البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

وما ملكت أيمانكم. والتمثيل : في ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا. والحذف في عدّة مواضع.

إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)

المثقال : مفعال من الثقل ، ومثقال كل شيء وزنه ، ولا تظنّ أنه الدينار لا غير. الذرة : النملة الصغيرة وقيل : أصغر ما تكون إذا مر عليها حول ، وقيل في وصفها. الحمراء. قيل : إذا مر عليها حول صغرت وجرت. قال :

من القاصرات الطرف لو دب محول

من الذر فوق الإتب منها لاثرا

وقال حسان :

لو يدب الحولي من ولد الذر

ر عليها لأندبتها الكلوم

وقيل عن ابن عباس : الذرة رأس النملة. وقيل عنه : أدخل يده في التراب ورفعها ثم نفخ فيه ، وقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة. وقيل : كل جزء الهباء في الكوة ذرة. وقيل : الذرة هي الخردلة.

السكر : انسداد طريق التمييز بشرب ما يسكر من قولهم : سكرت عين البازي ، إذا خالها النوم. ومنه : سكر النهر إذا انسدت مجاريه وسكرته أنا. والسكر : أيضا بضم السين السد. قال :

فما زلنا على الشرب

نداوي السكر بالسكر

٦٤١

والسكر : بالفتح ما أسكر ، أي منع من التمييز.

الغائط : ما انخفض من الأرض ، وجمعه غيطان. ويقال : عيط وغوط. وزعم ابن جني : أن غيطا فعيل ، إذ أصله عنده غيط مثل هين وسيد إذا أخففتهما. والصحيح : أنه فعل. كما أنّ غوطا فعل ، لأن العرب قالت : غاط يغوط ويغيط ، فأتت به مرة في ذوات الياء ، ومرة في ذوات الواو. وجمعوا غوطا على أغواط ويقال : تغوّط إذا أحدث وغاط في الأرض يغيط ويغوط غاب فيها حتى لا يظهر إلا لمن وقف عليه. وكان الرجل إذا أراد التبرز ارتاد غائطا من الأرض يستتر فيه عن أعين الناس ، ثم قيل : للحدث. نفسه غائطا ، كما قيل : سال الميزان وجري النهر.

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) نزلت في المهاجرين الأوّلين. وقيل : في الخصوم. وقيل : في عامة المؤمنين. ومناسبة هذه لما قبلها واضحة لأنه تعالى لما أمر بعبادته تعالى وبالإحسان للوالدين ومن ذكر معهم ، ثم أعقب ذلك بذم البخل والأوصاف المذكورة معه ، ثم وبخ من لم يؤمن ، ولم ينفق في طاعة الله ، فكان هذا كله توطئة لذكر الجزاء على الحسنات والسيئات فأخبر تعالى بصفة عدله ، وأنه عزوجل لا يظلم أدنى شيء ، ثم أخبر بصفة الإحسان فقال :

(وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) وضرب مثلا لأحقر الأشياء وزن ذرة ، وذلك مبالغة عظيمة في الانتفاء عن الظلم البتة. وظاهر قوله : مثقال ذرّة ، أن الذرّة لها وزن. وقيل : الذرّة لا وزن لها ، وأنه امتحن ذلك فلم يكن لها وزن. وإذا كان تعالى لا يظلم مثقال ذرّة فلأن لا يظلم فوق ذلك أبلغ ، ولما كانت الذرة أصغر الموجودات ضرب بها المثل في القلة. وقرأ ابن مسعود : مثقال نملة ، ولعل ذلك على سبيل الشرح للذرة.

قال الزمخشري : وفيه دليل على أنه لو نقص من أجره أدنى شيء وأصغره ، أو زاد في العقاب ، لكان ظلما. وأنه لا يفعله لاستحالته في الحكمة ، لا لاستحالته في القدرة انتهى. وهي نزعة اعتزالية. وثبت في صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها» ويظلم يتعدّى لواحد ، وهو محذوف وتقديره : لا يظلم أحدا مثقال ذرة. وينتصب مثقال على أنه نعت لمصدر محذوف أي : ظلما وزن ذرّة ، كما تقول : لا أظلم قليلا ولا كثيرا. وقيل : ضمنت

٦٤٢

معنى ما يتعدّى لاثنين ، فانتصب مثقال على أنه مفعول ثان ، والأول محذوف التقدير : لا ينقص ، أو لا يغضب ، أو لا يبخس أحدا مثقال ذرة من الخير أو الشر ، (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً).

حذفت النون من تك لكثرة الاستعمال ، وكان القياس إثبات الواو ، لأن الواو إنما حذفت لالتقاء الساكنين. فكان ينبغي أنه إذا حذفت ترجع الواو ، ولأن الموجب لحذفها قد زال. ولجواز حذفها شرط على مذهب سيبويه وهو : أن تلاقي ساكنان ، فإن لاقته نحو : لم يكن ابنك قائما ، ولم يكن الرجل ذاهبا ، لم يجز حذفها. وأجازه يونس ، وشرط جواز هذا الحذف دخول جازم على مضارع معرب مرفوع بالضمة ، فلو كان مبنيا على نون التوكيد ، أو نون الإناث ، أو مرفوعا بالنون ، لم يجز حذفها.

وقرأ الجمهور : حسنة بالنصب ، فتكون ناقصة ، واسمها مستتر فيها عائد على مثقال. وأنث الفعل لعوده على مضاف إلى مؤنث ، أو على مراعاة المعنى ، لأن مثقال معناه زنة أي : وإن تك زنة ذرّة. وقرأ الحسن والحرميان : حسنة بالرفع على أن تك تامة ، التقدير : وإن تقع أو توجد حسنة. وقرأ الابنان : يضعفها مشدّدة من غير ألف. قال أبو علي : المعنى فيهما واحد ، وهما لغتان. ويدل على هذا قراءة من قرأ (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) (١) و (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) (٢). وقال أبو عبيدة في كتاب المجاز والطبري : ضاعف يقتضي مرارا كثيرة ، وضعف يقتضي مرتين ، وكلام العرب يقتضي عكس هذا. لأنّ المضاعفة تقتضي زيادة المثل ، فإذا شدّدت اقتضت البينة التكثير فوق مرتين إلى أقصى ما يزيد من العدد ، وقد تقدم لنا الكلام في هذا. وقال الزمخشري : يضاعف ثوابها لاستحقاقها ضده الثواب في كل وقت من الأوقات المستقبلة غير المتناهية. وورد تضعيف الحسنة لعشر أمثالها في كتاب الله ، وتضعيف النفقة إلى سبعمائة ، ووردت أحاديث بالتضعيف ألفا وألف ألف ، ولا تضاد في ذلك ، إذ المراد الكثرة لا التحديد. وإن أريد التحديد فلا تضاد أيضا ، لأن الموعود بذلك جميع المؤمنين ، ويختلف باختلاف الأعمال. وظاهر قوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآية أنها عامة في كل أحد ، وتخصيص ذلك بالمهاجرين غير ظاهر من لدنه أي : من عنده على سبيل التفضل. قال الزمخشري : سماه أجرا لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته. انتهى قال ابن مسعود وابن جبير وابن زيد الأجر : هنا الجنة. وقيل : لا حد له ولا عد.

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٠.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٥.

٦٤٣

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) هو نبيهم يشهد عليهم بما فعلوا كما قال تعالى : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) (١) والأمة هنا من بعث إليهم النبي من مؤمن به وكافر. لمّا أعلم تعالى بعدله وإيتاء فضله أتبع ذلك بأن نبه على الحالة التي يحضرونها للجزاء ويشهد عليهم فيها.

وكيف في موضع رفع إن كان المحذوف مبتدأ التقدير : فكيف حال هؤلاء السابق ذكرهم ، أو كيف صنعهم. وهذا المبتدأ هو العامل في إذا ، أو في موضع نصب إن كان المحذوف فعلا أي : فكيف يصنعون ، أو كيف يكونون. والفعل أيضا هو العامل في إذا.

ونقل ابن عطية عن مكيّ : أن العامل في كيف جئنا. قال : وهو خطأ ، والاستفهام هنا للتوبيخ ، والتقريع ، والإشارة بهؤلاء إلى أمة الرسول. وقال مقاتل : إلى الكفار. وقيل : إلى اليهود والنصارى. وقيل : إلى كفار قريش. وقيل : إلى المكذبين وشهادته بالتبليغ لأمته قاله : ابن مسعود ، وابن جريج ، والسدي ، ومقاتل. أو بإيمانهم قاله أبو العالية ، أو بأعمالهم قاله : مجاهد وقتادة. والظاهر أن الشهادة تكون على المشهود عليهم. وقيل : على بمعنى اللام ، أي : وجئنا بك لهؤلاء ، وهذا فيه بعد. وقال الزجاجي : يشهد لهم وعليهم ، وحذف المشهود عليهم في قوله : إذا جئنا من كل أمة بشهيد لجريان ذكره في الجار والمجرور فاختصر ، والتقدير : من كل أمة بشهيد على أمته. وظاهر المقابلة يقتضي أن تكون الشهادة عليهم لا لهم ، ولا يكون عليهم إلا والمشهود عليهم كانوا منكرين مكذبين بما شهد عليهم به. وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه ، وكذلك حين قرأ عليه ابن مسعود ذرفت عيناه وبكاؤه ـ والله أعلم ـ هو إشفاق على أمته ورحمة لهم من هول ذلك اليوم. وظاهر قوله : وجئنا بك ، أنه معطوف على قوله : جئنا من كل أمة. وقيل : حال على تقدير قد أي وقد جئنا.

(يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) التنوين في يومئذ هو تنوين العوض ، حذفت الجملة السابقة وعوض منها هذا التنوين ، والتقدير : يوم إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول أي : كفروا بالله وعصوا رسوله. والرسول : هنا اسم جنس ، ويحتمل أن يكون التنوين عوضا من الجملة الأخيرة ، ويكون الرسول محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأبرز ظاهرا ، ولم يأت وعصوك لما في ذكر

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١١٧.

٦٤٤

الرسول من الشرف والتنويه بالرسالة التي هي أشرف ما تحملها الإنسان من الله تعالى ، إذ هي سبب السعادة الدنيوية والأخروية ، والعامل في : يوم يودّ. ومعنى يودّ : يتمنى. وظاهر وعصوا أنه معطوف على كفروا. وقيل : هو على إضمار موصول آخر أي : والذين عصوا فهما فرقتان. وقيل : الواو واو الحال أي : كفروا وقد عصوا الرسول. وقال الحوفي : يجوز أن يكون يوم مبنيا مع إذ ، لأنّ الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤه معه. وإذ في هذا الموضع اسم ليست بظرف ، لأن الظروف إذا أضيف إليها خرجت إلى معنى الاسمية من أجل تخصيص المضاف إليها ، كما تخصص الأسماء ، ومع استحقاقها الجرّ ، والجرّ ليس من علامات الظروف انتهى ، وهو كلام جيد.

وقرأ الجمهور : وعصوا الرسول بضم الواو. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو السمال : وعصوا الرسول بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم : تسوى بضم التاء وتخفيف السين مبنيا للمفعول ، وهو مضارع سوى. وقرأ نافع ، وابن عامر : بفتح التاء وتشديد السين ، وأصله تتسوى ، فأدغمت التاء في السين ، وهو مضارع تسوى. وقرأ حمزة والكسائي : تسوّى بفتح التاء وتخفيف السين ، وذلك على حذف التاء ، إذ أصله تتسوى وهو مضارع تسوى. فعلى قراءة من قرأ تتسوى وتسوّى فتكون الأرض فاعلة. قال أبو عبيدة وجماعة : معناه لو تنشق الأرض ويكونون فيها ، وتتسوى هي في نفسها عليهم. والباء بمعنى على. وقالت فرقة : معناه لو تسوّى هي معهم في أن يكونوا ترابا كالبهائم ، فجاء اللفظ على أن الأرض هي المسوية معهم ، والمعنى : إنما هو أنهم يستوون مع الأرض. ففي اللفظ قلب يخرج على قولهم : أدخلت القلنسوة في رأسي. وعلى قراءة من قرأ : تسوى مبنيا للمفعول ، فالمعنى أن الله يفعل ذلك على حسب المعنيين السابقين. وقيل : المعنى لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى ، ومعنى هذا القول هو معنى القول الأول. وقيل : المعنى لو تعدل بهم الأرض أي : يؤخذ منهم ما عليها فدية.

والعامل في يومئذ يود ، ومفعول يود محذوف تقديره : تسوية الأرض بهم ، ودلّ عليه قوله : لو تسوى بهم الأرض. ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابه محذوف تقديره : لسروا بذلك ، وحذف لدلالة يودّ عليه. ومن أجاز في لو أن تكون مصدرية مثل أن جوز ذلك هنا ، وكانت إذ ذاك لا جواب لها ، بل تكون في موضع مفعول يود.

(وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) روي عن ابن عباس أن معنى هذه : ودوا إذ فضحتهم

٦٤٥

جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم. وروي عنه أيضا : أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله شيئا. وقال الحسن : القيامة مواقف ، ففي موطن يعرفون سوء أعمالهم ويسألون أن يردوا إلى الدنيا ، وفي موطن يكتمون ويقولون : والله ربنا ما كنا مشركين. وقال الفراء والزجاج : هو كلام مستأنف لا يتعلق بقوله : لو تسوى بهم الأرض ، والمعنى : لا يقدرون على كتمان الحديث لأنه ظاهر عند الله. وقيل : ودوا لو سويت بهم الأرض ، وأنهم لم يكتموا الله حديثا. وقيل : لم يعتقدوا أنهم مشركون ، وإنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة ، ذكر هذين القولين : ابن الأنباري. قال القاضي : أخبروا بما توهموا ، وكانوا يظنون أنهم ليسوا بمشركين ، وذلك لا يخرجهم أنهم قد كذبوا. وإذا كانت الجملة مندرجة تحت يود فقال الجمهور : هو قولهم والله ربنا ما كنا مشركين ، ما كنا نعمل من سوء ، وهذا يتعلق بالآخرة. وقال عطاء : أمر الرسول ونعته وبعثه ، وهذا متعلق بالدنيا انتهى. ما لخص من كتاب التحرير والتحبير.

وقال ابن عطية ما ملخصه : استأنف الكلام وأخبر أنهم لا يكتمون حديثا لنطق جوارحهم بذلك كله حتى يقول بعضهم : والله ربنا ما كنا مشركين ، فيقول الله تعالى : كذبتم ، ثم تنطق جوارحهم فلا تكتم حديثا ، وهذا قول ابن عباس. وقالت طائفة مثله : إلا أنها قالت : استأنف ليخبر أنّ الكتم لا ينفع وإن كتموا لعلم الله جميع أسرارهم ، فالمعنى : ليس ذلك المقام الهائل مقاما ينفع فيه الكتم. والفرق بين هذا والأول ، أن الأول يقتضي أنّ الكتم لا يقع بوجه ، والآخر يقتضي أنّ الكتم لا ينفع وقع أو لم يقع ، كما تقول : هذا مجلس لا يقال فيه باطل ، وأنت تريد أنه لا ينفع فيه ولا يستمع إليه. وقالت طائفة : الكلام كله متصل ، والمعنى : ويودون أنهم لا يكتمون الله حديثا. وودّهم ذلك إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين. وقالت طائفة : هي مواطن وفرق انتهى. وقال الزمخشري : لا يقدرون على كتمانه ، لأن جوارحهم تشهد عليهم.

وقيل : الواو للحال يودون أن يدفنوا تحت الأرض ، وأنهم لا يكتمون الله حديثا ، ولا يكذبون في قولهم : والله ربنا ما كنا مشركين. لأنهم إذا قالوا ذلك وجحدوا شركهم ، ختم الله على أفواههم عند ذلك وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم ، والشهادة عليهم بالشرك. فلشدة الأمر عليهم يتمنون أن تسوى بهم الأرض انتهى. والذي يتلخص في هذه الجملة أن الواو في قوله : ولا يكتمون إما أن تكون للحال ، أو للعطف فإن كانت للحال كان المعنى :

٦٤٦

أنهم يوم القيامة يودون إن كانوا ماتوا وسويت بهم الأرض ، غير كاتمين الله حديثا ، فهي حال من بهم ، والعامل فيها تسوى. وهذه الحال على جعل لو مصدرية بمعنى أن ، ويصح أيضا الحال على جعل لو حرفا لما سيقع لوقوع غيره ، أي : لو تسوى بهم الأرض غير كاتمين الله حديثا لكان بغيتهم وطلبتهم. ويجوز أن يكون حالا من الذين كفروا ، والعامل يود على تقدير أن تكون لو مصدرية أي : يوم القيامة يود الذين كفروا إن كانوا سويت بهم الأرض غير كاتمين ، وتكون هذه الحال قيدا في الودادة. أي تقع الودادة منهم لما ذكر في حال انتفاء الكتمان ، وهي حالة إقرارهم بما كانوا عليه في الدّنيا من الكفر والتكذيب ، ويكون إقرارهم في موطن دون موطن ، إذ قد ورد أنهم يكتمون ، ويبعد أن يكون حالا على هذا الوجه. ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره للفصل بين الحال ، وعاملها بالجملة. وإن كانت الواو في : ولا يكتمون ، للعطف فيحتمل أن يكون من عطف المفردات ، ومن عطف الجمل. فإن كانت من عطف المفردات كان ذلك معطوفا على مفعول يود أي : يودّون تسوية الأرض بهم وانتفاء الكتمان. ويحتمل أن يكون انتفاء الكتمان في الدنيا ، ويحتمل أن يكون في الآخرة ، وهو قولهم : والله ربنا ما كنا مشركين. ويبعد جدّا أن يكون عطف على مفعول يود المحذوف ، ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. وإن كانت من عطف الجمل فيحتمل أن يكون معطوفا على يود ، أي : يودّون كذا ولا يكتمون الله حديثا ، فأخبر تعالى عنهم بخبرين الودادة وانتفاء الكتمان ، ويكون انتفاء الكتمان في بعض مواقف القيامة. ويحتمل أن يكون مفعول يود محذوفا كما قرّرناه ، ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف كما تقدّم. والجملة من قوله : ولا يكتمون معطوفة على لو ومقتضيتها ، ويكون تعالى قد أخبر بثلاث جمل : جملة الودادة ، والجملة التعليقية من لو وجوابها ، وجملة انتفاء الكتمان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) روي أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل التحريم ، وحانت صلاة ، فتقدّم أحدهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت. وقيل : نزلت بسبب قول عمر ثانيا : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، وكانوا يتحامونها أوقات الصلوات ، فإذا صلوا العشاء شربوها ، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر ، إلى أن سأل عمر ثالثا فنزل تحريمها مطلقا. وهذه الآية محكمة عند الجمهور. وذهب ابن عباس إلى أنها منسوخة بآية المائدة. وأعجب من هذا قول عكرمة : أن قوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى منسوخ بقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ

٦٤٧

فَاغْسِلُوا) (١) الآية أي أبيح لهم أن يؤخروا الصلاة حتى يزول السكر ، ثم نسخ ذلك فأمروا بالصلاة على كل حال ، ثم نسخ شرب الخمر بقوله : (فَاجْتَنِبُوهُ) (٢) ولم ينزل الله هذه الآية في إباحة الخمر فلا تكون منسوخة ، ولا أباح بعد إنزالها مجامعة الصلاة مع السكر. ووجه قول ابن عباس : أنّ مفهوم الخطاب يدل على جواز السكر ، وإنما حرم قربان الصلاة في تلك الحال ، فنسخ ما فهم من جواز الشرب والسكر بتحريم الخمر.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي : أنه لما أمر تعالى بعبادة الله والإخلاص فيها ، وأمر ببرّ الوالدين ومكارم الأخلاق ، وذم البخل واستطرد منه إلى شيء من أحوال القيامة ، وكان قد وقع من بعض المسلمين تخليط في الصلاة التي هي رأس العبادة بسبب شرب الخمر ، ناسب أن تخلص الصلاة من شوائب الكدر التي يوقعها على غير وجهها ، فأمر تعالى بإتيانها على وجهها دون ما يفسدها ، ليجمع لهم بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم ، وبين الخلق والخطاب بقوله : يا أيها الذين آمنوا للصاحين ، لأن السكران إذا عدم التمييز لسكره ليس بمخاطب ، لكنه مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه ، وبتكفيره ما أضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرّر تكليفه إياها قبل السكر ، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق على ما ذهب إليه بعض الناس.

وبالغ تعالى في النهي عن أن يصلّي المؤمن وهو سكران بقوله : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) لأن النهي عن قربان الصلاة أبلغ من قوله : لا تصلوا وأنتم سكارى ومنه : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) (٣) (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) (٤) (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) (٥) والمعنى : لا تغشوا الصلاة. وقيل : هو على حذف مضاف أي : لا تقربوا مواضع الصلاة لقوله : ولا جنبا إلا عابري سبيل على أحد التأويلين في عابري سبيل ، وسيأتي إن شاء الله. ومواضع الصلاة هي المساجد لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم».

والجمهور على أن المراد : وأنتم سكارى من الخمر. وقال الضحاك : المراد السكر من النوم ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه» وقال عبيدة السلماني : المراد بقوله وأنتم سكارى إذا

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٦.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٩.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٣٢.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ١٥١.

(٥) سورة الأنعام : ٦ / ١٥٢.

٦٤٨

كنتم حاقنين ، لقوله عليه‌السلام : «لا يصلين أحدكم وهو حاقن». وفي رواية : «وهو ضام فخذيه» واستضعف قول الضحاك وعبيدة واستبعد. وقال القرطبي : قولهما صحيح المعنى ، لأن المطلوب من المصلي الإقبال على عبادة الله تعالى بقلبه وقالبه ، بصرف الأسباب التي تشوّش عليه وتقل خشوعه من : نوم ، وحقنة ، وجوع ، وغيره مما يشغل البال. وظاهر الآية يدل على النهي عن قربان الصلاة في حالة السكر. وقيل : المراد النهي عن السكر ، لأن الصلاة قد فرضت عليهم وأوقات السكر ليست محفوظة عندهم ولا بمقدرة ، لأن السكر قد يقع تارة بالقليل وتارة بالكثير ، وإذا لم يتحرر وقت ذلك عندهم تركوا الشرب احتياطا لأداء ما فرض عليهم من الصلوات. وأيضا فالسكر يختلف باختلاف أمزجة الشاربين ، فمنهم من سكره الكثير ، ومنهم من سكره القليل.

وقرأ الجمهور : سكارى بضم السين. واختلفوا : أهو جمع تكسير؟ أم اسم جمع؟ ومذهب سيبويه أنه جمع تكسير. قال سيبويه في حد تكسير الصفات : وقد يكسرون بعض هذا على فعالى ، وذلك قول بعضهم : سكارى وعجالى. فهذا نصّ منه على أن فعلى جمع. ووهم الأستاذ أبو الحسن بن الباذش فنسب إلى سيبويه أنه اسم جمع ، وأن سيبويه بين ذلك في الأبنية. قال ابن الباذش : وهو القياس ، لأنه جاء على بناء لم يجيء عليه جمع البتة ، وليس في الأبنية إلا نص سيبويه على أنه تكسير ، وذلك أنه قال : ويكون فعالى في الاسم نحو حبارى وسماني وكباري ، ولا يكون وصفا ، إلا أن يكسر عليه الواحد للجمع نحو عجالى وسكارى وكسالى. وحكى السيرافي فيه القولين ، ورجح أنه تكسير ، وأنه الذي يدل عليه كلام سيبويه. وقرأت فرقة : سكارى بفتح السين نحو ندمان وندامى ، وهو جمع تكسير. وقرأ النخعي : سكرى ، فاحتمل أن يكون صفة لواحدة مؤنثة كامرأة سكرى ، وجرى على جماعة إذ معناه : وأنتم جماعة سكرى. وقال ابن جني : هو جمع سكران على وزن فعلى كقوله : روبي نياما وكقولهم : هلكى وميدي جمع هالك ومائد. وقرأ الأعمش : سكرى بضم السين على وزن حبلى ، وتخريجه على أنه صفة لجماعة أي : وأنتم جماعة سكرى. وحكى جناح بن حبيش : كسلى وكسلى بالضم والفتح قاله الزمخشري. ومعنى حتى تعلموا ما تقولون : حتى تصحوا فتعلموا. جعل غاية السبب والمراد السبب ، لأنه ما دام سكران لا يعلم ما يقول وظاهر الآية يدل على أن السكران لا يعلم ما يقول ، ولذلك ذهب عثمان ، وابن عباس ، وطاووس ، وعطاء ، والقاسم ، وربيعة ، والليث ، وإسحاق ، وأبو ثور ، والمزني إلى أن السكران لا يلزمه طلاق ، واختاره الطبري. وقال أجمع العلماء : على

٦٤٩

أن طلاق المعتوه لا يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس ، معتوه بالوسواس. ولا يختلفون في أنّ طلاق من ذهب عقله بالبنج غير جائز ، فكذلك من سكر من الشراب. وروي عن عمر ومعاوية وجماعة من التابعين : أنّ طلاقه نافذ عليه وهو قول : أبي حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي. قال أبو حنيفة : أفعاله وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي إلا الردة ، فإنه إذا ارتد لا تبين امرأته منه. وقال أبو يوسف : يكون مرتدا في حال سكره ، وهو قول الشافعي ، إلا أنه لا يقتله في حال سكره ، ولا يستتيبه. واختلف قوله في الطلاق ، وألزم مالك السكران الطلاق والقود في الجراح والعقل ، ولم يلزمه النكاح والبيع. قال الماوردي : وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزمه طلاقه. وقال محمد بن عبد الحكم : لا يلزمه طلاق ولا عتاق. واختلفوا في السكر. فقيل : هو الذي لا يعرف صاحبه الرجل من المرأة قاله : جماعة من السلف ، وهو مذهب أبي حنيفة ، ويدل عليه قوله : حتى تعلموا ما تقولون. فظاهره يدل على أنّ السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول. وقال الثوري : السكر اختلال العقل ، فإذا خلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف حده. وقال أحمد : إذا تغير عقله في حال الصحة فهو سكران. وحكى عن مالك نحوه.

قيل : وفي الآية دلالة على أن الشرب كان مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر. وقال القفال : يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية ، وأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حالة الجنون والإغماء فما أبيح قصده ، بل لو أنفق من غير قصد كان مرفوعا عن صاحبه.

(وَلا جُنُباً) هذه حالة معطوفة على قوله : وأنتم سكارى. إذ هي جملة حالية ، والجملة الاسمية أبلغ لتكرار الضمير ، فالتقييد بها أبلغ في الانتفاء منها من التقييد بالمفرد الذي هو : ولا جنبا. ودخول لا دال على مراعاة كل قيد منهما بانفراده. وإذا كان النهي عن إيقاع الصلاة مصاحبة لكل حال منهما بانفراده ، فالنهي عن إيقاعها بهما مجتمعين ، وأدخل في الحظر. والجنب : هو غير الصحابة : لا غسل إلا على من أنزل ، وبه قال الأعمش وداود. وهي مسألة تذكر أدلتها في علم الفقه.

والجنب من الجنابة وهي البعد ، كأنه جانب الطهر ، أو من الجنب كأنه ضاجع ومس بجنبه. قال الزمخشري : الجنب يستوي فيه الواجد والجمع ، والمذكر والمؤنث ، لأنه اسم

٦٥٠

جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب انتهى. والذي ذكره هو المشهور في اللغة والفصيح ، وبه جاء القرآن. وقد جمعوه جمع سلامة بالواو والنون قالوا : قوم جنبون ، وجمع تكسير قالوا : قوم أجناب. وأما تثنيته فقالوا : جنبان.

(إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) العبور : الخطور والجواز ، ومنه ناقة عير الهواجر وعبر أسفار قال :

عيرانه سرح اليدين شمله

عبر الهواجر كالهجف الخاضب

وعابر السبيل هو المارّ في المسجد من غير لبث فيه ، وهو مذهب الشافعي قال : يمرّ فيه ولا يقعد فيه. وقال الليث : لا يمرّ فيه إلا إن كان بابه إلى المسجد. وقال أحمد وإسحاق : إذا توضأ الجنب فلا بأس به أن يقعد في المسجد. وقال الزمخشري : من فسر الصلاة بالمسجد قال : معناه لا تقربوا المسجد جنبا إلا مجتازين فيه ، إذا كان الطريق فيه إلى الماء ، أو كان الماء فيه ، أو احتلمتم فيه. وقيل : إنّ رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرّا إلا في المسجد ، فرخص لهم.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أو يمرّ فيه وهو جنب ، إلا لعلي. لأن بيته كان في المسجد» وقال عليّ وابن عباس أيضا وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم : عابر السبيل المسافر ، فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم وهو مذهب أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وزفر ، قالوا : لا يدخل المسجد إلا الطاهر سواء أراد القعود فيه أم الاجتياز ، وهو قول : مالك والثوري وجماعة. ورجح هذا القول بأن قوله : لا تقربوا الصلاة يبقى على ظاهره ، وحقيقته بخلاف تأويل مواضع الصلاة فإنه مجاز ، ولا يعدل إليه إلا بعد تعذر حمل الكلام على حقيقته. وليس في المسجد قول مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر ، وفي الصلاة قراءة مشروطة يمنع لأجل تعذر إقامتها من فعل الصلاة. وسمي المسافر عابر سبيل لأنه على الطريق ، كما سمي ابن السبيل.

وأفاد الكلام معنيين : أحدهما : جواز التيمم للجنب إذا لم يجد الماء والصلاة به. والثاني : أن التيمم لا يرفع الجنابة ، لأنه سماه جنبا مع كونه متيمما. وعلى هذا المعنى فسر الزمخشري الآية أولا فقال : إلا عابري سبيل ، الاستثناء من عامة أحوال المخاطبين ، وانتصابه على الحال. (فإن قلت) : كيف جمع بين هذه الحال والتي قبلها؟ (قلت) : كأنه

٦٥١

قيل : لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر ، وعبور السبيل عبارة عنه. ويجوز أن لا يكون حالا ولكن صفة كقوله : جنبا أي : ولا تقربوا الصلاة جنبا غير عابري سبيل ، أي : جنبا مقيمين غير معذورين. (فإن قلت) : كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر؟ (قلت) : أريد بالجنب الذين لم يغتسلوا ، كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين حتى تغتسلوا ، إلا أن تكونوا مسافرين انتهى كلامه. ومن قال : بمنع الجنب من المرور في المسجد والجلوس فيه تعظيما له ، فالأولى أن يمنعه والحائض من قراءة القرآن ، وبه قال الجمهور ، فلا يجوز لهما أن يقرآ منه شيئا سواء كان كثيرا أم قليلا حتى يغتسلا ، ورخص مالك لهما في الآية اليسيرة للتعوذ ، وأجاز للحائض أن تقرأ مطلقا إذا خافت النسيان عند الحيض ، وذكروا هذه المسألة ولا تعلق لها في التفسير بلفظ القرآن.

(حَتَّى تَغْتَسِلُوا) هذه غاية لامتناع الجنب من الصلاة ، وهي داخلة في الحظر إلى أن يوقع الاغتسال مستوعبا جميعه. والخلاف : هل يدخل في ماهية الغسل إمرار اليد أو شبهها مع الماء على المغسول؟ فلو انغمس في الماء أو صبه عليه فمشهور مذهب مالك : أنه لا يجزئه حتى يتدلك ، وبه قال المزني : ومذهب الجمهور : أنه يجزئه من غير تدلك. وهل يجب في الغسل تخليل اللحية؟ فيه عن مالك خلاف. وأما المضمضة والاستنشاق في الغسل فذهب أبو حنيفة إلى فرضيتهما فيه لا في الوضوء. وقال ابن أبي ليلى وإسحاق وأحمد وبعض أصحاب داود : هما فرض فيهما. وروي عن عطاء ، والزهري وقال مجاهد وجماعة من التابعين ، ومالك ، والأوزاعي ، والليث ، والشافعي ، ومحمد بن جرير : ليسا بفرض فيهما. وروي عن أحمد : أن المضمضة سنة ، والاستنشاق فرض ، وقال به بعض أصحاب داود. وظاهر قوله : حتى تغتسلوا حصول الاغتسال ، ولم يشترط فيه نية الاغتسال ، بل ذكر حصول مطلق الاغتسال ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه في كل طهارة بالماء. وروي هذا الوليد بن مسلم عن مالك ، ومشهور مذهبه أنه لا بد من النية ، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) قال الجمهور : نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع ، حين أقام على التماس العقد. وقال النخعي : في قوم أصابتهم جراح وأجنبوا. وقيل : كان ذلك عبد الرحمن بن عوف ، ومرضى يعني في

٦٥٢

الحضر. ويدل على مطلق المرض قل أو كثر ، زاد أو نقص ، تأخر برؤه أو تعجل ، وبه قال داود. فأجاز التيمم لكل من صدق عليه مطلق الاسم. وخصص العلماء غيره المرض بالجدري ، والحصبة ، والعلل المخوف عليها من الماء فقالوا : إن خاف تيمم بلا خلاف ، إلا ما روي عن عطاء والحسن : أنه يتطهر وإن مات ، وهما محجوجان بحديث عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل ، وأنه أشفق أن يهلك إن اغتسل فتيمم ، فأقرّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ، خرجه أبو داود والدارقطني.

وإن خاف حدوث مرض أو زيادته ، أو تأخر البرء ، فذهب أبو حنيفة ومالك : إلى أنه يتيمم. وقال الشافعي : لا يجوز ، وقيل : الصحيح عن الشافعي أنه إذا خاف طول المرض جاز له التيمم. وظاهر قوله تعالى : أو على سفر مطلق السفر ، فلو لم يجد الماء في الحضر جاز له التيمم عند مالك وأبي حنيفة ومحمد. وقال الشافعي والطبري : لا يتيمم. وقال الليث والشافعي أيضا : إن خاف فوت الوقت تيمم وصلّى ، ثم إذا وجد الماء أعاد. وقال أبو يوسف وزفر : لا يتيمم إلا لخوف الوقت. والسفر المبيح عند الجمهور مطلق السفر ، سواء أكان مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر. وشرط قوم سفرا تقصر فيه الصلاة ، وشرط آخرون أن يكون سفر طاعة. وقال أبو حنيفة : لو خرج من مصره لغير سفر فلم يجد الماء جاز له التيمم ، وقدر المسافة أن يكون بينه وبين الماء ميل. وقيل : إذا كان بحيث لا يسمع أصوات الناس ، لأنه في معنى المسافر. فلو وجد ماء قليلا إن توضأ به خاف على نفسه العطش تيمم على قول الجمهور ، فلو وجده بثمن مثله فلا خلاف أنه يلزمه شراؤه ، أو بما زاد. فمذهب أبي حنيفة والشافعي. يتيمم. ومذهب مالك : يشتريه بماله كله ويبقى عديما. فلو حال بينه وبين الماء عدو أو سبع أو غير ذلك مما يحول فكالعادم للماء.

ومجيئه من الغائط كناية عن الحدث بالغائط ، وحمل عليه الريح والبول والمني والودي ، لا خلاف أن هذه الستة أحداث. وقد اختلفوا في أشياء ذكرت في كتب الفقه. وقرأ ابن مسعود : من الغيط وخرج على وجهين : أحدهما : أنه مصدر إذ قالوا : غاط يغيط. والثاني : أن أصله فيعل ، ثم حذف كميت. واختلفوا في تفسير اللمس ، فقال عمرو بن مسعود وغيرهما : هو اللمس باليد ، ولا ذكر للجنب إنما يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء. قال أبو عمر : لم يقل بقولهم أحد من فقهاء الأمصار لحديث عمار ، وأبي ذر ، وعمران بن حصين في تيمم الجنب. وقال علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة : المراد الجماع ، والجنب يتيمم. ولا ذكر للامس بيده ، وهو مذهب أبي حنيفة. فلو قبل ولو

٦٥٣

بلذة لم ينتقض الوضوء. وقال مالك : الملامس بالجماع يتيمم ، وكذا باليد إذا التذ فإن لمس بغير شهوة فلا وضوء ، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال الشافعي : إذا أفضى بشيء من جسده إلى بدن المرأة نقض الطهارة ، وهو قول : ابن مسعود ، وابن عمر ، والزهري ، وربيعة ، وعبيدة ، والشعبي ، وابراهيم ، ومنصور ، وابن سيرين. وقال الأوزاعي : إن كان باليد نقض وإلا فلا. وقرأ حمزة ، والكسائي : لمستم وباقي السبعة بالألف ، وفاعل هنا موافق فعل المجرّد نحو : جاوزت الشيء وجزته ، وليست لأقسام الفاعلية والمفعولية لفظا ، والاشتراك فيهما معنى ، وقد حملها الشافعيّ على ذلك في أظهر قوليه.

فقال : الملموس كاللامس في نقض الطهارة.

وقوله : أو على سفر في موضع نصب عطفا على مرضى. وفي قوله : أو جاء ، أو لامستم دليل على جواز وقوع الماضي خبرا لكان من غير قد وادّعاء إضمارها تكلف خلافا للكوفيين لعطفها على خبر كان ، والمعطوف على الخبر خبر. فلم تجدوا ماء الضمير عائد على من أسند إليهم الحكم في الأخبار الأربعة. وفيه تغليب الخطاب إذ قد اجتمع خطاب وغيبة ، فالخطاب : كنتم مرضى ، أو على سفر ، أو لامستم. والغيبة قوله : أو جاء أحد. وما أحسن ما جاءت هذه الغيبة ، لأنه لما كنى عن الحاجة بالغائط كره إسناد ذلك إلى المخاطبين ، فنزع به إلى لفظ الغائب بقوله : أو جاء أحد ، وهذا من أحسن الملاحظات وأجمل المخاطبات. ولما كان المرض والسفر ولمس النساء لا يفحش الخطاب بها جاءت على سبيل الخطاب. وظاهر انتفاء الوجدان سبق تطلبه وعدم الوصول إليه ، فأما في حق المريض فجعل الموجود حسا في حقه إذا كان لا يستطيع استعماله كالمفقود شرعا ، وأما غيره باقي الأربعة فانتفاء وجدان الماء في حقهم هو على ظاهره. وفلم تجدوا معطوف على فعل الشرط فتيمموا صعيدا طيبا هذا جواب الشرط ، أمر الله تعالى بالتيمم عند حصول سبب من هذه الأسباب الأربعة وفقدان الماء.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين ، وبين المحدثين والمجنبين ، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة ، والحدث سبب لوجوب الوضوء ، والجنابة سبب لوجوب الغسل؟ (قلت) : أراد سبحانه وتعالى أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون للماء في التيمم والتراب ، فخص أولا من بينهم مرضاهم وسفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم ، لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة ، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه

٦٥٤

الماء لخوف عدو ، أو سبع ، أو عدم آلة استقاء ، أو إرهاق في مكان لا ماء فيه ، أو غير ذلك مما لا يكثر كثرة المرض والسفر انتهى. وفيه تفسيره : أو لمستم النساء أنه أريد به الجماع الذي تترتب عليه الجنابة ، فسر ذلك على مذهب أبي حنيفة ، ولم ينقل غيره من المذاهب. وملخص ما طول به : أنه اعتذر عن تقديم المرض والسفر بما ذكر. ومن يحمل اللمس على ظاهره يقول : إن هذا من باب الترقي من الأقل إلى الأكثر ، لأن حالة المرض أقل من حالة السفر ، وحالة السفر أقل من حالة قضاء الحاجة ، وحالة قضاء الحاجة أقل من حالة لمس المرأة. ألا ترى أن حالة الصحة غالبا أكثر من حال المرض ، وكذا في سائر البواقي؟.

قال أبو عبيدة والفراء : الصعيد التراب. وقال الليث : الصعيد الأرض المستوية لا شيء فيها من غراس ونبات ، وهو قول قتادة ، قال : الصعيد الأرض الملساء. وقال الخليل : الصعيد ما صعد من وجه الأرض ، يريد وجه الأرض. وقال الزجاج : الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره ، وإن كان صخرا لا تراب عليه زاد غيره : أو رملا ، أو معدنا ، أو سبخة. والطيب الطاهر وهذا تفسير طائفة ، ومذهب أبي حنيفة ومالك واختيار الطبري. ومنه (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) (١) أي طاهرين من أدناس المخالفات. وقال قوم : الطيب هنا الحلال ، قاله سفيان الثوري وغيره. وقال الشافعي وجماعة : الطيب المنبت ، وقاله ابن عباس لقوله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ) (٢) فالصعيد على هذا التراب. وهؤلاء يجيزون التيمم بغير ذلك ، فمحل الإجماع هو أن يتيمم بتراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب. ومحل المنع إجماعا هو : أن يتيمم على ذهب صرف ، أو فضة ، أو ياقوت ، أو زمرد ، وأطعمة كخبز ولحم ، أو على نجاسة ، واختلف في المعادن : فأجيز ، وهو مذهب مالك ، ومنع وهو مذهب الشافعي. وفي الملح ، وفي الثلج ، وفي التراب المنقول ، وفي المطبوخ كالآجر ، وعلى الجدار ، وعلى النبات ، والعود ، والشجر خلاف. وأجاز الثوري وأحمد بغبار اليد. وقال أحمد وأبو يوسف : لا يجوز إلا بالتراب والرمل ، والجمهور على إجازته بالسباخ ، إلا ابن راهويه. وأجاز ابن علية وابن كيسان التيمم بالمسك والزعفران.

وظاهر الكلام : أنّ التيمم مسح الوجه واليدين من الصعيد الطيب ، فمتى حصلت هذه الكيفية حصل التيمم. والعطف بالواو لا يقتضي ترتيبا بين الوجه واليدين والباء في بوجوهكم مما يعدى بها الفعل تارة ، وتارة بنفسه. حكى سيبويه : مسحت رأسه وبرأسه ،

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٣٢.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٥٨.

٦٥٥

وخشنت صدره وبصدره على معنى واحد. وظاهر مسح الوجه التعميم ، فيمسحه جميعه كما يغسله بالماء جميعه. وأجاز بعضهم أن لا يتتبع الغضون. وأما اليدان فظاهر مسحهما تعميم مدلولهما ، وهي تنطلق لغة إلى المناكب ، وبه قال ابن شهاب ، قال : يمسح إلى الآباط ، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه. وفي سنن أبي داود : «أنه عليه‌السلام مسح إلى انصاف ذراعيه» قال ابن عطية : لم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت انتهى. وذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث : أنه يمسح إلى بلوغ المرفقين فرضا واجبا ، وهو قول : جابر ، وابن عمر ، والحسن ، وابراهيم. وذهب طائفة إلى أنه يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان ، وهو : قول علي ، وعطاء ، والشعبي ، ومكحول ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود بن علي ، والطبري ، والشافعي في القديم ، وروي عن مالك. وذهب الشعبي إلى أنه يمسح كفيه فقط ، وبه قال بعض فقهاء الحديث ، وهو الذي ينبغي أن يذهب إليه لصحته في الحديث. ففي مسلم من حديث عمار «إنما كان يكفيك أن تضرب بيدك الأرض ثم تنفخ وتمسح بها وجهك وكفيك» وعنه في هذا الحديث : «وضرب بيده الأرض فنفض يديه ، فمسح وجهه وكفيه» وللبخاري : «ثم أدناهما من فيه ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه» وفي مسلم أيضا : «أما يكفيك أن تقول بيدك هكذا ، ثم ضرب بيده الأرض ضربة واحدة ، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه» وعند أبي داود «فضرب بيده الأرض فقبضها ، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين ، ثم مسح وجهه». فهذه الأحاديث الصحيحة مبينة ما تطرق إليه الاحتمال في الآية من محل المسح وكيفيته.

وظاهر هذه الأحاديث الصحيحة وظاهر الآية يدل على الاجتزاء بضربة واحدة للوجه واليدين ، وهو قول : عطاء والشعبي في رواية ، والأوزاعي في الأشهر عنه ، وأحمد وإسحاق وداود والطبري. وذهب مالك في المدوّنة ، والأوزاعي في رواية ، وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم ، والثوري ، والليث ، وابن أبي سلمة : إلى وجوب ضربتين ضربة للوجه ، وضربة لليدين ، وذهب ابن أبي ليلى والحسن إلى أنه ضربتان ، ويمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه ، ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم غيرهما. وأحكام التيمم ومسائله كثيرة مذكورة في كتب الفقه ، ولم يذكر في هذه السورة منه ، وذكر ذلك في المائدة ، فدلت على مذهب الشافعي في نقل شيء من الممسوح به إلى الوجه والكفين ، وحمل هذا المطلق على ذلك المقيد ، ولذلك قال الزمخشري : (فإن قلت) : فما تصنع بقوله في سورة

٦٥٦

المائدة : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (١) أي بعضه وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ (قلت) : قالوا : إنها أي من لابتداء الغاية (فإن قلت) : قولهم أنها لابتداء الغاية قول متعسف ، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل : مسحت برأسه من الدهن ، ومن الماء ، ومن التراب ، إلا معنى التبعيض (قلت) : هو كما تقول ، والإذعان للحق أحق من المراء.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) كناية عن الترخيص والتيسير ، لأن من كانت عادته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم ، آثر أن يكون ميسرا غير معسر انتهى كلامه. والعجب منه إذ أذعن إلى الحق ، وليس من عادته ، بل عادته أن يحرف الكلام عن ظاهره ويحمله على غير محمله لأجل ما تقرر من مذهبه. وأيضا فكلامه أخيرا حيث أطلق أن الله يعفو عن الخطائين ويغفر لهم ، العجب له إذ لم يقيد ذلك بالتوبة على مذهبه وعادته فيما هو يشبه هذا الكلام.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) قال قتادة : نزلت في اليهود. وفي رواية عن ابن عباس : في رفاعة بن زيد بن التابوت. وقيل : في غيره من اليهود. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر شيئا من أحوال الآخرة ، وأن الكفار إذ ذاك يودون لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا ، وجاءت هذه الآية بعد ذلك كالاعتراض بين ذكر أحوال الكفار في الآخرة ، وذكر أحوالهم في الدنيا وما هم عليه من معاداة المؤمنين ، وكيف يعاملون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يأتي شهيدا عليهم وعلى غيرهم. ولما كان اليهود أشد إنكارا للحق ، وأبعد من قبول الخير. وكان قد تقدّم أيضا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ، وهم أشد الناس تحليا بهذين الوصفين ، أخذ يذكرهم بخصوصيتهم. وتقدم

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٦.

٦٥٧

تفسير الم تر إلى الذين في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) (١) فأغنى عن إعادته.

والنصيب : الحظ. ومن الكتاب : يحتمل أن يتعلق بأوتوا ، ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنصيبا. وظاهر لفظ الذين أوتوا ، يشمل اليهود والنصارى ، ويكون الكتاب عبارة عن التوراة والإنجيل. وقيل : الكتاب هنا التوراة ، والنصيب قيل : بعض علم التوراة ، لا العمل بما فيها. وقيل : علم ما هو حجة عليهم منه فحسب. وقيل : كفرهم به. وقيل : علم نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) المعنى : يشترون الضلالة بالهدى ، كما قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) (٢).

قال ابن عباس : استبدلوا الضلالة بالإيمان. وقال مقاتل : استبدلوا التكذيب بالنبي بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره واستنصارهم به انتهى. ودل لفظ الاشتراء على إيثار الضلالة على الهدى ، فصار ذلك بغيا شديدا عليهم ، وتوبيخا فاضحا لهم ، حيث هم عندهم حظ من علم التوراة والإنجيل ، ومع ذلك آثروا الكفر على الإيمان. وكتابهم طافح بوجوب اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. وقيل : اشتراء الضلالة هنا هو ما كانوا يبذلون من أموالهم لأحبارهم على تثبيت دينهم قاله : الزجاج.

(وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) أي : لم يكفهم أن ضلوا في أنفسهم حتى تعلقت آمالهم بضلالكم أنتم أيها المؤمنون عن سبيل الحق ، لأنهم لما علموا أنهم قد خرجوا من الحق إلى الباطل كرهوا أن يكون المؤمنون مختصين باتباع الحق ، فأرادوا أن يضلوا كما ضلوا هم كما قال تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) (٣) وقرأ النخعي : وتريدون بالتاء باثنتين من فوق ، قيل : معناه وتريدون أيها المؤمنون أن تضلوا السبيل أي : تدعون الصواب في اجتنابهم ، وتحسبونهم غير أعداء الله. وقرىء : أن يضلوا بالياء وفتح الضاد وكسرها. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) فيه تنبيه على الوصف المنافي لوداد الخير للمؤمنين وهي العداوة. وفيه إشارة إلى التحذير منهم ، وتوبيخ على الاستنامة إليهم والركون ، والمعنى : أنه تعالى قد أخبر بعداوتهم للمؤمنين ، فيجب حذرهم كما قال تعالى :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٦ و ١٧٥.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٨٩.

٦٥٨

(هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) (١) واعلم على بابها من التفضيل ، أي : أعلم بأعدائكم منكم. وقيل : بمعنى عليم ، أي عليم بأعدائكم.

(وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) ومن كان الله وليه ونصيره فلا يبالي بالأعداء ، فثقوا بولايته ونصرته دونهم أو لا تبالوا بهم ، فإنه ينصركم عليهم ، ويكفيكم مكرهم. وقيل : المعنى وليا لرسوله ، نصيرا لدينه.

والباء في بالله زائدة ويجوز حذفها كما قال : سحيم :

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

وزيادتها في فاعل كفى وفاعل يكفي مطردة كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٢) وقال الزجاج : دخلت الباء في الفاعل ، لأن معنى الكلام الأمر أي : اكتفوا بالله. وكلام الزجاج مشعر أن الباء ليست بزائدة ، ولا يصح ما قال من المعنى ، لأن الأمر يقتضي أن يكون فاعله هم المخاطبون ، ويكون بالله متعلقا به. وكون الباء دخلت في الفاعل يقتضي أن يكون الفاعل هو الله لا المخاطبون ، فتناقض قوله. وقال ابن السراج : معناه كفى الاكتفاء بالله ، وهذا أيضا يدل على أن الباء ليست زائدة إذ تتعلق بالاكتفاء ، فالاكتفاء هو الفاعل لكفى. وهذا أيضا لا يصح لأنّ فيه حذف المصدر وهو موصول ، وإبقاء معموله وهو لا يجوز إلا في الشعر نحو قوله :

هل تذكرنّ إلى الدّيرين هجرتكم

ومسحكم صلبكم رحمان قربانا

التقدير : وقولكم يا رحمن قربانا. وقال ابن عطية : بالله في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض ، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في صورة الخبر ، أي : اكتفوا بالله ، فالباء تدل على المراد من ذلك. وهذا الذي قاله ابن عطية ملفق بعضه من كلام الزجاج ، وهو أفسد من قول الزجاج ، لأنه زاد على تناقض اختلاف الفاعل تناقض اختلاف معنى الحرف ، إذ بالنسبة لكون الله فاعلا هو زائد ، وبالنسبة إلى أن معناه اكتفوا بالله هو غير زائد. وقال ابن عيسى : إنما دخلت الباء في كفى بالله لأنه كان يتصل اتصال الفاعل ، وبدخول الباء اتصل اتصال مضاف ، واتصال الفاعل لأن الكفارية منه ليست كالكفاية من غيره ، فضوعف لفظها لمضاعفة معناها ، وهو كلام يحتاج إلى تأويل. وقد تقدم الكلام على كفى بالله في قوله : (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ

__________________

(١) سورة المنافقون : ٦٣ / ٤.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٥٣.

٦٥٩

وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (١) لكن تكرر هنا لما تضمن من مزيد : نقول : ورد بعضها. وانتصاب وليا ونصيرا قيل : على الحال. وقيل : على التمييز ، وهو أجود لجواز دخول من.

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) ظاهره الانقطاع في الإعراب عن ما قبله ، فيكون على حذف موصوف هو مبتدأ ، ومن الذين خبره ، والتقدير : من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم ، وهذا مذهب سيبويه ، وأبي عليّ ، وحذف الموصوف بعد من جائز وإن كانت الصفة فعلا كقولهم : منا ظعن ، ومنا أقام أي : منا نفر ظعن ، ومنا نفر أقام. وقال الشاعر :

وما الدهر إلا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

يريد : فمنهما تارة أموت فيها. وخرّجه الفرّاء على إضمار من الموصولة أي : من الذين هادوا من يحرفون الكلم ، وهذا عند البصريين لا يجوز. وتأولوا ما جاء مما يشبه هذا على أنه من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، قال الفرّاء : ومثله قول ذي الرّمة :

فظلوا ومنهم دمعه سابق لها

وآخر يثني دمعة العين باليد

وهذا لا يتعين أن يكون المحذوف موصولا ، بل يترجح أن يكون موصوفا لعطف النكرة عليه وهو آخر ، إذ يكون التقدير : فظلوا ومنهم عاشق دمعه سابق لها. وقيل : هو على إضمار مبتدأ التقدير : هم من الذين هادوا ، ويحرفون حال من ضمير هادوا ، ومن الذين هادوا متعلق بما قبله ، فقيل : بنصيرا أي نصيرا من الذين هادوا ، وعداه بمن كما عداه في : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) (٢) و (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ) (٣) أي ومنعناه وفمن يمنعنا. وقيل : من الذين هادوا بيان لقوله : بأعدائكم ، وما بينهما اعتراض. وقيل : حال من الفاعل في يريدون قاله أبو البقاء. قال : ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في أوتوا لأن شيئا واحدا لا يكون له أكثر من حال واحدة ، إلا أن يعطف بعض الأحوال على بعض ، ولا يكون حالا من الذين لهذا المعنى انتهى. وما ذكره من أن ذا الحال إذا لم يكن متعددا لا يقتضي أكثر من حال واحدة ، مسئلة خلاف فمن النحويين من أجاز ذلك. وقيل : من الذين هادوا بيان (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) (٤) لأنهم يهود ونصارى ، وقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) (٥) (وَكَفى بِاللهِ

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٦.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧٧.

(٣) سورة غافر : ٤٠ / ٢٩.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ٢٣ ، وسورة النساء : ٤ / ٤٤ و ٥١.

(٥) سورة النساء : ٤ / ٤٥.

٦٦٠