البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

شرعا بالبلوغ ، فلا بد من مجاز ، أما في اليتامى لإطلاقه على البالغين اعتبارا وتسمية بما كانوا عليه شرعا قبل البلوغ من اسم اليتم ، فيكون الأولياء قد أمروا بأن لا تؤخر الأموال عن حد البلوغ ، ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد. وأمّا أن يكون المجاز في أوتوا ، ويكون معنى إيتاؤهم الأموال : الإنفاق عليهم منها شيئا فشيئا ، وأن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء ، ويكفوا عنها أيديهم الخاطئة. وعلى كلا المعنيين الخطاب لمن له وضع اليد على مال اليتيم شرعا. وقال ابن زيد : الخطاب لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير ، فقيل لهم : ورثوهم أموالهم ، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالا طيبا حراما خبيثا ، فيجيء فعلكم ذلك تبدلا. وقيل : كان الولي يربح على يتيمه فتستنفد تلك الأرباح مال اليتيم ، فنهوا عن ذلك. واحتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على السفيه لا يحجر عليه بعد بلوغه خمسا وعشرين سنة. قال : لأن وآتوا اليتامى مطلق يتناول سفيها وغيره ، أونس منه الرشد أو لا ، ترك العمل به قبل السن المذكور بالإنفاق على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن شرط في وجوب دفع المال إليه ، وهذا الإجماع لم يوجد بعد هذا السن ، فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهره. وأجيب بأنّ هذه الآية عامة وخصصت بقوله : وابتلوا اليتامى ولا تؤتوا السفهاء ، ولا شك أن الخاص مقدم على العام (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) قال ابن المسيب والنخعي والزهري والضحاك والسدي : كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله ، والدرهم الطيب بالزيف من ماله. وقال مجاهد وأبو صالح : المعنى ولا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم ، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله. وقيل : المعنى ولا تأكلوا أموالهم خبيثا وتدعوا أموالكم طيبا. وقيل : المعنى لا تأخذوا مال اليتيم وهو خبيث ليؤخذ منكم المال الذي لكم وهو طيب. وقيل : لا تأكلوا أموالهم في الدنيا فتكون هي نار تأكلونها وتتركون الموعود لكم في الآخرة بسبب إبقاء الخبائث والمحرمات ، وقيل : لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو : اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو : حفظها والتورع منها. وتفعل هنا بمعنى استفعل كتعجل ، وتأخر بمعنى استعجل واستأخر. وظاهره أن الخبيث والطيب وصفان في الإجرام المتبدلة والمتبدل به ، فإما أن يكون ذلك باعتبار اللغة فيكونان بمعنى الكريه المتناول واللذيذ ، وإما أن يكون باعتبار الشرع فيكونان بمعنى الحرام والحلال. أما أن يكونا وصفين لاختزال الأموال وحفظها ففيه بعد ظاهر ، وإن كان له تعلق ما بقوله : وآتوا اليتامى أموالهم.

وقرأ ابن محيصن : ولا تبدلوا بإدغام التاء الأولى في الثانية.

٥٠١

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) لما نهوا عن استبدال الخبيث من أموالهم بالطيب من أموال اليتامى ، ارتقى في النهي إلى ما هو أفظع من الاستبدال وهو : أكل أموال اليتامى فنهوا عنه. ومعنى إلى أموالكم : قيل مع أموالكم ، وقيل : إلى في موضع الحال التقدير : مضمومة إلى أموالكم. وقيل : تتعلق بتأكلوا على معنى التضمين أي : ولا تضموا أموالهم في الأكل إلى موالكم. وحكمة : إلى أموالكم ، وإن كانوا منهيين عن أكل أموال اليتامى بغير حق ، أنه تنبيه على غنى الأولياء. كأنه قيل : ولا تأكلوا أموالهم مع كونكم ذوي مال أي : مع غناكم ، لأنه قد أذن للولي إذا كان فقيرا أن يأكل بالمعروف. وهذا نص على النهي عن الأكل ، وفي حكمه التمول على جميع وجوهه.

وقال مجاهد : الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق ، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك ، ثم نسخ منه النهي بقوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) (١). وقال الحسن قريبا من هذا.

قال : تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط ، فاجتنبوه من قبل أنفسهم ، فخفف عنهم في آية البقرة. وحسّن هذا القول الزمخشري بقوله : وحقيقته ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل لكم ، وتسوية بينه وبين الحلال. قال : (فإن قلت) قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم ، فلم ورد النهي عن أكله معها؟ (قلت) : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال ، وهم على ذلك يطمعون فيها ، كان القبح أبلغ والذم أحق. ولأنهم كانوا يفعلون ذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم انتهى كلامه. وملخصه أن قوله : إلى أموالكم ليس قيدا للاحتراز ، إنما جيء به لتقبيح فعلهم ، ولأن يكون نهيا عن الواقع ، فيكون نظير قوله : (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) (٢) وإن كان الربا على سائر أحواله منهيا عنه. وما قدمناه نحن يكون ذلك قيدا للاحتراز ، فإنه إذا كان الولي فقيرا جاز أن يأكل بالمعروف ، فيكون النهي منسحبا على أكل مال اليتيم لمن كان غنيا كقوله : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) (٣).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٠.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٣٠.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٦.

٥٠٢

(إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) قرأ الجمهور بضم الحاء ، والحسن بفتحها وهي لغة بني تميم وغيرهم ، وبعض القراء : إنه كان حابا كبيرا ، وكلها مصادر. قال ابن عباس والحسن وغيرهما : الحوب الإثم. وقيل : الظلم. وقيل : الوحشة. والضمير في إنه عائد على الأكل. وقيل : على التبدل. وعوده على الأكل أقرب لقربه منه ، ويجوز أن يعود عليهما. كأنه قيل : إن ذلك كما قال :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

أي كان ذلك (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت : نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال ولياتهم فيريدون أن يبخسوهم في المهر لمكان ولايتهم عليهن. فقيل لهم : أقسطوا في مهورهن ، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوج ما طاب له من الاجنبيات اللواتي يماكسن في حقوقهن. وقاله أيضا ربيعة. وقال عكرمة : نزلت في قريش يتزوج منهم الرجل العشرة وأكثر وأقل ، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فيتزوج منه ، فقيل له : إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا. وقال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، والسدي : كانت العرب تتحرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء ، يتزوجون العشرة فأكثر ، فنزلت في ذلك أي : كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك فتحرجوا في النساء ، وانكحوا على هذا الحد الذي يبعد الجور عنه. وقال مجاهد : إنما الآية تحذير من الزنا وزجر عنه ، أي كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك تحرجوا من الزنا ، وانكحوا على ما حد لكم. وعلى هذه الأقوال غير الأول لا يختص اليتامى بإناث ولا ذكور ، وعلى ما روي عن عائشة يكون مختصا بالإناث كأنه قيل في يتامى النساء.

والظاهر من هذه الأقوال أن يكون التقدير : وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح يتامى النساء فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن ، لما أمروا بأن يؤتوا اليتامى أموالهم ، ونهوا عن الاستبدال المذكور ، وعن أكل أموال اليتامى ، كان في ذلك مزيد اعتناء باليتامى واحتراز من ظلمهم كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (١) فخوطب أولياء يتامى النساء أو الناس بقوله : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أي : في نكاح يتامى النساء ، فانكحوا غيرهن ، وعلى هذا الذي اخترناه من أن المعنى في

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٠.

٥٠٣

نكاح اليتامى. فاليتامى إن كان أريد به اليتم الشرعي فينطلق على الصغيرات اللاتي لم يبلغن.

وقد استدل بذلك أبو حنيفة على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ وقال : أما بعد البلوغ فليست يتيمة ، بدليل أنها لو أرادت أن تحط عن صداق مثلها جاز لها. خلافا لمالك والشافعي والجمهور إذ قالوا : لا يجوز وإن كان المراد اليتم اللغوي ، فيندرج فيه البالغات ، والبالغة يجوز تزويجها بدون مهر المثل إذا رضيت ، فأي معنى للعدول إلى نكاح غيرها؟ والجواب : أن العدول إنما كان لأن الوليّ يستضعفها ويستولي على مالها وهي لا تقدر على مقاومته ، وإذا كان المراد باليتامى هنا البالغات فلا حجة لأبي حنيفة في الآية على جواز تزويج الصغيرة التي لم تبلغ. ومعنى : خفتم حذرتم ، وهو على موضوعه في اللغة من أن الخوف هو الحذر. وقال أبو عبيدة : معنى خفتم هنا أيقنتم ، وخاف تكون بمعنى أيقن ، ودليله قول الشاعر :

فقلت لهم خافوا بألفي مدحج

وما قاله لا يصح ، لا يثبت من كلام العرب خاف بمعنى أيقن ، وإنما خاف من أفعال التوقع ، وقد يميل فيه الظن إلى أحد الجائزين. وقد روى ذلك البيت : فقلت لهم : ظنوا بألفي مدحج. هذه الرواية أشهر من خافوا. قال الراغب : الخوف يقال فيما فيه رجاء ما ، ولهذا لا يقال : خفت أن لا أقدر على بلوغ السماء ، أو نسف الجبال انتهى.

ومعنى أن لا تقسطوا أي : أن لا تعدلوا. أي : وإن خفتم الجور وأقسط : بمعنى عدل. وقرأ النخعي وابن وثاب تقسطوا بفتح التاء من قسط ، والمشهور في قسط أنه بمعنى جار. وقال الزجاج : ويقال قسط بمعنى أقسط أي عدل. فإن حملت هذه القراءة على مشهور اللغة كانت لا زائدة ، أي : وإن خفتم أن تقسطوا أي : أن تجوروا لأن المعنى لا يتم إلا باعتقاد زيادتها. وإن حملت على أن تقسطوا بمعنى تقسطوا ، كانت للنفي كما في تقسطوا.

وقرأ ابن أبي عبلة من طاب. وقرأ الجمهور : ما طاب. فقيل : ما بمعنى من ، وهذا مذهب من يجوز وقوع ما على آحاد العقلاء ، وهو مذهب مرجوح. وقيل : عبر بما عن النساء ، لأن إناث العقلاء لنقصان عقولهن يجرين مجرى غير العقلاء. وقيل : ما واقعة على النوع ، أي : فانكحوا النوع الذي طاب لكم من النساء ، وهذا قول أصحابنا أنّ ما تقع على أنواع من يعقل. وقال أبو العباس : ما لتعميم الجنس على المبالغة ، وكان هذا القول هو

٥٠٤

القول الذي قبله. وقيل : ما مصدرية ، والمصدر مقدّر باسم الفاعل. والمعنى : فانكحوا النكاح الذي طاب لكم. وقيل : ما نكرة موصوفة ، أي : فانكحوا جنسا أو عددا يطيب لكم. وقيل : ما ظرفية مصدرية ، أي : مدة طيب النكاح لكم. والظاهر أنّ ما مفعولة بقوله : فانكحوا ، وأنّ من النساء معناه : من البالغات. ومن فيه إما لبيان الجنس للإبهام الذي في ما على مذهب من يثبت لها هذا المعنى ، وإمّا للتبعيض وتتعلق بمحذوف أي : كائنا من النساء ، ويكون في موضع الحال. وأما إذا كانت ما مصدرية أو ظرفية ، فمفعول فانكحوا هو من النساء ، كما تقول : أكلت من الرغيف ، والتقدير فيه : شيئا من الرغيف. ولا يجوز أن يكون مفعول فانكحوا مثنى ، لأن هذا المعدول من العدد لا يلي العوامل كما تقرر في المفردات.

وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش طاب بالإمالة. وفي مصحف أبي طيب بالياء ، وهو دليل الإمالة. وظاهر فانكحوا الوجوب ، وبه قال أهل الظاهر مستدلين بهذا الأمر وبغيره. وقال غيرهم : هو ندب لقوم ، وإباحة لآخرين بحسب قرائن المرء ، والنكاح في الجملة مندوب إليه. ومعنى ما طاب : أي ما حل ، لأن المحرمات من النساء كثير قاله : الحسن وابن جبير وأبو مالك. وقيل : ما استطابته النفس ومال إليه القلب. قالوا : ولا يتناول قوله فانكحوا العبيد.

ولما كان قوله : ما طاب لكم من النساء عامّا في الأعداد كلها ، خص ذلك بقوله : مثنى وثلاث ورباع. فظاهر هذا التخصيص تقسيم المنكوحات إلى أنّ لنا أن نتزوج اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولا يجوز لنا أن نتزوج خمسة خمسة ، ولا ما بعد ذلك من الاعداد. وذلك كما تقول : أقسم الدراهم بين الزيدين درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، فمعنى ذلك أن تقع القسمة على هذا التفصيل دون غيره. فلا يجوز لنا أن نعطي أحدا من المقسوم عليهم خمسة خمسة ، ولا يسوغ دخول أو هنا مكان الواو ، لأنه كان يصير المعنى أنهم لا ينكحون كلهم إلا على أحد أنواع العدد المذكور ، وليس لهم أن يجعلوا بعضه على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع ، لأن أو لأحد الشيئين أو الأشياء. والواو تدل على مطلق الجمع ، فيأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها على طريق الجميع إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد ، وإن شاؤوا متفقين فيها محظورا عليهم ما زاد. وذهب بعض الشيعة : إلى أنه يجوز النكاح بلا عدد ، كما يجوز التسري بلا عدد. وليست الآية تدل على توقيت في العدد ، بل تدل على الإباحة كقولك : تناول ما أحببت واحدا

٥٠٥

واثنين وثلاثا. وذكر بعض مقتضى العموم جاء على طريق التبيين ، ولا يقتضي الاقتصار عليه. وذهب بعضهم إلى أنه يجوز نكاح تسع ، لأن الواو تقتضي الجمع. فمعنى : مثنى وثلاث ورباع اثنين وثلاثا وأربعا وذلك تسع ، وأكد ذلك بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات عن تسع. وذهب بعضهم إلى أنّ هذه الأعداد وكونها عطفت بالواو تدلّ على نكاح جواز ثمانية عشر ، لأن كل عدد منها معدول عن مكرر مرتين ، وإذا جمعت تلك المكررات كانت ثمانية عشر. والكلام على هذه الأقوال استدلالا وإبطالا مذكور في كتب الفقه الخلافية.

وأجمع فقهاء الأمصار على أنه لا تجوز الزيادة على أربع. والظاهر أنه لا يباح النكاح مثنى أو ثلاث أو رباع إلا لمن خاف الجور في اليتامى لأجل تعليقه عليه ، أما من لم يخف فمفهوم الشرط يدل على أنه لا يجوز له ذلك ، والإجماع على خلاف ما دلّ عليه الظاهر من اختصاص الإباحة بمن خاف الجور. أجمع المسلمون على أنّ من لم يجف الجور في أموال اليتامى يجوز له أن ينكح أكثر من واحدة ثنتين وثلاثا وأربعا كمن خاف. فدل على أن الآية جواب لمن خاف ذلك ، وحكمها أعم.

وقرأ النخعي وابن وثاب : وربع ساقطة الألف ، كما حذفت في قوله : وحليانا بردا يريد باردا. وإذا أعربنا ما من ما طاب مفعولة وتكون موصولة ، فانتصاب مثنى وما بعده على الحال منها ، وقال أبو البقاء : حال من النساء. وقال ابن عطية : موضعها من الإعراب نصب على البدل من ما طاب ، وهي نكرات لا تتصرف لأنها معدولة وصفة انتهى. وهما إعرابان ضعيفان. أمّا الأوّل فلأن المحدث عنه هو ما طاب ، ومن النساء جاء على سبيل التبيين وليس محدثا عنه ، فلا يكون الحال منه ، وإن كان يلزم من تقييده بالحال تقييد المنكوحات. وأما الثاني فالبدل هو على نية تكرار العامل ، فيلزم من ذلك أن يباشرها العامل. وقد تقرر في المفردات أنها لا يباشرها العامل. وأيضا فإنه قال : إنها نكرة وصفة ، وما كان نكرة وصفة فإنه إذا جاء تابعا لنكرة كان صفة لها كقوله تعالى : (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (١) وما وقع صفة للنكرة وقع حالا للمعرفة. وما طاب معرفة فلزم أن يكون مثنى حالا.

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي أن لا تعدلوا بين ثنتين إن نكحتموهما ، أو بين ثلاث أو أربع إن نكحتموهن في القسم أو النفقة أو الكسوة ، فاختاروا

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ١.

٥٠٦

واحدة. أو ما ملكت أيمانكم هذا إن حملنا فانكحوا على تزوجوا ، وإن حملناه على الوطء قدرنا الفعل الناصب لقوله : فواحدة. فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم. ويحتمل أن يكون من باب علفتها تبنا وماء باردا على أحد التخريجين فيه ، والتقدير : فانكحوا أي تزوجوا واحدة ، أوطئوا ما ملكت أيمانكم. ولم يقيد مملوكات اليمين بعدد ، فيجوز أن يطأ ما شاء منهن لأنه لا يجب العدل بينهن لا في القسم ولا في النفقة ولا في الكسوة. وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر وابن هرمز : فواحدة بالرفع. ووجه ذلك ابن عطية على أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر مقدر أي : فواحدة كافية. ووجهه الزمخشري على أنه مرفوع على الخبر أي : فالمقنع ، أو فحسبكم واحدة ، أو ما ملكت أيمانكم. وأو هنا لأحد الشيئين : إما على التخيير ، وإما على الإباحة.

وروي عن أبي عمرو : فما ملكت أيمانكم يريد به الإماء ، والمعنى : على هذا إن خاف أن لا يعدل في عشرة واحدة فما ملكت يمينه. وقرأ ابن أبي عبلة : أو من ملكت أيمانكم ، وأسند الملك إلى اليمين لأنها صفة مدح ، واليمين مخصوصة بالمحاسن. ألا ترى أنها هي المنفقة في قوله : «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وهي المعاهدة والمتلقية لرايات المجد ، والمأمور في تناول المأكول بالأكل بها ، والمنهي عن الاستنجاء بها. وهذان شرطان مستقلان لكل واحد منهما جواب مستقل ، فأول الشرطين : وإن ختفم أن لا تقسطوا ، وجوابه : فانكحوا. صرف من خاف من الجور في نكاح اليتامى إلى نكاح البالغات منهن ومن غيرهن وذكر تلك الأعداد. وثاني الشرطين قوله : فإن خفتم أن لا تعدلوا وجوابه : فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم صرف من خاف من الجور في نكاح ما ذكر من العدد إلى نكاح واحدة ، أو تسرّ بما ملك وذلك على سبيل اللطف بالمكلف والرفق به ، والتعطف على النساء والنظر لهن.

وذهب بعض الناس إلى أن هذه الجمل اشتملت على شرط واحد ، وجملة اعتراض. فالشرط : وإن خفتم أن لا تقسطوا ، وجوابه : فواحدة. وجملة الاعتراض قوله : فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، وكرر الشرط بقوله : فإن خفتم أن لا تعدلوا. لما طال الكلام بالاعتراض إذ معناه : كما جاء في فلما جاءهم ما عرفوا بعد قوله ، ولما جاءهم كتاب من عند الله إذ طال الفصل بين لما وجوابها فأعيدت. وكذلك (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ) (١) بعد قوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) (٢) إذ طال الفصل بما بعده

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٨٨.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٨٨.

٥٠٧

بين : لا تحسبن ، وبين بمفازة ، فأعيدت الجملة ، وصار المعنى على هذا التقدير ، إن لم تستطيعوا أن تعدلوا فانكحوا واحدة. قال : وقد ثبت أنهم لا يستطيعون العدل بقوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) (١) انتهى هذا القول وهو منسوب إلى أبي علي. ولعله لا يصح عنه ، فإن أبا علي كان من علم النحو بمكان ، وهذا القول فيه إفساد نظم القرآن التركيبي ، وبطلان للأحكام الشرعية : لأنه إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله : ولن تستطيعوا بما نتج من الدلالة ، اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوج غير واحدة ، أو يتسرّى بما ملكت يمينه. ويبقى هذا الفصل بالاعتراض بين الشرط وبين جوابه لغوا لا فائدة له على زعمه. والعدل المنفي استطاعته غير هذا العدل المنفي هنا ، ذاك عدل في ميل القلب وقد رفع الحرج فيه عن الإنسان ، وهذا عدل في القسم والنفقة. ولذلك نفيت هناك استطاعته ، وعلق هنا على خوف انتفائه ، لأن الخوف فيه رجاء وظن غالبا. وانتزع الشافعي من قوله : فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ، أن الاشتغال بنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح ، خلافا لأبي حنيفة ، إذ عكس. ووجه انتزاعه ذلك واستدلاله بالآية أنه تعالى خير بين تزوج الواحدة والتسري ، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة ، والحكمة سكون النفس بالأزواج ، وتحصين الدين ومصالح البيت ، وكل ذلك حاصل بالطريقين ، وأجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري ، فوجب أن يكون أفضل من النكاح ، لأن الزائد على المتساويين يكون زائدا على المساوي الثاني لا محالة.

(ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) الإشارة إلى اختيار الحرة الواحدة والأمة. أدنى من الدنو أي : أقرب أن لا تعولوا ، أي : أن لا تميلوا عن الحق. قاله : ابن عباس ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وأبو مالك ، والسدّي. وقال مجاهد : لا تضلوا. وقال النخعي : لا تخونوا.

وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد والشافعي : معناه لا يكثر عيالكم. وقد رد على الشافعي في هذا القول من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ، أما من جهة المعنى فقال أبو بكر بن داود والرازي ما معناه : غلط الشافعي ، لأن صاحب الإماء في العيال كصاحب الأزواج. وقال الزجاج : إن الله قد أباح كثرة السراري ، وفي ذلك تكثير العيال ، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا؟ وقال صاحب النظم : قال : أولا أن لا تعدلوا يجب أن يكون ضد العدل هو الجور ، وأما من جهة اللفظ ويقتضي أيضا الرد من جهة المعنى ، فتفسير الشافعي

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٢٩.

٥٠٨

تعولوا بتعيلوا. وقالوا : يقال أعال يعيل إذا كثر عياله ، فهو من ذوات الياء لا من ذوات الواو ، فقد اختلفا في المادة ، فليس معنى تعولوا تعيلوا. وقال الرازي أيضا عن الشافعي : أنه خالف المفسرين. وما قاله ليس بصحيح ، بل قد قال بمقالته زيد بن أسلم وابن زيد كما قدمناه وغيرهم. وأما تفسيره تعولوا بتعيلوا فليس فيه دليل على أنه أراد أن تعولوا وتعيلوا من مادة واحدة ، وأنهما يجمعهما اشتقاق واحد ، بل قد يكون اللفظان في معنى واحد ولا يجمعهما اشتقاق واحد ، نحو قولهم : دمت ودشير ، وسبط وسبطة ، فكذلك هذا.

وقد نقل عال الرجل يعول ، أي كثر عياله ابن الأعرابي ، كما ذكرناه في المفردات. ونقله أيضا الكسائي قال : وهي لغة فصيحة. قال الكسائي : العرب تقول : عال يعول ، وأعال يعيل كثر عياله ، ونقلها أيضا أبو عمرو الدوري المقري وكان إماما في اللغة غير مدافع قال : هي لغة حمير.

وأنشد أبو عمرو حجة لها :

وإن الموت يأخذ كل حي

بلا شك وأن أمشي وعالا

أمشي كثرت ماشيته ، وعال كثير عياله. وجعل الزمخشري كلام الشافعي وتفسيره تعولوا تكثر عيالكم على أن جعله من قولك : عال الرجل عياله يعولهم. وقال : لا يظن به أنه حول تعيلوا إلى تعولوا ، وأثنى على الشافعي بأنه كان أعلى كعبا وأطول باعا في كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا.

قال : ولكن للعلماء طرقا وأساليب ، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات. وأما ما رد به ابن داود والرازي والزجاج فقال ابن عطية : هذا القدح يشير إلى قدح الزجاج غير صحيح ، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع ، وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة.

وقال الزمخشري : الغرض بالتزوج التوالد والتناسل ، بخلاف التسري. ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهن ، فكان التسري مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج ، والواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع. وقال القفال : إذا كثرت الجواري فله أن يكلفهن الكسب فينفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا ، وتقل العيال. أما إذا كانت حرة فلا يكون الأمر كذلك انتهى. وروي عن الشافعي أيضا أنه فسر قوله تعالى : أن لا تعولوا بمعنى أن لا تفتقروا ، ولا يريد أن تعولوا من مادة تعيلوا من عال يعيل إذا افتقر ، إنما يريد أيضا

٥٠٩

الكناية ، لأن كثرة العيال يتسبب عنها الفقر. والظاهر أن المعنى : أن اختيار الحرة الواحدة أو الأمة أقرب إلى انتفاء الجور ، إذ هو المحذور المعلق على خوفه الاختيار المذكور. أي : عبر عن قوله : أن لا تعولوا بأن لا يكثر عيالكم ، فإنه عبر عن المسبب بالسبب ، لأن كثرة العيال ينشأ عنه الجور.

وقرأ طلحة أن لا تعيلوا بفتح التاء ، أي لا تفتقروا من العيلة كقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) (١) وقال الشاعر :

فما يدري الفقير متى غناه

ولا يدري الغني متى يعيل

وقرأ طاوس : أن لا تعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله ، وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي من حيث المعنى الذي قصده. وأن تتعلق بأدنى وهي في موضع نصب أو جر على الخلاف ، إذ التقدير : أدنى إلى أن لا تعولوا. وافعل التفضيل إذا كان الفعل يتعدى بحرف جر يتعدّى هو إليه. تقول : دنوت إلى كذا فلذلك كان التقدير أدنى إلى أن تعولوا. ويجوز أن يكون الحرف المحذوف لام الجر ، لأنك تقول : دنوت لكذا.

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) الظاهر : أن الخطاب للأزواج ، لأن الخطاب قبله لهم ، قاله : ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وابن جريج. قيل : كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول : أرثك وترثيني فتقول : نعم. فأمروا أن يسرعوا إعطاء المهور. وقيل : الخطاب لأولياء النساء ، وكانت عادة بعض العرب أن يأكل ولي المرأة مهرها ، فرفع الله ذلك بالإسلام. قاله : أبو صالح ، واختاره : الفراء وابن قتيبة. وقيل : المراد بالآية ترك ما كان يفعله المتشاغرون من تزويج امرأة بأخرى ، وأمروا بضرب المهور قاله : حضرمي ، والأمر بإيتاء النساء صدقاتهن نحلة يتناول هذه الصور كلها.

والصدقات المهور. قال ابن عباس وابن جريج وابن زيد وقتادة : نحلة فريضة. وقيل : عطية تمليك قاله الكلبي والفراء. وقيل : شرعة ودينا قاله : ابن الأعرابي. قال الراغب : والنحلة أخص من الهبة ، إذ كل هبة نحلة ولا ينعكس ، وسمي الصداق نحلة من حيث لا يجب في مقابلته أكثر من تمتع دون عوض مالي. ومن قال : النحلة الفريضة نظر إلى حكم الآية ، لا إلى موضوع اللفظ والاشتقاق ، والآية اقتضت إتيانهن الصداق انتهى. ودل هذا الأمر على التحرج من التعرض لمهور النساء كما دل الأمر في : (وَآتُوا الْيَتامى

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٢٨.

٥١٠

أَمْوالَهُمْ) (١) ، وأنهما متساويان في التحريم. ولما أذن في نكاح الأربع أمر الأزواج والأولياء باجتناب ما كانوا عليه من سنن الجاهلية.

وقرأ الجمهور صدقاتهن جمع صدقة ، على وزن سمرة. وقرأ قتادة وغيره : بإسكان الدال وضم الصاد. وقرأ مجاهد وموسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم : بضمها. وقرأ النخعي وابن وثاب : صدقتهن بضمها والافراد ، وانتصب نحلة على أنه مصدر على غير الصدر ، لأن معنى : وآتوا انحلوا فالنصب فيها بآتوا. وقيل : بانحلوهن مضمرة. وقيل : مصدر في موضع الحال ، إما عن الفاعلين أي ناحلين ، وإما من المفعول الأول أو الثاني أي : منحولات. وقيل : انتصب على إضمار فعل بمعنى شرع ، أي : أنحل الله ذلك نحلة ، أي شرعه شرعة ودينا. وقيل : إذا كان بمعنى شرعة فيجوز انتصابه على أنه مفعول من أجله ، أو حال من الصدقات. وفي قوله : وآتوا النساء صدقاتهن دلالة على وجوب الصداق للمرأة ، وهو مجمع عليه إلا ما روي عن بعض أهل العراق : أن السيد إذا زوج عبده بأمته لا يجب فيه صداق ، وليس في الآية تعرض لمقدار الصداق ، ولا لشيء من أحكامه. وقد تكلم بعض المفسرين في ذلك هنا ، ومحل الكلام في ذلك هو كتب الفقه.

(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) الخطاب فيه الخلاف : أهو للأزواج؟ أو للأولياء؟ وهو مبني على الخلاف في : وآتوا النساء. وقال حضرمي : سبب نزولها أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوا إلى الزوجات ، والضمير في : منه ، عائد على الصداق قاله : عكرمة. إذ لو وقع مكان صدقاتهن لكان جائزا وصار شبيها بقولهم : هو أحسن الفتيان وأجمله لصلاحية ، هو أحسن فتى. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد ، فيكون متناولا بعضه. فلو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله ، لأن بعض الصدقات واحد منها فصاعدا انتهى. وأقول : حسن تذكير الضمير ، لأن معنى : فإن طبن ، فإن طابت كل واحدة ، فلذلك قال منه أي : من صداقها ، وهو نظير : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) (٢) أي لكل واحدة ، ولذلك أفرد متكأ. وقيل : يعود على صدقاتهن مسلوكا به مسلك اسم الإشارة ، كأنه قيل عن شيء من ذلك. واسم الإشارة وإن كان مفردا قد يشار به إلى مجموع كقوله : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) (٣).

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٣١.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٥.

٥١١

وقد تقدّمت عليه أشياء كثيرة. وقيل : لرؤبة كيف قلت : كأنه في الجلد توليع البهق ، وقد تقدم ، فيها خطوط من سواد وبلق. فقال : أردت كان ذاك. وقيل : يعود على المال ، وهو غير مذكور ، ولكن يدل عليه صدقاتهن. وقيل : يعود على الإيتاء وهو المصدر الدال عليه : وآتوا ، قاله الراغب ، وذكره ابن عطية. ويتعلق المجروران بقوله : طبن ، ومنه في موضع الصفة لشيء ، فيتعلق بمحذوف ، وظاهر من التبعيض. وفيه إشارة إلى أن ما تهبه يكون بعضا من الصداق ، ولذلك ذهب الليث بن سعد إلى أنه لا يجوز تبرعها له إلا باليسير. وقال ابن عطية : ومن تتضمن الجنس هاهنا. وكذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك.

وانتصب نفسا على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من الفاعل. وإذا جاء التمييز بعد جمع وكان منتصبا عن تمام الجملة ، فإما أن يكون موافقا لما قبله في المعنى ، أو مخالفا فإن كان موافقا طابقه في الجمعية نحو : كرم الزيدون رجالا ، كما يطابق لو كان خبرا ، وإن كان مخالفا ، فإما أن يكون مفردا لمدلول أو مختلفه ، إن كان مفردا لمدلول لزم إفراد اللفظ الدال كقولك في أبناء رجل واحد : كرم بنو فلان أصلا وأبا. وكقولك : زكا الأتقياء منقبا ، وجاد الأذكياء وعيا. وذلك إذا لم تقصد بالمصدر اختلاف الأنواع لاختلاف محاله. وإن كان مختلف المدلول ، فإما أن يلبس أفراده لو أفرد ، أو لا يلبس. فإن ألبس وجبت المطابقة نحو : كرم الزيدون آباء ، أي : كرم آباء الزيدين. ولو قلت : كرم الزيدون أبا ، لأوهم أن أباهم واحد موصوف بالكرم. وإن لم يلبس جاز الإفراد والجمع. والإفراد أولى ، كقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا إذ معلوم أن لكل نفسا ، وإنهن لسن مشتركات في نفس واحدة. وقرّ الزيدون عينا ، ويجوز أنفسا وأعينا. وحسن الإفراد أيضا في الآية ما ذكرناه قبل من محسن تذكير الضمير وإفراده ، وهو أن المعنى : فإن طابت كل واحدة عن شيء منه نفسا.

وقال بعض البصريين : أراد بالنفس الهوى. والهوى مصدر ، والمصادر لا تثنى ولا تجمع. وجواب الشرط : فكلوه ، وهو أمر إباحة. والمعنى : فانتفعوا به. وعبر بالأكل لأنه معظم الانتفاع.

وهنيئا مريئا أي : شافيا سائغا. وقال أبو حمزة : هنيئا لا إثم فيه ، مريئا لأداء فيه. وقيل : هنيئا لذيذا ، مريئا محمود العاقبة. وقيل : هنيئا مريئا أي ما لا تنغيص فيه. وقيل : ما

٥١٢

ساغ في مجراه ولا غص به من تحساه. وقيل : هنيئا مريئا أي : حلالا طيبا. وقرأ الحسن والزهري : هنيا مريا دون همزة ، أبدلوا الهمزة التي هي لام الكلمة ياء ، وأدغموا فيها ياء المدّ. وانتصاب هنيئا على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : فكلوه أكلا هنيئا ، أو على أنه حال من ضمير المفعول ، هكذا أعربه الزمخشري وغيره. وهو قول مخالف لقول أئمة العربية ، لأنه عند سيبويه وغيره : منصوب بإضمار فعل لا يجوز إظهاره. وقد ذكرنا في المفردات نص سيبويه على ذلك. فعلى ما قاله أئمة العربية يكون هنيئا مريئا من جملة أخرى غير قوله : فكلوه هنيئا مريئا ، ولا تعلق له به من حيث الإعراب ، بل من حيث المعنى. وجماع القول في هنيئا : أنها حال قائمة مقام الفعل الناصب لها. فإذا قيل : إن فلانا أصاب خيرا فقلت هنيئا له ، ذلك فالأصل ثبت له ذلك هنيئا فحذف ثبت ، وأقيم هنيئا مقامه. واختلفوا إذ ذاك فيما يرتفع به ذلك. فذهب السيرافي إلى أنه مرفوع بذلك الفعل المختزل الذي هو ثبت ، وهنيئا حال من ذلك ، وفي هنيئا ضمير يعود على ذلك. وإذا قلت : هنيئا ولم تقل له ذلك ، بل اقتصرت على قولك : هنيئا ، ففيه ضمير مستتر يعود على ذي الحال ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في ثبت المحذوفة. وذهب الفارسي إلى أن ذلك إذا قلت : هنيئا له ، ذلك مرفوع بهنيئا القائم مقام الفعل المحذوف ، لأنه صار عوضا منه ، فعمل عمله. كما أنك إذا قلت : زيد في الدار ، رفع المجرور الضمير الذي كان مرفوعا بمستقر ، لأنه عوض منه. ولا يكون في هنيئا ضمير ، لأنه قد رفع الظاهر الذي هو اسم الإشارة. وإذا قلت : هنيئا ففيه ضمير فاعل بها ، وهو الضمير فاعلا لثبت ، ويكون هنيئا قد قام مقام الفعل المختزل مفرعا من الفعل. وإذا قلت : هنيئا مريئا ، فاختلفوا في نصب مريء. فذهب بعضهم : إلى أنه صفة لقولك هنيئا ، وممن ذهب إلى ذلك الحوفي. وذهب الفارسي : إلى أن انتصابه انتصاب قولك هنيئا ، فالتقدير عنده : ثبت مريئا ، ولا يجوز عنده أن يكون صفة لهنيئا ، من جهة أنّ هنيئا لما كان عوضا من الفعل صار حكمه حكم الفعل الذي ناب منابه ، والفعل لا يوصف ، فكذلك لا يوصف هو. وقد ألمّ الزمخشري بشيء مما قاله النحاة في هنيئا لكنه حرفه فقال بعد أن قدّم أن انتصابه على أنه وصف للمصدر ، أو حال من الضمير في فكلوه أي : كلوه وهو هنيء مريء. قال : وقد يوقف على فكلوه ، ويبتدأ هنيئا مريئا على الدعاء ، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدر ، كأنه قيل : هنئا مرئا انتهى. وتحريفه أنه جعلهما أقيما مقام المصدر ، فانتصابهما على هذا انتصاب المصدر ، ولذلك قال : كأنه قيل هنأ مرأ ، فصار كقولك : سقيا ورعيا ، أي : هناءة

٥١٣

ومراءة. والنحاة يجعلون انتصاب هنيئا على الحال ، وانتصاب مريئا على ما ذكرناه من الخلاف. إما على الحال ، وإما على الوصف. ويدل على فساد ما حرفه الزمخشري وصحة قول النحاة ارتفاع الأسماء الظاهرة بعد هنيئا مريئا ، ولو كانا ينتصبان انتصاب المصادر. والمراد بها : الدعاء لما أجاز ذلك فيها تقول : سقيا لك ورعيا ، ولا يجوز سقيا الله لك ، ولا رعيا الله لك ، وإن كان ذلك جائزا في فعله فتقول : سقاك الله ورعاك. والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدها قول الشاعر :

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلت

فما : مرفوع بما تقدّم من هنيء أو مريء. أو بثبت المحذوفة على اختلاف السيرافي وأبي عليّ على طريق الأعمال. وجاز الأعمال في هذه المسألة وإن لم يكن بينهما رابط عطف ، لكون مريئا لا يستعمل إلا تابعا لهنيئا ، فصارا كأنهما مرتبطان لذلك. ولو كان ذلك في الفعل لم يجز لو قلت : قام خرج زيد ، لم يصح أن يكون من الأعمال إلا على نية حرف العطف. وذهب بعضهم : إلى أنّ مريئا يستعمل وحده غير تابع لهنيئا ، ولا يحفظ ذلك من كلام العرب ، وهنيئا مريئا اسما فاعل للمبالغة. وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على وزن فعيل ، كالصهيل والهدير ، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر.

وظاهر الآية يدل على أنّ المرأة إذا وهبت لزوجها شيئا من صداقها طيبة بها نفسها غير مضطرة إلى ذلك بإلحاح أو شكاسة خلق ، أو سوء معاشرة ، فيجوز له أن يأخذ ذلك منها ويتملكه وينتفع به. ولم يوقت هذا التبرع بوقت ، ولا استثناء فيه رجوع. وذهب الأوزاعي : إلى أنه لا يجوز تبرعها ما لم تلد ، أو تقم في بيت زوجها سنة ، فلو رجعت بعد الهبة فقال شريح وعبد الملك بن مروان : لها أن ترجع. وروى مثله عن عمر. كتب عمر إلى قضاته : أن النساء يعطين رغبة ورهبة ، فأيما امرأة أعطت زوجها ثم أرادت أن ترجع فلها ذلك. قال شريح : لو طابت نفسها لما رجعت. وقال عبد الملك : قال تعالى : (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (١) وكلا القولين خلاف الظاهر من هذه الآية. وفي تعليق القبول على طيب النفس ذون لفظة الهبة أو الإسماح ، دلالة على وجوب الاحتياط في الأخذ ، وإعلام أنّ المراعى هو طيب نفسها بالموهوب. وفي قوله : هنيئا مريئا مبالغة في الإباحة والقبول وزوال التبعة.

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) قال ابن مسعود والحسن

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٠.

٥١٤

والضحاك والسدي وغيرهم : نزلت فيّ ولد الرجل الصغار وامرأته. وقال ابن جبير : في المحجورين. وقال مجاهد : في النساء خاصة. وقال أبو موسى الأشعري والطبري وغيرهما : نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كائنا من كان. ويضعف قول مجاهد أنها في النساء ، كونها جمع سفيهة ، والعرب إنما تجمع فعيلة على فعائل أو فعيلات قاله : ابن عطية. ونقلوا أنّ العرب جمعت سفيهة على سفهاء ، فهذا اللفظ قد قالته العرب للمؤنث ، فلا يضعف قول مجاهد. وإن كان جمع فعيلة الصفة للمؤنث نادرا لكنه قد نقل في هذا اللفظ خصوصا. وتخصيص ابن عطية جمع فعيلة بفعائل أو فعيلات ليس بجيد ، لأنه يطرد فيه فعال كظريفة وظراف ، وكريمة وكرام ، ويوافق في ذلك المذكر. وإطلاقه فعيلة دون أن يخصها بأن لا يكون بمعنى مفعولة نحو : قتيلة ، ليس بجيد ، لأن فعيلة لا تجمع على فعائل.

وقيل : عنى بالسفهاء الوارثين الذين يعلم من حالهم أنهم يتسفهون في استعمال ما تناله أيديهم ، فنهى عن جمع المال الذي ترثه السفهاء. والسفهاء : هم المبذرون الأموال بالإنفاق فيما لا ينبغي ، ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرّف فيها. والظاهر في قوله : أموالكم أن المال مضاف إلى المخاطبين بقوله : ولا تؤتوا. قال أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة : نهى أن يدفع إلى السفيه شيء من مال غيره ، وإذا وقع النهي عن هذا فإن لا يؤتى شيئا من مال نفسه أولى وأحرى بالنهي ، وعلى هذا القول : وهو أن يكون الخطاب لأرباب الأموال. قيل : يكون في ذلك دلالة على أن الوصية للمرأة جائزة ، وهو قول عامة أهل العلم. وأوصى عمر إلى حفصة. وروي عن عطاء : أنها لا تكون وصيا. قال : ولو فعل حولت إلى رجل من قومه.

قيل : ويندرج تحتها الجاهل بأحكام البيع. وروي عن عمر أنه قال : «من لم يتفقه في الدين فلا يتجر في أسواقنا ، والكفار». وكره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالبيع والشراء ، أو يدفع إليه يضاربه. وقال ابن جبير : يريد أموال السفهاء ، وأضافها إلى المخاطبين تغبيطا بالأموال ، أي : هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم. ومن مثل هذا : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (١) وما جرى مجراه. وهذا القول ذكره الزمخشري أولا قال : والخطاب للأولياء ، وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٩.

٥١٥

ما يقيم به الناس معائشهم. كما قال : ولا تقتلوا أنفسكم ، (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) (١) ، والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) (٢).

وقرأ الحسن والنخعي : اللاتي. وقرأ الجمهور : التي. قال ابن عطية : والأموال جمع لا يعقل ، فالأصوب فيه قراءة الجماعة انتهى. واللاتي جمع في المعنى للتي ، فكان قياسه أن لا يوصف به الإماء وصف مفرده بالتي ، والمذكر لا يوصف بالتي سواء كان عاقلا أو غير عاقل ، فكان قياس جمعه أن لا يوصف بجمع التي الذي هو اللاتي. والوصف بالتي يجري مجرى الوصف بغيره من الصفات التي تلحقها التاء للمؤنث. فإذا كان لنا جمع لا يعقل فيجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على الواحدة المؤنثة ، ويجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على جمع المؤنثات فتقول : عندي جذوع منكسرة ، كما تقول : امرأة طويلة ، وجذوع منكسرات. كما تقول : نساء صالحات جرى الوصف في ذلك مجرى الفعل. والأولى في الكلام معاملته معاملة ما جرى على الواحدة ، هذا إذا كان جمع ما لا يعقل للكثرة. فإذا كان جمع قلة ، فالأولى عكس هذا الحكم : فأجذاع منكسرات أولى من أجذاع منكسرة ، وهذا فيما وجد له الجمعان : جمع القلة ، وجمع الكثرة. أمّا ما لا يجمع إلا على أحدهما ، فينبغي أن يكون حكمه على حسب ما تطلقه عليه من القلة والكثرة. وإذا تقرر هذا أنتج أنّ التي أولى من اللاتي ، لأنه تابع لجمع لا يعقل. ولم يجمع مال على غيره ، ولا يراد به القلة لجريان الوصف به مجرى الوصف بالصفة التي تلحقها التاء للمؤنث ، فلذلك كانت قراءة الجماعة أصوب. وقال الفراء : تقول العرب في النساء : اللاتي ، أكثر مما تقول التي. وفي الأموال تقول التي أكثر مما تقول اللاتي ، وكلاهما في كليهما جائز. وقرىء شاذا للواتي ، وهو أيضا في المعنى جمع التي.

ومعنى قياما تقومون بها وتنتعشون بها ، ولو ضيعتموها لتلفت أحوالكم. قال الضحاك : جعلها الله قياما لأنه يقام بها الحج والجهاد وإكمال البر ، وبها فكاك الرقاب من رق ومن النار ، وكان السلف تقول : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك ما يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس. وعن سفيان الثوري وكانت له بضاعة يقلبها : لو لاها لتمندل أي : بنو العباس. وكانوا يقولون : اتجروا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٢٥.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٥.

٥١٦

دينه. وقرأ نافع وابن عامر : قيما ، وجمهور السبعة : قياما ، وعبد الله بن عمر : قواما بكسر القاف ، والحسن وعيسى بن عمر : قواما بفتحها. ورويت عن أبي عمرو. وقرىء شاذا : قوما. فأما قيما فمقدر كالقيام ، والقيام قاله : الكسائي والفراء والأخفش ، وليس مقصورا من قيام. وقيل : هو مقصور منه. قالوا : وحذفت الألف كما حذفت في خيم وأصله خيام ، أو جمع قيمة كديم جمع ديمة قاله : البصريون غير الأخفش. ورده أبو علي : بأنه وصف به في قوله : (دِيناً قِيَماً) (١) والقيم لا يوصف به ، وإنما هو مصدر بمعنى القيام الذي يراد به الثبات والدوام. ورد هذا بأنه لو كان مصدرا لما أعلّ كما لم يعلوا حولا وعوضا ، لأنه على غير مثال الفعل ، لا سيما الثلاثية المجردة. وأجيب : بأنه اتبع فعله في الإعلال فأعل ، لأنه مصدر بمعنى القيام ، فكما أعل القيام أعل هو. وحكى الأخفش : قيما وقوما ، قال : والقياس تصحيح الواو ، وإنما اعتلت على وجه الشذوذ كقولهم : تيره ، وقول بني ضبة : طيال في جميع طويل ، وقول الجميع : جياد في جمع جواد. وإذا أعلوا ديما لاعتلال ديمة ، فإن إعلال المصدر لاعتلال فعله أولى. ألا ترى إلى صحة الجمع مع اعتلال مفرده في معيشة ومعائش ، ومقامة ومقاوم ، ولم يصححوا مصدرا أعلوا فعله. وقيل : يحتمل هنا أن يكون جمع قيمة ، وإن كان لا يحتمله دينا قيما. وأما قيام فظاهر فيه المصدر ، وأما قوام فقيل : مصدر قاوم. وقيل : هو اسم غير مصدر ، وهو ما يقام به كقولك : هو ملاك الأمر لما يملك به. وأما قوام فخطأ عند أبي حاتم. وقال : القوام امتداد القامة ، وجوزه الكسائي. وقال : هو في معنى القوام ، يعني أنه مصدر. وقيل : اسم للمصدر. وقيل : القوام القامة ، والمعنى : التي جعلها الله سبب بقاء قاماتكم.

(وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) أي : أطعموهم واجعلوا لهم نصيبا. قيل : معناه فيمن يلزم الرجل نفقته من زوجته وبنيه الصغار. قال ابن عباس : لا تعمد إلى هلاك الشيء الذي جعله الله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم ، وأمسك ذلك وأصلحه ، وكن أنت تنفق عليهم في رزقهم وكسوتهم ومؤونتهم. وقيل : في المحجورين ، وهو خلاف مرتب على الخلاف في المخاطبين بقوله : وآتوا من هم. والمعنى على هذا القول : اجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا ، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال ، فلا يأكلها الإنفاق. قيل : وقال فيها : ولم يقل منها تنبيها على ما قاله عليه

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٦١.

٥١٧

السلام : «ابتغوا في أموال اليتامى التجارة لا تأكلها الزكاة» والمستحب أن يكون الإنفاق عليهم من فضلاتها المكتسبة. وقيل في : بمعنى من ، أي منها.

(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) المعروف : ما تألفه النفوس وتأنس إليه ويقتضيه الشرع ، فإن كان المراد بالسفهاء المحجورين ، فمن المعروف وعدهم الوعد الحسن بأنكم إذا رشدتم سلمنا إليكم أموالكم قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، ومقاتل ، وابن جريج. وقال عطاء : إذا ربحت أعطيتك ، وإذا غنمت في غزاتي ، جعلت لك حظا. وإن كان المراد النساء والبنين الأصاغر والسفهاء الأجانب ، فتدعو لهم : بارك الله فيكم ، وحاطكم ، وشبهه قاله : ابن زيد. وقال الضحاك : الرد الجميل. ولما أمر الله تعالى أولا بإيتاء اليتامى بقوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) (١) وأمر ثانيا بإيتاء أموال النساء بقوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) (٢) وكان ذلك عاما من غير تخصيص بين في هذه الآية. إنّ ذلك الإيتاء إنما هو لغير السفيه ، وخص ذلك العموم ، وقيد الإطلاق الذي في الأمر بالإيتاء.

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) قيل : توفي رفاعة وترك ابنه ثابتا صغيرا فسأل : إنّ ابن أخي في حجري ، فما يحل لي من ماله ، ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت. وقيل : توفي أوس بن ثابت ، ويقال : أوس بن سويد عن زوجته أم كجه وثلاث بنات وابني عم سويد. وقيل : قتادة وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا المرأة ولا البنات شيئا. وقيل : المانع ارثهن هو عم بنيها واسمه : ثعلبة. وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا البنات ولا الابن الصغير الذكر ، فشكتهما أم كجه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعاهما ، فقال : لا يا رسول الله ، ولدها لا يركب فرسا ، ولا يحمل كلا ، ولا ينكى عدوا فقال : «انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله» فنزلت.

وابتلاء اليتامى اختبارهم في عقولهم قاله : ابن عباس والسدي ، ومقاتل ، وسفيان. أو في عقولهم ودينهم وحفظهم لأموالهم وحسن تصرفهم فيها. ذكره : الثعلبي. وكيفية اختبار الصغير أن يدفع إليه نزر يسير من المال يتصرف فيه ، والوصي يراعى حاله فيه لئلا يتلفه. واختبار الصغيرة أن يرد إليها أمر البيت والنظر في الاستغزال دفعا وأجرة واستيفاء. واختلاف كل منهما بحال ما يليق به وبما يعانيه من الأشغال والصنائع ، فإذا أنس منه الرشد بعد البلوغ والاختبار دفع إليه ماله ، وأشهد عليه هذا ظاهر الآية ، وهو يعقب الدفع.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٤.

٥١٨

والإشهاد الإيناس المشروط. وقال ابن سيرين : لا يدفع إليه بعد الإيناس والاختبار المذكورين حتى تمضي عليه سنة وتداوله الفصول الأربع ، ولم تتعرض الآية لسن البلوغ ، ولا بماذا يكون. وتكلم فيها هنا بعض المفسرين. والكلام في البلوغ مذكور في كتب الفقه.

وظاهر الآية أنه إن لم يؤنس منه رشد بقي محجورا عليه دائما ، ولا يدفع إليه المال ، وبه قال الجمهور. وقال النخعي وأبو حنيفة : ينتظر به خمس وعشرون سنة ، ويدفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس. وظاهر الآية يدل على استبداد الوصي بالدفع والاستقلال به. وقالت طائفة : يفتقر إلى أن يدفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده ، أو يكون ممن يأمنه الحاكم. وظاهر عموم اليتامى اندراج البنات في هذا الحكم ، فيكون حكمهن حكم البنين في ذلك. فقيل : يعتبر رشدها ، وإن لم تتزوج بالبلوغ. وقيل : المدة بعد الدخول خمسة أعوام. وقيل : سنة. وقيل : سبعة في ذات الأب ، وعام واحد في اليتيمة التي لا وصي لها.

وحتى هنا غاية للابتلاء ، ودخلت على الشرط وهو : إذا ، وجوابه : فإن آنستم ، وجوابه وجواب إن آنستم : فادفعوا. وإيناس الرشد مترتب على بلوغ النكاح ، فيلزم أن يكون بعده. وحتى إذا دخلت على الشرط لا تكون عاملة ، بل هي التي تقع بعدها الجمل كقوله :

وحتى الجياد ما يقدن بأرسان

وقوله :

وحتى ماء دجلة أشكل

على أن في هذه المسألة خلافا ذهب الزّجاج وابن درستويه إلى أن الجملة في موضع جر ، وذهب الجمهور إلى أنها غير عاملة البتة. وفي قوله : بلغوا النكاح تقدير محذوف وهو : بلغوا حد النكاح أو وقته. وقال ابن عباس : معنى آنستم عرفتم. وقال عطاء : رأيتم. وقال الفراء : وجدتم. وقال الزجاج : علمتم. وهذه الأقوال متقاربة.

وقرأ ابن مسعود : فإن أحستم ، يريد أحسستم. فحذف عين الكلمة ، وهذا الحذف شذوذ لم يرد إلا في ألفاظ يسيرة. وحكى غير سيبويه : أنها لغة سليم ، وأنها تطرد في عين كل فعل مضاعف اتصل بتاء الضمير أو نونه. وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن وأبو السمال وعيسى الثقفي : رشدا بفتحتين. وقرىء شاذا : رشدا بضمتين ، ونكر رشدا لأن معناه نوع

٥١٩

من الرشد ، وطرف ومخيلة من مخيلته ، ولا ينتظر به تمام الرشد. قال ابن عطية ومالك : يرى الشرطين : البلوغ والرشد ، وحينئذ يدفع المال. وأبو حنيفة : يرى أن يدفع المال بالشرط الواحد ما لم يحفظ له سفه ، كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد. وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول ، وخوف العنت. والتمثيل عندي في دفع المال بتوالي الشرطين غير صحيح ، وذلك أنّ البلوغ لم تسقه الآية سببا في الشرط ، ولكنها حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها ، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه. فقال : إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو : الرشد حينئذ. وفصاحة الكلام تدل على ذلك لأن التوقيت بالبلوغ جاء بإذا ، والمشروط جاء بإن التي هي قاعدة حروف الشرط. وإذا ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر. وقال : فعلوا ذلك مضطرين ، وإنما جوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب ، ولأنها يليها الفعل مظهرا أو مضمرا. واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها. ألا ترى أنك تقول : أجيئك إذا احمرّ البسر ، ولا تقول : إن احمرّ البسر انتهى كلامه. ودل كلامه على أنّ إذا ظرف مجرّد من معنى الشرط ، وهذا مخالف لكلام النحويين. بل النحويون كالمجمعين على أنّ إذا ظرف لما يستقبل فيه معنى الشرط غالبا ، وإن صرح أحد منهم بأنها ليست أداة شرط فإنما يعني أنها لا تجزم كأدوات الشرط ، لا نفي كونها تأتي للشرط. وكيف تقول ذلك ، والغالب عليها أنها تكون شرطا؟ ولم تتعرّض الآية إلى حكم من أونس منه الرشد بعد البلوغ ، ودفع إليه ماله ، ثم عاد إلى السفه ، أيعود الحجر عليه أم لا؟ وفيه قولان : قال مالك : يعود. وقال أبو حنيفة : لا يعود ، والقولان عن الشافعي.

(وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) تقدم أنه يعبر بالأكل عن الأخذ ، لأن الأكل أعظم وجوه الانتفاع بالمأخوذ. وهذه الجملة مستقلة. نهاهم تعالى عن أكل أموال اليتامى وإتلافها بسوء التصرف ، وليست معطوفة على جواب الشرط ، لأنه وشرطه مترتبان على بلوغ النكاح. وهو معارض لقوله : وبدارا أن يكبروا ، فيلزم منه مشقة على ما ترتب عليه ، وذلك ممتنع. وبهذا الذي قرّرناه يتضح خطأ من جعل ولا تأكلوها عطفا على فادفعوا ، وليس تقييد النهي بأكل أموال اليتامى في هاتين الحالتين مما يبيح الأكل بدونهما ، فيكون من باب دليل الخطاب. والإسراف : الإفراط في الإنفاق ، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق. قال :

أعطوا هنيدة تجدوها ثمانية

ما في عطائهم منّ ولا سرف

٥٢٠