البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

يريد : يا هذا اعتصم ، و : يا أولاء.

(وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي : يعلم دين إبراهيم الذي حاججتم فيه ، وكيف حال الشرائع في الموافقة. والمخالفة ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، وهو تأكيد لما قبله من نفي العلم عنهم في شأن إبراهيم ، وفي قوله : والله يعلم ، استدعاء لهم أن يسمعوا ، كما تقول لمن تخبره بشيء لا يعلمه : اسمع فإني أعلم ما لا تعلم.

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أعلم تعالى براءة إبراهيم من هذه الأديان ، وبدأ بانتفاء اليهودية ، لأن شريعة اليهود أقدم من شريعة النصارى ، وكرر ، لا ، لتأكيد النفي عن كل واحد من الدينين ، ثم استدرك ما كان عليه بقوله (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) ووقعت لكن هنا أحسن موقعها ، إذ هي واقعة بين النقيضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل.

ولما كان الكلام مع اليهود والنصارى ، كان الاستدارك بعد ذكر الانتفاء عن شريعتهما ، ثم نفى على سبيل التكميل للتبري من سائر الأديان كونه من المشركين ، وهم : عبدة الأصنام ، كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم ، وكالمجوس عبدة النار ، وكالصابئة عبدة الكواكب ، ولم ينص على تفصيلهم ، لأن الإشراك يجمعهم.

وقيل : أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيرا والمسيح ، فتكون هذه الجملة توكيدا لما قبلها من قوله (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) وجاء : من المشركين ، ولم يجىء : وما كان مشركا ، فيناسب النفي قبله ، لأنها رأس آية.

وقال ابن عطية : نفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان ؛ ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية. وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة ، نفي نفس الملل ، وقرر الحال الحسنة ، ثم نفى نفيا بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك ، وهذا كما تقول : ما أخذت لك مالا ، بل حفظته. وما كنت سارقا ، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ. انتهى كلامه.

وتلخص بما تقدم أن قوله. (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أن المشركين عبدة الأصنام والنار والكواكب. والثاني : أنهم اليهود والنصارى. والثالث : عبدة الأوثان واليهود والنصارى.

٢٠١

وقال عبد الجبار : معنى (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) لم يكن على الدين الذي يدين به هؤلاء المحاجون ، ولكن كان على جهة الدين الذي يدين به المسلمون. وليس المراد أن شريعة موسى وعيسى لم تكن صحيحة.

وقال علي بن عيسى : لا يوصف إبراهيم بأنه كان يهوديا ولا نصرانيا لأنهما صفتا ذمّ لاختصاصهما بفرقتين ضالتين ، وهما طريقان محرّفان عن دين موسى وعيسى ، وكونه مسلما لا يوجب أن يكون على شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل كان على جهة الإسلام.

والحنيف : اسم لمن يستقبل في صلاته الكعبة ، ويحج إليها ، ويضحي ، ويختتن. ثم سمي من كان على دين إبراهيم حنيفا. انتهى.

وفي حديث زيد بن عمرو بن نفيل : أنه خرج إلى الشام يسأل عن الدين ، وأنه لقي عالما من اليهود ، ثم عالما من النصارى ، فقال له اليهودي : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. وقال له النصراني : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. فقال زيد : ما أفرّ إلّا من غضب الله ، ومن لعنته. فهل تدلاني على دين ليس فيه هذا؟ قالا : ما نعلمه إلّا أن تكون حنيفا. قال : وما الحنيف؟ قال : دين إبراهيم ، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ، وكان لا يعبد إلّا الله وحده ، فلم يزل رافعا يديه إلى السماء. وقال : اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم.

وقال الرازي ما ملخصه : إن النفي إن كان في الأصول ، فتكون في الموافقة ليهود زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونصاراه. لأنهم غيروا فقالوا : المسيح ابن الله ، وعزير ابن الله. لا في الأصول التي كان عليها اليهود والنصارى الذين كانوا على ما جاء به موسى وعيسى ، وجميع الأنبياء متوافقون في الأصول ، وإن كان في الفروع فلأن الله نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى وعيسى ، وأما موافقته لشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كان في الأصول فظاهر ، وإن كان في الفروع فتكون الموافقة في الأكثر ، وإن خالف في الأقل فلم يقدح في الموافقة.

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) قال ابن عباس : قالت رؤساء اليهود : والله يا محمد ، لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك ، وانه كان يهوديا ، وما بك إلّا الحسد. فنزلت.

وروي حديث طويل في اجتماع جعفر وأصحابه ، وعمرو بن العاص ، وأصحابه.

٢٠٢

بالنجاشي ، وفيه : أن النجاشي قال : لا دهورة اليوم على حزب إبراهيم. أي : لا خوف ولا تبعة ، فقال عمرو : من حزب إبراهيم؟ فقال النجاشي : هؤلاء الرهط وصاحبهم ، يعني : جعفرا وأصحابه. ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لكل نبي ولاة من النبيين ، وإن وليي منهم أبي ، وخليل ربي إبراهيم». ثم قرأ هذه الآية. ومعنى : أولى الناس : أخصهم به وأقربهم منه من الولي ، وهو القرب. والذين اتبعوه يشمل كل من اتبعه في زمانه وغير زمانه ، فيدخل فيه متبعوه في زمان الفترات. وعنى بالأتباع أتباعه في شريعته.

وقال عليّ بن عيسى : أحقهم بنصرته أي : بالمعونة وبالحجة ، فمن تبعه في زمانه نصره بمعونته على مخالفته. ومحمد والمؤمنون نصروه بالحجة له أنه كان محقا سالما من المطاعن ، وهذا النبي : يعني به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخص بالذكر من سائر من اتبعه لتخصيصه بالشرف والفضيلة ، كقوله (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (١).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) قيل : آمنوا من أمّة محمد ، وخصوا أيضا بالذكر تشريفا لهم ، إذ هم أفضل الأتباع للرسل ، كما أن رسولهم أفضل الرسل. وقيل : المؤمنون في كل زمان. وعطف (وَهذَا النَّبِيُ) على خبر إن ، ومن أعرب (وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ والخبر : هم المتبعون له ، فقد تكلف إضمارا لا ضرورة تدعو إليه.

وقرىء : وهذا النبيّ ، بالنصب عطفا على : الهاء ، في اتبعوه ، فيكون متبعا لا متبعا : أي : أحق الناس بإبراهيم من اتبعه ، ومحمدا صلّى الله عليهما وسلّم ، ويكون : والذين آمنوا ، عطفا على خبر : إن ، فهو في موضع رفع.

وقرئ : وهذا النبي ، بالجر ، ووجه على أنه عطف على : إبراهيم ، أي : إن أولى الناس بإبراهيم وبهذا النبي للذين اتبعوا إبراهيم. و : النبي ، قالوا : بدل من هذا ، أو : نعت ، أو : عطف بيان. ونبه على الوصف الذي يكون به الله وليا لعباده ، وهو : الإيمان. فقال : وليّ المؤمنين ، ولم يقل : وليهم. وهذا وعد لهم بالنصر في الدنيا ، وبالفوز في الآخرة. وهذا كما قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا).

قيل : وجمعت هذه الآيات من البلاغة : التنبيه والإشارة والجمع بين حرفي التأكيد ، وبالفصل في قوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) وفي : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) والإختصاص في : (عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) وفي : (وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) والتجوز بإطلاق اسم

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٨.

٢٠٣

الواحد على الجمع في : (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) وبإطلاق اسم الجنس على نوعه في : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) إذا فسر باليهود. والتكرار في : إلا الله ، و : إنّ الله ، وفي : يا أهل الكتاب تعالوا ، يا أهل الكتاب لم. وفي : إبراهيم ، و : ما كان إبراهيم ، و : إن أولى الناس بإبراهيم. والتشبيه في : أربابا ، لما أطاعوهم في التحليل والتحريم ، وأذعنوا إليهم أطلق عليه : أربابا تشبيها بالرب المستحق للعبادة والربوبية ، والإجمال في الخطاب في : يا أهل الكتاب ، تعالوا يا أهل الكتاب ، لم تحاجون ، كقول إبراهيم : يا أبت. يا أبت. وكقول الشاعر :

مهلا بني عمنا مهلا موالينا

لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

وقول الآخر :

بني عمنا لا تنبشوا الشر بيننا

فكم من رماد صار منه لهيب

والتجنيس المماثل في : أولى وولي.

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) أجمع المفسرون على أنها نزلت في : معاذ ، وحذيفة ، وعمار. دعاهم يهود : بني النضير ، وقريظة ، وقينقاع ، إلى دينهم. وقيل : دعاهم جماعة من أهل نجران ومن يهود. وقال ابن عباس : هم اليهود ، قالوا لمعاذ وعمار تركتما دينكما واتبعتما دين محمد ، فنزلت. وقيل : عيرتهم اليهود بوقعة أحد.

وقال أبو مسلم الأصبهاني : ودّ بمعنى : تمنى ، فتستعمل معها : لو ، و : أن ، وربما جمع بينهما ، فيقال : وددت أن لو فعل ، ومصدره : الودادة ، والاسم منه : ودّ ، وقد يتداخلان في المصدر والاسم. قال الراغب : إذا كان : ودّ ، بمعنى أحبّ لا يجوز إدخال : لو فيه أبدا. وقال عليّ بن عيسى : إذا كان : ودّ ، بمعنى : تمنى ، صلح للماضي والحال والمستقبل ، وإذا كان بمعنى المحبة والإرادة لم يصلح للماضي لأن الإرادة كاستدعاء الفعل. وإذا كان للحال والمستقبل جاز : أن ولو ، وإذا كان للماضي لم يجز : أن ، لأن :

٢٠٤

أن ، للمستقبل. وما قال فيه نظر ، ألا ترى أن : أن ، توصل بالفعل الماضي نحو : سرّني أن قمت؟.

(مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) في موضع الصفة لطائفة ، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم. وقال ابن عطية : ويحتمل : من ، أن تكون لبيان الجنس ، وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب ، وما قاله يبعد من دلالة اللفظ ، ولو ، هنا قالوا بمعنى : أن فتكون مصدرية ، ولا يقول بذلك جمهور البصريين ، والأولى إقرارها على وضعها. ومفعول : ودّ ، محذوف ، وجواب : لو ، محذوف ، حذف من كلّ من الجملتين ما يدل المعنى عليه ، التقدير : ودّوا إضلالكم لو يضلونكم لسرّوا بذلك ، وقد تقدم لنا الكلام في نظير هذا مشبعا في قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) (١) فيطالع هناك.

ومعنى : يضلونكم ، يردّونكم إلى كفركم ، قاله ابن عباس. وقيل : يهلكونكم ، قاله ابن جرير ، والدمشقي. قال ابن عطية : واستدل ، يعني ابن جرير الطبري ببيت جرير :

كنت القذى في موج أخضر مزبد

قذف الأتيّ به فضلّ ضلالا

وبقول النابغة :

فآب مضلّوه بعين جلية

وغودر بالجولان حزم ونائل

وهو تفسير غير مخلص ولا خاص باللفظة ، وإنما اطرد له ، لأن هذا الضلال في الآية في البيتين اقترن به هلاك ، وأمّا أن يفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم. انتهى.

وقال غير أبن عطية أضلّ الضلال في اللغة الهلاك من قولهم : ضل اللبن في الماء ، إذا صار مستهلكا فيه. وقيل : معناه يوقعونكم في الضلال ، ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم ، قاله أبو علي.

(وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إن كان معناه الإهلاك فالمعنى أنهم يهلكون أنفسهم وأشياعهم ، لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله وغضبه ، وإن كان المعنى الإخراج عن الدين فذلك حاصل لهم بجحد نبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتغيير صفته صاروا بذلك كفارا ، وخرجوا عن ملة موسى وعيسى. وإن كان المعنى الإيقاع في الضلال ، فذلك حاصل لهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج وإنزال الكتب وإرسال الرسل.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٩٦.

٢٠٥

وقال ابن عطية : إعلام أن سوء فعلهم عائد عليهم ، وأنه يبعدهم عن الإسلام. وقال الزمخشري : وما يعود وبال الضلال إلّا عليهم ، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم ، أو : وما يقدرون على إضلال المسلمين ، وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم. انتهى.

(وَما يَشْعُرُونَ) أن ذلك الضلال هو مختص بهم أي : لا يفطنون لذلك لما دق أمره وخفي عليهم لما اعترى قلوبهم من القساوة ، فهم لا يعلمون أنهم يضلون أنفسهم. ودل ذلك على أن من أخطأ الحق جاهلا كان ضالا ، أو (وَما يَشْعُرُونَ) أنهم لا يصلون إلى إضلالكم ، أو : لا يفطنون بصحة الإسلام ، وواجب عليهم أن يعلموا لظهور البراهين والحجج ، ذكره القرطبي. أو : ما يشعرون أن الله يدل المسلمين على حالهم ، ويطلعهم على مكرهم وضلالتهم ، ذكره ابن الجوزي.

وفي قوله : ما يشعرون ، مبالغة في ذمهم حيث فقدوا المنفعة بحواسهم.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) قال ابن عباس : هي التوراة والإنجيل وكفرهم بها من جهة تغيير الأحكام ، وتحريف الكلام أو الآيات التي في التوراة والإنجيل من وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإيمان به ، كما بين في قوله : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (١) قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وابن جريح. أو : القرآن من جهة قولهم : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ) (٢) (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٣) والآيات التي أظهرها على يديه من : انشقاق القمر ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وغير ذلك. أو : محمد والإسلام ، قاله قتادة ، أو : ما تلاه من أسرار كتبهم وغريب أخبارهم ، قاله ابن بحر. أو : كتب الله ، أو : الآيات التي يبين لهم فيها صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصحة نبوّته ، وأمروا فيها باتباعه ، قاله ابو علي.

(وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) جملة حالية أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون أنها آيات الله ، ومتعلق الشهادة محذوف ، يقدّر على حسب تفسير الآيات ، فيقدّر بما يناسب ما

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٧.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٤.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٢٥. والأنفال : ٨ / ٣١ ، والنحل : ١٦ / ٢٤ ، والمؤمنون : ٢٣ / ٨٣ ، والفرقان : ٢٥ / ٥ ، والنمل : ٢٧ / ٦٨١ ، والأحقاف : ٤٦ / ١٧ ، والقلم : ٦٨ / ١٥ ، والمطففين : ٨٣ / ١٣.

٢٠٦

فسرت به ، فلذلك قال قتادة ، والسدي ، والربيع : وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة.

وقيل : تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها ، وقيل : بما عليكم فيه من الحجة. وقيل : إن كتبكم حق ، ولا تتبعون ما أنزل فيها. وقيل : بصحتها إذا خلوتم.

فيكون : تشهدون ، بمعنى : تقرون وتعترفون. وقال الراغب : أو عنى ما يكون من شهادتهم (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) (١).

وقيل : تكفرون بآيات الله : تنكرون كون القرآن معجزا ، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم أنه معجز.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تقدّم تفسير مثل هذا في قوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) (٢) وفسر : اللبس ، بالخلط والتغطية ، وتكلم المفسرون هنا ، ففسروا الحق بما يجدونه في كتبهم من صفة الرسول ، والباطل الذي يكتبونه بأيديهم ويحرفونه : قال معناه الحسن ، وابن زيد.

وقيل : إظهار الإسلام وإبطال اليهودية والنصرانية ، قال قتادة ، وابن جرير والثعلبي. وقيل : الإيمان بموسى وعيسى ، والكفر بالرسول. وقال أبو علي : يتأولون الآيات التي فيها الدلالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خلاف تأويلها ، ليظهر منها للعوامّ خلاف ما هي عليه ، وأنتم تعلمون بطلان ما تقولون.

وقيل : هو ما ذكره تعالى بعد ذلك من قوله : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ) وقيل : إقرارهم ببعض أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والباطل : كتمانهم لبعض أمره ، وهذان القولان عن ابن عباس. وقيل : إقرارهم بنبوته ورسالته ، والباطل قول أحبارهم : ليس رسولا إلينا ، بل شريعتنا مؤبدة.

وقرأ يحيى بن وثاب : تلبسون ، بفتح الباء مضارع : لبس ، جعل الحق كأنه ثوب لبسوه ، والباء في : بالباطل ، للحال أي : مصحوبا بالباطل.

وقرأ أبو مجلز : تلبسون ، بضم التاء وكسر الباء المشدّدة ، والتشديد هنا للتكثير ، كقولهم : جرّحت وقتلت ، وأجاز الفراء ، والزجاج في : ويكتمون ، النصب ، فتسقط النون

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٢٤.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٤٢.

٢٠٧

من حيث العربية على قولك : لم تجمعون ذا وذا؟ فيكون نصبا على الصرف في قول الكوفيين ، وبإضمار : أن ، في قول البصريين. وأنكر ذلك أبو علي ، وقال : الاستفهام وقع على اللبس فحسب.

وأما : يكتمون ، فخبر حتما لا يجوز فيه إلّا الرفع بمعنى أنه ليس معطوفا على : تلبسون ، بل هو استئناف ، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق ، وقال ابن عطية : قال أبو علي : الصرف هاهنا يقبح ، وكذلك إضمار : أن ، لأن : يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، وبمنزلة ، قولك : أتقوم فأقوم؟ والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب ، إلّا في ضرورة شعر ، كما روي :

وألحق بالحجاز فاستريحا

وقد قال سيبويه : في قولك : أسرت حتى تدخلها ، لا يجوز إلّا النصب ، في : تدخل ، لأن السير مستفهم عنه غير موجب : وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلها ، رفعت ، لأن السير موجب ، والاستفهام إنما وقع عن غيره. انتهى ما نقله ابن عطية عن أبي علي.

والظاهر تعارض ما نقل مع ما قبله ، لأن ما قبله فيه : أن الاستفهام وقع على اللبس فحسب ، وأما : يكتمون ، فخبر حتما لا يجوز فيه إلّا الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أن : يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطف على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون : ويكتمون ، إخبارا محضا لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار أن في جوابه ، تبعه في ذلك ابن مالك. فقال في (التسهيل) حين عد ما يضمر : أن ، لزوما في الجواب ، فقال : أو لإستفهام لا يتضمن وقوع الفعل ، فإن تضمن وقع الفعل لم يجز النصب عنده ، نحو : لم ضربت زيدا ، فيجازيك؟ لأن الضرب قد وقع ولم نر أحدا من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي ، وتبعه فيه ابن مالك في الاستفهام ، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله ، إما لكونه ليس ثم فعل ، ولا ما في معناه ينسبك منه ، وإما لإسحالة سبك مصدر مراد استقباله لأجل مضي الفعل ، فإنما يقدر فيه مصدر استقباله مما يدل عليه المعنى ، فإذا قال : لم ضربت زيدا فأضربك. أي : ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب

٢٠٨

منا ، وما ردّ به أبو عليّ على أبي إسحاق ليس بمتجه. لأن قوله : (لِمَ تَلْبِسُونَ) ليس نصا على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة ، إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره ، لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله. ولو فرضنا أنه ماض حقيقة ، فلا ردّ فيه على أبي إسحاق ، لأنه كما قررنا قبل : إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة ، سبكناه من لازم الجملة.

وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع ، نحو : أين ذهب زيد فنتبعه؟ وكذلك في : كم مالك فنعرفه؟ و : من أبوك فنكرمه؟ لكنه يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير : ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا. و : ليكن منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا. و : ليكن منك إعلام بأبيك فاكرام منا له.

وقرأ عبيد بن عمير : لم تلبسوا ، وتكتموا ، بحذف النون فيهما ، قالوا : وذلك جزم ، قالوا : ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في إلحاق : لم بلم في عمل الجزم. وقال السجاوندي : ولا وجه له إلّا أن : لم ، تجزم الفعل عند قوم كلم. انتهى. والثابت في لسان العرب أن : لم ، لا ينجزم ما بعدها ، ولم أر أحدا من النحويين ذكر أن لم تجري مجرى : لم في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا ، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع ، وقد جاء ذلك في النثر قليلا جدا ، وذلك في قراءة أبي عمرو ، ومن بعض طرقه قالوا : ساحران تظاهرا ، بتشديد الظاء ، أي أنتما ساحران تتظاهران فأدغم التاء في الظاء وحذف النون ، وأما في النظم ، فنحو : قول الراجز :

أبيت أسرى وتبيتي تدلكي

يريد : وتبيتين تدلكين. وقال :

فإن يك قوم سرهم ما صنعتمو

ستحتلبوها لاقحا غير باهل

والظاهر أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل ، وكتم الحق ، وكأن الحق منقسم إلى قسمين : قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز ، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية تنعي عليهم ما التبسوا به من لبس الحق بالباطل وكتمانه ، أي : لا يناسب من علم الحق أن يكتمه ، ولا أن يخلطه بالباطل ، والسؤال عن السبب سؤال عن المسبب ، فإذا أنكر السبب فبالأولى أن ينكر المسبب ، وختمت الآية قبل

٢٠٩

هذه بقوله : (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) وهذه بقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لأن المنكر عليهم في تلك هو الكفر بآيات الله ، وهي أخص من الحق ، لأن آيات الله بعض الحق ، والشهادة أخص من العلم ، فناسب الأخص الأخص ، وهنا الحق أعم من الآيات وغيرها ، والعلم أعم من الشهادة ، فناسب الأعم الأعم. وقالوا في قوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : إنه نبي حق ، وإن ما جاء به من عند الله حق. وقيل : قال : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ليتبين لهم الأمر الذي يصح به التكليف ، ويقوم عليهم به الحجة. وقيل : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الحق بما عرفتموه من كتبكم وما سمعتموه من ألسنة أنبيائكم.

وفي هذه الآيات أنواع من البديع. الطباق في قوله : الحق بالباطل ، والطباق المعنوي في قوله : لم تكفرون وأنتم تشهدون ، لأن الشهادة إقرار وإظهار ، والكفر ستر. والتجنيس المماثل في : يضلونك وما يضلون والتكرار في : أهل الكتاب. والحذف في مواضع قد بينت.

وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قال الحسن ، والسدي : تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عرينة ، وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد ، واكفروا به في آخر النهار ، وقولوا إنا نظرنا في كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمدا ليس كذلك ، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه ، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم ، وقالوا : هم أهل الكتاب فهم أعلم منا ، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم ، فنزلت.

وقال مجاهد ، ومقاتل ، والكلبي : هذا في شأن القبلة ، لما صرفت إلى الكعبة شق

٢١٠

ذلك على اليهود ، فقال كعب بن الأشرف وأصحابه : صلوا إليها أول النهار ، وارجعوا إلى كعبتكم الصخرة آخره ، فنزلت.

وقال ابن عباس ، ومجاهد : صلوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الصبح ، ثم رجعوا آخر النهار فصلوا صلاتهم ليرى الناس أنه قد بدت لهم منه ضلالة بعد أن كانوا اتبعوه ، فنزلت.

وقال السدي : قالت اليهود لسفلتهم : آمنوا بمحمد أول النهار ، فإذا كان بالعشي قولوا : قد عرفنا علماؤنا أنكم لستم على شيء ، فنزلت.

وحكى ابن عطية ، عن الحسن : أن يهود خيبر قالت ذلك ليهود المدينة. انتهى. جعلت اليهود هذا سببا إلى خديعة المسلمين.

والمقول لهم محذوف ، فيحتمل أن يكون بعض هذه الطائفة لبعض ، ويحتمل أن يكون المقول لهم ليسوا من هذه الطائفة ، والمراد : بآمنوا ، أظهروا الإيمان ، ولا يمكن أن يراد به التصديق ، وفي قوله : (بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) حذف أي : على زعمهم ، وإلّا فهم يكذبون ، ولا يصدقون أن الله أنزل شيئا على المؤمنين.

وانتصب : وجه النهار ، على الظرف ومعناه : أول النهار ، شبه بوجه الإنسان إذ هو أول ما يواجه منه.

وقال الربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير بن خزيمة العبسي :

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار

والضمير في : آخره ، عائد على النهار ، أي : آخر النهار.

والناصب للظرف الأول : آمنوا ، وللآخر : اكفروا. وقيل : الناصب لقوله : وجه النهار ، أنزل. أي : بالذي أنزل على الذين آمنوا في أول النهار ، والضمير في : آخره ، يعود على الذي أنزل ، أي : واكفروا آخر المنزل ، وهذا فيه بعد ومخالفة لأسباب النزول ، ومتعلق الرجوع محذوف أي : يرجعون عن دينهم.

وظاهر الآية الدلالة على هذا القول ، وأما امتثال الأمر ممن أمر به فسكوت عن وقوعه ، وأسباب النزول تدل على وقوعه ، وهذا القول طمعوا أن ينخدع العرب به ، أو يقول قائلهم : هؤلاء أهل الكتاب القديم وجودة النظر والإطلاع ، دخلوا في هذا الأمر ورجعوا عنه ، وفيه تثبيت أيضا لضعفائهم على دينهم.

٢١١

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) اللام في : لمن ، قيل : زائدة للتأكيد ، كقوله (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) (١) أي ردفكم ، وقال الشاعر :

ما كنت أخدع للخليل بحله

حتى يكون لي الخليل خدوعا

أراد : ما كنت أخدع الخليل ، والأجود أن لا تكون : اللام ، زائدة بل ضمن ، آمن معنى : أقر واعترف ، فعدى باللام. وقال أبو علي : وقد تعدّى آمن باللام في قوله (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ) (٢) و (آمَنْتُمْ لَهُ) (٣) و (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٤) انتهى. والأجود ما ذكرناه من جملة قول طائفة اليهود ، لأنه معطوف على كلامهم ، ولذلك قال ابن عطية : لا خلاف بين أهل التأويل أن هذا القول من كلام الطائفة. انتهى. وليس كذلك ، بل من المفسرين من ذهب إلى أن ذلك من كلام الله ، يثبت به قلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم ، فأما إذا كان من كلام طائفة اليهود ، فالظاهر أنه انقطع كلامهم إذ لا خلاف ، ولا شك أن قوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) من كلام الله مخاطبا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما بعده يظهر أنه من كلام الله ، وأنه من جملة قوله لنبيه وأن يؤتى مفعول من أجله ، وتقدير الكلام : قل يا محمد لأولئك اليهود الذين قالوا : إن الهدى هدى الله ، لا ما رمتم من الخداع بتلك المقالة ، وذاك الفعل ، لمخافة (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) قلتم ذلك القول ودبرتم تلك المكيدة ، أي : فعلتم ذلك حسدا وخوفا من أن تذهب رئاستكم ، ويشارككم أحد فيما أوتيتم من فضل العلم ، أو يحاجوكم عند ربكم ، أي : يقيمون الحجة عليكم عند الله إذا كتابكم طافح ، بنبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وملزم لكم أن تؤمنوا به وتتبعوه ، ويؤيد هذا المعنى قوله : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) إلى آخره ، ويؤيد هذا المعنى أيضا قراءة ابن كثير أن يؤتى على الاستفهام الذي معناه الإنكار عليهم والتقرير والتوبيخ والاستفهام الذي معناه الإنكار هو مثبت من حيث المعنى ، أي المخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟ أو يحاجوكم عند ربكم قلتم ذلك وفعلتموه؟ ويكون : أو يحاجوكم ، معطوفا على : يؤتى ، وأو : للتنويع ، وأجازوا أن يكون : هدى الله ، بدلا من : الهدى. لا خبرا لأن. والخبر قوله : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) أي أن هدى الله إيتاء أحد مثل ما أوتيتم من العلم ، ويكون : أو يحاجوكم ، منصوبا بإضمار : أن ، بعد أو بمعنى :

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٧٢.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٨٣.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ٧١ ، والشعراء : ٢٦ / ٤٩.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ٦١.

٢١٢

حتى ، أي : حتى يحاجوكم عند ربكم فيغلبوكم ويدحضوا حجتكم عند الله ، لأنكم تعلمون صحة دين الإسلام ، وأنه يلزمكم اتباع هذا النبي ، ولا يكون : أو يحاجوكم ، معطوفا على : يؤتى ، وداخلا في خبر إن ، و : أحد ، في هذين القولين ليس الذي يأتي في العموم مختصا به ، لأن ذلك شرطه أن يكون في نفي ، أو في خبر نفي ، بل : أحد ، هنا بمعنى : واحد ، وهو مفرد ، إذ عنى به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما جمع الضمير في : يحاجوكم ، لأنه عائد على الرسول وأتباعه ، لأن الرسالة تدل على الأتباع. وقال بعض النحويين : إن ، هنا للنفي بمعنى : لا ، التقدير : لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ونقل ذلك أيضا عن الفراء ، وتكون : أو ، بمعنى إلّا ، والمعنى إذ ذاك : لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلّا أن يحاجوكم ، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم ومحاجتكم عند ربكم ، لأن من آتاه الله الوحي لا بد أن يحاجهم عند ربهم في كونهم لا يتبعونه ، فقوله : أو يحاجوكم ، حال من جهة المعنى لازمة ، إذ لا يوحي الله إلى رسول إلّا وهو محاج مخالفيه. وفي هذا القول يكون ، أحد ، هو الذي للعموم. لتقدّم النفي عليه ، وجمع الضمير في : يحاجوكم ، حملا على معنى : أحد ، كقوله تعالى (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (١) جمع حاجزين حملا على معنى : أحد ، لا على لفظه ، إذ لو حمل على لفظه لأفرد.

لكن في هذا القول القول بأن : أن ، المفتوحة تأتي للنفي بمعنى لا ، ولم يقم على ذلك دليل من كلام العرب. والخطاب في : أوتيتم ، وفي : يحاجوكم ، على هذه الأقوال الثلاثة للطائفة السابقة ، القائلة : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ) وأجاز بعض النحويين أن يكون المعنى : أن لا يؤتى أحد ، وحذفت : لا ، لأن في الكلام دليلا على الحذف. قال كقوله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (٢) أي : أن لا تضلوا. وردّ ذلك أبو العباس ، وقال : لا تحذف : لا ، وإنما المعنى : كراهة أن تضلوا ، وكذلك هنا : كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أي : ممن خالف دين الإسلام ، لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين.

والخطاب في : أوتيتم ، و : يحاجوكم ، لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعلى هذا : أن يؤتى مفعول من أجله على حذف كراهة ، ويحتاج إلى تقدير عامل فيه ، ويصعب تقديره ، إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها بكراهة الإيتاء المذكور.

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ٤٧.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٧٦.

٢١٣

وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون قوله : أن يؤتى ، بدلا من قوله : هدى الله ، ويكون المعنى : قل إن الهدى هدى الله وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن. ويكون قوله : أو يحاجوكم ، بمعنى ، أو فليحاجوكم ، فإنهم يغلبونكم. انتهى هذا القول. وفيه الجزم بلام الأمر وهي محذوفة ولا يجوز ذلك على مذهب البصريين إلّا في الضرورة.

وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب : أن يؤتى ، بفعل مضمر يدل عليه قوله (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) كأنه قيل : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا. انتهى كلامه. وهو بعيد ، لأن فيه حذف حرف النهي ومعموله ، ولم يحفظ ذلك من لسانهم. وأجازوا أن يكون قوله (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) ليس داخلا تحت قوله : قل ، بل هو من تمام قول الطائفة ، متصل بقوله : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ويكون قوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) جملة اعتراضية بين ما قبلها وما بعدها.

ويحتمل هذا القول وجوها :

أحدها : أن يكون المعنى : ولا تصدّقوا تصديقا صحيحا وتؤمنوا إلّا لمن جاء بمثل دينكم ، مخافة أن يؤتى أحد من النبوّة والكرامة مثل ما أوتيتم ، ومخافة أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم يستمروا عليه ، وهذا القول ، على هذا المعنى ، ثمرة الحسد والكفر مع المعرفة بصحة نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثاني : أن يكون التقدير : أن لا يؤتى ، فحذفت : لا ، لدلالة الكلام ، ويكون ذلك منتفيا داخلا في حيز : إلّا ، لا مقدرا دخوله قبلها ، والمعنى : ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلّا لمن تبع دينكم ، بانتفاء أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وانتفاء أن يحاجوكم عند ربكم أي : إلّا بانتفاء كذا.

الثالث : أن يكون التقدير : بأن يؤتى ، ويكون متعلقا بتؤمنوا ، ولا يكون داخلا في حيز إلّا ، والمعنى : ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلّا لمن تبع دينكم ، وجاء بمثله ، وعاضدا له ، فإن ذلك لا يؤتاه غيركم. ويكون معنى : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) بمعنى : إلّا أن يحاجوكم ، كما تقول : أنا لا أتركك أو تقضيني حقي ، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة التكذيب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على اعتقاد أن النبوّة لا تكون إلّا في بني إسرائيل.

٢١٤

الرابع : أن يكون المعنى : لا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوّته إذ قد علمتم صحتها إلّا لليهود الذين هم منكم ، و (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) صفة لحال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمعنى : تستروا بإقراركم أن قد أوتي أحد مثل أوتيتم ، أو فإنهم يعنون العرب ، يحاجونكم بالإقرار عند ربكم ، وقال الزمخشري في هذا الوجه ، وبدأ به ما نصه : ولا تؤمنوا ، متعلق بقوله : أن يؤتى أحد ، و : ما بينهما اعتراض ، أي : ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلّا لأهل دينكم دون غيرهم ، أرادوا : أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا لأشياعكم وحدهم دون المسلمين ، لئلا يزيدوا ثباتا ، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) عطف على (أَنْ يُؤْتى) والضمير في : يحاجوكم ، لأحد لأنه في معنى الجميع بمعنى : ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ، ويغالبونكم عند الله بالحجة. انتهى كلامه.

وأما : أحد ، على هذه الأقوال فإن كان الذي للعموم ، وكان ما قبله مقدرا بالنفي ، كقول بعضهم أن المعنى : لا يؤتى ، أو : أن المعنى : أن لا يؤتى أحد ، فهو جار على المألوف في لسان العرب من أنه لا يأتي إلّا في النفي أو ما أشبه النفي : كالنهي ، وإن كان الفعل مثبتا يدخل هنا لأنه تقدم النفي في أول الكلام ، كما دخلت من في قوله : (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ) (١) للنفي قبله في قوله : (ما يَوَدُّ) (٢).

ومعنى الاعتراض على هذه الأوجه أنه أخبر تعالى بأن ما راموا من الكيد والخداع بقولهم : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ) الآية ، لا يجدي شيئا ، ولا يصدّ عن الإيمان من أراد الله إيمانه ، لأن الهدى هو هدى الله ، فليس لأحد أن يحصله لأحد ، ولا أن ينفيه عن أحد.

وقرأ ابن كثير : أن يؤتى أحد؟ بالمدّ على الاستفهام ، وخرجه أبو عليّ على أنه من قول الطائفة ، ولا يمكن أن يحمل على ما قبله من الفعل ، لأن الاستفهام قاطع ، فيكون في موضع رفع على الابتداء وخبره محذوف تقديره تصدّقون به ، أو تعترفون ، أو تذكرونه لغيركم ، ونحوه مما يدل عليه الكلام. و : يحاجوكم ، معطوف على : أن يؤتى.

قال أبو علي : ويجوز أن يكون موضع : أن ، نصبا ، فيكون المعنى : أتشيعون ، أو : أتذكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟ ويكون بمعنى : أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم؟ فعلى

__________________

(٢ ـ ١) سورة البقرة : ٢ / ١٠٥.

٢١٥

كلا الوجهين معنى الآية توبيخ من الأحبار للاتباع على تصديقهم بأن محمدا نبي مبعوث ، ويكون : أو يحاجوكم ، في تأويل نصب أن بمعنى : أو تريدون أن يحاجوكم؟.

قال أبو عليّ : وأحد ، على قراءة ابن كثير هو الذي لا يدل على الكثرة ، وقد منع الاستفهام القاطع من أن يشيع لامتناع دخوله في النفي الذي في أول الكلام ، فلم يبق إلّا أنه : أحد ، الذي في قولك : أحد وعشرون ، وهو يقع في الإيجاب ، لأنه في معنى : واحد ، وجمع ضميره في قوله : أو يحاجوكم ، حملا على المعنى ، إذ : لأحد ، المراد بمثل النبوّة أتباع فهو في المعنى للكثرة. قال أبو عليّ : وهذا موضع ينبغى أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير ، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن يدل على الكثرة. انتهى تخريج أبي علي لقراءة ابن كثير ، وقد تقدم تخريج قراءته على أن يكون قوله : أن يؤتى ، مفعولا من أجله ، على أن يكون داخلا تحت القول من قول الطائفة ، وهو أظهر من جعله من قول الطائفة.

وقد اختلف السلف في هذه الآية ، فذهب السدّي وغيره إلى أن الكلام كله من قوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) إلى آخر الآية مما أمر الله به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله لأمّته.

وذهب قتادة ، والربيع : إلى أن هذا كله من قول الله ، أمره أن يقوله للطائفة التي قالت : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) وذهب مجاهد وغيره إلى أن قوله (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) كله من قول الطائفة لأتباعهم ، وقوله (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) اعتراض بين ما قبله وما بعده من قول الطائفة لأتباعهم. وذهب ابن جريج إلى أن قوله : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) داخل تحت الأمر الذي هو : قل ، يقوله الرسول لليهود ، وتم مقوله في قوله : أوتيتم. وأما قوله : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) فهو متصل بقول الطائفة (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) وعلى هذه الانحاء ترتيب الأوجه السابقة.

وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي حمزة : إن يؤتى ، بكسر الهمزة بمعنى : لم يعط أحد مثل ما أعطيتم من الكرامة ، وهذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام خطابا من الطائفة القائلة؟ ويكون قولها : أو يحاجوكم ، بمعنى : أو ، فليحاجوكم ، وهذا على التصميم على أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتي ، أو يكون بمعنى : إلّا أن يحاجوكم ، وهذا على تجويز : أن

٢١٦

يؤتى ، أحد ذلك إذا قامت الحجة له. هذا تفسير ابن عطية لهذه القراءة ، وهذا على أن يكون من قول الطائفة.

وقال أيضا في تفسيرها : كأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر أمّته أن الله لا يعطي أحدا ، ولا أعطى فيما سلف مثل ما أعطى أمّة محمد من كونها وسطا ، فهذا التفسير على أنه من كلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمّته ، ومندرج تحت : قل.

وعلى التفسير الأول فسرها الزمخشري ، قال : وقرىء : إن يؤتى أحد على : إن ، النافية وهو متصل بكلام أهل الكتاب أي : ولا تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم وقولوا ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم ، أي : ما يؤتون مثله فلا يحاجوكم.

قال ابن عطية : وقرأ الحسن : ان يؤتي أحد ، بكسر التاء على اسناد الفعل إلى : أحد ، والمعنى أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه ، وأظهر ما في هذه القراءة أن يكون خطابا من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته ، والمفعول محذوف تقديره : ان يؤتى أحدا أحدا. انتهى. ولم يتعرّض ابن عطية للفظ : ان ، في هذه القراءة : أهي بالكسر أم بالفتح.

وقال السجاوندي : وقرأ الأعمش : ان يؤتى ، و : الحسن : ان يؤتى أحدا ، جعلا : ان ، نافية ، وإن لم تكن بعد إلّا كقوله تعالى : (فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) (١) و : أو ، بمعنى : إلّا إن ، وهذا يحتمل قول الله عزوجل ، ومع اعتراض : قل ، قول اليهود. انتهى.

وفي معنى : الهدى ، هنا قولان : أحدهما : ما أوتيه المؤمنون من التصديق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثاني : التوفيق والدلالة إلى الخير حتى يسلم ، أو يثبت على الإسلام.

ويحتمل : عند ربكم ، وجهين : أحدهما : أن ذلك في الآخرة. والثاني : عند كتب ربكم الشاهدة عليكم ولكم ، وأضاف ذلك إلى الرب تشريفا ، وكان المعنى : أو يحاجوكم عند الحق ، وعلى هذين المعنيين تدور تفاسير الآية ، فيحمل كل منها على ما يناسب من هذين المعنيين.

(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) هذا توكيد لمعنى (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) وفي ذلك تكذيب لليهود حيث قالو : شريعة موسى مؤبدة ولن يؤتي الله أحدا مثل ما أوتي بنو إسرائيل من النبوّة ، فالفضل هو بيد الله. أي : متصرّف فيه كالشيء في اليد ، وهذه كناية

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٢٦.

٢١٧

عن قدرة التصرّف والتمكن فيها ، والباري تعالى منزه عن الجارحة. ثم أخبر بأنه يعطيه من أراد ، فاختصاصه بالفضل من شاء ، إنما سببه الإرادة فقط ، وفسر : الفضل ، هنا بالنبوّة أشرف أفراده.

(وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) تقدّم تفسيره.

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) قال الحسن ، ومجاهد ، والربيع : يفرد بنبوّته من يشاء. وقال ابن جريج : بالإسلام والقرآن. وقال ابن عباس ، ومقاتل : الإسلام. وقيل : كثرة الذكر لله تعالى.

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تقدّم تفسير هذا وتفسير ما قبله في آخر آية : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) (١) وتضمنت هذه الآيات من البديع : التجنيس المماثل ، والتكرار في : آمنوا وآمنوا ، وفي الهدى ، هدى الله وفي : يؤتى وأوتيتم ، وفي : ان أفضل ، وذو الفضل. والتكرار أيضا في : اسم الله ، في أربعة مواضع. والطباق : في آمنوا واكفروا ، وفي وجه النهار وفي آخره ، والإختصاص. في : وجه النهار ، لأنه وقت اجتماعهم بالمؤمنين يراؤونهم ، وآخره لأنه وقت خلوتهم بأمثالهم من الكفار ، والحذف في مواضع.

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٠٥.

٢١٨

وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)

الدينار : معروف وهو أربعة وعشرون قيراطا ، والقيراط : ثلاث حبات من وسط الشعير ، فمجموعه : اثنتان وسبعون حبة ، وهو مجمع عليه. وفاؤه بدل من نون ، يدل على ذلك الجمع ، قالوا : دنانير ، وأصله : دنار ، أبدل من أول المثلين ، كما أبدلوا من النون في ثالث الأمثال ياء في : تظنيت. أصله تظننت ، لأنه من الظن ، وهو بدل مسموع ، والدينار : لفظ أعجمي تصرّفت فيه العرب وألقته بمفردات كلامها.

دام : ثبت ، والمضارع : يدوم ، فوزنه ، فعل نحو قال : يقول ، قال الفراء : هذه لغة الحجاز ، وتميم تقول : دمت ، بكسر الدال. قال : ويجتمعون في المضارع ، يقولون : يدوم. وقال أبو إسحاق يقول : دمت تدام ، مثل : نمت تنام ، وهي لغة ، فعلى هذا يكون وزن دام ، فعل بكسر العين ، نحو : خاف يخاف. والتدويم الاستدارة حول الشيء. ومنه قول ذي الرمة :

والشمس حيرى لها في الجوّ تدويم

وقال علقمة في وصف خمر :

تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها

ولا يخالطها في الرأس تدويم

والدوام : الدوار ، يأخذ في رأس الإنسان فيرى الأشياء تدور به. وتدويم الطائر في السماء ثبوته إذا صف واستدار. ومنه : الماء الدائم ، كأنه يستدير حول مركزه.

لوى الحبل والتوى : فتله ثم استعمل في الإراغة في الحجج والخصومات ، ومنه : ليان الغريم : وهو دفعه ومطله ، ومنه : خصم ألوى : شديد الخصومة ، شبهت المعاني بالإجرام.

اللسان : الجارحة المعروفة. قال أبو عمرو : اللسان يذكر ويؤنث ، فمن ذكر جمعه ألسنة ومن أنث جمعه ألسنا. وقال الفراء : اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلّا مذكرا. انتهى. ويعبر باللسان عن الكلام ، وهو أيضا يذكر ويؤنث إذا أريد به ذلك.

الرباني : منسوب إلى الرب ، وزيدت الألف والنون مبالغة. كما قالوا : لحياني ،

٢١٩

وشعراني ، ورقباني. فلا يفردون هذه الزيادة عن ياء النسبة. وقال قوم : هو منسوب إلى ربان ، وهو معلم الناس وسائسهم ، والألف والنون فيه كهي في : غضبان وعطشان ، ثم نسب إليه فقالوا : رباني ، فعلى هذا يكون من النسب في الوصف ، كما قالوا : أحمري في أحمر ، و : دواري في دوّار ، وكلا القولين شاذ لا يقاس عليه.

درس الكتاب يدرسه : أدمن قراءته وتكريره ، ودرس المنزل : عفا ، وطلل دارس : عاف.

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) الجمهور على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى أخبر الله تعالى بذم الخونة منهم ، فظاهره أن في اليهود والنصارى من يؤتمن فيفي ومن يؤتمن فيخون. وقيل : أهل الكتاب عنى به أهل القرآن ، قاله ابن جريج. وهذا ضعيف جدا لما يأتي بعده من قولهم : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) وقيل : المراد بأهل الكتاب : اليهود ، لأن هذا القول (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) لم يقله ولا يعتقده إلّا اليهود.

وقيل : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم. و : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) هم اليهود لغلبة الخيانة عليهم. وعين منهم كعب بن الأشرف وأصحابه. وقيل : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) هم من أسلم من أهل الكتاب. و : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) من لم يسلم منهم.

وروي أنه بايع بعض العرب بعض اليهود وأودعوهم فخانوا من أسلم ، وقالوا : قد خرجتم عن دينكم الذي عليه بايعناكم ، وفي كتابنا : لا حرمة لأموالكم ، فكذبهم الله تعالى. قيل : وهذا سبب نزول هذه الآية.

وعن ابن عباس : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ) هو عبد الله بن سلام ، استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا ، فأدّاه إليه. و : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) فنحاص بن عازوراء استودعه رجل من قريش دينارا فجحده وخانه. انتهى. ولا ينحصر الشرط في ذينك المعينين ، بل كل منهما فرد ممن يندرج تحت : من. ألا ترى كيف جمع في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا) قالوا والمخاطب بقوله : تأمنه ، هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا خلاف ، ويحتمل

٢٢٠