البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

أعلقه بالنساء والربائب ، وأجعل من للاتصال كقوله تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) (١) ، فإني لست منك ولست مني ، ما أنا من دد ولا الدد مني. وأمهات النساء متصلات بالنساء ، لأنهن أمهاتهن. كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن ، لأنهن بناتهن انتهى. ولا نعلم أحدا ذهب إلى أنّ من معاني من الاتصال. وأما ما شبه به من الآية والشعر والحديث ، فمتأول : وإذا جعلنا من نسائكم متعلقا بالنساء ، والربائب كما زعم الزمخشري. فلا بد من صلاحيته لكل من النساء والربائب. فأما تركيبه مع لربائب ففي غاية الفصاحة والحسن ، وهو نظم الآية. وأما تركيبه مع قوله : وأمهات نسائكم ، فإنه يصير : وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ، فهذا تركيب لا يمكن أن يقع في القرآن ، ولا في كلام فصيح ، لعدم الاحتياج في إفادة هذا المعنى إلى قوله : من نسائكم. والدخول هنا كناية عن الجماع لقولهم : بنى عليها ، وضرب عليها الحجاب.

والباء : للتعدية ، والمعنى : اللاتي أدخلتموهن الستر قاله : ابن عباس ، وطاوس ، وابن دينار. فلو طلقها بعد البناء وقبل الجماع ، جاز أن يتزوج ابنتها. وقال عطاء ، ومالك ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث : إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها ، وحرمت على الأب والابن ، وهو أحد قولي الشافعي. واختلفوا في النظر إليها بشهوة ، فقال ابن أبي ليلى : لا يحرم النظر حتى تلمس ، وهو قول الشافعي. وقال مالك : يحرم النظر إلى شعرها ، أو شيء من محاسنها بلذة. وقال الكوفيون : يحرم النظر إلى فرجها بشهوة. وقال الثوري : يحرم إذا كان تعمد النظر إلى فرجها ، ولم يذكر الشهوة. وقال عطاء ، وحماد بن أبي سليمان : إذا نظر إلى فرج امرأة فلا ينكح أمها ولا ابنتها ، وعدوا هذا الحكم إلى الإماء. وقال الحسن : إذا ملك الأمة وغمزها بشهوة ، أو كشفها ، أو قبلها ، لا تحل لولده بحال. وأمر مسروق أن تباع جاريته بعد موته وقال : أما أني لم أصب منها إلا ما يحرمها على ولدي من اللمس والنظر. وجرد عمر أمة خلا بها فاستوهبها ابن له فقال : لا تحل لك.

(فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي : في نكاح الربائب. وليس جواز نكاح الربائب موقوفا على انتفاء مطلق الدخول ، بل لا بد من محذوف مقدر تقديره : فإن لم تكونوا دخلتم بهن ، وفارقتموهن بطلاق منكم إياهن ، أو موت منهن.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٦٧.

٥٨١

(وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) أجمعوا على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء ، وما عقد عليه الأبناء على الآباء كان مع العقد وطء ، أو لم يكن. والحليلة : اسم يختص بالزوجة دون ملك اليمين ، ولذلك جاء في أزواج أدعيائهم. ولما علق حكم التحريم بالتسمية دون الوطء ، اقتضى تحريمهن بالعقد دون شرط الوطء. وجاء الذين من أصلابكم وهو وصف لقوله : أبنائكم ، برفع المجاز الذي يحتمله لفظ أبنائكم إذ كانوا يطلقون على من اتخذته العرب ابنا من غيرهم ، وتبنته ابنا ، كما كانوا يقولون : زيد بن محمد ، إلى أن نزل : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) (١) الآية وكما قالت امرأة أبي حذيفة في سالم : إنا كنا نراه ابنا. وقد تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت عمته ، أميمة بنت عبد المطلب حين فارقها زيد بن حارثة ، وأجمعوا على أن حليلة الابن من الرضاع في التحريم كحليلة الابن من الصلب ، استنادا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وظاهر قوله : وحلائل أبنائكم اختصاص ذلك بالزوجات كما ذكرناه ، واتفقوا على أنّ مطلق عقد الشراء للجارية لا يحرمها على أبيه ولا ابنه ، فلو لمسها أو قبلها حرمت على أبيه وابنه ، لا يختلف في تحريم ذلك. واختلفوا في مجرد النظر بشهوة.

(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أن تجمعوا في موضع رفع لعطفه على مرفوع ، والمعنى : وأن تجمعوا بين الأختين في النكاح ، لأن سياق الآية إنما هو في النكاح ، وإن كان الجمع بين الأختين أعم من أن يكون في زوجين ، أو بملك اليمين. فأما إذا كان على سبيل التزويج ، فأجمعت الأمة على تحريم العقد على ذلك سواء وقع العقدان معا ، أم مرتبا. واختلفوا في تزويج المرأة في عدة أختها : فروي عن زيد ، وابن عباس ، وعبيدة ، وعطاء ، وابن سيرين ، ومجاهد في آخرين من التابعين : أن ذلك لا يجوز فبعضهم أطلق العدة ، وبعضهم قال : إذا كانت من الثلاث وهو قول : أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وزفر ، والثوري ، والحسن بن صالح. وروي عن عروة ، والقاسم ، وخلاس : أنه يجوز له ذلك إذا كانت من طلاق بائن ، وهو قول : مالك والأوزاعي والليث والشافعي. واختلف عن سعيد والحسن وعطاء. والجواز ظاهر الآية ، إذا لم يكن الطلاق رجعيا. وأما الجمع بينهما بملك اليمين فلا خلاف في شرائهما ودخولهما في ملكه ، وأما الجمع بينهما في الوطء :

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٤٠.

٥٨٢

فذهب عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، والزبير ، وابن عمر ، وعمار وزيد : إلى أنه لا يجوز ذلك. وهل ذلك على سبيل الكراهة أو التحريم؟ فذكر ابن المنذر عن جمهور أهل العلم : الكراهة. وذكر عن إسحاق : التحريم وكان المستنصر بالله أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي زكريا بن أبي محمد بن أبي حفص ملك إفريقية قد سأل أحد شيوخنا الذين لقيناهم بتونس ، وهو الشيخ العابد المنقطع أبو العباس أحمد بن علي بن خالص الإشبيلي : ألا ترى عن الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء؟ فأجابه بالمنع ، وكان غيره قد أفتاه بالجواز. واستدل شيخنا على منع ذلك بظاهر قوله : وأن تجمعوا بين الأختين. وروي عن عثمان ، وابن عباس : إباحة ذلك. وإذا اندرج أيضا الجمع بينهما بأن يجمع بينهما في الوطء بتزوج وملك يمين ، فيكون قد تزوج واحدة ، وملك أختها. وقد أكثر المفسرون من الفروع هنا ، وموضع ذلك كتب الفقه.

(إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) استثناء منقطع يتعلق بالأخير ، وهو : أن تجمعوا بين الأختين. والمعنى : لكن ما سلف من ذلك ، ووقع. وأزالت شريعة الإسلام حكمه ، فإن الله يغفره والإسلام يجبه ويدل على عدم المؤاخذة به قوله.

(إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) وقد يكون معنى قوله : إلا ما قد سلف ، فلا ينفسخ به العقد على أختين ، بل يخير بين من شاء منهما ، فيطلق الواحدة ، ويمسك الأخرى كما جاء في حديث فيروز الديلمي : أنه أسلم وتحته أختان فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طلق إحداهما وأمسك الأخرى» وظاهر حديث فيروز : التخيير من غير نظر إلى وقت العقد ، وهو مذهب مالك ، ومحمد ، والليث ، وذهب : أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، والثوري إلى أنه يختار من سبق نكاحها ، فإن كانا في عقد واحد فرق بينه وبينهما. وقال عطاء ، والسدي : هذا الاستثناء يدل على أن ما تقدّم قبل ورود النهي كان مباحا ، هذا يعقوب عليه‌السلام جمع بين أم يوسف وأختها. ويضعف هذا لبعد صحة إسناد قصة يعقوب في ذلك ، وكون هذا التحريم متعلقا بشرعنا نحن ، لا يظهر منه ذكر عفو عنه فيما فعل غيرنا.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الإحصان : التزوج ، أو الحرية ، أو الإسلام ، أو العفة. وعلى هذه المعاني تصرفت هذه اللفظة في القرآن ، ويفسر كل مكان بما يناسبه منها. وروى أبو سعيد أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث جيشا إلى أوطاس ، فلقوا عدوّا وأصابوا سبيا لهن أزواج من المشركين ، فتأثم المسلمون من

٥٨٣

غشيانهن ، فنزلت. فالمحصنات هنا المزوجات. والمستثنى هو السبايا ، فإذا وقعت في سهمه من لها زوج فهي حلال له ، وإلى هذا ذهب : أبو سعيد ، وابن عباس ، وأبو قلابة ، ومكحول ، والزهري ، وابن زيد ، وهذا كما قال الفرزدق :

وذات حليل أنكحتها رماحنا

حلال لمن يبني بها لم تطلق

وقيل : المحصنات المزوجات ، والمستثنى هن الإماء ، فتحرم المزوجات إلا ما ملك منهن بشراء ، أو هبة ، أو صدقة ، أو إرث. فإن مالكها أحق ببضعها من الزوج ، وبيعها ، وهبتها ، والصدقة بها وارثها طلاق لها. وإلى هذا ذهب عبد الله ، وأبي جابر ، وابن عباس أيضا ، وسعيد ، والحسن. وذهب عمرو بن عباس أيضا ، وأبو العالية ، وعبيدة ، وطاووس ، وابن جبير ، وعطاء : إلى أن المحصنات هن العفائف ، وأريد به كل النساء حرام ، والشرائع كلها تقتضي ذلك. والمستثنى معناه : إلا ما ملكت أيمانكم بنكاح أو بملك ، فيدخل ذلك كله تحت ملك اليمين. وبهذا التأويل يكون المعنى تحريم الزنا. وروي عن عمر في المحصنات أنهن الحرائر؟ فعلى هذا يكون قوله : إلا ما ملكت أيمانكم أي بنكاح إن كان الاستثناء متصلا ، وإن كان أريد به الإماء كان منقطعا. قيل : والذي يقتضيه لفظ الإحصان أن تعلق بالقدر المشترك بين معانيه الأربعة ، وإن اختلفت جهات الإحصان ، ويحمل قوله : إلا ما ملكت أيمانكم على ظاهر استعماله في القرآن وفي السنة. وعرف العلماء من أن المراد به الإماء ، ويعود الاستثناء إلى ما صح أن يعود عليه من جهات الإحصان. وكل ما صح ملكها ملك يمين حلت لمالكها من مسبية أو مملوكة مزوجة.

ولم يختلف القراء السبعة في فتح الصاد من قوله : والمحصنات من النساء ، واختلفوا في سوى هذا فقرأ الكسائي : بكسر الصاد ، سواء كان معرفا بالألف واللام ، أم نكرة. وقرأ باقيهم وعلقمة : بالفتح ، كهذا المتفق عليه. وقرأ يزيد بن قطيب : والمحصنات بضم الصاد اتباعا لضمة الميم ، كما قالوا : منتن ، ولم يعتدّوا بالحاجز لأنه ساكن ، فهو حاجز غير حصين. وقال مكي : فائدة قوله : من النساء ، أنّ المحصنات تقع على الأنفس فقوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) (١) لو أريد به النساء خاصة ، لما حدّ من قذف رجلا بنص القرآن ، وأجمعوا على أن حده بهذا النص.

(كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) انتصب بإضمار فعل وهو فعل مؤكد لمضمون الجملة السابقة

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٤.

٥٨٤

من قوله : حرمت عليكم. وكأنه قيل : كتب الله عليكم تحريم ذلك كتابا. ومن جعل ذلك متعلقا بقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (١) كما ذهب إليه عبيدة السلماني ، فقد أبعد وما ذهب إليه الكسائي من أنه يجوز تقديم المفعول في باب الإعراب الظروف والمجرورات مستدلا بهذه الآية ، إذ تقدير ذلك عنده : عليكم كتاب الله أي : الزموا كتاب الله. لا يتم دليله لاحتماله أن يكون مصدرا مؤكدا كما ذكرناه. ويؤكد هذا التأويل قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميفع اليماني : كتب الله عليكم ، جعله فعلا ماضيا رافعا ما بعده ، أي : كتب الله عليكم تحريم ذلك. وروي عن ابن السميفع أيضا أنه قرأ : كتب الله عليكم جمعا ورفعا أي : هذه كتب الله عليكم أي : فرائضه ولازماته.

(وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) لما نص على المحرمات في النكاح أخبر تعالى أنه أحل ما سوى من ذكر ، وظاهر ذلك العموم. وبهذا الظاهر استدلت الخوارج ومن وافقهم من الشيعة على جواز نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها ، والجمع بينهما. وقد أطال الاستدلال في ذلك أبو جعفر الطاوسي أحد علماء الشيعة الاثني عشرية في كتابه في التفسير ، وملخص ما قال : أنه لا يعارض القرآن بخبر آحاد. وهو ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» بل إذا ورد حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرض على القرآن ، فإن وافقه قبل ، وإلا ردّ. وما ذهبوا إليه ليس بصحيح ، لأن الحديث لم يعارض القرآن ، غاية ما فيه أنه تخصيص عموم ، ومعظم العمومات التي جاءت في القرآن لا بد فيها من التخصيصات ، وليس الحديث خبر آحاد بل هو مستفيض ، روي عن جماعة من الصحابة رواه : عليّ ، وابن عباس ، وجابر ، وابن عمر ، وأبو موسى ، وأبو سعيد ، وأبو هريرة ، وعائشة. حتى ذكر بعض العلماء أنه متواتر موجب للعلم والعمل. وذكر ابن عطية : إجماع الأمة على تحريم الجمع ، وكأنه لم يعتد بخلاف من ذكر لشذوذه ، ولا يعدّ هذا التخصيص نسخا للعموم خلافا لبعضهم. وقد خصص بعضهم هذا العموم بالأقارب من غير ذوات المحارم كأنه قيل : وأحلّ لكم ما وراء ذلكم من أقاربكم ، فهي حلال لكم تزويجهن ، وإلى هذا ذهب عطاء والسدي ، وخصه قتادة بالإماء : أي : وأحل لكم ما وراء ذلكم من الإماء. وأبعد عبيدة والسدي في ردّ ذلك إلى مثنى وثلاث ورباع والمعنى : وأحلّ لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح. وقال

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٣.

٥٨٥

السدي أيضا في قوله : ما وراء ذلكم يعني النكاح فيما دون الفرج. والظاهر العموم إلا ما خصته السنة المستفيضة من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ، فيندرج تحت هذا العموم الجمع بين المرأة وبنت عمها ، وبينها وبين بنت عمتها ، وبينها وبين بنت خالها ، أو بنت خالتها. وقد روي المنع من ذلك عن : إسحاق بن طلحة ، وعكرمة ، وقتادة ، وعطاء. وقد نكح حسن بن حسين بن عليّ في ليلة واحدة بنت محمد بن عليّ ، وبنت عمر بن عليّ ، فجمع بين ابنتي عمّ. وقد كره مالك هذا ، وليس بحرام عنده.

قال ابن المنذر : لا أعلم أحدا ، أبطل هذا النكاح وهما داخلتان في جملة ما أبيح بالنكاح ، غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ، ولا إجماع ، وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة انتهى. واندرج تحت هذا العموم أيضا أنه لو زنا بامرأة لم يحرم عليه نكاحها لأجل زناه بها ، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها أو بابنتها. ولو زنا بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم يحرما عليه بذلك ، وعلى هذا أكثر أهل العلم. وروي عن عمران بن حصين والشعبي ، وعطاء ، والحسن ، وسفيان ، وأحمد ، وإسحاق ، أنهما يحرمان عليه ، وبه قال : أبو حنيفة. ويندرج أيضا تحت هذا العموم : أنه لو عبت رجل برجل لم تحرم عليه أمّه ولا ابنته ، وبه قال : مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابه قالوا : لا يحرم النكاح العبث بالرجال. وقال الثوري ، وعبيد الله بن الحسن : هو مثل وطء المرأة سواء في تحريم الأم والبنت ، فمن حرم بهذا من النساء حرم من الرجال. وقال الأوزاعي في غلامين : يعبث أحدهما بالآخر فتولد للمفعول به جارية قال : لا يتزوجها الفاعل.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص : وأحل مبنيا للمفعول ، وهو معطوف على قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) (١). وقرأ باقي السبعة : وأحل مبنيا للفاعل ، والفاعل ضمير يعود على الله تعالى ، وهو أيضا معطوف على قوله : حرمت. ولا فرق في العطف بين أن يكون الفعل مبنيا للفاعل ، أو للمفعول. ولا يشترط المناسبة ولا يختار ، وإن اختلف الفاعل المحذوف لقيام المفعول مقامه ، والفاعل الذي أسند إليه الفعل المبني للفاعل ، فكيف إذا اتحد كهذا ، لأنه معلوم أن الفاعل المحذوف في حرمت : هو الله تعالى ، وهو الفاعل المضمر في : أحلّ المبني للفاعل.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : علام عطف قوله : وأحل لكم؟ (قلت) : على الفعل

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٣.

٥٨٦

المضمر الذي نصب كتاب الله : أي كتب الله عليكم تحريم ذلك ، وأحل لكم ما وراء ذلكم. ويدل عليه قراءة اليماني : كتب الله عليكم ، وأحل لكم. ثم قال : ومن قرأ (وَأُحِلَّ لَكُمْ) على البناء للمفعول ، فقد عطفه على : حرّمت عليكم انتهى كلامه. ففرق في العطف بين القراءتين ، وما اختاره من التفرقة غير مختار. لأن انتصاب كتاب الله عليكم إنما هو انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله : حرمت ، فالعامل فيه وهو كتب ، إنما هو تأكيد لقوله : حرمت ، فلم يؤت بهذه الجملة على سبيل التأسيس للحكم ، إنما التأسيس حاصل بقوله : حرمت ، وهذه جيء بها على سبيل التأكيد لتلك الجملة المؤسسة وما كان سبيله هكذا فلا يناسب أن يعطف عليه الجملة المؤسسة للحكم ، إنما يناسب أن يعطف على جملة مؤسسة مثلها ، لا سيما والجملتان متقابلتان : إذ إحداهما للتحريم ، والأخرى للتحليل ، فناسب أن يعطف هذه على هذه. وقد أجاز الزمخشري ذلك في قراءة من قرأ : وأحل مبنيا للمفعول ، فكذلك يجوز فيه مبنيا للفاعل ، ومفعول أحلّ هو : ما وراء ذلكم.

قال ابن عطية : والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرّمات ، فهو وراء أولئك بهذا الوجه. وقال الفراء : ما وراء ذلكم أي : ما سوى ذلكم. وقال الزجاج : ما دون ذلكم ، أي : ما بعد هذه الأشياء التي حرمت. وهذه التفاسير بعضها يقرب من بعض.

وموضع أن تبتغوا نصب على أنه بدل اشتمال من ما وراء ذلكم ، ويشمل الابتغاء بالمال النكاح والشراء. وقيل : الابتغاء بالمال هو على وجه النكاح. وقال الزمخشري : أن تبتغوا مفعول له ، بمعنى : بين لكم ما يحل مما يحرم ، إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم التي جعل الله لكم قياما في حال كونكم محصنين غير مسافحين لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم ، فتخسروا دنياكم ودينكم ، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين انتهى كلامه. وانظر إلى جعجعة هذه الألفاظ وكثرتها ، وتحميل لفظ القرآن ما لا يدل عليه ، وتفسير الواضح الجلي باللفظ المعقد ، ودس مذهب الاعتزال في غضون هذه الألفاظ الطويلة دسا خفيا إذ فسر قوله : وأحل لكم بمعنى بين لكم ما يحل. وجعل قوله : أن تبتغوا على حذف مضافين : أي إرادة أن يكون ابتغاؤكم ، أي : إرادة كون ابتغائكم بأموالكم. وفسر الأموال بعد بالمهور ، وما يخرج في المناكح ، فتضمن تفسيره : أنه تعالى بين لكم ما يحل لإرادته كون ابتغائكم بالمهور ، فاختصت إرادته بالحلال الذي هو النكاح

٥٨٧

دون السفاح. وظاهر الآية غير هذا الذي فهمه الزمخشري. إذ الظاهر أنه تعالى أحلّ لنا ابتغاء ما سوى المحرمات السابق ذكرها بأموالنا حالة الإحصان ، لا حالة السفاح. وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يعرب : أن تبتغوا مفعولا له ، كما ذهب إليه الزمخشري ، لأنه فات شرط من شروط المفعول له ، وهو اتحاد الفاعل في العامل والمفعول له. لأن الفاعل بقوله : وأحل ، هو الله تعالى. والفاعل في : أن تبتغوا ، هو ضمير المخاطبين ، فقد اختلفا. ولما أحس الزمخشري أن كان أحس بهذا ، جعل أن تبتغوا على حذف إرادة حتى يتحد الفاعل في قوله : وأحلّ ، وفي المفعول له ، ولم يجعل أن تبتغوا مفعولا له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه ، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك. ومفعول تبتغوا محذوف اختصارا ، إذ هو ضمير يعود على ما من قوله : ما وراء ذلكم ، وتقديره : أن تبتغوه.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : أين مفعول تبتغوا؟ (قلت) : يجوز أن يكون مقدرا وهو : النساء ، وأجود أن لا يقدر. وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم انتهى كلامه. فأما تقديره : إذا كان مقدرا بالنساء فإنه لما جعله مفعولا له غاير بين متعلق المفعول له وبين متعلق المعلول. وأما قوله : وأجود أن لا يقدر ، وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم ، فهو مخالف للظاهر ، لأن مدلول تبتغوا ليس مدلول تخرجوا ، ولأن تعدى تبتغوا إلى الأموال بالباء ليس على طريق المفعول به الصريح ، كما هو في تخرجوا ، وهذا كله تكلف ينبغي أن ينزه كتاب الله عنه.

وظاهر قوله : بأموالكم ، أنه يطلق على ما يسمى مالا وإن قلّ وهو قول : أبي سعيد ، والحسن ، وابن المسيب ، وعطاء ، والليث ، وابن أبي ليلى ، والثوري ، والحسن بن صالح ، والشافعي ، وربيعة قالوا : يجوز النكاح على قليل المال وكثيره. وقيل : لا مهر أقل من عشرة دراهم ، وروي عن عليّ ، والشعبي ، والنخعي ، في آخرين من التابعين. وهو قول : أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وزفر ، والحسن ، ومحمد بن زياد. وقال مالك : أقلّ المهر ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وقال أبو بكر الرازي : من كان له درهم أو درهمان لا يقال عنده مال ، وظاهر قوله : بأموالكم يدلّ على أنه لا يجوز أن يكون المهر منفعة ، لا تعليم قرآن ولا غيره ، وقد أجاز أن يكون المهر خدمتها مدة معلومة جماعة من العلماء ، ولهم في ذلك تفصيل. وأجاز أن يكون تعليم سورة من القرآن الشافعي ، ومنع من ذلك : مالك والليث ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وحججهم في كتب الفقه وفي كتب أحكام القرآن.

٥٨٨

والإحصان : العفة ، وتحصين النفس عن الوقوع في الحرام. وانتصب محصنين على الحال ، وغير مسافحين حال مؤكدة ، لأن الإحصان لا يجامع السفاح وكذلك قوله : (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) (١) والمسافحون هم الزانون المبتذلون ، وكذلك المسافحات هن الزواني المبتذلات اللواتي هن سوق للزنا. ومتخذو الأخدان هم الزناة المتسترون الذين يصحبون واحدة واحدة ، وكذلك متخذات الأخدان هن الزواني المتسترات اللواتي يصحبن واحدا واحدا ، ويزنين خفية. وهذان نوعان كانا في زمن الجاهلية قاله : ابن عباس ، والشعبي ، والضحاك ، وغيرهم. وأصل المسافح من السفح ، وهو الصب للمني. وكان الفاجر يقول للفاجرة : سافحيني وماذيني من المذي.

(فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن زيد ، وغيرهم : المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء ، ولو مرة ، فقد وجب إعطاء الأجر وهو المهر ، ولفظة ما تدل على أن يسير الوطء يوجب إيتاء الأجر. وقال الزمخشري : فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة ، أو عقد عليهن ، فآتوهن أجورهن عليه انتهى. وأدرج في الاستمتاع الخلوة الصحيحة على مذهب أبي حنيفة ، إذ هو مذهبه. وقد فسر ابن عباس وغيره الاستمتاع هنا بالوطء ، لأن إيتاء الأجر كاملا لا يترتب إلا عليه ، وذلك على مذهبه ومذهب من يرى ذلك.

وقال ابن عباس أيضا ومجاهد ، والسدي ، وغيرهم : الآية في نكاح المتعة. وقرأ أبي ، وابن عباس ، وابن جبير : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن. وقال ابن عباس لأبي نضرة : هكذا أنزلها الله. وروي عن عليّ أنه قال : لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي. وروي عن ابن عباس : جواز نكاح المتعة مطلقا. وقيل عنه : بجوازها عند الضرورة ، والأصح عنه الرجوع إلى تحريمها. واتفق على تحريمها فقهاء الأمصار. وقال عمران بن حصين : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمتعة ، ومات بعد ما أمرنا بها ، ولم ينهنا عنه قال رجل بعده برأيه ما شاء. وعلى هذا جماعة من أهل البيت والتابعين. وقد ثبت تحريمها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث عليّ وغيره. وقد اختلفوا في ناسخ نكاح المتعة ، وفي كيفيته ، وفي شروطه ، وفيما يترتب عليه من لحاق ولد أو حدّ بما هو مذكور في كتب الفقه ، وكتب أحكام القرآن.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥.

٥٨٩

وما من قوله : فما استمتعتم به منهن ، مبتدأ. ويجوز أن تكون شرطية ، والخبر الفعل الذي يليها ، والجواب : فآتوهن ، ولا بد إذ ذاك من راجع يعود على اسم الشرط. فإن كانت ما واقعة على الاستمتاع فالراجع محذوف تقديره : فأتوهن أجورهن من أجله أي : من أجل ما استمتعتم به. وإن كانت ما واقعة على النوع المستمتع به من الأزواج ، فالراجع هو المفعول بآتوهن وهو الضمير ، ويكون أعاد أولا في به على لفظ ما ، وأعاد على المعنى في : فآتوهن ، ومن في : منهن على هذا يحتمل أن يكون تبعيضا. وقيل : يحتمل أن يكون للبيان. ويجوز أن تكون ما موصولة ، وخبرها إذ ذاك هو : فآتوهن ، والعائد الضمير المنصوب في : فآتوهن إن كانت واقعة على النساء ، أو محذوف إن كانت واقعة على الاستمتاع على ما بين قبل.

والأجور : هي المهور. وهذا نص على أنّ المهر يسمى أجرا ، إذ هو مقابل لما يستمتع به. وقد اختلف في المعقود عليه بالنكاح ما هو؟ أهو بدن المرأة ، أو منفعة العضو ، أو الكل؟ وقال القرطبي : الظاهر المجموع ، فإن العقد يقتضي كل هذا. وإن كان الاستمتاع هنا المتعة ، فالأجر هنا لا يراد به المهر بل العوض كقوله : (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) (١) وقوله : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (٢) وظاهر الآية : أنه يجب المسمى في النكاح الفاسد لصدق قوله : فما استمتعتم به منهن عليه جمهور العلماء ، على أنه لا يجب فيه إلا مهر المثل ، ولا يجب المسمى. والحجة لهم : «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، فإن دخل بها فلها مهر مثلها» وانتصب فريضة على الحال من أجورهن ، أو مصدر على غير الصدر. أي : فآتوهن أجورهن إيتاء ، لأن الإيتاء مفروض. أو مصدر مؤكد أي ؛ فرض ذلك فريضة.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) لما أمروا بإيتاء أجور النساء المستمتع بهن ، كان ذلك يقتضي الوجوب ، فأخبر تعالى أنه لا حرج ولا إثم في نقص ما تراضوا عليه ، أو رده ، أو تأخره. أعني : الرجال والنساء من بعد الفريضة. فلها إن ترده عليه ، وإن تنقص ، وإن تؤخر ، هذا ما يدل عليه سياق الكلام. وهو نظير (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٢٥.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٧٧.

٥٩٠

عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (١) وإلى هذا ذهب الحسن وابن زيد. وقال السدي : هو في المتعة. والمعنى : فيما تراضيتم به من بعد الفريضة زيادة في الأجل ، وزيادة في المهر قبل استبراء الرحم. وقال ابن عباس : في رد ما أعطيتموهن إليكم. وقال ابن المعتمر : فيما تراضيتم به من النقصان في الصداق إذا أعسرتم. وقيل : معناه إبراء المرأة عن المهر ، أو توفيته ، أو توفية الرجل كل المهر إن طلق قبل الدخول. وقيل : فيما تراضيتم به من بعد فرقة ، أو إقامة بعد أداء الفريضة ، وروي عن ابن عباس وقد استدل على الزيادة في المهر بقوله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) ، قيل : لأن ما عموم في الزيادة والنقصان والتأخير والحط والإبراء ، وعموم اللفظ يقتضي جواز الجميع ، وهو بالزيادة أخص منه بغيرها مما ذكرناه ، لأن المرأة والحط والتأجيل لا يحتاج في وقوعه إلى رضا الرجل ، والاقتصار على ما ذكر دون الزيادة يسقط فائدة ذكر تراضيهما. وذهب أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : إلى أن الزيادة في الصداق بعد النكاح جائزة ، وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها. وإن طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة. وقال مالك : تصح الزيادة ، فإن طلقها قبل الدخول رجع ما زادها إليه ، وإن مات عنها قبل أن يقبض فلا شيء لها. وقال الشافعي وزفر : الزيادة بمنزلة هبة مستقبلة إن أقبضها جازت ، وإلا بطلت.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما يصلح أمر عباده.

(حَكِيماً) في تقديره وتدبيره وتشريعه.

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) الطول : السعة في المال قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، والسدي ، وابن زيد ، ومالك في المدونة. وقال ابن مسعود ، وجابر ، وعطاء ، والشعبي ، والنخعي ، وربيعة : الطول هنا الجلد والصبر لمن أحب أمة وهويها حتى صار لا يستطيع أن يتزوج غيرها فله أن يتزوجها ، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة. والمحصنات هنا الحرائر ، يدل على ذلك التقسيم بينهن وبين الإماء. وقالت فرقة : معناه العفائف ، وهو ضعيف.

واختلفوا في جواز نكاح الأمة لواجد طول الحرة. وظاهر الآية يدل على أنّ من لم يستطع ما يتزوج به الحرة المؤمنة وخاف العنت ، فيجوز له أن يتزوج الأمة المؤمنة ، ويكون

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤.

٥٩١

هذا تخصيصا لعموم قوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) (١) فيكون تخصيصا في الناكح بشرط أن لا يجد طول الحرة ويخاف العنت ، وتخصيصا في إمائكم بقوله : من فتياتكم المؤمنات ، وتخصيص جواز نكاح الإماء بالمؤمنات لغير واجد طول الحرة ، هو مذهب أهل الحجاز. فلا يجوز له نكاح الأمة الكتابية ، وبه قال : الأوزاعي ، والليث ، ومالك ، والشافعي. وذهب العراقيون أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد والثوري ومن التابعين الحسن ومجاهد إلى جواز ذلك. ونكاح الأمة المؤمنة أفضل ، فحملوه على الفضل لا على الوجوب. واستدلوا على أنّ الإيمان ليس بشرط بكونه وصف به الحرائر في قوله : أن ينكح المحصنات المؤمنات ، وليس بشرط فيهن اتفاقا ، لكنه أفضل.

وقال ابن عباس : وسع الله على هذه الأمة بنكاح الأمة ، واليهودية ، والنصرانية. وقد اختلف السلف في ذلك اختلافا كثيرا : روي عن ابن عباس ، وجابر ، وابن جبير ، والشعبي ، ومكحول : لا يتزوج الأمة إلا من لا يجد طولا للحرة ، وهذا هو ظاهر القرآن. وروي عن مسروق ، والشعبي : أن نكاحها بمنزلة الميتة والدم ولحم الخنزير ، يعني : أنه يباح عند الضرورة. وروي عن علي ، وأبي جعفر ، ومجاهد ، وابن المسيب ، وابراهيم ، والحسن ، والزهري : أن له نكاحها ، وإن كان موسرا. وروي عن عطاء ، وجابر بن زيد : أنه يتزوجها إن خشي أن يزني بها ، ولو كان تحته حرة. فقال عطاء : يتزوج الأمة على الحرة. وقال ابن مسعود : لا يتزوجها عليها إلا المملوك. وقال عمر ، وعلي ، وابن المسيب ، ومكحول في آخرين : لا يتزوجها عليها. وهذا الذي يقتضيه النظر ، لأن القرآن دل على أنه لا ينكح الأمة إلا من لا يجد طولا للحرة. فإذا كانت تحته حرة ، فبالأولى أن لا يجوز له نكاح الأمة ، لأن وجدان الطول للحرة إنما هو سبب لتحصيلها ، فإذا كانت حاصلة كان أولى بالمنع. وقال ابراهيم : يتزوج الأمة على الحرة إن كان له من الأمة ولد. وقال ابن المسيب : لا ينكحها عليها إلا أن تشاء الحرة ، ويقسم للحرة يومين ، وللأمة يوما وظاهر قوله : فمما ملكت أيمانكم ، جواز نكاح عادم طول الحرة المؤمنة أربعا من الإماء إن شاء. وروي عن ابن عباس : أنه لا يتزوج من الإماء أكثر من واحدة ، وإذا لم يكن شرطا في الأمة الإيمان فظاهر قوله : فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم ، أنه لو كانت الكتابية مولاها كافر لم يجز

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٣٢.

٥٩٢

نكاحها ، لأنه خاطب بقوله : فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، فاختص بفتيات المؤمنين ، وروي عن أبي يوسف : جواز ذلك على كراهة. وإذا لم يكن الإيمان شرطا في نكاح الأمة ، فالظاهر جواز نكاح الأمة الكافرة مطلقا ، سواء كانت كتابية ، أو مجوسية ، أو وثنية ، أم غير ذلك من أنواع الكفار.

وأجمعوا على تحريم نكاح الأمة الكافرة غير الكتابية : كالمجوسية ، والوثنية ، وغيرهما. وأما وطء المجوسية بملك اليمين فأجازه : طاوس ، وعطاء ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار. ودلت على هذا القول ظواهر القرآن في عموم : ما ملكت أيمانكم ، وعموم (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) (١) قالوا : وهذا قول شاذ مهجور ، لم يلتفت إليه أحد من فقهاء الأمصار. وقالوا : لا يحل له أن يطأها حتى تسلم. وقالوا : إنما كان نكاح الأمة منحطا عن نكاح الحرة لما فيه من اتباع الولد لأمه في الرق ، ولثبوت حق سيدها فيها ، وفي استخدامها ، ولتبذلها بالولوج والخروج ، وفي ذلك نقصان نكاحها ومهانته إذ رضي بهذا كله ، والعزة من صفات المؤمنين.

ومن مبتدأ ، وظاهره أنه شرط. والفاء في : فمما ملكت فاء الجواب ، ومن تتعلق بمحذوف تقديره : فلينكح من ما ملكت. ويجوز أن يكون من موصولة ، ويكون العامل المحذوف الذي يتعلق به قوله : مما ملكت جملة في موضع الخبر. ومسوغات دخول الفاء في خبر المبتدأ موجودة هنا. والظاهر أنّ مفعول يستطع هو طولا ، وأن ينكح على هذا أجازوا ، فيه أن يكون أصله بحرف جر ، فمنهم من قدره بإلى ، ومنهم من قدره باللام أي : طولا إلى أن ينكح ، أو لأن ينكح ، ثم حذف حرف الجر ، فإذا قدر إلى ، كان المعنى : ومن لم يستطع منكم وصلة إلى أن ينكح. وإذا قدر باللام ، كان في موضع الصفة التقدير : طولا أي : مهرا كائنا لنكاح المحصنات. وقيل : اللام المقدرة لام المفعول له أي : طولا لأجل نكاح المحصنات ، وأجازوا أن يكون : أن ينكح في موضع نصب على المفعول به ، وناصبة طول. إذ جعلوه مصدر طلت الشيء أي نلته ، قالوا : ومنه قول الفرزدق :

إن الفرزدق صخرة عادية

طالت فليس تنالها الأوعالا

أي طالت الأوعال أي : ويكون التقدير ومن لم يستطع منكم أن ينال نكاح المحصنات. ويكون قد أعمل المصدر المنون في المفعول به كقوله :

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٦.

٥٩٣

بضرب بالسيوف رؤوس قوم

أزلنا هامهن عن المقيل

وهذا على مذهب البصريين إذ أجازوا إعمال المصدر المنون. وإلى أنّ طولا مفعول ليستطع ، وإن ينكح في موضع مفعول بقوله : طولا ، إذ هو مصدر. ذهب أبو علي في التذكرة ، وأجازوا أيضا أن يكون أن ينكح بدلا من طول ، قالوا : بدل الشيء من الشيء ، وهما لشيء واحد ، لأن الطول هو القدرة والنكاح قدرة. وأجازوا أن يكون مفعول يستطع قوله : أن ينكح. وفي نصب قوله : طولا وجهان : أحدهما : أن يكون مفعولا من أجله على حذف مضاف ، أي : ومن لم يستطع منكم لعدم طول نكاح المحصنات. والثاني : قاله : ابن عطية. قال : ويصح أن يكون طولا نصب على المصدر ، والعامل فيه الاستطاعة ، لأنها بمعنى يتقارب. وأن ينكح على هذا مفعول بالاستطاعة ، أو بالمصدر انتهى كلامه. وكأنه يعني أنّ الطول هو استطاعة ، فيكون التقدير : ومن لم يستطع منكم استطاعة أن ينكح.

وما من قوله : فمما ملكت ، موصولة اسمية أي : فلينكح من النوع الذي ملكته أيمانكم. ومن فتياتكم : في موضع الحال من الضمير المحذوف في ما ملكت ، العائد على ما. ومفعول الفعل المحذوف الذي هو فلينكح محذوف ، التقدير : فلينكح أمة مما ملكت أيمانكم. ومن للتبعيض ، نحو : أكلت من الرغيف. وقيل : من في من ما زائدة ، ومفعول ذلك الفعل هو ما من قوله : ما ملكت أيمانكم. وقيل : مفعوله فتياتكم على زيادة من. وقيل : مفعوله المؤمنات ، والتقدير : فلينكح مما ملكت أيمانكم من فتياتكم الفتيات المؤمنات. والأظهر أن المؤمنات صفة لفتياتكم. وقيل : ما مصدرية التقدير ، من ملك إيمانكم. وعلى هذا يتعلق من فتياتكم بقوله : ملكت.

ومن أغرب ما سطروه في كتب التفسير ونقلوه عن قول الطبري : أنّ فاعل ذلك الفعل المحذوف هو قوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (١) وفي الكلام تقديم وتأخير. والتقدير : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضهم من بعض الفتيات ، وهذا قول ينزه حمل كتاب الله عليه ، لأنه قول جمع الجهل بعلم النحو وعلم المعاني ، وتفكيك نظم القرآن عن أسلوبه الفصيح ، فلا ينبغي أن يسطر ولا يلتفت إليه. ومنكم : خطاب للناكحين ، وفي : أيمانكم من فتياتكم خطاب للمالكين ، وليس المعنى أن الرجل ينكح فتاة نفسه ، وهذا التوسع في اللغة كثير.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٥.

٥٩٤

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) لما خاطب المؤمنين بالحكم الذي ذكره من تجويز نكاح عادم طول الحرة المؤمنة للأمة المؤمنة ، نبّه على أنّ الإيمان هو وصف باطن ، وأنّ المطلع عليه هو الله. فالمعنى : أنه لا يشترط في إيمان الفتيات أن يكونوا عالمين بذلك العلم اليقين ، لأن ذلك إنما هو لله تعالى ، فيكفي من الإيمان منهن إظهاره. فمن كانت مظهرة للإيمان فنكاحها صحيح ، وربما كانت خرساء ، أو قريبة عهد بسباء وأظهرت الإيمان ، فيكتفي بذلك منها.

والخطاب في بإيمانكم للمؤمنين ذكورهم وإناثهم ، حرهم ورقهم ، وانتظم الإيمان في هذا الخطاب ، ولم يفردن بذلك فلم يأت ـ والله أعلم ـ بإيمانهن ، لئلا يخرج غيرهن عن هذا الخطاب. والمقصود : عموم الخطاب ، إذ كلهم محكوم عليه بذلك. وكم أمة تفوق حرة في الإيمان وفعل الخير ، وامرأة تفوق رجلا في ذلك ، وفي ذلك تأنيس لنكاح الإماء ، وأن المؤمن لا يعتبر الأفضل الإيمان ، لا فضل الأحساب والأنساب (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ، «لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بالتقوى».

(بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) هذه جملة من مبتدأ وخبر ، وقد تقدم قول الطبري في أن ارتفاع بعضكم على الفاعلية بالفعل المحذوف ، ومعنى هذه الجملة الابتدائية : التأنيس أيضا بنكاح الإماء ، وأن الأحرار والأرقاء كلهم متواصلون متناسبون يرجعون إلى أصل واحد ، وقد اشتركوا في الإيمان ، فليس بضائر نكاح الإماء. وفيه توطئة العرب ، إذ كانت في الجاهلية تستهجن ولد الأمة ، وكانوا يسمونه الهجين ، فلما جاء الشرع أزال ذلك. وما أحسن ما روي عن عليّ من قوله :

الناس من جهة التمثيل أكفاء

أبوهم آدم والأم حواء

(فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) هذا أمر إباحة ، والمعنى : بولاية ملاكهن. والمراد بالنكاح هنا : العقد ، ولذلك ذكر إيتاء الأجر بعده أي المهر. وسمي ملاك الإماء أهلا لهن ، لأنهم كالأهل ، إذ رجوع الأمة إلى سيدها في كثير من الأحكام. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «موالي القوم منهم».

وقيل : هو على حذف مضاف بإذن أهل ولايتهن ، وأهل ولاية نكاحهن هم الملاك. ومقتضى هذا الخطاب أنّ الأدب شرط في صحة النكاح ، فلو تزوجت بغير إذن السيد لم يصح النكاح ، ولو أجازه السيد بخلاف العبد. فإنه لو تزوج بغير إذن سيده فإن مذهب

٥٩٥

الحسن وعطاء ، وابن المسيب ، وشريح ، والشعبي ، ومالك ، وأبي حنيفة : أنّ تزوجه موقوف على إذن السيد ، فإن أجازه جاز ، وإن ردّه بطل. وقال الأوزاعي ، والشافعي ، وداود : لا يجوز ، أجازه المولى أو لم يجزه.

وأجمعوا على أنه لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده ، وكان ابن عمر يعده زانيا ويحدّه ، وهو قول : أبي ثور.

وقال عطاء : لا حد عليه ، وليس بزنا ، ولكنه أخطأ السنة. وهو قول أكثر السلف. وظاهر قوله : بإذن أهلهن أنه يشمل الملاك ذكورا وإناثا ، فيشترط إذن المرأة في تزويج أمتها ، وإذا كان المراد بالإذن هو العقد فيجوز للمرأة أن تزوج أمتها وتباشر العقد ، كما يجوز للذكر. وقال الشافعي : لا يجوز ، بل توكل غيرها في التزويج. وقال الزمخشري : بإذن أهلهن ، اشترط الإذن للموالي في نكاحهن ، ويحتج به لقول أبي حنيفة : إنّ لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن ، لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم.

(وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) الأجور هنا المهور. وفيه دليل على وجوب إيتاء الأمة مهرها لها ، وأنها أحق بمهرها من سيدها ، وهذا مذهب مالك ، قال : ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز. وجمهور العلماء : على أنه يجب دفعه للسيد دونها. قيل : الإماء وما في أيديهن مال الموالي ، فكان أداؤه إليهن أداء إلى الموالي. وقيل : على حذف مضاف أي : وآتوا مواليهن. وقيل : حذف بإذن أهلهن بعد قوله : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) (١) لدلالة قوله : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) (٢) عليه وصار نظيرا (الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) (٣) أي فروجهن ، (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) (٤) أي الله كثيرا.

وقال بعضهم : أجورهن نفقاتهن. وكون الأجور يراد بها المهور هو الوجه ، لأن النفقة تتعلق بالتمكين لا بالعقد. وظاهر قوله : بالمعروف ، أنه متعلق بقوله : وآتوهن أجورهن. قيل : ومعناه بغير مطل وضرار ، وإخراج إلى اقتضاء ولز. وقيل : معناه بالشرع والسنة أي : المعروف من مهور أمثالهن اللاتي ساوينهن في المال والحسب. وقيل : بالمعروف ، متعلق بقوله : فانكحوهن ، أي : فانكحوهن بالمعروف بإذن أهلهن ، ومهر مثلهن ، والإشهاد على ذلك. فإن ذلك هو المعروف في غالب الأنكحة.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٥.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٢٥.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٥.

(٤) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٥.

٥٩٦

(مُحْصَناتٍ) أي عفائف ، ويحتمل مسلمات.

(غَيْرَ مُسافِحاتٍ) أي غير معلنات بالزنا.

(وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أي : ولا متسترات بالزنا مع أخدانهن. وهذا تقسيم الواقع لأن الزانية إما أن تكون لا ترد يد لامس ، وإما أن تقتصر على واحد ، وعلى هذين النوعين كان زنا الجاهلية. قال ابن عباس : كان قوم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي منه. والخدن : هو الصديق للمرأة يزني بها سرا ، فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وانتصاب محصنات على الحال ، والظاهر أنّ العامل فيه : وآتوهن ، ويجوز على هذا الوجه أن يكون معنى محصنات مزوجات أي : وآتوهن أجورهن في حال تزويجهن ، لا في حال سفاح ، ولا اتخاذ خدن. قيل : ويجوز أن يكون العامل في محصنات فانكحوهن محصنات أي : عفائف أو مسلمات ، غير زوان.

(فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) قال الجمهور ومنهم ابن مسعود : الإحصان هنا الإسلام. والمعنى : أن الأمة المسلمة عليها نصف حد الحرة المسلمة. وقد ضعف هذا القول ، بأن الصفة لهن بالإيمان قد تقدّمت في قوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) (١) فكيف يقال في المؤمنات : فإذا أسلمن؟ قاله : إسماعيل القاضي. وقال ابن عطية : ذلك غير لازم ، لأنه جائز أن يقطع في الكلام ويزيد ، فإذا كنّ على هذا الصفة المتقدمة من الإيمان فإن أتين فعليهن ، وذلك سائغ صحيح انتهى. وليس كلامه بظاهر ، لأن أسلمن فعل دخلت عليه أداة الشرط ، فهو مستقبل مفروض التجدد والحدوث فيما يستقبل ، فلا يمكن أن يعبر به عن الإسلام ، لأن الإسلام متقدم سابق لهن. ثم إنه شرط جاء بعد قوله تعالى : (فَانْكِحُوهُنَ) (٢) فكأنه قيل : فإذا أحصن بالنكاح ، فإن أتين.

ومن فسر الإحصان هنا بالإسلام جعله شرطا في وجوب الحد ، فلو زنت الكافرة لم تحد ، وهذا قول : الشعبي ، والزهري ، وغيرهما ، وقد روي عن الشافعي. وقالت فرقة : هو التزويج ، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها قاله : ابن عباس ، والحسن ، وابن جبير ، وقتادة. وقالت فرقة : هو التزوج. وتحد الأمة المسلمة بالسنة تزوجت أو لم

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٥.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٢٥.

٥٩٧

تتزوج ، بالحديث الثابت في صحيح البخاري ومسلم ، وهو أنه قيل : يا رسول الله ، الأمة ، إذا زنت ولم تحصن ، فأوجب عليها الحد». قال الزهري : فالمتزوجة محدودة بالقرآن ، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث. وهذا السؤال من الصحابة يقتضي أنهم فهموا أنّ معنى : فإذا أحصن ، تزوجن. وجواب الرسول : يقتضي تقرير ذلك ، ولا مفهوم لشرط الإحصان الذي هو التزوج ، لأنه وجب عليه الحد بالسنة وإن لم تحصن ، وإنما نبه على حالة الإحصان الذي هو التزوج ، لئلا يتوهم أنّ حدها إذا تزوجت كحد الحرة إذا أحصنت وهو الرجم ، فزال هذا التوهم بالإخبار : أنه ليس عليها إلا نصف الحد الذي يجب على الحرائر اللواتي لم يحصن بالتزويج ، وهو الجلد خمسين.

والمراد بالعذاب الجلد كقوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١) ولا يمكن أن يراد الرجم ، لأنّ الرجم لا يتنصف. والمراد بفاحشة هنا : الزنا ، بدليل إلزام الحد. والظاهر أنه يجب نصف ما على الحرة من العذاب ، والحرة عذابها جلد مائة وتغريب عام ، فحد الأمة خمسون وتغريب ستة أشهر. وإلى هذا ذهب جماعة من التابعين ، واختاره الطبري. وذهب ابن عباس والجمهور : إلى أنه ليس عليها إلا جلد خمسين فقط ، ولا تغرب. فإن كانت الألف واللام في العذاب لعهد العذاب المذكور في القرآن فهو الجلد فقط ، وإن كانت للعهد في العذاب المستقر في الشرع على الحرة كان الجلد والتغريب. والظاهر وجوب الحد من قوله : فعليهن ، فلا يجوز العفو عن الأمة من السيد إذا زنت ، وهو مذهب الجمهور. وذهب الحسن إلى أن للسيد أن يعفو ، ولم تتعرض الآية لمن يقيم الحد عليها.

قال ابن شهاب : مضت السنة أن يحدّ الأمة والعبد في الزنا أهلوهم ، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان ، فليس لأحد أن يفتات عليه. وقال ابن أبي ليلى : أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم. وأقام الحد على عبيدهم جماعة من الصحابة منهم : ابن عمر ، وأنس. وجاءت بذلك ظواهر الأحاديث كقوله : «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد» وبه قال الثوري والأوزاعي. وقال مالك والليث : يحد السيد إلا في القطع ، فلا يقطع إلا الإمام. وقال أبو حنيفة : لا يقيم الحدود على العبيد والإماء إلا السلطان دون الموالي وظاهر الآية يدل على وجوب الحد عليها في حال كونها أمة ، فلو

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٢.

٥٩٨

عتقت قبل أن يقام عليها الحد أقيم عليها حد أمة ، وهذا مجمع عليه. والمحصنات هنا الأبكار الحرائر ، لأنّ الثيب عليها الرجم. وظاهر الآية أنه لا يجب إلا هذا الحدّ. وذهب أهل الظاهر منهم داود : إلى أنه يجب بيعها إذا زنت زنية رابعة.

وقرأ حمزة والكسائي : أحصن مبنيا للفاعل ، وباقي السبعة : مبنيا للمفعول إلا عاصما ، فاختلف عنه. ومن بناه للمفعول فهو ظاهر حدّا في أنه أريد به التزوج ، ويقوي حمله مبنيا للفاعل على هذا المعنى أي : أحصن أنفسهن بالتزويج. وجواب فإذا الشرط وجوابه وهو قوله : فإن أتين بفاحشة فعليهن ، فالفاء في : فإن أتين هي فاء الجواب ، لا فاء العطف ، ولذلك ترتب الثاني ، وجوابه على وجود الأول ، لأنّ الجواب مترتب على الشرط في الوجود ، وهو نظير : إن دخلت الدار فإن كلمت زيدا فأنت طالق ، لا يقع الطلاق إلا إذا دخلت الدار أولا ثم كلمت زيدا ثانيا. ولو أسقطت الفاء من الشرط الثاني لكان له حكم غير هذا ، وتفصيل ذكر في النحو. ومن العذاب في موضع الحال من الضمير المستكن في صلة ما.

(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) ذلك إشارة إلى نكاح عادم طول الحرّة المؤمنة. والعنت : هو الزنا. قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، والضحاك ، وعطية العوفي ، وعبد الرحمن بن زيد. والعنت : أصله المشقة ، وسمي الزنا عنتا باسم ما يعقبه من المشقة في الدنيا والآخرة. قال المبرد : أصل العنت أن يحمله العشق والشبق على الزنا ، فيلقى العذاب في الآخرة ، والحدّ في الدنيا. وقال أبو عبيدة والزجاج : العنت الهلاك. وقالت طائفة : الحد. وقالت طائفة : الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة. وظاهر هذا أنه إذا لم يخش العنت لا يجوز له نكاح الأمة. والذي دلّ عليه ظاهر القرآن : أنه لا يجوز نكاح الحرّ الأمة إلا بثلاثة شروط : اثنان في الناكح وهما : عدم طول الحرّة المؤمنة ، وخوف العنت. وواحد في الأمة وهو الإيمان.

(وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ظاهره الإخبار عن صبر خاص ، وهو غير نكاح الإماء ، وقاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير والسدي : وجهة الخيرية كونه لا يرق ولده ، وأن لا يبتذل هو ، وينتقص في العادة بنكاح الأمة. وفي سنن ابن ماجة من حديث أنس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر» وجاء في الحديث : «انكحوا الأكفاء واختاروا لنطفكم». وقيل : المراد وإن تصبروا عن الزنا بنكاح

٥٩٩

الإماء خير لكم ، وعلى هذا فالخيرية ظاهرة. ويكون على هذا القول في الآية إيناس لنكاح الإماء ، وتقريب منه ، إذ كانت العرب تنفر عنه. وإذا جعل : وإن تصبروا عاما ، اندرج فيه الصبر المقيد وهو : عن نكاح الإماء ، وعن الزنا. إذ الصبر خير ، من عدمه ، لأنه يدل على شجاعة النفس وقوة عزمها ، وعظم إبائها ، وشدة حفاظها. وهذا كله يستحسنه العقل ، ويندب إليه الشرع ، وربما أوجبه في بعض المواضع. وجعل الله تعالى أجر الصابر موفاة بغير حساب ، وقد قال بعض أهل العلم : إنّ سائر العبادات لا بد لها من الصبر. قال تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (١).

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لما ندب بقوله : وأن تصبروا إلى الصبر عن نكاح الإماء ، صار كأنه في حيز الكراهة ، فجاء بصفة الغفران المؤذنة بأنّ ذلك مما سامح فيه تعالى ، وبصفة الرحمة حيث رخص في نكاحهن وأباحه.

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) مفعول يتوب محذوف وتقديره : يريد الله هذا هو مذهب سيبويه فيما نقل ابن عطية ، أي : تحليل ما حلل ، وتحريم ما حرم ، وتشريع ما تقدّم ذكره. والمعنى : يريد الله تكليف ما كلف به عباده مما ذكر لأجل التبيين لهم بهدايتهم ، فمتعلق الإرادة غير التبيين وما عطف عليه ، هذا مذهب البصريين. ولا يجوز عندهم أن يكون متعلق الإرادة التبيين ، لأنه يؤدي إلى تعدي الفعل إلى مفعوله المتأخر بوساطة اللام ، وإلى إضمار أنّ بعد لام ليست لام الجحود ، ولا لام كي ، وكلاهما لا يجوز عندهم. ومذهب الكوفيين : أنّ متعلق الإرادة هو التبيين ، واللام هي الناصبة بنفسها لا أن مضمرة بعدها. وقال بعض البصريين : إذا جاء مثل هذا قدر الفعل الذي قبل اللام بالمصدر فالتقدير : إرادة الله لما يريد ليبين ، وكذلك أريد لا ينسى ذكرها ، أي : إرادتي لا ينسى ذكرها. وكذلك قوله تعالى : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) أي : أمرنا بما أمرنا لنسلم انتهى. وهذا القول نسبه ابن عيسى لسيبويه والبصريين ، وهذا يبحث في علم النحو.

وقال الزمخشري : أصله يريد الله أن يبين لكم ، فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين ، كما زيدت في لا أبا لك لتأكيد إضافة الأب ، والمعنى : يريد الله أن يبين لكم ما خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم انتهى كلامه وهو خارج عن أقوال البصريين والكوفيين.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٤٥.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٧١.

٦٠٠