البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فو الله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم. يا فسق الفاسقين اليوم يحل كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم انتهى كلام الحسن. والظاهر أن العفو إنما هو عن الذنب ، أي لم يؤاخذكم بالعصيان. ويدل عليه قرينة قوله : وعصيتم. والمعنى : أن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بكم ، فعفا عنكم ، فهو إخبار بالعفو عما كان يستحق بالذنب من العقاب. وقال بهذا : ابن جريج ، وابن إسحاق ، وجماعة. وفيه مع ذلك تحذير.

(وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي في الأحوال ، أو بالعفو.

وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع ضروبا : من ذلك الاستفهام الذي معناه الإنكار في : أم حسبتم. والتجنيس المماثل في : انقلبتم ومن ينقلب ، وفي ثواب الدنيا وحسن ثواب. والمغاير في قولهم : إلا أن قالوا. وتسمية الشيء باسم سببه في : تمنون الموت أي الجهاد في سبيل الله ، وفي قوله : وثبت أقدامنا فيمن فسر ذلك بالقلوب ، لأن ثبات الأقدام متسبب عن ثبات القلوب. والالتفات في : وسنجزي الشاكرين. والتكرار في : ولما يعلم ويعلم لاختلاف المتعلق. أو للتنبيه على فضل الصابر. وفي : أفإن مات أو قتل لأن العرف في الموت خلاف العرف في القتل ، والمعنى : مفارقة الروح الجسد فهو واحد. ومن في ومن يرد ثواب الجملتين ، وفي : ذنوبنا وإسرافنا في قول من سوى بينهما ، وفي : ثواب وحسن ثواب. وفي : لفظ الجلالة ، وفي : منكم من يريد الجملتين. والتقسيم في : ومن يرد وفي منكم من يريد. والاختصاص في : الشاكرين ، والصابرين ، والمؤمنين. والطباق : في آمنوا أن تطيعوا الذين كفروا. والتشبيه في : يردّوكم على أعقابكم ، شبه الرجوع عن الدين بالراجع القهقرى ، والذي حبط عمله بالكفر بالخاسر الذي ضاع ربحه ورأس ماله وبالمنقلب الذي يروح في طريق ويغدو في أخرى ، وفي قوله : سنلقي. وقيل : هذا كله استعارة. والحذف في عدة مواضع.

إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ

٣٨١

أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣)

الإصعاد : ابتداء السفر ، والمخرج. والصعود : مصدر صعد رقى من سفل إلى علو ، قاله : الفراء ، وأبو حاتم والزجاج. وقال القتبي : أصعد أبعد في الذهاب ، فكأنه إبعاد كإبعاد الارتفاع. قال :

٣٨٢

ألا أيهذا السائلي أين صعدت

فإن لها في أرض يثرب موعدا

وأنشد أبو عبيدة :

قد كنت تبكيني على الإصعاد

فاليوم سرحت وصاح الحادي

وقال المفضل : صعد ، وأصعد وصعّده بمعنى واحد. والصعيد : وجه الأرض. وصعدة : اسم من أسماء الأرض. وأصعد : معناه دخل في الصعيد.

فات الشيء أعجز إدراكه ، وهو متعد ، ومصدره : فوت ، وهو قياس فعل المتعدي.

النعاس : النوم الخفيف. يقال : نعس ينعس نعاسا فهو ناعس ، ولا يقال : نعسان. وقال الفراء : قد سمعتها ولكني لا أشتهيها.

المضجع : المكان الذي يتكأ فيه للنوم ، ومنه : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) (١) والمضاجع : المصارع ، وهي أماكن القتل ، سميت بذلك لضجعة المقتول فيها.

الغزو القصد وكذلك المغزى ، ثم أطلق على قصد مخصوص وهو : الإيقاع بالعدو. وتقول : غزا بني فلان ، أوقع بهم القتل والنهب وما أشبه ذلك. وغزى : جمع غاز ، كعاف وعفى. وقالوا : غزاء بالمد. وكلاهما لا ينقاس. أجرى جمع فاعل الصفة من المعتل اللام مجرى صحيحها ، كركع وصوام. والقياس : فعله كقاض وقضاة. ويقال : أغزت الناقة عسر لقاحها. وأتان مغزية تأخر نتاجها ثم تنتج.

يقال : لأن الشيء يلين ، فهو ليّن. والمصدر : لين وليان بفتح اللام ، وأصله في الجرم وهو نعومته ، وانتفاء خشونته ، ولا يدرك إلا باللمس. ثم توسعوا ونقلوه إلى المعاني.

الفظاظة الجفوة في المعاشرة قولا وفعلا. قال الشاعر في ابنة له :

أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ

وكنت أخشى عليها من أذى الكلم

الغلظ : أصله في الجرم ، وهو تكثر أجزائه. ثم يستعمل في قلة الانفعال والإشفاق والرحمة. كما قال :

يبكي علينا ولا نبكي على أحد

لنحن أغلظ أكبادا من الإبل

الانفضاض : التفرق. وفضضت الشيء كسرته ، وهو تفرقة أجزائه.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٣٤.

٣٨٣

الخذل والخذلان : هو الترك في موضع يحتاج فيه إلى التارك. وأصله : من خذل الظبي ، ولهذا قيل لها : خاذل إذا تركتها أمها. وهذا على النسب أي ذات خذل ، لأن المتروكة هي الخاذل بمعنى مخذولة ، ويقال : خاذلة. قال الشاعر :

بجيد مغزلة إدماء خاذلة

من الظباء تراعي شادنا خرقا

ويقال أيضا لها : خذول فعول ، بمعنى مفعول. قال :

خذول تراعي ربربا بخميلة

تناول أطراف البريد وترتدي

الغلول : أخذ المال من الغنيمة في خفاء. والفعل منه غلّ يغلّ بضم الغين. والغل الضغن ، والفعل منه غلّ يغل بكسر الغين. وقال أبو علي : تقول العرب : أغل الرجل إغلالا ، خان في الأمانة. قال النمر :

جزى الله عني جمرة بن نوفل

جزاء مغل بالأمانة كاذب

وقال بعض النحويين : الغلول مأخوذ من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والروح. ويقال أيضا في الغلول : أغل إغلالا وأغلّ الحارز سرق شيئا من اللحم مع الجلد. ويقال : أغله وجده غالا كقولك : أبخلته وجدته بخيلا.

السخط مصدر سخط ، جاء على القياس. ويقال فيه : السّخط بضم السين وسكون الخاء. ويقال : مات فلان في سخطة الملك أي في سخطه. والسخط الكراهة المفرطة ، ويقابله الرضا.

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) هذه الجمل التي تضمنت التوبيخ والعتب الشديد. إذ هو تذكار بفرار من فرّ وبالغ في الهرب ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوه إليه. فمن شدّة الفرار واشتغاله بنفسه وهو يروم نجاتها لم يصغ إلى دعاء الرسول ، وهذا من أعظم العتب حيث فرّ ، والحالة أن رسول الله يدعوه إليه.

وقرأ الجمهور : تصعدون مضارع أصعد ، والهمزة في أصعد للدخول. أي : دخلتم في الصعيد ، ذهبتم فيه. كما تقول : أصبح زيد ، أي دخل في الصباح. فالمعنى : إذ تذهبون في الأرض. وتبين ذلك قراءة أبي : إذ تصعدون في الوادي. وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن ومجاهد وقتادة واليزيدي : تصعدون من صعد في الجبل إذا ارتقى إليه. وقرأ أبو حيرة : تصعدون من تصعد في السلم ، وأصله : تتصعدون ، فحذفت إحدى التاءين على

٣٨٤

الخلاف في ذلك ، أهي تاء المضارعة؟ أم تاء تفعل؟ والجمع بينهما أنهم أولا أصعدوا في الوادي لما أرهقهم العدو ، وصعدوا في الجبل. وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل : يصعدون ولا يلوون بالياء على الخروج من الخطاب إلى الغائب. والعامل في إذا ذكر محذوفة. أو عصيتم ، أو تنازعتم ، أو فشلتم ، أو عفا عنكم ، أو ليبتليكم ، أو صرفكم ، وهذان عن الزمخشري ، وما قبله عن ابن عطية. والثلاثة قبله بعيدة لطول الفصل. والأول جيد ، لأنّ ما قبل إذ جمل مستقلة يحسن السكوت عليها ، فليس لها تعلق إعرابي بما بعدها ، إنما تتعلق به من حيث أنّ السياق كله في قصة واحدة. وتعلقه بصرفكم جيد من حيث المعنى ، وبعفا عنكم جيد من حيث القرب.

ومعنى ولا تلوون على أحد : أي لا ترجعون لأحد من شدة الفرار. يقال : لوى بكذا ذهب به. ولوى عليه : كر عليه وعطف. وهذا أشد في المبالغة من قوله : أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا لأنه في الآية نفي عام ، وفي هذا نفي خاص ، وهو على من تعذرا. وقال دريد ابن الصمة : وهل يرد المنهزم شيء؟ وقرىء تلو من بإبدال الواو همزة ، وذلك لكراهة اجتماع الواوين. وقياس هذه الواو المضمومة أن لا تبدل همزة لأن الضمة فيها عارضة. ومتى وقعت الواو غير أول وهي مضمومة ، فلا يجوز الإبدال منها همزة إلا بشرطين : أحدهما : أن تكون الضمة لازمة. الثاني : أن لا تكون يمكن تخفيفها بالإسكان. مثال ذلك : فووج وفوول. وغوور. فهنا يجوز فؤوج وقؤول وغؤور بالهمز. ومثل كونها عارضة : هذا دلوك. ومثل إمكان تخفيفها بالإسكان : هذا سور ، ونور ، جمع سوار ونوار. فإنك تقول فيهما : سور ونور. ونبه بعض أصحابنا على شرط آخر وهو لا بد منه ، وهو : أن لا يكون مدغما فيها نحو : تعود ، فلا يجوز فيه تعود بإبدال الواو المضمومة همزة. وزاد بعض النحويين شرطا آخر وهو : أن لا تكون الواو زائدة نحو : الترهوك وهذا الشرط ليس مجمعا عليه. وقرأ الحسن : تلون ، وخرجوها على قراءة من همز الواو ، ونقل الحركة إلى اللام ، وحذف الهمزة. قال ابن عطية : وحذفت إحدى الواوين الساكنين ، وكان قد قال في هذه القراءة : هي قراءة متركبة على قراءة من همز الواو المضمومة ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام انتهى. وهذا كلام عجيب تخيل هذا الرجل أنه قد نقلت الحركة إلى اللام فاجتمع واوان ساكنان ، إحداهما : الواو التي هي عين الكلمة ، والأخرى : واو الضمير. فحذفت إحدى الواوين لأنهما ساكنتان ، وهذا قول من لم يمعن في صناعة النحو. لأنها إذا كانت متركبة على لغة من همز الواو ثم نقل حركتها إلى اللام ، فإن الهمزة إذ ذاك تحذف ، ولا يلتقي

٣٨٥

واوان ساكنتان. ولو قال : استثقلت الضمة على الواو ، لأن الضمة كأنها واو ، فصار ذلك كأنه جمع ثلاث واوات ، فتنقلب الضمة إلى اللام ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الأولى منهما ، ولم يبهم في قوله إحدى الواوين لأمكن ذلك في توجيه هذه القراءة الشاذة ، أما أن يبنى ذلك على أنه على لغة من همز على زعمه ، فلا يتصور. ويحتمل أن يكون مضارع ولي وعدي بعلي ، على تضمين معنى العطف. أي : لا تعطفون على أحد. وقرأ الأعمش وأبو بكر في رواية عن عاصم : تلوون من ألوى ، وهي لغة في لوى. وظاهر قوله على أحد العموم.

وقيل : المراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعبر بأحد عنه تعظيما له وصونا لاسمه أن يذكر عند ذهابهم عنه ، قاله : ابن عباس والكلبي.

وقرأ حميد بن قيس على أحد بضم الهمزة والحاء ، وهو الجبل. قال ابن عطية : والقراءة الشهيرة أقوى ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرّ الناس عنه ، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم انتهى. وقال غيره : الخطاب فيه لمن أمعن في الهرب ولم يصعد الجبل مع من صعد. ويجوز أن يكون أراد بقوله : ولا تلوون على أحد ، أي من كان على جبل أحد ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه الذين صعدوا. وتلوون هو من ليّ العنق ، لأن من عرج على الشيء يلوي عنقه ، أو عنان دابته. والألف واللام في الرسول للعهد. ودعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، روي أنه كان يقول : «إليّ عباد الله» والناس يفرون عنه. وروي : «أي عباد الله ارجعوا» قاله : ابن عباس : وفي رواية : «ارجعوا إليّ فإني رسول الله من يكر له الجنة» وهو قول : السدي ، والربيع. قال القرطبي : وكان دعاؤه تغيير للمنكر ، ومحال أن يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه.

ومعنى في أخراكم : أي في ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، وهي المتأخرة. يقال : جئت في آخر الناس وأخراهم ، كما تقول : في أولهم وأولاهم بتأويل مقدّمتهم وجماعتهم الأولى. وفي قوله : في أخراكم دلالة عظيمة على شجاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الوقوف على أعقاب الشجعان وهم فرار والثبات فيه إنما هو للأبطال الأنجاد ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشجع الناس. قال سلمة : كنا إذا احمرّ البأس اتقيناه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) الفاعل بأثابكم هو الله تعالى. وقال الفراء : الإثابة هنا بمعنى المغالبة انتهى. وسمي الغم ثوابا على معنى أنه قائم في هذه النازلة مقام الثواب الذي كان يحصل لو لا الفرار. فهو نظير قوله :

٣٨٦

تحية بينهم ضرب وجيع

وقوله :

أخاف زيادا أن يكون عطاؤه

أداهم سودا أو محدرجة سمرا

جعل القيود والسياط عطاء ، ومحدرجة بمعنى مدحرجة. والباء في بغم : إمّا أن تكون للمصاحبة ، أو للسبب. فإن كانت للمصاحبة وهي التي عبر بعضهم عنها بمعنى : مع. والمعنى : غما مصاحبا لغم ، فيكون الغمان إذ ذاك لهم. فالأول : هو ما أصابهم من الهزيمة والقتل. والثاني : إشراف خالد بخيل المشركين عليهم ، قاله : ابن عباس ، ومقاتل. وقيل : الغم الأوّل سببه فرارهم الأوّل ، والثاني سببه فرارهم حين سمعوا أن محمدا قد قتل قاله : مجاهد. وقيل : الأوّل ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من الجراح والقتل. والثاني حين سمعوا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل ، قاله : قتادة والربيع. وقيل : عكس هذا الترتيب ، وعزاه ابن عطية إلى قتادة ومجاهد. وقيل : الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح. والثاني : إشراف أبي سفيان عليهم ، ذكره الثعلبي. وقيل : الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق. والثاني : إشراف أبي سفيان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن كان معه ، قاله : السدي ومجاهد أيضا وغيرهما. وعبر الزمخشري عن هذا المعنى وهو اجتماع الغمين لهم بقوله : غما بعد غم ، وغما متصلا بغم من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجرح ، والقتل ، وظفر المشركين ، وفوت الغنيمة ، والنصر انتهى كلامه. وقوله : غما بعد غم تفسير للمعنى ، لا تفسير إعراب. لأن الباء لا تكون بمعنى بعد. وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك. ولذلك قال بعضهم : إن المعنى غما على غم ، فينبغي أن يحمل على تفسير المعنى ، وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك. وإن كانت الباء للسبب وهي التي عبر بعضهم عنها أنها بمعنى الجزاء ، فيكون الغم الأوّل للصحابة. والثاني قال الحسن وغيره : متعلقه المشركون يوم بدر. والمعنى : أثابكم غما بالغم الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر. قال ابن عطية : فالباء على هذا باء معادلة ، كما قال أبو سفيان يوم بدر : والحرب سجال. وقال قوم منهم الزجاج ، وتبعه الزمخشري : متعلقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : جازاكم غما بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر المؤمنين بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير في : فأثابكم للرسول ، أي فآساكم في الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم ، فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ، ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم ، وإنما فعل ذلك

٣٨٧

ليسليكم وينفس عنكم ، كيلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ، ولا على ما أصابكم من غلبة العدوّ انتهى كلامه. وهو خلاف الظاهر. لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو الله تعالى ، وذلك في قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) (١) وقوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) (٢) (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) (٣) والله فيكون قوله : فأثابكم مسندا إلى الله تعالى. وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعى عليهم فرارهم مع كون من اهتدوا على يده يدعوهم ، فلم يجىء مقصودا لأن يحدث عنه ، إنما الجملة التي ذكر فيها في تقدير المفرد إذ هي حال. وقال الزمخشري : فأثابكم عطف على صرفكم انتهى. وفيه بعد لطول الفصل بين المتعاطفين. والذي يظهر أنه معطوف على تصعدون ولا تلوون ، لأنه مضارع في معنى الماضي ، لأن إذ تصرف المضارع إلى الماضي ، إذ هي ظرف لما مضى. والمعنى : إذ صعدتم وما لويتم على أحد فأثابكم.

(لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ) اللام لام كي ، وتتعلق بقوله : فأثابكم. فقيل : لا زائدة لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن. فالمعنى : على أنه غمهم ليحزنهم عقوبة لهم على تركهم موافقتهم قاله : أبو البقاء وغيره. وتكون كهي في قوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) (٤) إذ تقديره : لأن يعلم. ويكون أعلمهم بذلك تبكيتا لهم ، وزجرا أن يعودوا لمثله. والجمهور على أن لا ثابتة على معناها من النفي. واختلفوا في تعليل الإثابة بانتفاء الحزن على ما ذكر.

فقال الزمخشري : لكيلا تحزنوا لتتمرّنوا على تجرع الغموم ، وتضروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضار انتهى. فجعل العلة في الحقيقة ثبوتية ، وهي التمرن على تجرع الغموم والاعتياد لاحتمال الشدائد ، ورتب على ذلك انتفاء الحزن ، وجعل ظرف الحزن هو مستقبل لا تعلق له بقصة أحد ، بل لينتفي الحزن عنكم بعد هذه القصة. وقال ابن عطية : المعنى لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم أذيتم أنفسكم. وعادة البشر أنّ جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما وقع هو مع ظنه البراءة بنفسه انتهى. وهذا تفسير مخالف لتفسير الزمخشري. ومن المفسرين من ذهب إلى أن قوله : لكيلا تحزنوا متعلق بقوله : ولقد عفا عنكم ، ويكون الله أعلمهم بذلك تسلية لمصابهم وعوضا لهم عن ما أصابهم من الغم ، لأن عفوه يذهب كل غم. وفيه بعد لطول الفصل ، ولأن ظاهره تعلقه بمجاور ، وهو فأثابكم.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٥٢.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٥٢.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٥٢.

(٤) سورة الحديد : ٢٩ / ٥٧.

٣٨٨

قال ابن عباس : والذي فاتهم من الغنيمة ، والذي أصابهم من الفشل والهزيمة ، ومما تحتمله الآية : أنه لما ذكر اصعادهم وفرارهم مجدّين في الهرب في حال ادعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه بالرجوع عن الهرب والانحياز إلى فئته ، كان الجد في الهرب سببا لاتصال الغموم بهم ، وشغلهم بأنفسهم طلبا للنجاة من الموت ، فصار ذلك أي : شغلهم بأنفسهم واغتمامهم المتصل بهم من جهة خوف القتل سببا لانتفاء الحزن على فائت من الغنيمة ، ومصاب من الجراح والقتل لإخوانهم ، كأنه قيل : صاروا في حالة من اغتمامهم واهتمامهم بنجاة أنفسهم بحيث لا يخطر لهم ببال حزن على شيء فايت ولا مصاب وإن جل ، فقد شغلهم بأنفسهم لينتفي الحزن منهم. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) هذه الجملة تقتضي تهديدا ، وخص العمل هنا وإن كان تعالى خبيرا بجميع الأحوال من الأعمال والأقوال والنيات ، تنبيها على أعمالهم من تولية الأدبار والمبالغة في الفرار ، وهي أعمال تخشى عاقبتها وعقابها. (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) الأمنة : الأمن ، قاله : ابن قتيبة وغيره. وفرق آخرون فقالوا : الأمنة تكون مع بقاء أسباب الخوف ، والأمن يكون مع زوال أسبابه. وقرأ الجمهور : أمنة بفتح الميم ، على أنه بمعنى الأمن. أو جمع آمن كبار وبرره ، ويأتي إعرابه. وقرأ النخعي وابن محيصن : أمنة بسكون الميم ، بمعنى الأمن. ومعنى الآية : امتنان الله عليهم بأمنهم بعد الخوف والغم ، بحيث صاروا من الأمن ينامون. وذلك أن الشديد الخوف والغم لا يكاد ينام. ونقل المفسرون ما أخبرت به الصحابة من غلبة النوم الذي غشيهم كأبي طلحة ، والزبير ، وابن مسعود. واختلفوا في الوقت الذي غشيهم فيه النعاس.

فقال الجمهور : حين ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي وكان من المتحيزين إليه : «اذهب فانظر إلى القوم فإن كانوا جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عائدون إلى المدينة فاتقوا الله واصبروا» ووطنهم على القتال ، فمضى علي ثم رجع فأخبر : أنهم جنبوا الخيل ، وقعدوا على أثقالهم عجالا ، فأمن المؤمنون المصدقون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وألقى الله تعالى عليهم النعاس. وبقي المنافقون الذين في قلوبهم مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أنّ أبا سفيان يؤم المدينة ، فلم يقع على أحد منهم نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية. وثبت في البخاري من حديث أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، وفي طريق رفعت رأسي فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلا وهو يميل تحت

٣٨٩

جحفته. وهذا يدل على أنهم غشيهم النعاس وهم في المصاف وسياق الآية والحديث الأول يدلان على خلاف ذلك. قال تعالى (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ). والغم كان بعد أن كسروا وتفرقوا عن مصافهم ورحل المشركون عنهم. والجمع بين هذين القولين : أن المصاف الذي أخبر عنه أبو طلحة كان في الجبل بعد الكسرة ، أشرف عليهم أبو سفيان من علو في الخيل الكثيرة ، فرماهم من كان انحاز إلى الجبل من الصحابة بالحجارة ، وأغنى هناك عمر حتى أنزلوهم ، وما زالوا صافين حتى جاءهم خبر قريش أنهم عزموا على الرّحيل إلى مكة ، فأنزل الله عليهم النعاس في ذلك الموطن ، فأمنوا ولم يأمن المنافقون. والفاعل بأنزل ضمير يعود على الله تعالى ، وهو معطوف على فأثابكم. وعليكم يدل على تجلل النعاس واستعلائه وغلبته ، ونسبة الإنزال مجاز لأن حقيقته في الإجرام. وأعربوا أمنة مفعولا بأنزل ، ونعاسا بدل منه ، وهو بدل اشتمال. لأن كلّا منهما قد يتصور اشتماله على الآخر ، أو يتصور اشتمال العامل عليهما على الخلاف في ذلك. أو عطف بيان ، ولا يجوز على رأي الجمهور من البصريين لأن من شرط عطف البيان عندهم أن يكون في المعارف. أو مفعول من أجله وهو ضعيف ، لاختلال أحد الشروط وهو : اتحاد الفاعل ، ففاعل الإنزال هو الله تعالى ، وفاعل النعاس هو المنزل عليهم ، وهذا الشرط هو على مذهب الجمهور من النحويين. وقيل : نعاسا هو مفعول أنزل ، وأمنة حال منه ، لأنه في الأصل نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال. التقدير : نعاسا ذا أمنة ، لأن النعاس ليس هو إلا من. أو حال من المجرور على تقدير : ذوي أمنة. أو على أنه جمع آمن ، أي آمنين ، أو مفعول من أجله أي لأمنة قاله : الزمخشري ، وهو ضعيف بما ضعفنا به قول من أعرب نعاسا مفعولا من أجله.

(يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) هم المؤمنون. ويدل هذا على أن قوله : ثم أنزل عليكم ، عام مخصوص ، لأنه في الحقيقة ما أنزل إلا على من آمن.

وقرأ حمزة والكسائي : تغشى بالتاء حملا على لفظ أمنة هكذا قالوا. وقالوا : الجملة في موضع الصفة ، وهذا ليس بواضح ، لأن النحويين نصوا على أن الصفة مقدمة على البدل وعلى عطف البيان إذا اجتمعت. فمن أعرب نعاسا بدلا أو عطف بيان لا يتم له ذلك ، لأنه مخالف لهذه القاعدة ، ومن أعربه مفعولا من أجله ففيه أيضا الفصل بين النعت والمنعوت بهذه الفضلة. وفي جواز ذلك نظر مع ما نبهنا عليه من فوات الشرط وهو : اتحاد الفاعل. فإن جعلت تغشى جملة مستأنفة وكأنها جواب لسؤال من سأل : ما حكم هذه

٣٩٠

الأمنة؟ فأخبر تعالى تغشى طائفة منكم ، جاز ذلك. وقال ابن عطية : أسند الفعل إلى ضمير المبدل منه انتهى. لما أعرب نعاسا بدلا من أمنة ، كان القياس أن يحدث عن البدل لا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن المبدل منه ، فإذا قلت : إن هندا حسنها فاتن ، كان الخبر عن حسنها ، هذا هو المشهور في كلام العرب. وأجاز بعض أصحابنا أن يخبر عن المبدل منه كما أجاز ذلك ابن عطية في الآية ، واستدل على ذلك بقوله :

إن السيوف غدوها ورواحها

تركت هوازن مثل قرن الأعضب

وبقول الآخر :

وكأنه لهق السراة كأنه

ما حاجبيه معين بسواد

فقال : تركت ، ولم يقل تركا. وقال معين : ولم يقل معينان ، فأعاد الضمير على المبدل منه وهو السيوف ، والضمير في كأنه ولم يعد على البدل وهي : غدوها ورواحها وحاجبيه. وما زائدة بين المبدل منه والبدل. ولا حجة فيما استدل به لاحتمال أن يكون انتصاب غدوها ورواحها على الظرف لا على البدل ، ولاحتمال أن يكون معين خبرا عن حاجبيه ، لأنه يجوز أن يخبر عن الاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ، كاليدين والرجلين والعينين والحاجبين إخبار الواحد. كما قال :

لمن زحلوقه زل

بها العينان تنهل

وقال :

وكأنّ في العينين حبّ قرنفل

أو سنبلا كحلت به فانهلت

فقال : تنهل وكحلت له ، ولم يقل : تنهلان ، ولا كحلتا به. وهذا كما أجازوا أن يخبر عن الواحد من هذين أخبار المثنى قال :

إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى

بصحراء فلج ظلتا تكفان

فقال : ظلتا ولم يقل : ظلت تكف. وقرأ الباقون : يغشى بالياء ، حمله على لفظ النعاس.

(وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) قال مكي : أجمع المفسرون على أن هذه الطائفة هم

٣٩١

المنافقون ، وقالوا : غشي النعاس أهل الإيمان والإخلاص ، فكان سببا لأمنهم وثباتهم. وعرى منه أهل النفاق والشك ، فكان سببا لجزعهم وانكشافهم عن مراتبهم في مصافهم انتهى.

ويقال : أهمني الشيء ، أي : كان من همي وقصدي. أي : مما أهم به وأقصد. وأهمني الأمر أقلقني وأدخلني في الهم ، أي الغم. فعلى هذا اختلف المفسرون في قد أهمتهم أنفسهم. فقال قتادة والرّبيع وابن إسحاق وأكثرهم : هو بمعنى الغم ، والمعنى : أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة قد جلبت إليهم خوف القتل ، وهذا معنى قول الزمخشري : أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الغموم والأشجان ، فهم في التشاكي. وقال بعض المفسرين : هو من همّ بالشيء أراد فعله. والمعنى : أهمتهم أنفسهم المكاشفة ونبذ الدين. وهذا القول من قال : قد قتل محمد فلترجع إلى ديننا الأول ، ونحو هذا من الأقوال. وقال الزمخشري في قوله : قد أهمتهم أنفسهم ، ما بهم إلا همّ أنفسهم ، لا هم الدّين ، ولا هم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين انتهى. فيكون من قولهم : أهمني الشيء أي : كان من همي وإرادتي. والمعنى : أهمهم خلاص أنفسهم خاصة ، أي : كان من همهم وإرادتهم خلاص أنفسهم فقط ، ومن غير الحق يظنون أن الإسلام ليس بحق ، وأن أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذهب ويزول.

ومعنى ظن الجاهلية عند الجمهور : المدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام ، كما قال : (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) (١) (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ) (٢) وكما تقول : شعر الجاهلية. وقال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأسا دهاقا. وقال بعض المفسرين : المعنى ظن الفرقة الجاهلية ، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه ، ونحا إلى هذا القول : قتادة والطبري. قال مقاتل : ظنوا أن أمره مضمحل. وقال الزجاج : إن مدّته قد انقضت. وقال الضحاك عن ابن عباس : ظنوا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل. وقيل : ظن الجاهلية إبطال النبوّات والشرائع. وقيل : يأسهم من نصر الله وشكهم في سابق وعده بالنصرة. وقيل : يظنون أن الحق ما عليه الكفار ، فلذلك نصروا. وقيل : كذبوا بالقدر. قال الزمخشري : وظن الجاهلية كقولك : حاتم الجود ورجل صدق ، تريد الظن المختص بالملة الجاهلية. ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية ، أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله. انتهى وظاهر قوله : هل لنا من الأمر من شيء الاستفهام؟

__________________

(١) سورة الفتح : ٤٨ / ٢٦.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٣.

٣٩٢

فقيل : سألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هل لهم معاشر المسلمين من النصر والظهور على العدوّ شيء أي نصيب؟ وأجيبوا بقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (١) وهو النصر والغلبة. «كتب الله لأغلبن أنا ورسلي» «وأن جندنا لهم الغالبون». وقيل : المعنى ليس النصر لنا ، بل هو للمشركين. وقال قتادة وابن جريج : قيل لعبد الله بن أبيّ بن سلول : قتل بنو الخزرج ، فقال : وهل لنا من الأمر من شيء؟ يريد : أن الرأي ليس لنا ، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا ولم نخرج ولم يقتل أحد منا. وهذا منهم قول بأجلين. وذكر المهدوي وابن فورك : أن المعنى لسنا على حق في اتباع محمد. ويضعف هذا التأويل الرد عليهم بقوله : قل. فأفهم أن كلامهم إنما هو في معنى سوء الرأي في الخروج ، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد.

وعلى هذا المعنى وما قبله من قول قتادة وابن جريج يكون الاستفهام معناه النفي. ولما أكد في كلامهم بزيادة من في قوله : من شيء ، جاء الكلام مؤكدا بأنّ ، وبولغ في توكيد العموم بقوله : كله لله. فكان الجواب أبلغ.

والخطاب بقوله : قل ، متوجه إلى الرسول بلا خلاف. والذي يظهر أنه استفهام باق على حقيقته ، لأنهم أجيبوا بقوله : قل إن الأمر كله لله. ولو كان معناه النفي لم يجابوا بذلك ، لأنّ من نفى عن نفسه أن يكون له شيء من الأمر لا يجاوب بذلك ، إلا إن قدر مع جملة النفي جملة ثبوتية لغيرهم ، فكان المعنى : ليس لنا من الأمر من شيء بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه ، فيمكن أن يكون ذلك جوابا لهذا المقدّر. وهذه الجملة الجوابية معترضة بين الجمل التي أخبر الله بها عنهم.

والواو في قوله : وطائفة ، واو الحال. وطائفة مبتدأ ، والجملة المتصلة به خبره. وجاز الابتداء بالنكرة هنا إذ فيه مسوغان : أحدهما : واو الحال وقد ذكرها بعضهم في المسوغات ، ولم يذكر ذلك أكثر أصحابنا وقال الشاعر :

سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا

محياك أخفى ضوؤه كل شارق

والمسوغ الثاني : أن الموضع موضع تفصيل. إذ المعنى : يغشى طائفة منكم ، وطائفة لم يناموا ، فصار نظير قوله :

إذا ما بكى من خلفها انصرفت له

بشق وشق عندنا لم يحوّل

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٥٤.

٣٩٣

ونصب طائفة على أن تكون المسألة من باب الاشتغال على هذا التقدير من الإعراب جائز. ويجوز أن يكون قد أهمتهم في موضع الصفة ، ويظنون الخبر. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا ، والجملتان صفتان ، التقدير : ومنكم طائفة. ويجوز أن يكون يظنون حالا من الضمير في أهمتهم ، وانتصاب غير الحق. قال أبو البقاء : على أنه مفعول أول لتظنون ، أي أمرا غير الحق ، وبالله الثاني. وقال الزمخشري : غير الحق في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون بالله ظن الجاهلية ، وغير الحق تأكيد ليظنون كقولك : هذا القول غير ما تقول ، وهذا القول لا قولك ، انتهى. فعلى هذا لم يذكر ليظنون مفعولين ، وتكون الباء ظرفية كما تقول : ظننت بزيد. وإذا كان كذلك لم تتعد ظننت إلى مفعولين ، وإنما المعنى : جعلت مكان ظني زيدا. وقد نص النحويون على هذا. وعليه :

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

سراتهم في السائريّ المسرد

أي : اجعلوا مكان ظنكم ألفي مدجج. وانتصاب ظن على أنه مصدر تشبيهي ، أي : ظنا مثل ظن الجاهلية. ويجوز في : يقولون أن يكون صفة ، أو حالا من الضمير في يظنون ، أو خبرا بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار في غير ما اتفقوا على جواز تعداده. ومن شيء في موضع مبتدأ ، إذ من زائدة ، وخبره في لنا ، ومن الأمر في موضع الحال ، لأنه لو تأخر عن شيء لكان نعتا له ، فيتعلق بمحذوف. وأجاز أبو البقاء أن يكون من الأمر هو الخبر ، ولنا تبيين وبه تتم الفائدة كقوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (١) وهذا لا يجوز : لأن ما جاء للتبيين العامل فيه مقدر ، وتقديره : أعني لنا هو من جملة أخرى ، فيبقى المبتدأ والخبر جملة لا تستقل بالفائدة ، وذلك لا يجوز. وأما تمثيله بقوله : ولم يكن له كفوا أحد فهما لا سواء ، لأن له معمول لكفوا ، وليس تبيينا. فيكون عامله مقدرا ، والمعنى : ولم يكن أحد كفوا له ، أي مكافيا له ، فصار نظير لم يكن له ضار بالعمرو ، فقوله : لعمرو ليس تبيينا ، بل معمولا لضارب. وقرأ الجمهور كله بالنصب تأكيدا للأمر. وقرأ أبو عمر : وكله على أنه مبتدأ ، ويجوز أن يعرب توكيدا للأمر على الموضع على مذهب من يجيز ذلك وهو : الجرمي ، والزجاج ، والفراء. قال ابن عطية : ورجح الناس قراءة الجمهور ، لأن التأكيد أملك بلفظة كلّ انتهى. ولا ترجيح ، إذ كل من القراءتين متواتر ، والابتداء بكل كثير في لسان العرب.

__________________

(١) سورة الإخلاص : ١١٢ / ٤.

٣٩٤

(يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) قيل : معناه يتسترون بهذه الأقوال التي ليست بمحض كفر ، بل هي جهالة. ويحتمل أن يكون إخبارا عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزغات. وقيل : الذي أخفوه قولهم : لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا. وقيل : الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد.

(يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) قال الزبير بن العوام فيما أسند عنه الطبري : والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. ومعتب هذا شهد بدرا ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، وكان مغموصا عليه بالنفاق. والمعنى : ما قتل أشرافنا وخيارنا ، وهذا إطلاق اسم الكل على البعض مجازا.

وقوله : يقولون ، يجوز أن يكون هو الذي أخفوه ، فيكون ذلك تفسيرا بعد إبهام قوله : ما لا يبدون لك. ومعناه : يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض.

وقوله : من الأمر ، فسّر الأمر هنا بما فسر في قول عبد الله بن أبي بن سلول : هل لنا من الأمر من شيء. فقيل : المعنى لو كان الأمر كما قال محمد إن الأمر كله لله ولأوليائه وإنهم الغالبون ، لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة ، وقيل : من الرأي والتدبير. وقيل : من دين محمد. أي لسنا على حق في اتباعه.

وجواب لو هو الجملة المنفية بما. وإذا نفيت بما فالفصيح أن لا تدخل عليه اللام.

قيل : وفي قصة أحد اضطراب. ففي أولها أن عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين رجعوا ولم يشهدوا أحدا ، فعلى هذا يكون قالوا هذا بالمدينة ، ولم يقتل أحد منهم ولا من أصحابهم بالمدينة ، وإنما قتلوا بأحد ، فكيف جاء قوله هاهنا ، وحديث الزبير في سماعه معتبا يقول ذلك دليل على أن معتبا حضر أحدا؟ فإن صح حديث الزبير فيكون قد تخلف عن عبد الله بعض المنافقين وحضر أحدا ، فيتجه قوله هاهنا ، وإن لم يصح فيوجه قوله : هاهنا إلى أنه إشارة إلى أحد إشارة القريب الحاضر لقرب أحد من المدينة. (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) هذا النوع عند علماء البيان يسمى الاحتجاج النظري : وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدلّ عليه بضروب من المعقول نحو : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢)

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٢.

(٢) سورة يس : ٣٦ / ٧٩.

٣٩٥

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ) (١) وبعضهم يسميه : المذهب الكلامي. ومنه قول الشاعر :

جرى القضاء بما فيه فإن تلم

فلا ملام على ما خط بالقلم

وكتب : بمعنى فرض ، أو قضى وحتم ، أو خط في اللوح ، أو كتب ذلك الملك عليهم وهم أجنة ، أقوال. ومعنى الآية : أنه لو تخلفتم في البيوت لخرج من حتم عليه القتل إلى مكان مصرعه فقتل فيه ، وهذا رد على قول معتب ، ودليل على أن كل امرئ له أجل واحد لا يتعداه. فإن قيل : فهو الأجل الذي سبق له في الأزل وإلّا مات لذلك الأجل ، ولا فرق بين موته وخروج روحه بالقتل ، أو بأي أسباب المرض ، أو فجأه من غير مرض هو أجل واحد لكل امرئ وإن تعددت الأسباب. وقد تكلم الزمخشري هنا بألفاظ مسهبة على عادته. فقال : لو كنتم في بيوتكم يعني ـ من علم الله أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع ـ وكتب ذلك في اللوح المحفوظ ، لم يكن بد من وجوده. فلو قعدتم في بيوتكم لبرز من بينكم الذين علم الله أنهم يقتلون إلى مضاجعهم وهي مصارعهم ، ليكون ما علم أنه يكون. والمعنى : أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين ، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله. وإنما ينكبون به في بعض الأوقات. تمحيص لهم ، وترغيب في الشهادة ، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة. انتهى كلامه. وهو نوع من الخطابة والمعنى في الآية واضح جدا لا يحتاج إلى هذا التطويل.

وقرأ الجمهور : لبرز ، ثلاثيا مبنيا للفاعل. أي لصاروا في البراز من الأرض. وقرأ أبو حيوة : لبرّز مبنيا للمفعول مشدّد الراء ، عدي برز بالتضعيف. وقرأ الجمهور : كتب مبنيا للمفعول ، ورفع القتل. وقرىء : كتب مبنيا للفاعل ، ونصب القتل. وقرأ الحسن والزهري : القتال مرفوعا. وتحتمل هذه القراءة الاستغناء عن المنافقين ، أي : لو تخلفتم أنتم لبرز المطيعون المؤمنون الذين فرض عليهم القتال ، وخرجوا طائعين إلى مواضع استشهادهم ، فاستغنى بهم عنكم.

(وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) تقدم معنى الابتلاء والتمحيص. فقيل : المعنى إنّ الله فرض عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد ليختبر

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٨١.

٣٩٦

صبركم ، وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم. وقيل : ليعاملكم معاملة المختبر. وقيل : ليقع منكم مشاهدة علمه غيبا كقوله : (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١). وقيل : هو على حذف مضاف. أي : وليبتلي أولياء الله ما في صدوركم ، فأضافه إليه تعالى تفخيما لشأنه. والواو قيل : زائدة. وقيل : للعطف على علة محذوفة ، أي : ليقضي الله أمره وليبتلي. وقال ابن بحر : عطف على ليبتليكم ، لما طال الكلام أعاده ثم عطف عليه ليمحص. وقيل : تتعلق اللام بفعل متأخر ، التقدير : وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة. وكان متعلق الابتلاء ما انطوت عليه الصدور وهي القلوب كما قال : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢) ومتعلق التمحيص وهو التصفية والتطهير ما انطوت عليه القلوب من النيات والعقائد.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، وجاء بها عقيب قوله : وليمحص ما في قلوبكم على معنى : أنه عليم بما انطوت عليه الصدور ، وما أضمرته من العقائد ، فهو يمحص منها ما أراد تمحيصه.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى هذه الآية قال : لما كان يوم أحد فهزمنا مررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني انزو كأنني أروى ، والناس يقولون : قتل محمد ، فقلت : لا أجد أحدا يقول : قتل محمد إلا قتلته ، حتى اجتمعنا على الجبل ، فنزلت هذه الآية كلها. وقال عكرمة : نزلت فيمن فرّ من المؤمنين فرارا كثيرا منهم : رافع بن المعلى ، وأبو حذيفة بن عتبة ، ورجل آخر.

والذين تولوا : كل من ولى الدبر عن المشركين يوم أحد قاله : عمر ، وقتادة ، والربيع. أو كل من قرب من المدينة وقت الهزيمة قاله السدي. أو رجال بأعيانهم قاله : ابن إسحاق منهم : عتبة بن عثمان الزرقي ، وأخوه سعد وغيرهما ، بلغوا الجلعب جبلا بناحية المدينة مما يلي الأعوص فأقاموا به ثلاثا ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهم : «لقد ذهبتم فيها عريضة» ولم يبق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلا أبو بكر ، وعلي ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وباقيهم من الأنصار منهم : أبو

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٢٩.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٤٦.

٣٩٧

طلحة ، وظاهر تولوا يدل على مطلق التولي يوم اللقاء ، سواء فرّ إلى المدينة ، أم صعد الجبل.

والجمع : اسم جمع. ونص النحويون على أن اسم الجمع لا يثنى ، لكنه هنا أطلق يراد به معقولية اسم الجمع ، بل بعض الخصوصيات. أي : جمع المؤمنين ، وجمع المشركين ، فلذلك صحت تثنيته. ونظير ذلك قوله :

وكل رفيقي كلّ رحل وإن هما

تعاطى القنا قوما هما إخوان

فثنى قوما لأنه أراد معنى القبيلة. واستزل هنا استفعل لطلب ، أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه ، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه ، هكذا قالوه. ولا يلزم من طلب الشيء واستدعائه حصوله ، فالأولى أن يكون استفعل هنا بمعنى أفعل ، فيكون المعنى : أزلهم الشيطان ، فيدل على حصول الزلل ، ويكون استزل وأزل بمعنى واحد ، كاستبان وأبان ، واستبل وأبل كقوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) (١) على أحد تأويلاته. واستزلال الشيطان إياهم سابق على وقت التولي ، أي كانوا أطاعوا الشيطان واجترحوا ذنوبا قبل منعتهم النصر ففروا. وقيل : الاستزلال هو توليهم ذلك اليوم. أي : إنما استزلهم الشيطان في التولي ببعض ما سبقت لهم من الذنوب ، لأن الذنب يجرّ إلى الذنب ، فيكون نظير ذلك بما عصوا. وفي هذين القولين يكون بعض ما كسبوا هو ذنوب سلفت لهم. قال الحسن : استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة.

وقيل : بعض ما كسبوا هو تركهم المركز الذي أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالثبات فيه ، فجرهم ذلك إلى الهزيمة. ولا يظهر هذا لأنّ الذين تركوا المركز من الرماة كانوا دون الأربعين ، فيكون من باب إطلاق اسم الكل على البعض. وقال المهدوي : ببعض ما كسبوا هو حبهم الغنيمة ، والحرص على الحياة. وذهب الزجاج وغيره إلى أن المعنى : إن الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة ، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها ، فأخروا الجهاد حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حالة مرضية. ولا يظهر هذا القول لأنهم كانوا قادرين على التوبة قبل القتال وفي حال القتال ، «والتائب من الذنب كمن لا ذنب له» وظاهر التولي : هو تولي الإدبار والفرار عن القتال ، فلا يدخل فيه من صعد إلى الجبل ، لأنه من متحيز إلى جهة اجتمع في التحيز إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن ثبت معه فيها. وظاهر هذا التولي

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٦.

٣٩٨

أنه معصية لذكر استزلال الشيطان وعفو الله عنهم. ومن ذهب إلى أن هذا التولي ليس معصية ، لأنهم قصدوا التحصن بالمدينة ، وقطع طمع العدو منهم ، لما سمعوا أن محمدا قد قتل. أو لكونهم لم يسمعوا دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إليّ عباد الله» للهول الذي كانوا فيه. أو لكونهم كانوا سبعمائة والعدوّ ثلاثة آلاف ، وعند هذا يجوز الانهزام. أو لكونهم ظنوا أن الرسول ما انحاز إلى الجبل ، وأنه يجعل ظهره المدينة. فمذهبه خلاف الظاهر ، وهذه الأشياء يجوز الفرار معها. وقد ذكر تعالى استزلال الشيطان إياهم وعفوه تعالى عنهم ، ولا يكون ذلك فيما يجوز فعله. وجاء قوله : ببعض ما كسبوا ، ولم يجىء بما كسبوا ، لأنه تعالى يعفو عن كثير كما قال تعالى : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (١) فالاستزلال كان بسبب بعض الذنوب التي لم يعف عنها ، فجعلت سببا للاستزلال. ولو كان معفوا عنه لما كان سببا للاستزلال.

(وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) الجمهور على أن معنى العفو هنا هو حط التبعات في الدنيا والآخرة. وكذلك تأوله عثمان في محاورة جرت بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ، قال له عبد الرحمن : قد كنت تولّيت مع من تولى يوم الجمع ، يعني يوم أحد. فقال له عثمان : قال الله : ولقد عفا الله عنهم ، فكنت فيمن عفا الله عنه. وكذلك ابن عمر مع الرجل العراقي حين نشده بحرمة هذا البيت : أتعلم أنّ عثمان فرّ يوم أحد؟ أجابه : بأنه يشهد أن الله قد عفا عنه.

وقال ابن جريج : معنى عفا الله عنهم أنه لم يعاقبهم. قال ابن عطية : والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت ، وعدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرهما» انتهى ولما كان مذهب الزمخشري أن العفو والغفران عن الذنب لا يكون إلا لمن تاب ، وأنّ الذنب إذا لم يتب منه لا يكون معه العفو ، دسّ مذهبه في هذه الجملة ، فقال : ولقد عفا الله عنهم لتوبتهم واعتذارهم انتهى.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أي غفور الذنوب حليم لا يعاجل بالعقوبة. وجاءت هذه الجملة كالتعليل لعفوه تعالى عن هؤلاء الذين تولوا يوم أحد ، لأنّ الله تعالى واسع المغفرة ، واسع الحلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) لما تقدم من قول المنافقين : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ، وأخبر الله عنهم أنهم قالوا لإخوانهم : وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ،

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١٥.

٣٩٩

وكان قولا باطلا واعتقادا فاسدا نهى تعالى المؤمنين أنّ يكونوا مثلهم في هذه المقالة الفاسدة والاعتقاد السيّء. وهو أن من سافر في تجارة ونحوها فمات ، أو قاتل فقتل ، لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض نفسه للسفر فيه أو للقتال ، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين ، والكفار القائلون. قيل : هو عام ، أي اعتقاد الجميع هذا قاله : ابن إسحاق وغيره ، أو عبد الله بن أبي وأصحابه سمع منهم هذا القول قاله : مجاهد والسدي وغيرهما ، أو هو ومعتب وجدّ بن قيس وأصحابهم.

واللام في : لإخوانهم لام السبب ، أي لأجل إخوانهم. وليست لام التبليغ ، نحو : قلت لك. والإخوة هنا إخوة النسب ، إذ كان قتلى أحد من الأنصار وأكثرهم من الخزرج ، ولم يقتل من المهاجرين إلا أربعة. وقيل : خمسة. ويكون القائلون منافقي الأنصار جمعهم أب قريب ، أو بعيد ، أو إخوة المعتقد والتآلف ، كقوله» (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) (١) وقال :

صفحنا عن بني ذهل

وقلنا القوم إخوان

والضرب في الأرض : الإبعاد فيها ، والذهاب لحاجة الإنسان. وقال السدي : الضرب هنا السير في التجارة. وقال ابن إسحاق : السير في الطاعات.

وإذا ظرف لما يستقبل. وقالوا : ماض ، فلا يمكن أن يعمل فيه. فمنهم من جرده عن الاستقبال وجعله لمطلق الوقت بمعنى حين ، فاعمل فيه قال : وقال ابن عطية : دخلت إذا وهي حرف استقبال من حيث الذين اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي ، ومن يقول في المستقبل ، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان. قال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف قيل إذا ضربوا في الأرض مع قالوا؟ (قلت) : هو حكاية الحال الماضية ، كقولك : حين تضربون في الأرض انتهى كلامه. ويمكن إقرار إذا على ما استقر لها من الاستقبال ، والعامل فيها مضاف مستقبل محذوف ، وهو لا بد من تقدير مضاف غاية ما فيه أنّا نقدره مستقبلا حتى يعمل في الظرف المستقبل ، لكن يكون الضمير في قوله : لو كانوا عائدا على إخوانهم لفظا ، وعلى غيرهم معنى ، مثل قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) (٢) وقول العرب : عندي درهم ونصفه. وقول الشاعر :

قالت : ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا ونصفه فقد

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٠٣.

(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ١١.

٤٠٠