البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) تقدّم تفسير هذه الجملة في هذه السورة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) بدأ أولا بقسم الكفار ، لأن ما قبله من ذكر حكمه تعالى بينهم هو على سبيل التهديد والوعيد للكفار ، والإخبار بجزائهم ، فناسبت البداءة بهم ، ولأنهم أقرب في الذكر بقوله : (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وبكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى وراموا قتله ، ثم أتى ثانيا بذكر المؤمنين ، وعلق هناك العذاب على مجرّد الكفر ، وهنا علق توفية الأجر على الإيمان وعمل الصالحات تنبيها على درجة الكمال في الإيمان ، ودعاء إليها.

والتوفية : دفع الشيء وافيا من غير نقص ، والأجور : ثواب الأعمال ، شبهه بالعامل الذي يوفى أجره عند تمام عمله. وتوفية الأجور هي : قسم المنازل في الجنة بحسب الأعمال على ما رتبها تعالى ، وفي الآية قبلها قال : (فَأُعَذِّبُهُمْ) أسند الفعل إلى ضمير المتكلم وحده ، وذلك ليطابق قوله : (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) وفي هذه الآية قال : فيوفيهم ، بالياء على قراءة حفص ، ورويس ، وذلك على سبيل الالتفات والخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة. وقرأ الجمهور : فنوفيهم ، بالنون الدالة على المتكلم المعظم شأنه ، ولم يأت بالهمزة كما في تلك الآية ليخالف في الإخبار بين النسبة الإسنادية فيما يفعله بالكافر وبالمؤمن ، كما خالف في الفعل ، ولأن المؤمن العامل للصالحات عظيم عند الله ، فناسبه الإخبار عن المجازى بنون العظمة.

ويجوز أن يكون : الذين آمنوا ، مبتدأ ، ويجوز انتصابه على إضمار فعل يفسر ما بعده ، ويكون ذلك من باب الإشتغال ، كقوله : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (١) فيمن نصب الدال.

(وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) تقدّم تفسير ما يشبه هذا ، وهو قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٢) واحتج المعتزلة بهذا على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي ، لأن مريد الشيء محب له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال ، وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص ، فيقال : أحب زيدا ، ولا يقال : أريده ، وأمّا الأفعال فهما فيها واحد ، فقوله : لا يحب : لا يريد ظلم الظالمين ، هكذا قرره عبد الجبار ، وعند أصحابنا المحبة

__________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ١٧.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٣٢.

١٨١

عبارة عن إرادة إيصال الخير له ، فهو تعالى ، وإن أراد كفر الكافر ، لا يريد إيصال الثواب إليه.

(ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) ذلك : إشارة إلى ما تقدم من خبر عيسى وزكريا وغيرهما ، و : نتلوه ، نسرده ونذكره شيئا بعد شيء ، وأضاف التلاوة إلى نفسه وإن كان الملك هو التالي تشريفا له ، جعل تلاوة المأمور تلاوة الآمر ، وفي : نتلوه ، التفات ، لأن قبله ضمير غائب في قوله : لا يحب ، ونتلوه : معناه تلوناه ، كقوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) (١) ويجوز أن يراد به ظاهره من الحال ، لأن قصة عيسى لم يفرغ منها ، ويكون : ذلك ، بمعنى : هذا.

والآيات هنا الظاهر أنه يراد بها آيات القرآن ، ويحتمل أن يراد بها المعجزات والمستغربات ، أي : نأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا ، وبسبب تلاوتنا ، وأنت أمي لا تقرأ ولا تصحب أهل الكتاب ، فهي آيات لنبوتك. قال ابن عباس ، والجمهور : والذكر : القرآن والحكيم أي : الحاكم ، أتى بصيغة المبالغة فيه ، ووصف بصفة من هو من سببه وهو الله تعالى ، أو : كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه. قال الزجاج : لأنه ذو حكمة في تأليفه ونظمه ، ويجوز أن يكون بمعنى المحكم ، قاله الجمهور ، أحكم عن طرق الخلل ، ومنه قوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) (٢) ويكون : فعيل ، بمعنى : مفعل ، وهو قليل ، ومنه : أعقدت العسل فهو معقد وعقيد ، وأحبست فرسا في سبيل الله فهو محبس وحبيس.

وقيل : المراد بالذكر هنا اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع كتب الله المنزلة على الأنبياء ، أخبر أنه أنزل هذه القصص مما كتب هناك.

و : ذلك ، مبتدأ ، و : نتلوه ، خبر و : من الآيات ، متعلق بمحذوف لأنه في موضع الحال ، أي : كائنا من الآيات. و : من ، للتبعيض لأن هذا المتلو بعض الآيات والذكر ، وجوّزوا أن يكون : من الآيات ، خبرا بعد خبر ، وذلك على رأي من يجيز تعداد الأخبار بغير حرف عطف ، إذا كان لمبتدأ واحد ، ولم يكن في معنى خبر واحد ، وجوّزوا أن يكون : من ، لبيان الجنس ، وذلك على رأي من يجيز أن تكون : من ، لبيان الجنس. ولا يتأتى ذلك هنا من جهة المعنى إلّا بمجاز ، لأن تقدير : من ، البيانية بالموصول. ولو قلت : ذلك نتلوه

__________________

(١ ـ ٢) سورة البقرة : ٢ / ١٠٢.

١٨٢

عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم ، لاحتيج إلى تأويل ، لأن هذا المشار إليه من نبأ من تقدم ذكره ليس هو جميع الآيات ، والذكر الحكيم إنما هو بعض الآيات ، فيحتاج إلى تأويل أنه جعل بعض الآيات ، والذكر هو الآيات ، والذكر على سبيل المجاز.

وممن ذهب إلى أنها لبيان الجنس : أبو محمد بن عطية ، وبدأ به ، ثم قال : ويجوز أن تكون للتبعيض. وجوّزوا أن يكون ذلك منصوبا بفعل محذوف يفسره ما بعده ، فيكون من باب الإشتغال ، أي : نتلو ذلك نتلوه عليك ، والرفع على الابتداء أفصح لأنه عرى من مرجح النصب على الاشتغال ؛ فزيد ضربته ، أفصح من : زيدا ضربته ، وإن كان عربيا ، وعلى هذا الإعراب يكون : نتلوه ، لا موضع له من الإعراب ، لأنه مفسر لذلك الفعل المحذوف ، ويكون : من الآيات ، حالا من ضمير النصب في : نتلوه.

وأجاز الزمخشري أن يكون : ذلك ، بمعنى : الذي ، و : نتلوه ، صلته. و : من الآيات ، الخبر. وقاله الزجاج قبله ، وهذه نزعة كوفية ، يجيزون في أسماء الإشارة أن تكون موصولة ، ولا يجوز ذلك عند البصريين ، إلّا في : ذا ، وحدها إذا سبقها : ما ، الاستفهامية باتفاق ، أو : من ، الاستفهامية باختلاف. وتقرير هذا في علم النحو.

وجوّزوا أيضا أن يكون : ذلك ، مبتدأ و : من الآيات ، خبر. و : نتلوه ، حال. وأن يكون : ذلك ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك. و : نتلوه ، حال.

والظاهر في قوله : (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أنه معطوف على الآيات ، ومن جعلها للقسم وجواب القسم : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) فقد أبعد.

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) قال ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي وغيرهم : جادل وفد نجران النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر عيسى ، وقالوا : بلغنا أنك تشتم صاحبنا ، وتقول : هو ، عبد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما يضرّ ذلك عيسى ، أجل هو عبد الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه». فقالوا : فهل رأيت بشرا قط جاء من غير فحل أو سمعت به؟ فخرجوا ، فنزلت.

وفي بعض الروايات أنهم قالوا : فإن كنت صادقا فأرنا مثله! فنزلت.

وروى وكيع عن مبارك عن الحسن قال : جاء راهبا نجران فعرض عليهما الإسلام فقال أحدهما : قد أسلمنا قبلك ، فقال : «كذبتما ، يمنعكما من الإسلام ثلاث : عبادتكما

١٨٣

الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وقولكما لله ولد». قالا : من أبو عيسى؟ وكان لا يعجل حتى يأمره ربه. فأنزل (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) وتقدم الكلام في تفسير نحو هذا التركيب في قولهم : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) (١).

وقال الزمخشري : إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم ، فجعل المثل بمعنى الشأن والحال. وهو راجع لقول من قال : المثل هنا الصفة : كقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) (٢) وفي هذا إقرار الكاف في قوله : (كَمَثَلِ آدَمَ) على معناها التشبيهي.

وقال ابن عطية : في قول من قال إن المثل هنا بمعنى الصفة ما نصه : وهذا عندي خطأ وضعف في فهم الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول ، من عيسى فهو كالمتصور من آدم ، إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل. وكذلك (مَثَلُ الْجَنَّةِ) (٣) عبارة عن المتصوّر منها.

وفي هذه الآية صحة القياس أي إذا تصور أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى. والكاف في (كَمَثَلِ آدَمَ) اسم على ما ذكرناه من المعنى. انتهى كلامه.

ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا ، وكلام من جعل المثل بمعنى الشأن والحال. أو بمعنى الصفة ، وفي (ري الظمآن) قيل : المثل بمعنى الصفة ، وقولك صفة عيسى كصفة آدم كلام مطرد ، على هذا جل اللغويين والمفسرين ، وخالف أبو علي الفارسي الجميع ، وقال : المثل بمعنى الصفة لا يمكن تصحيحه في اللغة ، إنما المثل الشبه.

على هذا تدور تصاريف الكلمة ، ولا معنى للوصفية في التشابه. والمثل كلمة يرسلها قائلها لحكمة يشبه بها الأمور ، ويقابل بها الأحوال. انتهى.

ومن جعل المثل هنا مرادفا للمثل ، كالشبه. والشبه. قال : جمع بين أداتي تشبيه على طريق التأكيد للشبه ، والتنبيه على عظم خطره وقدره.

وقال بعض هؤلاء : الكاف زائدة. وقال بعضهم : مثل زائدة ، وجعل بعضهم المثل هنا من ضرب الأمثال. وقال : العرب تضرب الأمثال لبيان ما خفي معناه ودق إيضاحه ، لما خفي سر ولادة عيسى من غير أب ، لأنه خالف المعروف ، ضرب الله المثل بآدم الذي استقرّ في الأذهان. وعلم أنه أوجد من غير أب ولا أمّ ، كذلك خلق عيسى بلا أب ، ولا بد

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧.

(٣ ـ ٢) سورة الرعد : ١٣ / ٣٥ ومحمد : ٤٧ / ١٥.

١٨٤

من مشاركة معنوية بين من ضرب به المثل ، وبين من ضرب له المثل ، من وجه واحد ، أو من وجوه لا يشترط الاشتراك في سائر الصفات. والمعنى الذي وقعت فيه المشاركة بين آدم وعيسى كون كل واحد منهما خلق من غير أب. وقال بعض أهل العلم : المشاركة بين آدم وعيسى في خمسة عشر وصفا : في التكوين ، و : في الخلق من العناصر التي ركب الله منها الدنيا. وفي العبودية ، وفي النبوّة. وفي المحنة : عيسى باليهود ، وآدم بإبليس ، وفي : أكلهما الطعام والشراب ، وفي الفقر إلى الله. وفي الصورة ، وفي الرفع إلى السماء والإنزال منها إلى الأرض ، وفي الإلهام ، عطس آدم فألهم ، فقال الحمد لله. وألهم عيسى ، حين أخرج من بطن أمّة فقال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) (١) وفي العلم ، قال : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) (٢) وقال : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (٣) وفي نفخ الروح فيهما (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (٤) (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) (٥) وفي الموت ، وفي فقد الأب ، ومعنى : عند الله أي عند من يعرف حقيقة الأمر ، وكيف هو. أي : هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه.

والعامل في : عند ، العامل في : كاف التشبيه ، وهذا التشبيه هو من أحد الطرفين كما تقدّم ، وهو الوجود من غير أب وهما نظيران في أن كلّا منهما أوجده الله خارجا عما استقر واستمرّ في العادة من خلق الإنسان متولدا من ذكر وأنثى ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) (٦) والوجود من غير أب وأمّ أغرب في العادة من وجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ، وأسر بعض العلماء بالروم فقال لهم لم تعبدون عيسى؟ قالوا : لأنه لا أب له. قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له. قالوا : كان يحيي الموتى. قال : فحزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر ، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف. فقالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص. قال : فجرجيس أولى لأنه طحن وأحرق ، ثم قام سالما. انتهى.

وصح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّ عين قتادة بعد ما قلعت ، وردّ الله نورها ، وصح أن أعمى دعا له فردّ الله له بصره.

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٣٠.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٣١.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٤٨.

(٤) سورة الحجر : ١٥ / ٢٩ ؛ وص : ٣٨ / ٧٢.

(٥) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩١ والتحريم : ٦٦ / ١٢.

(٦) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٣.

١٨٥

وفي حديث الشاب الذي أتى به ليتعلم من سحر الساحر ، فترك الساحر ودخل في دين عيسى وتعبد به ، فصار يبرىء الأكمه والأبرص ، وفيه انه دعا لجليس الملك وابن عمه ، وكان أعمى ، فردّ الله عليه بصره.

(خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) هي من تسمية الشيء باسم أصله. كقوله (اللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) (١) كان ترابا ثم صار طينا وخلق منه آدم. كما قال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (٢) وقال تعالى : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (٣) وقال : (قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (٤).

والضمير المنصوب في : خلقه ، عائد على آدم ، وهذه الجملة تفسيرية لمثل آدم ، فلا موضع لها من الإعراب. وقيل : هي في موضع الحال ، وقدر مع خلقه مقدرة ، والعامل فيها معنى التشبيه. قال ابن عطية : ولا يجوز أن يكون خلقه صفة لآدم ولا حالا منه. قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالا أنت فيها ، بل هو كلام مقطوع منه مضمنه تفسير المثل. انتهى كلامه. وفيه نظر ، والمعنى : قدره جسدا من طين (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) أي أنشأه بشرا ، قاله الزمخشري ، وسبقه إلى معناه أبو مسلم. قلنا : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء ، لا بمعنى التقدير ، لم يأت بقوله : (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) لأن ما خلق لا يقال له : كن ، ولا ينشأ إلّا إن كان معنى (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) عبارة عن نفخ الروح فيه ، وقاله عبد الجبار. فيمكن أن يكون خلقه بمعنى أنشأه لا بمعنى قدّره. قيل : أو يكون : كن ، عبارة عن كونه لحما ودما ، وقوله : فيكون ، حكاية حال ماضية ولا قول هناك حقيقة ، وإنما ذلك على سبيل التمثيل ، وكناية عن سرعة الخلق والتمكن من إيجاد ما يريد تعالى إيجاده ، إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر.

و : ثم ، قيل لترتيب الخبر ، لأن قوله : كن ، لم يتأخر عن خلقه ، وإنما هو في المعنى تفسير للخلق ، ويجوز أن يكون للترتيب الزماني أي : أنشأه أولا من طين ، ثم بعد زمان أوجد فيه الروح أن صيره لحما ودما على من قال ذلك.

وقال الراغب : ومعنى : كن. بعد : خلقه من تراب : كن إنسانا حيا ناطقا ، وهو لم

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ١١. وغافر : ٤٠ / ٦٧

(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٢.

(٣) سورة ص : ٣٨ / ٧١.

(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ٦١.

١٨٦

يكن كذلك ، بل كان دهرا ملقى لا روح فيه ، ثم جعل له الروح. وقوله : كن عبارة عن إيجاد الصورة التي صار بها الإنسان إنسانا. انتهى.

والضمير في : له ، عائد على آدم وأبعد من زعم أنه عائد على عيسى ، وأبعد من هذا قول من زعم أنه يجوز أن يعود على كل مخلوق خلق بكن ، وهو قول الحوفي.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) جملة من مبتدأ وخبر ، أخبر تعالى أن الحق ، وهو الشيء الثابت الذي لا شك فيه هو وارد إليك من ربك ، فجميع ما أنبأك به حق ، فيدخل فيه قصة عيسى وآدم وجميع أنبائه تعالى ، ويجوز أن يكون : الحق ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو. أي : خبر عيسى في كونه خلق من أم فقط هو الحق ، و : من ربك ، حال أو : خبر ثان وأخبر عن قصة عيسى بأنها حق. ومع كونها حقا فهي إخبار صادر عن الله.

(فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) قيل : الخطاب بهذا لكل سامع قصة عيسى ، والأخبار الواردة من الله تعالى. وقيل : المراد به أمّة من ظاهر الخطاب له. قال الزمخشري : ونهيه عن الامتراء وجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون ممتريا ، من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة ، وأن يكون لطفا لغيره. وقال الراغب : الامتراء استخراج الرأي للشك العارض ، ويجعل عبارة عن الشك ، وقال : فلا تكن من الممترين ولم يكن ممتريا ليكون فيه ذمّ من شك في عيسى.

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي : من نازعك وجادلك ، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين ، وكان الأمر كذلك بينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين وفد نجران.

والضمير في : فيه ، عائد على عيسى ، لأن المنازعة كانت فيه ، ولأن تصدير الآية السابقة في قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) وما بعده جاء من تمام أمره ، وقيل : يعود على الحق ، وظاهر من العموم في كل من يحاجّ في أمر عيسى. وقيل : المراد وفد نجران.

و : من ، يصح أن تكون موصولة ، ويصح أن تكون شرطية ، و : العلم ، هنا : الوحي الذي جاء به جبريل ، وقيل : الآيات المتقدّمة في أمر عيسى ، الموجبة للعمل. و : ما ، في : ما جاءك ، موصولة بمعنى : الذي ، وفي : جاءك ، ضمير الفاعل يعود عليها. و : من العلم ، متعلق بمحذوف في موضع الحال ، أي : كائنا من العلم. وتكون : من ، تبعيضية. ويجوز أن تكون لبيان الجنس على مذهب من يرى ذلك ، قال بعضهم ، ويخرج على قول

١٨٧

الأخفش : أن تكون : ما ، مصدرية ، و : من ، زائدة ، والتقدير : من بعد مجيء العلم إياك.

(فَقُلْ تَعالَوْا) قرأ الجمهور بفتح اللام وهو الأصل والقياس ، إذا التقدير تفاعل ، وألفه منقلبة عن ياء وأصلها واو ، فإذا أمرت الواحد قلت : تعال ، كما تقول : اخش واسع. وقرأ الحسن ، وأبو واقد ، وأبو السمال : بضم اللام ، ووجههم أن أصله : تعاليوا ، كما تقول : تجادلوا ، نقل الضمة من الياء إلى اللام بعد حذف فتحتها ، فبقيت الياء ساكنة وواو الضمير ساكنة فخذفت الياء لإلتقاء الساكنين ، وهذا تعليل شذوذ.

(نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) أي : يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة. وظاهر هذا أن الدعاء والمباهلة بين المخاطب : بقل : وبين من حاجه ، وفسر على هذا الوجه : الأبناء بالحسن والحسين ، و : بنسائه : فاطمة ، و : الأنفس بعليّ. قال الشعبي : ويدل على أن ذلك مختص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع من حاجه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص ، قال : لما نزلت هذه الآية : (تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : «اللهم هؤلاء أهلي».

وقال قوم : المباهلة كانت عليه وعلى المسلمين ، بدليل ظاهر قوله ندع أبناءنا وأبناءكم على الجمع ، ولما دعاهم دعا بأهل الذين في حوزته ، ولو عزم نصارى نجران على المباهلة وجاؤا لها ، لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين أن يخرجوا بأهاليهم لمباهلته.

وقيل : المراد : بأنفسنا ، الإخوان ، قاله ابن قتيبة قال تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) (١) أي : إخوانكم. وقيل : أهل دينه ، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقيل : الأزواج ، وقيل : أراد القرابة القريبة ، ذكرهما عليّ بن أحمد النيسابوري.

(ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي : ندع بالالتعان. وقيل : نتضرّع إلى الله ، قاله ابن عباس. وقال مقاتل : نخلص في الدعاء. وقال الكلبي : نجهد في الدعاء. وقيل : نتداعى بالهلاك.

(فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) أي : يقول كل منا : لعن الله الكاذب منا في أمر عيسى ، وفي هذا دليل على جواز اللعن لمن أقام على كفره ، وقد لعن صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود. قال أبو

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ١١.

١٨٨

بكر الرازي : وفي الآية دليل على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو أحمد بن علان : كانا إذ ذاك مكلفين ، لأن المباهلة عنده لا تصح إلّا من مكلف.

وقد طوّل المفسرون بما رووا في قصة المباهلة ، ومضمونها أنه دعاهم إلى المباهلة ، وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعليّ إلى الميعاد ، وأنهم كفوا عن ذلك ، ورضوا بالإقامة على دينهم وأن يؤدّوا الجزية ، وأخبرهم أحبارهم أنهم إن باهلوا عذبوا ، وأخبر هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم إن باهلوا عذبوا ، وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوّته شاهد عظيم على صحة نبوّته.

قال الزمخشري : فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلّا لتبيين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟.

قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل ، وألصقهم بالقلوب. وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق ، وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم ، وقرب منزلتهم ، وليؤذن بأنهم مقدّمون على الأنفس يفدون بها ، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم‌السلام ، وفيه برهان واضح على صحة نبوّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه لم ير واحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك. انتهى كلامه.

وقال ابن عطية : وما رواه الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوّته أحج لنا على سائر الكفرة ، وأليق بحال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعاء النساء والأبناء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين ، وظاهر الأمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءهم بما يخصه ، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم ، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط. انتهى.

وفي الآية دليل على المظاهرة بطريق الإعجاز على من يدعي الباطل بعد وضوح البرهان بطريق القياس ، ومن أغرب الاستدلال ما استدلّ به من الآية محمد بن عليّ الحمصي. وكان متكلما على طريق الاثني عشرية ، على : أن عليا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : وذلك أن قوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) ليس المراد نفس

١٨٩

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد غيره. وأجمعوا على أن الذي هو غيره : عليّ ، فدلت الآية على أن نفسه نفس الرسول ، ولا يمكن أن يكون عينها ، فالمراد مثلها ، وذلك يقتضي العموم إلّا أنه ترك في حق النبوّة الفضل لقيام الدليل ودل الإجماع على أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من سائر الأنبياء ، فلزم أن يكون عليّ كذلك.

قال : ويؤكد ذلك الحديث المنقول عنه من الموافق والمخالف : «من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحا في طاعته ، وإبراهيم في حلمه ، وموسى في قومه ، وعيسى في صفوته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب». فيدل ذلك على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم.

قال : وذلك يدل على أنه أفضل من جميع الأنبياء والصحابة. وأجاب الرازي : بأن الإجماع منعقد على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل ممن ليس بنبي ، وعليّ لم يكن نبيا ، فلزم القطع بأنه مخصوص في حق جميع الأنبياء.

وقال الرازي : استدلال الحمصي فاسد من وجوه.

منها قوله : إن الإنسان لا يدعو نفسه بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه ، تقول العرب : دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني ، وهذا يسميه أبو علي بالتجريد.

ومنها قوله : وأجمعوا على أن الذي هو غيره هو عليّ ، ليس بصحيح ، بدليل الأقوال التي سيقت في المعنى بقوله : وأنفسنا.

ومنها قوله : فيكون نفسه مثل نفسه ، ولا يلزم من المماثلة أن تكون في جميع الأشياء ، بل تكفي المماثلة في شيء ما ، هذا الذي عليه أهل اللغة ، لا الذي يقوله المتكلمون : من أن المماثلة تكون في جميع صفات النفس ، هذا اصطلاح منهم لا لغة. فعلى هذا تكفي المماثلة في صفة واحدة ، وهي كونه من بني هاشم ، والعرب تقول : هذا من أنفسنا ، أي : من قبيلتنا. وأما الحديث الذي استدل به فموضوع لا أصل له. وهذه النزغة التي ذهب إليها هذا الحمصي من كون علي أفضل من الأنبياء عليهم‌السلام سوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتلقفها بعض من ينتحل كلام الصوفية ، ووسع المجال فيها ، فزعم أن الولي أفضل من النبي ، ولم يقصر ذلك على وليّ واحد ، كما قصر ذلك الحمصي ، بل زعم : أن رتبة الولاية التي لا نبوة معها أفضل من رتبة النبوة. قال : لأن الولي يأخذ عن الله بغير

١٩٠

واسطة ، والنبي يأخذ عن الله بواسطة ومن آخذ بلا واسطة أفضل ممن أخذ بواسطة. وهذه المقالة مخالفة لمقالات أهل الإسلام ، نعوذ بالله من ذلك ، ولا أحد أكذب ممن يدعي أن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة ، لقد يقشعرّ المؤمن من سماع هذا الافتراء. وحكى لي من لا أتهمه عن بعض المنتمين ، إلى أنه من أهل الصلاح ، أنه رؤي في يده كتاب ينظر فيه ، فسئل عنه. فقال : فيه ما أخذته عن رسول الله ، وفيه ما أخذته عن الله شفاها ، أو شافهني به ، الشك من السامع. فانظر إلى جراءة هذا الكاذب على الله حيث ادعى مقام من كلمة الله : كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء؟

قيل : وفي هذه الآية ضروب من البلاغة : منها إسناد الفعل إلى غير فاعله ، وهو : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى) والله لم يشافهه بذلك ، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة. والاستعارة في : (مُتَوَفِّيكَ) وفي : (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) والتفصيل لما أجمل في : (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ) بقوله : فأما ، وأمّا ، والزيادة لزيادة المعنى في (مِنْ ناصِرِينَ) أو : المثل في قوله (إِنَّ مَثَلَ عِيسى). والتجوز بوضع المضارع موضع الماضي في قوله (نَتْلُوهُ) وفي (فَيَكُونُ) وبالجمع بين أداتي تشبيه على قول في (كَمَثَلِ آدَمَ) وبالتجوز بتسمية الشيء باسم أصله في (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ). وخطاب العين ، والمراد به غيره ، في (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ). والعام يراد به الخاص في (نَدْعُ أَبْناءَنا) الآية والتجوز بإقامة ابن العم مقام النفس على أشهر الأقوال ، والحذف في مواضع كثيرة.

إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً

١٩١

مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) هذا خبر من الله جزم مؤكد فصل به بين المختصمين ، والإشارة إلى القرآن على قول الجمهور ، والظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار عيسى ، وكونه مخلوقا من غير أب ، قاله ابن عباس ، وابن جريج ، وابن زيد ، وغيرهم. أي : هذا هو الحق لا ما يدعيه النصارى فيه من كونه إلها أو ابن الله ، ولا ما تدعيه اليهود فيه ، وقيل : هذا إشارة إلى ما بعده من قوله (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) ويضعف بأن هذه الجملة ليست بقصص وبوجود حرف العطف في قوله : وما قال بعضهم إلّا إن أراد بالقصص الخبر ، فيصح على هذا ، ويكون التقدير : إن الخبر الحق أنه ما من إله إلّا الله. انتهى. لكن يمنع من هذا التقدير وجود واو العطف واللام في : لهو ، دخلت على الفصل. والقصص خبر إن ، والحق صفة له ، والقصص مصدر ، أو فعل بمعنى مفعول ، أي : المقصوص ، كالقبض بمعنى المقبوض ، ويجوز أن يكون : هو ، مبتدأ و : القصص ، خبره ، والجملة ، في موضع خبر إن ، ووصف القصص بالحق إشارة إلى القصص المكذوب الذي أتى به نصارى نجران ، وغيرهم ، في أمر عيسى وإلاهيته.

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) أي : المختص بالإلهية هو الله وحده ، وفيه ردّ على الثنوية والنصارى ، وكل من يدعي غير الله إلها.

و : من ، زائدة لاستغراق الجنس ، و : إله ، مبتدأ محذوف الخبر ، و : الله ، بدل منه على الموضع ، ولا يجوز البدل على اللفظ ، لأنه يلزم منه زيادة : من ، في الواجب ، ويجوز في العربية في نحو هذا التركيب نصب ما بعد : إلّا ، نحو ما من شجاع إلّا زيدا ، ولم يقرأ بالنصب في هذه الآية ، وإن كان جائزا في العربية النصب على الاستثناء.

(وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إشارة إلى وصفي الإلهية وهما : القدرة الناشئة عن الغلبة فلا يمتنع عليه شيء ، والعلم المعبر عنه بالحكمة فيما صنع والإتقان لما اخترع ، فلا يخفى عنه شيء. وهاتان الصفتان منفيتان عن عيسى.

ويجوز في : لهو ، من الإعراب ما جاز في : لهو القصص ، وتقديم ذكر فائدة الفصل.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) قال مقاتل : فإن تولوا عن الملاعنة. وقال

١٩٢

الزجاج : عن البيان الذي أبانه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو سليمان الدمشقي : عن الإقرار بالوحدانية والتنزيه عن الصاحبة والولد. وقال المرسيّ : عن هذا الذكر. وقيل : عن الإيمان.

و : تولوا ، ماض أو مضارع حذفت تاؤه ، وجواب الشرط في الظاهر الجملة من قوله : (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) ، والمعنى : ما يترتب على علمه بالمفسدين من معاقبته لهم ، فعبر عن العقاب بالعلم الذي ينشأ عنه عقابهم ، ونبه على العلة التي توجب العقاب ، وهي الإفساد ، ولذلك أتى بالاسم الظاهر دون الضمير ، وأتى به جمعا ليدل على العموم الشامل لهؤلاء الذين تولوا ولغيرهم ، ولكونه رأس آية ، ودل على أن توليهم إفساد أي إفساد.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) نزلت في وفد نجران ، قاله الحسن ، والسدي ، ومحمد بن جعفر بن الزبير. قال ابن زيد : لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة ، دعوا إلى أيسر من ذلك ، وهي الكلمة السواء. وقال ابن عباس : نزلت في القسيسين والرهبان ، بعث بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة ، فقرأها جعفر ، والنجاشي جالس وأشراف الحبشة. وقال قتادة ، والربيع ، وابن جريج : في يهود المدينة ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم. وقيل : نزلت في اليهود والنصارى ، قالوا : يا محمد! ما تريد إلّا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير؟

ولفظ : يا أهل الكتاب ، يعم كل من أوتي كتابا ، ولذلك دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود بالآية ، والأقرب حمله على النصارى لأن الدلالة وردت عليهم ، والمباهلة معهم ، وخاطبهم : بيا أهل الكتاب ، هزا لهم في استماع ما يلقى إليهم ، وتنبيها على أن من كان أهل كتاب من الله ينبغي أن يتبع كتاب الله ، ولما قطعهم بالدلائل الواضحة فلم يذعنوا ، ودعاهم إلى المباهلة فامتنعوا ، عدل إلى نوع من التلطف ، وهو : دعاؤهم إلى كلمة فيها إنصاف بينهم.

وقرأ أبو السمال : كلمة ، كضربة ، و : كلمة ، كسدرة ، وتقدّم هذا عند قوله : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ) (١) والكلمة هي ما فسرت به بعد. وقال أبو العالية : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، وهذا تفسير المعنى.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٣٩.

١٩٣

وعبر بالكلمة عن الكلمات ، لأن الكلمة قد تطلقها العرب على الكلام ، وإلى هذا ذهب الزجاج ، إما لوضع المفرد موضع الجمع ، كما قال :

بها جيف الحسرى ، فأما عظامها

فبيض ، وأما جلدها فصليب

وإما لكون الكلمات مرتبطة بعضها ببعض ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة إذا اختلّ جزء منها اختلت الكلمة ، لأن كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، هي كلمات لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في الله إلا بمجموعها.

وقرأ الجمهور : سواء ، بالجر على الصفة. وقرأ الحسن : سواء ، بالنصب ، وخرجه الحوفي والزمخشري على أنه مصدر. قال الزمخشري : بمعنى استوت استواء ، فيكون : سواء ، بمعنى استواء ، ويجوز أن ينتصب على الحال من : كلمة ، وإن كان نكرة ذو الحال ، وقد أجاز ذلك سيبويه وقاسه ، والحال والصفة متلاقيان من حيث المعنى ، والمصدر يحتاج إلى إضمار عامل ، وإلى تأويل : سواء ، بمعنى : استواء ، والأشهر استعمال : سواء ، بمعنى اسم الفاعل ، أي : مستو ، وقد تقدّم الكلام على سواء في أول سورة البقرة ، وقال قتادة ، والربيع ، والزجاج : هنا يعني بالسواء العدل ، وهو من : استوى الشيء ، وقال زهير :

أروني خطة لا ضيم فيها

يسوي بيننا فيها السواء

والمعنى : إلى كلمة عادلة بيننا وبينكم. وقال أبو عبيدة : تقول العرب : قد دعاك فلان إلى سواء فاقبل منه. وفي مصحف عبد الله : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم. وقال ابن عباس : أي كلمة مستوية ، أي مستقيمة. وقيل : إلى كلمة قصد. قال ابن عطية : والذي أقوله في لفظة : سواء ، أنها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع ، وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون ، صغيرهم وكبيرهم ، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا ، فلم يكونوا على استواء حال ، فدعاهم بهذه الآية إلى ما يألف النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه ، فسواء على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر : هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه ، والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير لفظة : العدل ، أنك لو دعوت أسيرا عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه ، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل ، على هذا الحد جاءت لفظة : سواء ، في قوله تعالى (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) (١) على بعض

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٥٨.

١٩٤

التأويلات ، وإن دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حرّا مقاسما لك. في عيشك لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو استواء الحال على ما فسرته. واللفظة على كل تأويل فيها معنى العدل ، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال ، وهو عندي حسن ، لأن النفوس تألفه ، والله الموفق للصواب. انتهى كلامه ، وهو تكثير لا طائل تحته ، والظاهر انتصاب الظرف بسواء.

(أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) موضع : أن ، جر على البدل من : كلمة ، بدل شيء من شيء ، ويجوز أن يكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هي أن لا نعبد إلّا الله. وجوّزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : سواء ، وارتفاع : أن لا نعبد ، على الابتداء والخبر قوله : بيننا وبينكم. قالوا : والجملة صفة للكلمة ، وهذا وهم لعرو الجملة من رابط يربطها بالموصوف ، وجوزوا أيضا ارتفاع : أن لا نعبد ، بالظرف ، ولا يصح إلّا على مذهب الأخفش والكوفيين حيث أجازوا إعمال الظرف من غير اعتماد ، والبصريون يمنعون ذلك ، وجوز علي بن عيسى أن يكون التقدير : إلى كلمة مستو بيننا وبينكم فيها الامتناع من عبادة غير الله ، فعلى هذا يكون : أن لا نعبد ، في موضع رفع على الفاعل بسواء ، إلّا أن فيه إضمار الرابط ، وهو : فيها ، وهو ضعيف.

والمعنى : أن نفرد الله وحده بالعبادة ولا نشرك به شيئا ، أي : لا نجعل له شريكا. وشيئا يحتمل أن يكون مفعولا به ، ويحتمل أن يكون مصدرا أي شيئا من الإشراك ، والفعل في سياق النفي ، فيعم متعلقاته من مفعول به ومصدر وزمان ومكان وهيئة.

(وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا نتخذهم أربابا فنعتقد فيهم الإلهية ونعبدهم على ذلك : كعزير وعيسى ، قاله مقاتل ، والزجاج ، وعكرمة.

وقيل عنه : إنه سجود بعضهم لبعض أو لا نطيع الاساقفة والرؤساء فيما أمروا به من الكفر والمعاصي ونجعل طاعتهم شرعا. قاله ابن جريج ، كقوله تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) (١) وعن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله. قال : «أليس كانوا يحلون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم»؟ قال : نعم. قال : «هو ذاك».

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣١.

١٩٥

وفي قوله : بعضنا بعضا ، إشارة لطيفة ، وهي أن البعضية تنافي الإلهية إذ هي تماثل في البشرية ، وما كان مثلك استحال أن يكون إلها ، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوّة في قولهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) (١) (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (٢) (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) (٣) فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا فيه أشد استبعادا : وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى ، يؤكد بعضها بعضا ، إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله ، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام ، لأنهم كانوا مبالغين في التمسك بعبادة غير الله ، فناسب ذلك التوكيد في انتفاء ذلك ، والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة : عبدوا عيسى ، وأشركوا بقولهم : ثالث ثلاثة ، واتخذوا أحبارهم أربابا في الطاعة لهم في تحليل وتحريم وفي السجود لهم.

قال الطبري : في قوله : (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أنزلوهم منزلة ربهم في قبول التحريم والتحليل لما لم يحرمه الله ، ولم يحله. وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، كتقديرات دون مستند ، والقول بوجوب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي ، كما ذهب إليه الرّوافض. انتهى. وفيه بعض اختصار.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي : فإن تولوا عن الكلمة السواء فأشهدوهم أنكم منقادون إليها ، وهذا مبالغة في المباينة لهم ، أي : إذا كنتم متولين عن هذه الكلمة ، فإنا قابلون لها ومطيعون. وعبر عن العلم بالشهادة على سبيل المبالغة ، إذ خرج ذلك من حيز المعقول إلى حيز المشهود ، وهو المحضر في الحسّ. قال ابن عطية : هذا أمر بإعلام بمخالفتهم ومواجهتهم بذلك ، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد ، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف يكون. انتهى.

وقال الزمخشري : أي لزمتكم الحجة ، فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع ، أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب ، وسلّم لي الغلبة ، ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره. انتهى.

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ١٠.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ١١.

(٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٤٧.

١٩٦

وهذه الآية في الكتاب الذي وجه به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دحية إلى عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) عن ابن عباس وغيره ، أن اليهود قالوا : كان إبراهيم يهوديا ، وأن النصارى قالوا : كان نصرانيا. فأنزلها الله منكرا عليهم. وقال ابن عباس ، والحسن : كان إبراهيم سأل الله أن يجعل له (لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (١) فاستجاب الله دعاءه حتى ادعته كل فرقة.

و : ما ، في قوله : لم ، استفهامية حذفت ألفها مع حرف الجر ، ولذلك علة ذكرت في النحو ، وتتعلق : اللام بتحاجون ، ومعنى هذا الاستفهام الإنكار ، ومعنى : في إبراهيم ، في شرعه ودينه وما كان عليه ، ومعنى : المحاجة ، ادعاء من الطائفتين أنه منها وجدالهم في ذلك ، فرد الله عليهم ذلك بأن شريعة اليهود والنصارى متأخرة عن إبراهيم ، وهو متقدم عليهما ، ومحال أن ينسب المتقدم إلى المتأخر ، ولظهور فساد هذه الدعوى قال : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي : هذا كلام من لا يعقل ، إذ العقل يمنع من ذلك. ولا يناسب أن يكون موافقا لهم ، لا في العقائد ولا في الأحكام.

أمّا في العقائد فعبادتهم عيسى وادعاؤهم أنه الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة. وادعاء اليهود أن عزير ابن الله ، ولم يكونا موجودين في زمان إبراهيم.

وأما الأحكام فإن التوراة والإنجيل فيهما أحكام مخالفة للأحكام التي كانت عليها شريعة إبراهيم ، ومن ذلك قوله (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (٢) وقوله : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) (٣) وغير ذلك فلا يمكن إبراهيم على دين حدث بعده بأزمنة متطاولة.

ذكر المؤرخون أن بين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبينه وبين عيسى ألفان. وروى أبو صالح عن ابن عباس : أنه كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وسبعون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف سنة وستمائة واثنتان وثلاثون سنة.

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٨٤.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٦٠.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ١٢٤.

١٩٧

وقال ابن إسحاق : كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة سنة وخمس وعشرون.

والواو في : (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ) لعطف جملة على جملة ، هكذا ذكروا. والذي يظهر أنها للحال كهي في قوله تعالى : (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (١) وقوله (لِمَ تَلْبِسُونَ) (٢) ثم قال (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٣) وقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (٤) أنكر عليهم ادّعاء أن إبراهيم كان على شريعة اليهود أو النصارى ، والحال أن شريعتيهما متأخرتان عنه في الوجود ، فكيف يكون عليها مع تقدمه عليها؟

وأمّا الحنيفية والإسلام فمن الأوصاف التي يختص بها كل ذي دين حق ، ولذلك قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٥) إذ الحنيف هو المائل للحق ، والمسلم هو المستسلم للحق ، وقد أخبر القرآن بأن إبراهيم (كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) (٦).

وفي قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) توبيخ على استحالة مقالتهم ، وتنبيه على ما يظهر به غلطهم ومكابرتهم.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) الذي لهم به علم هو دينهم الذي وجدوه في كتبهم وثبت عندهم صحته ، والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم ودينه ، ليس موجودا في كتبهم ، ولا أتتهم به أنبياؤهم ، ولا شاهدوه فيعلموه. قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وغيرهم. وهو الظاهر لما حف به من قبله ، ومن بعده من الحديث في إبراهيم ، ونسب هذا القول إلى الطبري ابن عطية ، وقال : ذهب عنه أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة ، لأنهم يجدونه عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كان هنالك على حقيقته.

وقيل : الذي لهم به علم هو أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنهم وجدوا نعته في كتبهم ، فجادلوا بالباطل. والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم.

والظاهر في قوله : (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) إثبات العلم لهم. وقال ابن عطية : فيما لكم به علم على زعمكم ، وإنما المعنى : فيما يشبه دعواكم ، ويكون الدليل العقلي يرد

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٧٠.

(٣ ـ ٢) سورة آل عمران : ٣ / ٧١.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٨.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ١٩.

(٦) سورة آل عمران : ٣ / ٦٧.

١٩٨

عليكم. وقال قتادة أيضا : حاججتم فيما شهدتم ورأيتم ، فلم تحاجون فيما لم تشاهدوا ولم تعلموا؟ وقال الرازي : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) الآية. أي : زعمتم أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن ، فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به؟ وهو ادّعاؤهم أن شريعة إبراهيم مخالفة لشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

ويحتمل أن يكون قوله (لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي : تدعون علمه ، لا أنه وصفهم بالعلم حقيقة ، فكيف يحاجون فيما لا علم لهم به البتة.

وقرأ الكوفيون ، وابن عامر ، والبزي : ها أنتم ، بألف بعد الهاء بعدها همزة : أنتم ، محققة. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بهاء بعدها ألف بعدها همزة مسهلة بين بين ، وأبدل أناس هذه الهمزة ألفا محضة لورش ها ، للتنبيه لأنه يكثر وجودها مع المضمرات المرفوعة مفصولا بينها وبين اسم الإشارة حيث لا استفهام ، وأصلها أن تباشر اسم الإشارة ، لكن اعتنى بحرف التنبيه ، فقدم ، وذلك نحو قول العرب : ها أنا ذا قائما ، و : ها أنت ذا تصنع كذا. و : ها هوذا قائما. ولم ينبه المخاطب هنا على وجود ذاته ، بل نبه على حال غفل عنها لشغفه بما التبس به ، وتلك الحالة هي أنهم حاجوا فيما لا يعلمون ، ولم ترد به التوراة والإنجيل ، فتقول لهم : هب أنكم تحتجون فيما تدعون أن قد ورد به كتب الله المتقدمة ، فلم تحتجون فيما ليس كذلك؟ وتكون الجملة خبرية وهو الأصل ، لأنه قد صدرت منهم المحاجة فيما يعلمون ، ولذاك أنكر عليهم بعد المحاجة فيما ليس لهم به علم ، وعلى هذا يكون : ها ، قد أعيدت مع اسم الإشارة توكيدا ، وتكون في قراءة قنبل قد حذف ألف : ها ، كما حذفها من وقف على : (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (١) يا أيه بالسكون وليس الحذف فيها يقوى في القياس. وقال أبو عمرو بن العلاء ، وأبو الحسن الأخفش : الأصل في : ها أنتم. فأبدل من الهمزة الأولى التي للاستفهام هاء. لأنها أختها. واستحسنه النحاس. وإبدال الهمزة هاء مسموع في كلمات ولا ينقاس ، ولم يسمع ذلك في همزة الاستفهام ، لا يحفظ من كلامهم : هتضرب زيدا ، بمعنى : أتضرب زيدا إلّا في بيت نادر جاءت فيه : ها ، بدل همزة الاستفهام ، وهو :

وأتت صواحبها وقلن هذا الذي

منح المودّة غيرنا وجفانا

ثم فصل بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام ، وهمزة : أتت ، لا يناسب ، لأنه إنما يفصل

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٣١.

١٩٩

لاستثقال اجتماع الهمزتين ، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى : هاء ، ألا ترى أنهم حذفوا الهمزة في نحو : أريقه ، إذ أصله : أأريقه؟ فلما أبدلوها هاء لم يحذفوا ، بل قالوا : أهريقه.

وقد وجهوا قراءة قنبل على أن : الهاء ، بدل من همزة الاستفهام لكونها هاء لا ألف بعدها ، وعلى هذا من أثبت الألف ، فيكون عنده فاصلة بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام ، وبين همزة : أنتم ، أجرى البدل في الفصل مجرى المبدل منه ، والاستفهام على هذا معناه التعجب من حماقتهم ، وأمّا من سهل فلأنها همزة بعد ألف على حد تسهيلهم إياها في : هيأة. وأمّا تحقيقها فهو الأصل ، وأمّا إبدالها ألفا فقد تقدّم الكلام في ذلك في قوله (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) (١).

و : أنتم ، مبتدأ ، و : هؤلاء. الخبر. و : حاججتم ، جملة حالية. كقول : ها أنت ذا قائما. وهي من الأحوال التي ليست يستغنى عنها ، كقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ) (٢) على أحسن الوجوه في إعرابه.

وقال الزمخشري : أنتم ، مبتدأ ، و : هؤلاء ، خبره ، و : حاججتم ، جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى ، يعني : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى ، وبيان حماقتكم ، وقلة عقولكم ، أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ، ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم؟ انتهى.

وأجازوا أن يكون : هؤلاء ، بدلا ، وعطف بيان ، والخبر : حاججتم ، وأجازوا أن يكون ، هؤلاء ، موصولا بمعنى الذي ، وهو خبر المبتدأ ، أو : حاججتم ، صلته. وهذا على رأي الكوفيين. وأجازوا أيضا أن يكون منادى أي : يا هؤلاء ، وحذف منه حرف النداء ، ولا يجوز حذف حرف النداء من المشار على مذهب البصريين ، ويجوز على مذهب الكوفيين ، وقد جاء في الشعر حذفه ، وهو قليل ، نحو قول رجل من طيء :

إن الألى وصفوا قومي لهم فهم

هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا

وقال :

لا يغرّنكم أولاء من القنو

م جنوح للسلم فهو خداع

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٨٥.

٢٠٠