر دعاءهم ربهم عند الإخبار عن أنفسهم بالإيمان ، وأكد الجملة ب : إن ، مبالغة في الإخبار ، ثم سألوا الغفران ووقايتهم من العذاب مرتبا ذلك على مجرد الإيمان ، فدل على أن الإيمان يترتب عليه المغفرة ، ولا يكون الإيمان عبارة عن سائر الطاعات ، كما يذهب إليه بعضهم ، لأن من تاب وأطاع الله لا يدخله النار بوعده الصادق ، فكان يكون السؤال في أن لا يفعله مما لا ينبغي ، ونظيرها ، (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً) (٢) الآية ، فالصفات الآتية بعد هذا ليست شرائط بل هي صفات تقتضي كمال الدرجات. وقال الماتريدي : مدحهم تعالى بهذا القول ، وفيه تزكية أنفسهم بالإيمان ، والله تعالى نهى عن تزكية الأنفس بالطاعات ، كما قال تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) (٣) فلو كان الإيمان اسما لجميع الطاعات لم يرض منهم التزكية بالإيمان ، كما لم يرضها بسائر الطاعات ، فالآية حجة على من جعل الطاعات من الإيمان ،

__________________

(١) سورة براءة (التوبة) : ٩ / ٧٢.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٩٣.

(٣) سورة النجم : ٥٣ / ٣٢.

٥٦

وفيها دلالة على أن إدخال الاستثناء في الإيمان باطل ، لأنه رضيه منهم دون استثناء. انتهى.

قيل : ولا تدل على شيء من التزكية ولا من الاستثناء ، لأن قولهم : آمنا ، هو اعتراف بما أمروا به ، فلا يكون ذلك تزكية منهم لأنفسهم ، ولأن الاستثناء إنما هو فيما يموت عليه المرء ، لا فيما هو متصف به ، ولا قائل بأن الإيمان الذي يتصف به العبد يجوز الاستثناء فيه ، فإن ذلك محال عقلا.

وأعرب : الذين يقولون ، صفة وبدلا ومقطوعا لرفع أو لنصب ، ويكون ذلك من توابع : (الَّذِينَ اتَّقَوْا) (١) أو من توابع : العباد ، والأول أظهر.

(الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) لما ذكر الإيمان بالقول ، أخبر بالوصف الدّال على حبس النفس على ما هو شاق عليها من التكاليف ، فصبروا على أداء الطاعة ، وعن اجتناب المحارم ، ثم بالوصف الدال على مطابقة الاعتقاد في القلب للفظ الناطق به اللسان ، فهم صادقون فيما أخبروا به من قولهم : (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) وفي جميع ما يخبرون.

وقيل : هم الذين صدقت نياتهم ، واستقامت قلوبهم وألسنتهم في السر والعلانية ، وهذا راجع للقول الذي قبله ، ثم بوصف القنوت ، وتقدم تفسيره في قوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (٢) فأغنى عن إعادته ، ثم بوصف الإنفاق ، لأن ما تقدم هو من الأوصاف التي نفعها مقتصر على المتصف بها لا يتعدى ، فأتى في هذا بالوصف المتعدي إلى غيره ، وهو الإنفاق ، وحذفت متعلقات هذه الأوصاف للعلم بها ، فالمعنى : الصابرين على تكاليف ربهم ، والصادقين في أقوالهم ، والقانتين لربهم ، والمنفقين أموالهم في طاعته ، والمستغفرين الله لذنوبهم في الأسحار ولما ذكر أنهم رتبوا طلب المغفرة على الإيمان الذي هو أصل التقوى ، أخبر أيضا عنهم ، أنهم عند اتصافهم بهذه الأوصاف الشريفة ، هم مستغفرون بالأسحار ، فليسوا يرون اتصافهم بهذه الأوصاف الشريفة مما يسقط عنهم طلب المغفرة ، وخص السحر بالذكر ، وإن كانوا مستغفرين دائما ، لأنه مظنة الإجابة ، كما صح

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١٢. وآل عمران : ٣ / ١٩٨ ، والأعراف : ٧ / ٢٠١ ؛ والرعد : ١٣ / ٣٥ والنحل : ١٦ / ٦٢٨ ؛ ومريم : ١٩ / ٧٢ والزمر : ٣٩ / ٢٠ و ٦١ و ٧٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١١٦ والروم : ٣٠ / ٢٦.

٥٧

في الحديث : «أنه تعالى ، تنزه عن سمات الحدوث ، ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر». وكانت الصحابة : ابن مسعود ، وابن عمر ، وغيرهم يتحرون الأسحار ليستغفروا فيها ، وكان السحر مستحبا فيه الاستغفار لأن العبادة فيه أشق ، ألا تراهم يقولون : إن إغفاءة الفجر من ألذ النوم؟! ولأن النفس تكون إذ ذاك أصفى ، والبدن أقل تعبا ، والذهن أرق وأحد ، إذ قد أجم عن الأشياء الشاقة الجسمانية والقلبية بسكون بدنه ، وترك فكره بانغماره في وارد النوم.

وقال الزمخشري : إنهم كانوا يقدمون قيام الليل ، فيحسن طلب الحاجة فيه (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (١) انتهى. ومعناه ، عن الحسن. وهذه الأوصاف الخمسة هي لموصوف واحد وهم : المؤمنون ، وعطفت بالواو ولم تتبع دون عطف لتباين كل صفة من صفة ، إذ ليست في معنى واحد ، فينزل تغاير الصفات وتباينها منزلة تغاير الذوات فعطفت.

وقال الزمخشري : والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها. انتهى. ولا نعلم العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال.

وقال المفسرون في الصابرين : صبروا عن المعاصي. وقيل : عن المصائب. وقيل : ثبتوا على العهد الأول. وقيل : هم الصائمون.

وقالوا في الصادقين : في الأقوال. وقيل : في القول والفعل والنية. وقيل : في السر والعلانية.

وقالوا في القانتين : الحافظين للغيب. وقال الزجاج : القائمين على العبادة. وقيل : القائمين بالحق. وقيل : الداعين المتضرعين. وقيل : الخاشعين. وقيل : المصلين.

وقالوا في المنفقين : المخرجين المال على وجه مشروع. وقيل : في الجهاد. وقيل : في جميع أنواع البر. وقال ابن قتيبة : في الصدقات.

وقالوا في المستغفرين : السائلين المغفرة ، قاله ابن عباس. وقال ابن مسعود ، وابن عمر ، وأنس ، وقتادة : السائلين المغفرة وقت فراغ البال وخفة الأشغال ، وقال قتادة أيضا : المصلين بالأسحار. وقال زيد بن أسلم : المصلين الصبح في جماعة.

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ١٠.

٥٨

وهذا الذي فسروه كله متقارب.

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) سبب نزولها أن حبرين من الشام قدما المدينة ، فقال أحدهما للآخر : ما أشبه هذه بمدينة النبي الخارج في آخر الزمان ، ثم عرفا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنعت ، فقالا : أنت محمد؟ قال : «نعم». فقالا : أنت أحمد؟ فقال : «نعم». فقالا : نسألك عن شهادة إن أخبرتنا بها آمنا. فقال : «سلاني» فقال أحدهما : أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله ، فنزلت ، وأسلما.

وقال ابن جبير : كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما ، فلما نزلت هذه الآية خرت سجدا.

وقيل : نزلت في نصارى نجران لما حاجوا في أمر عيسى.

وقيل : في اليهود والنصارى لما تركوا اسم الإسلام وتسموا باليهودية والنصرانية.

وقيل : إنهم قالوا : ديننا أفضل من دينك ، فنزلت.

وأصل : شهد ، حضر ، ثم صرفت الكلمة في أداء ما تقرر علمه في النفس ، فأي وجه تقرر من حضور أو غيره. فقيل : معنى : شهد ، هنا : أعلم. قاله المفضل وغيره ، وقال الفرّاء ، وأبو عبيدة : قضى ، وقال مجاهد : حكم ، وقيل : بين. وقال ابن كيسان : شهد بإظهار صنعه.

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

قال الزمخشري : شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره ، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص ، وآية الكرسي وغيرهما بشهادة الشاهد في البيان والكشف ، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك ، واحتجاجهم عليه. انتهى. وهو حسن.

وقال المروزي : ذكر شهادته سبحانه على سبيل التعظيم لشهادة من ذكر بعده ، كقوله : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) (١) انتهى.

ومشاركة الملائكة وأولي العلم لله تعالى في الشهادة من حيث عطفا عليه لصحة

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ١.

٥٩

نسبة الإعلام ، أو صحة نسبة الإظهار والبيان ، وإن اختلفت كيفية الإظهار والبيان من حيث أن إظهاره تعالى بخلق الدلائل ، وإظهار الملائكة بتقريرها للرسل ، والرسل لأولي العلم.

وقال الواحدي : شهادة الله بيانه وإظهاره ، والشاهد هو العالم الذي بيّن ما علمه ، والله تعالى بيّن دلالات التوحيد بجميع ما خلق ، وشهادة الملائكة بمعنى الإقرار كقوله : (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) (١) أي : أقررنا. فنسق شهادة الملائكة على شهادة الله ، وإن اختلفت معنى ، لتماثلهما لفظا. كقوله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) (٢) لأنها من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار والدعاء. وشهادة أولي العلم يحتمل الإقرار ويحتمل التبيين ، لأنهم أقرّوا وبينوا. انتهى.

وقال المؤرج : شهد الله ، بمعنى : قال الله ، بلغة قيس بن غيلان.

و (أُولُوا الْعِلْمِ) قيل : هم الأنبياء. وقيل : مؤمنو أهل الكتاب. وقيل : المهاجرون والأنصار. وقيل : علماء المؤمنين. وقال الحسن : المؤمنون.

والمراد بأولي العلم : من كان من البشر عالما ، لأنهم ينقسمون إلى : عالم وجاهل ، بخلاف الملائكة. فإنهم في العلم سواء.

و (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : مفعول : شهد ، وفصل به بين المعطوف عليه والمعطوف ، ليدل على الاعتناء بذكر المفعول ، وليدل على تفاوت درجة المتعاطفين ، بحيث لا ينسقان متجاورين. وقدم الملائكة على أولي العلم من البشر لأنهم الملأ الأعلى ، وعلمهم كله ضروري ، بخلاف البشر ، فإن علمهم ضروري واكتسابي.

وقرأ أبو الشعثاء : شهد ، بضم الشين مبنيا للمفعول ، فيكون : أنه ، في موضع البدل أي : شهد وحدانية الله وألوهيته. وارتفاع : الملائكة ، على هذه القراءة على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : والملائكة وأولو العلم يشهدون. وحذف الخبر لدلالة المعنى عليه ، ويحتمل أن يكون فاعلا بإضمار فعل محذوف لدلالة شهد عليه ، لأنه إذا بني الفعل للمفعول فإنه قبل ذلك كان مبنيا للفاعل ، والتقدير : وشهد بذلك الملائكة وأولو العلم.

وقرأ أبو المهلب ، عم محارب بن دثار : شهداء الله ، على وزن : فعلاء ، جمعا منصوبا.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٣٠.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥٦.

٦٠