البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

أي : يصوركم في الأرحام قادرا على تصويركم مالكا ذلك. وقيل : التقدير في هذه الحال : يصوركم على مشيئته ، أي مريدا ، فيكون حالا من ضمير اسم الله ، ذكره أبو البقاء ، وجوّز أن يكون حالا من المفعول ، أي : يصوركم منقلبين على مشيئته.

وقال الحوفي : يجوز أن تكون الجملة في موضع المصدر ، المعنى : يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة ، وكما يشاء.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كرر هذه الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى ، وانحصارها فيه ، توكيدا لما قبلها من قوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وردا على من ادعى إلهية عيسى ، وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة ، إذ من هذان الوصفان له ، هو المتصف بالإلهية لا غيره ، ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير ، والحكمة الموجبة لتصوير الأشياء على الإتقان التام.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) مناسبة هذا لما قبله أنه : لما ذكر تعديل البنية وتصويرها على ما يشاء من الأشكال الحسنة ، وهذا أمر جسماني ، استطرد إلى العلم ، وهو أمر روحاني. وكان قد جرى لوفد نجران أن من شبههم قوله (وَرُوحٌ مِنْهُ) (١) فبيّن أن القرآن منه محكم العبارة قد صينت من الاحتمال ، ومنه متشابه ، وهو ما احتمل وجوها.

ونذكر أقاويل المفسرين في المحكم والمتشابه.

وقد جاء وصف القرآن بأن آياته محكمة ، بمعنى كونه كاملا ، ولفظه أفصح ، ومعناه أصح ، لا يساويه في هذين الوصفين كلام ، وجاء وصفه بالتشابه بقوله : (كِتاباً مُتَشابِهاً) (٢) معناه يشبه بعضه بعضا في الجنس والتصديق. وأما هنا فالتشابه ما احتمل وعجز الذهن عن التمييز بينهما ، نحو : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) (٣) (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) (٤) أي : مختلف الطعوم متفق المنظر ، ومنه : اشتبه الأمران ، إذا لم يفرق بينهما. ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وتقول : الكلمة الموضوعة لمعنى لا يحتمل غيره نص ، أو يحتمل راجحا أحد الاحتمالين على الآخر ، فبالنسبة إلى الراجح ظاهر ، وإلى المرجوح

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٧١ والمجادلة : ٥٨ / ٢٢.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٢٣.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٧٠.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٥.

٢١

مؤوّل ، أو يحتمل من غير رجحان ، فمشترك بالنسبة إليهما ، ومجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما. والقدر المشترك بين النص والظاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤوّل هو المتشابه ، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين.

قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك : المحكم الناسخ ، والمتشابه المنسوخ. وقال مجاهد ، وعكرمة : المحكم : ما بيّن تعالى حلاله وحرمه فلم تشتبه معانيه ، والمتشابه : ما اشتبهت معانيه. وقال جعفر بن محمد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والشافعي : المحكم ما لا يحتمل إلّا وجها واحدا ، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها. وقال ابن زيد : المحكم : ما لم تتكرر ألفاظه ، والمتشابه : ما تكررت. وقال جابر بن عبد الله ، وابن دئاب ، وهو مقتضى قول الشعبي والثوري وغيرهما : المحكم ما فهم العلماء تفسيره ، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه : كقيام الساعة ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج عيسى.

وقال أبو عثمان : المحكم ، الفاتحة. وقال محمد بن الفضل : سورة الإخلاص ، لأن ليس فيها إلّا التوحيد فقط. وقال محمد بن إسحاق : المحكمات ما ليس لها تصريف ولا تحريف. وقال مقاتل : المحكمات خمسمائة آية ، لأنها تبسط معانيها ، فكانت أمّ فروع قيست عليها وتولدت منها ، كالأم يحدث منها الولد ، ولذلك سماها : أم الكتاب ، والمتشابه : القصص والأمثال.

وقال يحيى بن يعمر : المحكم الفرائض ، والوعد والوعيد ؛ والمتشابه : القصص والأمثال. وقيل : المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال. والمتشابه ما كان معاني أحكامه غير معقولة ، كأعداد الصلوات ، واختصاص الصوم بشهر رمضان دون شعبان. وقيل : المحكم ما تقرر من القصص بلفظ واحد ، والمتشابه ما اختلف لفظه ، كقوله : (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) (١) (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (٢) و (قُلْنَا احْمِلْ) (٣) و (فَاسْلُكْ) (٤).

وقال أبو فاختة : المحكمات فواتح السور المستخرج منها السور : كألم والمر. وقيل : المتشابه فواتح السور ، بعكس الأول. وقيل : المحكمات : التي في سورة الأنعام إلى آخر الآيات الثلاث ، والمتشابهات : آلم والمر ، وما اشتبه على اليهود من هذه

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٢٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٠٧ والشعراء : ٢٦ / ٣٢.

(٣) سورة هود : ١١ / ٤٠.

(٤) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٢٧.

٢٢

ونحوها ، حين سمعوا : آلم ، فقالوا : هذه بالجمل : أحد وسبعون ، فهو غاية أجل هذه الأمة ، فلما سمعوا : الر ، وغيرها ، اشتبهت عليهم. أو : ما اشتبه من النصارى من قوله : (وَرُوحٌ مِنْهُ) (١).

وقيل : المتشابهات ما لا سبيل إلى معرفته ، كصفة الوجه ، واليدين ، واليد ، والاستواء.

وقيل : المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله ، نحو قوله : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) (٢) الآيات و (قَضى رَبُّكَ) (٣) الآيات وما سوى المحكم متشابه.

وقال أكثر الفقهاء : المحكمات التي أحكمت بالإبانة ، فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها ، لأنها ظاهرة بينة ، والمتشابهات : ما خالفت ذلك. وقال ابن أبي نجيح : المحكم ما فيه الحلال والحرام. وقال ابن خويز منداذ : المتشابه ما له وجوه واختلف فيه العلماء ، كالآيتين في الحامل المتوفى عنها زوجها ، عليّ وابن عباس يقولان : تعتد أقصى الأجلين ، وعمر ، وزيد ، وابن مسعود يقولون : وضع الحمل. وخلافهم في النسخ ، وكالاختلاف في الوصية للوراث هل نسخت أم لا. ونحو تعارض الآيتين : أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ؟ نحو : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (٤) يقتضي الجمع بين الأقارب بملك اليمين (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) (٥) يمنع من ذلك؟

ومعنى : أم الكتاب ، معظم الكتاب ، إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل. وقال يحيى بن يعمر : هذا كما يقال لمكة : أم القرى ، ولمرو : أم خراسان ، و : أم الرأس : لمجتمع الشؤون ، إذ هو أخطر مكان.

وقال ابن زيد : جماع الكتاب ، ولم يقل : أمهات ، لأنه جعل المحكمات في تقدير شيء واحد ، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء وآخر ، وأحدهما أم للآخر ، ونظيره (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (٦) ولم يقل : اثنين ، ويحتمل أن يكون : هنّ ، أي كل واحدة منهنّ ، نحو : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) (٧) أي كل واحد منهم. قيل : ويحتمل أن

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٧١ ، وسورة المجادلة : ٥٨ / ٢٢.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٥١.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٢٣.

(٤) سورة النساء : ٣ / ٢٤.

(٥) سورة النساء : ٣ / ٢٣.

(٦) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٥٠.

(٧) سورة النور : ٢٤ / ٤.

٢٣

أفراد في موضع الجمع. نحو : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) (١) وقال الزمخشري : أمّ الكتاب أي أصل الكتاب ، تحمل المتشابهات عليها ، وترد إليها. ومثال ذلك : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٢) (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٣) (لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (٤) (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) (٥) انتهى. وهذا على مذهبه الاعتزالي في أن الله لا يرى ، فجعل المحكم لا تدركه الأبصار. والمتشابه قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٦).

وأهل السنة يعكسون هذا ، أو يفرقون بين الإدراك والرؤية. وذكر من المحكم : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (٧) (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) (٨) ومتشابهه : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (٩) ظاهر النسيان ضد العلم ، ومرجوحه الترك. وأرباب المذاهب مختلفون في المحكم والمتشابه ، فما وافق المذهب فهو عندهم محكم ، وما خالف فهو متشابه. فقوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (١٠) عند المعتزلة محكم (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١١) متشابه. وغيرهم بالعكس.

وصرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل ، فإن كان لفظيا فلا يتم إلّا بحصول التعارض ، وليس الحمل على أحدهما أولى من العكس ، ولا قطع في الدليل اللفظي ، سواء كان نصا أو أرجح لتوقفه على أمور ظنية ، وذلك لا يجوز في المسائل الأصولية. فإذن المصير إلى المرجوح لا يكون بواسطة الدلالة العقلية القاطعة ، وإذا علم صرفه عن ظاهره فلا يحتاج إلى تعيين المراد ، لأن ذلك يكون ترجيح مجاز على مجاز ، وتأويل على تأويل.

ومن الملاحدة من طعن في القرآن لاشتماله على المتشابه ، وقال : يقولون ، ان تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم القيامة ، ثم إنا نراه يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) (١٢) (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) (١٣). والقدري يقول : هذا مذهب الكفار في معرض الذم لهم في قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٧.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٣.

(٦ ـ ٣) سورة القيامة : ٧٥ / ٢٣.

(٤) سورة الإعراف : ٧ / ٢٨.

(٥) سورة الإسراء : ١٧ / ١٦.

(٧) سورة مريم : ١٩ / ٦٤.

(٨) سورة طه : ٢٠ / ٥٢.

(٩) سورة التوبة : ٩ / ٦٧.

(١٠) سورة الكهف : ١٨ / ٢٩.

(١١) سورة الإنسان : ٧٦ / ٣٠ والتكوير : ٨١ / ٢٩.

(١٣ ـ ١٢) سورة الأنعام : ٦ / ٢٥. والإسراء : ١٧ / ٤٦ ؛ والكهف : ١٨ / ٥٧.

٢٤

فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) (١) وفي موضع آخر : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) (٢).

ومثبتو الرؤية تمسكوا بقوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٣) والآخرون ، بقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٤). ومثبتو الجهة بقوله ؛ (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (٥) وبقوله : (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٦) والآخرون بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٧) فكيف يليق بالمحكم أن يرجع إلى المرجوح إليه هكذا؟ انتهى كلام الفخر الرازي. وبعضه ملخص.

وقد ذكر العلماء لمجيء المتشابه فوائد ، وأحسن ذلك ما ذكره الزمخشري. قال :

فإن قلت : فهلا كان القرآن كله محكما؟

قلت : لو كان كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال ، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلّا به ، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتقانهم القرائح في استخراج معانيه ، ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة ، والعلوم الجمة ، ونيل الدرجات عند الله ، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ، ولا اختلاف إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره ، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ، ففكر وراجع نفسه وغيره ، ففتح الله عليه ، وتبين مطابقة المتشابه المحكم ، ازداد طمأنينة إلى معتقده ، ودقة في إتقانه. انتهى كلام الزمخشري ، وهو مؤلف مما قاله الناس في فائدة المجيء بالمتشابه في القرآن.

ولما ذكر تعالى أول السورة (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) ذكر هنا كيفية الكتاب ، وأتى بالموصول ، إذ في صلته حوالة على التنزيل السابق ، وعهد فيه. وقوله : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) إلى آخره ، في موضع الحال ، أي : تركه على هذين الوجهين محكما ومتشابها ، وارتفع : آيات ، على الفاعلية بالمجرور لأنه قد اعتمد ، ويجوز ارتفاعه على الابتداء ، والجملة حالية. ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة ، ووصف الآيات بالأحكام صادق على أن كل آية محكمة ، وأما قوله : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) فأخر صفة لآيات

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٨٨.

(٣) سورة القيامة : ٧٥ / ١٢٣.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٣.

(٥) سورة النحل : ١٦ / ٥.

(٦) سورة طه : ٢٠ / ٥.

(٧) سورة الشورى : ٤٢ / ١١.

٢٥

محذوفة ، والوصف بالتشابه لا يصح في مفرد آخر ، لو قلت : وأخرى متشابهة لم يصح إلّا بمعنى أن بعضها يشبه بعضا ، وليس المراد هنا هذا المعنى ، وذلك أن التشابه المقصود هنا لا يكون إلّا بين اثنين فصاعدا ، فلذلك صح هذا الوصف مع الجمع ، لأن كل واحد من مفرداته يشابه الباقي ، وإن كان الواحد لا يصح فيه ذلك ، فهو نظير ، رجلين يقتتلان ، وإن كان لا يقال : رجل يقتتل.

وتقدم الكلام على أخر في قوله : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (١) فاغنى عن إعادته هنا.

وذكر ابن عطية أن المهدوي خلط في مسألة : أخر ، وأفسد كلام سيبويه ، فتوقف على ذلك من كلام المهدوي.

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) هم نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى ، قاله الربيع. أو : اليهود ، قاله ابن عباس ، والكلبي ، لأنهم طلبوا بقاء هذه الآية من الحروف المقطعة ، والزيغ : عنادهم.

وقال الطبري : هو الأشبه. وذكر محاورة حيي بن أخطب وأصحابه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مدة ملته ، واستخراج ذلك من الفواتح ، وانتقالهم من عدد إلى عدد إلى أن قالوا : خلطت علينا فلا ندري بكثير نأخذ أم بقليل؟ ونحن لا نؤمن بهذا. فأنزل الله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) الآية ، وفسر الزيغ : بالميل عن الهدى ، ابن مسعود ، وجماعة من الصحابة ، ومجاهد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وغيرهم.

وقال قتادة : هم منكر والبعث ، فإنه قال في آخرها (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) وما ذاك إلّا يوم القيامة ، فإنه أخفاه عن جميع الخلق. وقال قتادة أيضا : هم الحرورية ، وهم الخوارج. ومن تأول آية لا في محلها. وقال أيضا : إن لم تكن الحرورية هم الخوارج السبائية ، فلا أدري من هم.

وقال ابن جريح : هم المنافقون. وقيل : هم جميع المبتدعة.

وظاهر اللفظ العموم في الزائغين عن الحق ، وكل طائفة ممن ذكر زائغة عن الحق ، فاللفظ يشملهم وإن كان نزل على سبب خاص ، فالعبرة لعموم اللفظ.

(فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) قال القرطبي : متبعو المتشابه إما طالبو تشكيك وتناقض

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٨٤ و ١٨٥.

٢٦

وتكرير ، وإما طالبو ظواهر المتشابه : كالمجمسة إذ أثبتوا أنه جسم ، وصورة ذات وجه ، وعين ويد وجنب ورجل وأصبع. وإما متبعو إبداء تأويل وإيضاح معاينة ، كما سأل رجل ابن عباس عن أشياء اختلفت عليه في القرآن ، مما ظاهرها التعارض ، نحو : (وَلا يَتَساءَلُونَ) (١) و (أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٢) (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٣) (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٤) ونحو ذلك. وأجابه ابن عباس بما أزال عنه التعارض ، وإما متبعوه وسائلون عنه سؤال تعنت ، كما جرى لأصيبغ مع عمر ، فضرب عمر رأسه حتى جرى دمه على وجهه. انتهى كلامه ملخصا.

(ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) علل اتباعهم للمتشابه بعلتين :

إحداهما : ابتغاء الفتنة. قال السدي ، وربيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة : هي الكفر. وقال مجاهد : الشبهات واللبس. وقال الزجاج : إفساد ذات البين. وقيل : الشبهات التي حاج بها وفد نجران.

والعلة الثانية : ابتغاء التأويل. قال ابن عباس : ابتغوا معرفة مدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : التأويل : التفسير ، نحو (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٥) وقال ابن عبّاس أيضا : طلبوا مرجع أمر المؤمنين ، ومآل كتابهم ودينهم وشريعتهم ، والعاقبة المنتظرة. وقال الزجاج : طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم تعالى : أن تأويل ذلك ، ووقته يوم يرون ما يوعدون من البعث والعذاب ، يقول الذين نسوه ، أي تركوه : قد جاءت رسل ربنا ، أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. وقال السدي : أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن ، وهو تأويله متى ينسخ منه شيء. وقيل : تأويله طلب كنه حقيقته وعمق معانيه. وقال الفخر الرازي كلاما ملخصه : إن المراد بالتأويل ما ليس في الكتاب دليل عليه ، مثل : متى الساعة؟ ومقادير الثواب والعقاب لكل مكلف؟

وقال الزمخشري : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) هم أهل البدع ، فيتبعون ما تشابه منه ، فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ، ويحتمل ما

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠١.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ٢٧.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٤٢.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٢٣.

(٥) سورة الكهف : ١٨ / ٧٨.

٢٧

يطابقه من قوله أهل الحق ، ابتغاء الفتنة : طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم ، وابتغاء تأويله : طلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه. انتهى كلامه. وهو كلام حسن.

(وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) تم الكلام عند قوله : إلا الله ، ومعناه ان الله استأثر بعلمه تأويل المتشابه ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي ، وابن عباس ، وعائشة ، والحسن ، وعروة ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي نهيك الأسدي ، ومالك بن أنس ، والكسائي ، والفراء ، والجلبائي ، والأخفش ، وأبي عبيد. واختاره : الخطابي والفخر الرازي.

ويكون قوله (وَالرَّاسِخُونَ) مبتدأ و (يَقُولُونَ) خبر عنه. وقيل : والراسخون ، معطوف على الله ، وهم يعلمون تأويله ، و : يقولون ، حال منهم أي : قائلين. وروي هذا عن ابن عباس أيضا ، ومجاهد والربيع بن أنس ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وأكثر المتكلمين. ورجح الأول بأن الدليل إذا دل على غير الظاهر علم أن المراد بعض المجازات ، وليس الترجيح لبعض إلّا بالأدلة اللفظية ، وهي ظنية ، والظن لا يكفي في القطعيات ، ولأن ما قبل الآية يدل على ذم طالب المتشابه ، ولو كان جائزا لما ذمّ بأن طلب وقت الساعة تخصيص بعض المتشابهات ، وهو ترك للظاهر ، ولا يجوز ، ولأنه مدح الراسخين في العلم بأنهم قالوا (آمَنَّا بِهِ) ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح ، لأن من علم شيئا على التفصيل لا بد أن يؤمن به ، وإنما الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر ، ويفوضون تعيين المراد إلى علمه تعالى ، وقطعوا أنه الحق ، ولم يحملهم عدم التعيين على ترك الإيمان ، ولأنه لو كان : الراسخون ، معطوف على : الله ، للزم أن يكون : يقولون ، خبر مبتدأ وتقديره : هؤلاء ، أو : هم ، فيلزم الإضمار ، أو حال والمتقدّم : الله والراسخون ، فيكون حالا من الراسخين فقط ، وفيه ترك للظاهر. ولأن قوله : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) يقتضي فائدة ، وهو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما لم يعرفوه ، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل عرى عن الفائدة ، ولما نقل عن ابن عباس أن تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يقع جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلّا الله تعالى.

وسئل مالك ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة. انتهى ما رجح به القول الأول ، وفي ذلك نظر ، ويؤيد هذا القول قراءة

٢٨

أبي ، وابن عباس ، فيما رواه طاووس عنه : إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به. وقراءة عبد الله : وابتغاء تأويله إن تأويله إلّا عند الله ، والراسخون في العلم يقولون.

ورجح ابن فورك القول الثاني وأطنب في ذلك ، وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» ما يبين ذلك ، أي : علمه معاني كتابك. وكان عمر إذا وقع مشكل في كتاب الله يستدعيه ويقول له : غص غوّاص. ويجمع أبناء المهاجرين والأنصار ، ويأمرهم بالنظر في معاني الكتاب.

وقال ابن عطية : إذا تأملت قرب الخلاف من الاتفاق ، وذلك أن الكتاب محكم ومتشابه ، فالمحكم المتضح لمن يفهم كلام العرب من غير نظر ، ولا لبس فيه ، ويستوي فيه الراسخ وغيره. والمتشابه منه ما لا يعلمه إلّا الله ، كأمر الروح ، وآماد المغيبات المخبر بوقوعها ، وغير ذلك. ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ، فيتأول على الاستقامة كقوله في عيسى (وَرُوحٌ مِنْهُ) (١) إلى غير ذلك. ولا يسمى راسخا إلّا من يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدّر له ، وإلّا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس براسخ.

فقوله (إِلَّا اللهُ) مقتض ببديهة العقل أنه تعالى يعلمه على استيفاء نوعيه جميعا ، والراسخون يعلمون النوع الثاني ، والكلام مستقيم على فصاحة العرب. ودخلوا بالعطف في علم التأويل كما تقول : ما قام لنصري إلّا فلان وفلان ، وأحدهما نصرك بأن ضارب معك ، والآخر أعانك بكلام فقط.

وإن جعلنا (وَالرَّاسِخُونَ) مبتدأ مقطعوعا مما قبله ، فتسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي استوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع؟ وما الرسوخ إلّا المعرفة بتصاريف الكلام ، وموارد الأحكام ، ومواقع المواعظ؟.

وإعراب : الراسخين ، يحتمل الوجهين ، ولذلك قال ابن عباس بهما.

ومن فسر المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه فقط ، فتفسيره غير صحيح ، لأنه تخصيص لبعض المتشابه. انتهى. وفيه بعض تلخيص ، وفيه اختياره أنه معطوف على : الله ، وإياه اختار الزمخشري. قال : لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلّا الله

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٧١. والمجادلة : ٥٨ / ٢٢.

٢٩

وعباده الذين رسخوا في العلم ، أي ثبتوا فيه وتمكنوا ، وعضوا فيه بضرس قاطع. ويقولون ، كلام مستأنف موضح لحال الراسخين ، بمعنى : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به ، أي : بالمتشابه. انتهى كلامه.

وتلخص في إعراب (وَالرَّاسِخُونَ) وجهان :

أحدهما : أنه معطوف على قوله : الله ، ويكون في إعراب : يقولون ، وجهان : أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف. والثاني : أنه في موضع نصب على الحال من الراسخين ، كما تقول : ما قام إلّا زيد وهند ضاحكة.

والثاني : من إعراب : والراسخون ، أن يكون مبتدأ ، ويتعين أن يكون : يقولون ، خبرا عنه ، ويكون من عطف الجمل.

وقيل : (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مؤمنو أهل الكتاب : كعبد الله بن سلام وأصحابه ، بدليل (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) (١) يعنى الراسخين في علم التوراة ، وهذا فيه بعد ، وقد فسر الرسوخ في العلم بما لا تدل عليه اللغة ، وإنما هي أشياء نشأت عن الرسوخ في العلم ، كقول نافع : الراسخ المتواضع لله ، وكقول مالك : الراسخ في العلم العامل بما يعلم ، المتبع.

(كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) هذا من المقول ، ومفعول : يقولون قوله : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) وجعلت كل جملة كأنها مستقلة بالقول ، ولذلك لم يشترك بينهما بحرف العطف ، أو جعلا ممتزجين في القول امتزاج الجملة الواحدة ، نحو قوله :

كيف أصحبت؟ كيف أمسيت؟ مما

يزرع الود في فؤاد الكريم؟

كأنه قال : هذا الكلام مما يزرع الودّ. والضمير في : به ، يحتمل أن يعود على المتشابه ، وهو الظاهر ، ويحتمل أن يعود على الكتاب. والتنوين في : كل ، للعوض من المحذوف ، فيحتمل أن يكون ضمير الكتاب ، أي : كله من عند ربنا ، ويحتمل أن يكون التقدير : كل واحد من المحكم والمتشابه من عند الله ، وإذا كان من عند الله فلا تناقض ولا اختلاف ، وهو حق يجب أن يؤمن به. وأضاف العندية إلى قوله : ربنا ، لا إلى غيره من أسمائه تعالى

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٢.

٣٠

لما في الإشعار بلفظة الرب من النظر في مصلحة عبيده ، فلو لا أن في المتشابه مصلحة ما أنزله تعالى ، ولجعل كتابه كله محكما.

(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : وما يتعظ بنزول المحكم والمتشابه إلّا أصحاب العقول ، إذ هم المدركون لحقائق الأشياء ، ووضع الكلام مواضعه ، ونبه بذلك على أن ما اشتبه من القرآن ، فلا بد من النظر فيه بالعقل الذي جعل مميزا لإدراك : الواجب ، والجائز ، والمستحيل ، فلا يوقف مع دلالة ظاهر اللفظ ، بل يستعمل في ذلك الفكر حتى لا ينسب إلى البارئ تعالى ، ولا إلى ما شرع من أحكامه ، ما لا يجوز في العقل.

وقال ابن عطية : أي ، ما يقول هذا ويؤمن به ، ويقف حيث وقف ، ويدع اتباع المتشابه إلّا ذو لبّ.

وقال الزمخشري : مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل.

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) ويحتمل أن يكون هذا من جملة المقول أي : يقولون ربنا ، وكأنهم لما رأوا انقسام الناس إلى زائغ ، ومتذكر مؤمن ، دعوا الله تعالى بلفظ الرب أن لا يزيغ قلوبهم بعد هدايتهم ، فيلحقوا بمن في قلبه زيغ ، ويحتمل أن يكون تعالى علمهم هذا الدعاء ، والتقدير : قولوا ربنا.

ومعنى الإزاغة هنا الضلالة. وفي نسبة ذلك إليه تعالى رد على المعتزلة في قولهم : إن الله لا يضل ، إذ لو لم تكن الإزاغة من قبله تعالى لما جاز أن يدعى في رفع ما لا يجوز عليه فعله.

وقال الزجاج : المعنى : لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ بها قلوبنا ، وهذا القول فيه التحفظ من خلق الله الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد.

وقال ابن كيسان : سألوا أن لا يزيغوا ، فيزيغ الله قلوبهم ، نحو : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١) أي : ثبتنا على هدايتك ، وأن لا نزيغ ، فنستحق أن تزيغ قلوبنا. وهذه نزعة اعتزالية ، كما قال الجبائي : لا تمنعها الألطاف التي بها يستمر القلب على صفة الإيمان. ولما منعهم الألطاف لاستحقاقهم منع ذلك ، جاز أن يقال : أزاغهم ، ويدل عليه : فلما زاغوا. وقال الجبائي أيضا : لا تزغنا عن جنتك وثوابك.

__________________

(١) سورة الصف : ٦١ / ٥.

٣١

وقال أبو مسلم : أحرسنا من الشيطان وشر أنفسنا حتى لا نزيغ.

وقال الزمخشري : لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا ، أو : لا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا. انتهى.

وهذه مسألة كلامية : هل الله تعالى خالق الشر كما هو خالق الخير؟ أو لا يخلق الشر؟ فالأول : قول أهل السنة. والثاني : قول المعتزلة. وكل يفسر على مذهبه.

وقرأ الصديق ، وأبو قائلة ، والجراح : لا تزغ قلوبنا ، بفتح التاء ورفع الباء وقرأ بعضهم : لا يزغ بالياء مفتوحة ، ورفع باء قلوبنا ، جعله من زاغ ، وأسنده إلى القلوب. وظاهره نهي القلوب عن الزيغ ، وإنما هو من باب : لا أرينك هاهنا.

ولا أعرفن ربربا حورا مدامعه

أي : لا تزغنا فتزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا. ظاهره الهداية التي هي مقابلة الضلال. وقيل : بعد إذ هديتنا للعلم بالمحكم ، والتسليم للمتشابه من كتابك ، و : إذ ، أصلها أن تكون ظرفا ، وهنا أضيف إليها : بعد ، فصارت اسما غير ظرف ، وهي كانت قبل أن تخرج عن الظرفية تضاف إلى الجملة ، واستصحب فيها حالها من الإضافة إلى الجملة ، وليست الإضافة إليها تخرجها عن هذا الحكم. ألا ترى إلى قوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) (١)؟ (يَوْمَ لا تَمْلِكُ) (٢) في قراءة من رفع يوم؟ وقول الشاعر :

على حين عاتبت المشيب على الصبا

على حين من تكتب عليه ذنوبه

على حين الكرام قليل

ألا ليت أيام الصفاء جديد

كيف خرج الظرف هنا عن بابه ، واستعمل خبرا ومجرورا بحرف الجر ، واسم ليت ، وهو مع ذلك مضاف إلى الجملة؟.

(وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) سألوا بلفظ الهبة المشعرة بالتفضل والإحسان إليهم من غير سبب ولا عمل ولا معاوضة ، لأن الهبة كذلك تكون ، وخصوها بأنها من عنده ، والرحمة

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١١٩.

(٢) سورة الإنفطار : ٨٢ / ١٩.

٣٢

إن كانت من صفات الذات فلا يمكن فيها الهبة ، بل يكون المعنى : نعيما ، أو ثوابا صادرا عن الرحمة. ولما كان المسئول صادرا عن الرحمة ، صح أن يسألوا الرحمة إجراء للسبب مجرى المسبب. وقيل : معنى رحمة توفيقا وسدادا وتثبيتا لما نحن عليه من الإيمان والهدى.

(إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) هذا كالتعليل لقولهم : وهب لنا ، كقولك : حل هذا المشكل إنك أنت العالم بالمشكلات ، وأتى بصيغة المبالغة التي على فعال ، وإن كانوا قد قالوا : وهوب ، لمناسبة رؤوس الآي ، ويجوز في : أنت ، التوكيد للضمير ، والفصل ، والابتداء.

(رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) لما سألوه تعالى أن لا يزيغ قلوبهم بعد الهداية ، وكانت ثمرة انتفاء الزيغ والهداية إنما تظهر في يوم القيامة ، أخبروا أنهم موقنون بيوم القيامة ، والبعث فيه للمجازاة ، وأن اعتقاد صحة الوعد به هو الذي هداهم إلى سؤال أن لا يزيغ قلوبهم. ومعنى : ليوم لا ريب فيه ، أي : لجزاء يوم ، ومعنى : لا ريب فيه ، لا شك في وجوده لصدق من أخبر به ، وإن كان يقع للمكذب به ريب فهو بحال ما لا ينبغي أن يرتاب فيه.

وقيل : اللام ، بمعنى : في ، أي : في يوم ، ويكون المجموع لأجله لم يذكر ، وظاهر هذا الجمع أنه الحشر من القبور للمجازاة ، فهو اسم فاعل بمعنى الاستقبال ، ويدل على أنه مستقبل قراءة أبي حاتم : جامع الناس ، بالتنوين ، ونصب : الناس.

وقيل : معنى الجمع هنا أنه يجمعهم في القبور ، وكأن اللام تكون بمعنى إلى للغاية ، أي : جامعهم في القبور إلى يوم القيامة ، ويكون اسم الفاعل هنا لم يلحظ فيه الزمان ، إذ من الناس من مات ، ومنهم من لم يمت ، فنسب الجمع إلى الله من غير اعتبار الزمان ، والضمير في : فيه ، عائد على اليوم ، إذ الجملة صفة له ، ومن أعاده على الجمع المفهوم من جامع ، أو على الجزاء الدال عليه المعنى ، فقد أبعد.

(إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) ظاهر العدول من ضمير الخطاب إلى الاسم الغائب يدل على الاستئناف ، وأنه من كلام الله تعالى لا من كلام الراسخين الداعين.

قال الزمخشري : معناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد ، كقولك : إن الجواد لا يخيب سائله ، والميعاد : الموعد. انتهى كلامه ، وفيه دسيسة الاعتزال بقوله : إن الإلهية تنافي خلف الميعاد. وقد استدل الجبائي بقوله (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) على القطع بوعيد الفساق مطلقا ، وهو عندنا مشروط بعدم العفو ، كما اتفقنا نحن وهم على أنه مشروط بعدم

٣٣

التوبة ، والشرطان يثبتان بدليل منفصل ، ولئن سلمنا ما يقولونه فلا نسلم أن الوعيد يدخل تحت الوعد.

وقال الواحدي : يجوز حمله على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء ، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب ، ولذلك يمدحون به. قال الشاعر :

إذا وعد السرّاء أنجز وعده

وإن وعد الضراء فالعفو مانعه

ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام الداعين ، ويكون ذلك من باب الالتفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة لما في ذكره باسمه الأعظم من التفخيم والتعظيم والهيبة ، وكأنهم لما والوا الدعاء بقولهم : ربنا ، أخبروا عن الله تعالى بأنه الوفي بالوعد. وتضمن هذا الكلام الإيمان بالبعث ، والمجازاة ، والإيفاء بما وعد تعالى.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) قيل : المراد وفد نجران لأنه روي أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه : إني أعلم أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الرّوم مني ما أعطوني من المال. وقيل : الإشارة إلى معاصري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن عباس : قريظة ، والنضير. وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم ، وهي عامّة تتناول كل كافر.

ومعنى : من الله ، أي : من عذابه الدنيوي والأخروي ، ومعنى : أغنى عنه ، دفع عنه ومنعه ، ولما كان المال في باب المدافعة والتقرب والفتنة أبلغ من الأولاد ، قدم في هذه الآية ، وفي قوله : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) (١) وفي قوله : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (٢) وفي قوله : (وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) (٣) وفي قوله : (لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) (٤) بخلاف قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) (٥) إلى آخرها ، فإنه ذكر هنا حب الشهوات ، فقدّم فيه النساء والبنين على ذكر الأموال. وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله.

وقرأ أبو عبد الرحمن : لن يغني ، بالياء على تذكير العلامة. وقرأ علي : لن يغني ،

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٣٧.

(٢) سورة الأنفال : ٨ / ٢٨.

(٣) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٠.

(٤) سورة الشعراء : ٢٦ / ٨٨.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ١٤.

٣٤

بسكون الياء. وقرأ الحسن : لن يغني بالياء أولا وبالياء الساكنة آخرا ، وذلك لاستثقال الحركة في حرف اللين ، وإجراء المنصوب مجرى المرفوع. وبعض النحويين يخص هذا بالضرورة ، وينبغي أن لا يخص بها ، إذ كثر ذلك في كلامهم.

و : من ، لابتداء الغاية عند المبرد ، وبمعنى : عند ، قاله أبو عبيدة ، وجعله كقوله تعالى : (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (١) قال : معناه عند جوع وعند خوف ، وكون : من ، بمعنى : عند ، ضعيف جدا.

وقال الزمخشري : قوله : من الله ، مثله في قوله : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢) والمعنى : لن تغني عنهم من رحمة الله ، أو من طاعة الله شيئا ، أي : بدل رحمته وطاعته ، وبدل الحق. ومنه : ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد أي : لا ينفعه جدّه وحظه من الدنيا بذلك ، أي : بدل طاعتك وعبادتك. وما عندك. وفي معناه قوله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) (٣) انتهى كلامه.

وإثبات البدلية : لمن ، فيه خلاف أصحابنا ينكرونه ، وغيرهم قد أثبته ، وزعم أنها تأتي بمعنى البدل. واستدل بقوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) (٤) (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً) (٥) أي : بدل الآخرة وبدلكم. وقال الشاعر :

أخذوا المخاض من الفصيل غلبة

ظلما ويكتب للأمير إفيلا

أي بدل الفصيل ، وشيئا ينتصب على أنه مصدر ، كما تقول ضربت شيئا من الضرب ، ويحتمل أن ينتصب على المفعول به ، لأن معنى : لن تغني ، لن تدفع أو تمنع ، فعلى هذا يجوز أن يكون : من ، في موضع الحال من شيئا ، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لها ، فلما تقدّم انتصب على الحال. وتكون : من إذ ذاك للتبعيض.

فتلخص في : من ، أربعة أقوال : ابتداء الغاية ، وهو قول المبرد ، والكلبي. و : كونها بمعنى : عند ، وهو قول أبي عبيدة. و : البدلية ، وهو قول الزمخشري ، و : التبعيض ، وهو الذي قررناه.

(وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) لما قدم : إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ،

__________________

(١) سورة قريش : ١٠٦ / ٤.

(٢) سورة النجم : ٥٣ / ٢٨.

(٣) سورة سبأ : ٣٤ / ٣٧.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ٣٨.

(٥) سورة الزخرف : ٤٣ / ٦٠.

٣٥

ولا تناصر أولادهم ، أخبر بمآلهم. وأن غاية من كفر ، ومنتهى من كذب بآيات الله النار ، فاحتلمت هذه الجملة أن تكون معطوفة على خبر : إن ، واحتمل أن تكونه مستأنفة عطفت على الجملة الأولى ، وأشار : بأولئك ، إلى بعدهم. وأتى بلفظ : هم ، المشعرة بالاختصاص ، وجعلهم نفس الوقود مبالغة في الاحتراق ، كأن النار ليس لها ما يضرمها إلا هم ، وتقدّم الكلام في الوقود في قوله : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) (١).

وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وغيرهما : وقود ، بضم الواو ، وهو مصدر : وقدت النار تقد وقودا ، ويكون على حذف مضاف ، أي : أهل وقود النار ، أو : حطب وقود ، أو جعلهم نفس الوقود مبالغة ، كما تقول : زيد رضا.

وقد قيل في المصدر أيضا : وقود ، بفتح الواو ، وهو من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الواو ، وتقدّم ذكر ذلك.

و : هم ، يحتمل أن يكون مبتدأ ، ويحتمل أن يكون فصلا.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) لما ذكر أن من كفر وكذب بالله مآله إلى النار ، ولن يغني عنه ماله ولا ولده ، ذكر أن شأن هؤلاء في تكذيبهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وترتب العذاب على كفرهم ، كشأن من تقدّم من كفار الأمم ، أخذوا بذنوبهم ، وعذبوا عليها ، ونبه على آل فرعون ، لأن الكلام مع بني إسرائيل ، وهم يعرفون ما جرى لهم حين كذبوا بموسى من إغراقهم وتصييرهم آخرا إلى النار ، وظهور بني إسرائيل عليهم ، وتوريثهم أماكن ملكهم ، ففي هذا كله بشارة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولمن آمن به. أن الكفار مآلهم في الدنيا إلى الاستئصال ، وفي الآخرة إلى النار ، كما جرى لآل فرعون ، أهلكوا في الدنيا ، وصاروا إلى النار.

واختلفوا في إعراب : كدأب ، فقيل : هو خبر مبتدأ محذوف ، فهو في موضع رفع ، التقدير : دأبهم كدأب ، وبه بدأ الزمخشري وابن عطية.

وقيل : هو في موضع نصب بوقود ، أي : توقد النار بهم ، كما توقد بآل فرعون. كما تقول : إنك لتظلم الناس كدأب أبيك ، تريد : كظلم أبيك ، قاله الزمخشري.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤ والتحريم : ٦٦ / ٦.

٣٦

وقيل : بفعل مقدّر من لفظ الوقود ، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق ، قاله ابن عطية. وقيل : من معناه أي عذبوا تعذيبا كدأب آل فرعون. ويدل عليه وقود النار.

وقيل : بلن تغني ، أي : لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، قاله الزمخشري.

وهو ضعيف ، للفصل بين العالم والمعمول بالجملة التي هي : (أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) على أي التقديرين اللذين قدرناهما فيها من أن تكون معطوفة على خبر إن ، أو على الجملة المؤكدة بإن ، فان قدرتها اعتراضية ، وهو بعيد ، جاز ما قاله الزمخشري.

وقيل : بفعل منصوب من معنى : لن تغني ، أي بطل انتفاعهم بالأموال والأولاد بطلانا كعادة آل فرعون.

وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : كفرا كدأب ، والعامل فيه : كفروا ، قاله الفراء وهو خطأ ، لأنه إذا كان معمولا للصلة كان من الصلة ، ولا يجوز أن يخبر عن الموصول حتى يستوفي صلته ومتعلقاتها ، وهنا قد أخبر ، فلا تجوز أن يكون معمولا لما في الصلة.

وقيل : بفعل محذوف يدل عليه : كفروا ، التقدير : كفروا كفرا كعادة آل فرعون.

وقيل : العامل في الكاف كذبوا بآياتنا ، والضمير في : كذبوا ، على هذا لكفار مكة وغيرهم من معاصري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : كذبوا تكذيبا كعادة آل فرعون.

وقيل : يتعلق بقوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي : أخذهم أخذا كما أخذ آل فرعون ، وهذا ضعيف ، لأن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها.

وحكى بعض أصحابنا عن الكوفيين أنهم أجازوا : زيدا قمت فضربت ، فعلى هذا يجوز هذا القول.

فهذه عشرة أقوال في العامل في الكاف.

قال ابن عطية : والدأب ، بسكون الهمزة وفتحها ، مصدر دأب يدأب ، إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهدا فيه ، ويقال للعادة : دأب. وقال أبو حاتم : وسمعت يعقوب يذكر : كدأب ، بفتح الهمزة ، وقال لي وأنا غليم : على أي شيء يجوز كدأب؟ فقلت له : أظنه من : دئب يدأب دأبا ، فقبل ذلك مني ، وتعجب من جودة تقديري على صغري ،

٣٧

ولا أدري : أيقال أم لا؟ قال النحاس : لا يقال دئب البتة ، وإنما يقال : دأب يدأب دؤبا هكذا حكى النحويون ، منهم الفرّاء ، حكاه في كتاب (المصادر).

وآل فرعون : أشياعه وأتباعه.

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هم كفار الأمم السالفة ، كقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وغيرهم. فالضمير على هذا عائد على آل فرعون ، ويحتمل أن يعود الضمير على الذين كفروا وهم معاصرو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وموضع : والذين ، جر عطفا على : آل فرعون.

(كَذَّبُوا بِآياتِنا) هذه الجملة تفسير للدأب ، كأنه قيل : ما فعلوا؟ وما فعل بهم؟ فقيل : كذبوا بآياتنا ، فهي كأنها جواب سؤال مقدّر ، وجوّزوا أن تكون في موضع الحال ، أي : مكذبين ، وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) ثم ابتدأ فقال : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا) فيكون : الذين ، مبتدأ ، و : كذبوا خبره وفي قوله : بآياتنا ، التفات ، إذ قبله من الله ، فهو اسم غيبة ، فانتقل منه إلى التكلم.

و : الآيات ، يحتمل أن تكون المتلوة في كتب الله ، ويحتمل أن تكون العلامات الدالة على توحيد الله وصدق أنبيائه.

(فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) رجع من التكلم إلى الغيبة ، ومعنى الأخذ بالذنب : العقاب عليه ، والباء في : بذنوبهم ، للسبب.

(وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) تقدّم تفسير مثل هذا ، وفيه إشارة إلى سطوة الله على من كفر بآياته وكذب بها.

قيل : وتضمنت هذه الآيات من ضروب الفصاحة.

حسن الإبهام ، وهو فيما افتتحت به ، لينبه الفكر إلى النظر فيما بعده من الكلام.

ومجاز التشبيه في مواضع منها (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) وحقيقة النزول طرح جرم من علو إلى أسفل ، والقرآن مثبت في اللوح المحفوظ ، فلما أثبت في القلب صار بمنزلة جرم ألقي من علو إلى أسفل فشبه به ، وأطلق عليه لفظ الإنزال. وفي قوله : (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) القرآن مصدّق لما تقدّمه من الكتب ، شبه بالإنسان الذي بين يديه شيء يناله شيئا فشيئا. وفي قوله : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أقام المصدر فيه مقام اسم الفاعل ، فجعل التوراة كالرجل الذي يوري عنك أمرا ، أي : يستره لما فيها من

٣٨

المعاني الغامضة ، والإنجيل شبه لما فيه من اتساع الترغيب والترهيب والمواعظ والخضوع بالعين النجلاء ، وجعل ذلك هدى لما فيه من الإرشاد ، كالطريق الذي يهديك إلى المكان الذي ترومه ، وشبه الفرقان بالجرم الفارق بين جرمين ، وفي قوله : (عَذابٌ شَدِيدٌ) شبه ما يحصل للنفس من ضيق العذاب وألمه بالمشدود الموثق المضيق عليه ، وفي قوله : (يُصَوِّرُكُمْ) شبه أمره بقوله : كن أو تعلق إرادته بكونه جاء على غاية من الإحكام والصنع بمصوّر يمثل شيئا ، فيضم جرما إلى جرم ، ويصوّر منه صورة. وفي قوله : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) جعل ما اتضح من معاني كتابه ، وظهرت آثار الحكمة عليه محكما ، وشبه المحكم لما فيه من أصول المعاني التي تتفرّع منها فروع متعدّدة ترجع إليها بالأم التي يرجع إليها ما تفرّع من نسلها ويؤمونها ، وشبه ما خفيت معانيه لاختلاف أنحائه كالفواتح ، والألفاظ المحتملة معاني شتى ، والآيات الدالة على أمر المعاد والحساب بالشيء المشتبه الملبس أمره الذي وجم العقل عن تكييفه ؛ وفي قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) شبه القلب المائل عن القصد بالشيء الزائغ عن مكانه ، وفي قوله : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) شبه المعقول من الرحمة عن إرادة الخير ، بالمحسوس من الأجرام من العوض والمعوض في الهبة وفي قوله : (وَقُودُ النَّارِ) شبههم بالحطب الذي لا ينتفع به إلّا في الوقود. وقال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (١) والحصب الحطب بلغة الحبشة ، وفي قوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) شبه إحاطة عذابه بهم بالمأخوذ باليد المتصرف فيه بحكم إرادة الأخذ.

وقيل : هذه كلها استعارات ، ولا تشبيه فيها إلّا (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) فإنه صرح فيه بذكر أداة التشبيه.

والاختصاص في مواضع ، منها في قوله : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) إلى (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) على من فسره بالزبور ، واختص الأربعة دون بقية ما أنزل ، لأن أصحاب الكتب إذ ذاك : المؤمنون ، واليهود ، والنصارى ، وفي قوله : (لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) خصّهما لأنهما أكبر مخلوقاته الظاهرة لنا ، ولأنهما محلان للعقلاء ، ولأن منهما أكثر المنافع المختصة بعباده. وفي قوله : (وَالرَّاسِخُونَ) اختصهم بخصوصية الرسوخ في العلم بهم ؛ وفي قوله : (أُولُوا الْأَلْبابِ) لأن العقلاء لهم خصوصية التمييز ، والنظر ،

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٨.

٣٩

والاعتبار. وفي قوله : (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) اختص القلوب لأن بها صلاح الجسد وفساده ، وليس كذلك بقية الأعضاء ، ولأنها محل الإيمان ومحل العقل على قول من يقول ذلك ، وفي قوله : (إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ) هو جامعهم في الدنيا على وجه الأرض أحياء وفي بطنها أمواتا ، لأن في ذلك اليوم الجمع الأكبر ، وهو الحشر ، ولا يكون إلّا في ذلك اليوم ، ولا جامع إلّا هو تعالى. وفي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) اختص الكفار لأن المؤمنين تغني عنهم أموالهم التي ينفقونها في وجوه البر ، فهم يجنون ثمرتها في الآخرة ، وتنفعهم أولادهم في الآخرة ، يسقونهم ويكونون لهم حجابا من النار ، ويشفعون فيهم إذا ماتوا صغارا ، وينفعونهم بالدعاء الصالح كبارا. وكل هذا ورد به الحديث الصحيح.

وفي قوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) خصهم بالذكر ، وقدمهم لأنهم أكثر الأمم طغيانا ، وأعظمهم تعنتا على أنبيائهم ، فكانوا أشد الناس عذابا.

والحذف في مواضع ، في قوله : (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : من الكتب و (أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي : وأنزل الإنجيل ، لأن الإنزالين في زمانين (هُدىً لِلنَّاسِ) أي : الذين أراد هداهم : (عَذابٌ شَدِيدٌ) أي يوم القيامة ، (ذُو انْتِقامٍ) أي ممن أراد عقوبته (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي ولا في غيرهما (الْعَزِيزُ) أي : في ملكه. (الْحَكِيمُ) أي في صنعه (وَأُخَرُ) أي : آيات أخر (زَيْغٌ) أي عن الحق (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي : لكم (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي : على غير الوجه المراد منه (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) أي : على الحقيقة المطلوبة (رَبَّنا) أي يا ربنا (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) أي : عن الحق (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أي : إليه (كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : المنزلة على الرسل ، أو المنصوبات علما على التوحيد (بِذُنُوبِهِمْ) أي السالفة.

والتكرار : نزل عليك الكتاب ، وأنزل التوراة ، وأنزل الفرقان. كرر لاختلاف الإنزال ، وكيفيته ، وزمانه ، بآيات الله ، والله كرر اسمه تعالى تفخيما ، لأن في ذكر المظهر من التفخيم ما ليس في المضمر. لا إله إلّا هو الحي القيوم ، لا إله إلا هو العزيز. كرر الجملة تنبيها على استقرار ذلك في النفوس ، وردا على من زعم أن معه إلها غيره. ابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله. كرر لاختلاف التأويلين ، أو للتفخيم لشأن التأويل. ربنا لا تزغ ،

٤٠