البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

يقدر عليه. كما تقول عندي ما تريد ، تريد اختصاصك به وتملكه ، وإن لم يكن بحضرتك. وأعربوا عنده حسن الثواب مبتدأ ، وخبرا في موضع خبر المبتدأ الأول. والأحسن أن يرتفع حسن على الفاعلية ، إذ قد اعتمد الظرف بوقوعه خبرا فالتقدير : والله مستقر ، أو استقرّ عنده حسن الثواب. قال الزمخشريّ : وهذا تعليم من الله كيف يدعى ، وكيف يبتهل إليه ويتضرّع ، وتكرير ربنا من باب الابتهال ، وإعلام بما يوجب حسن الإجابة وحسن الإثابة من احتمال المشاق في دين الله والصبر على صعوبة تكاليفه ، وقطع لأطماع الكسالى المتمنين عليه ، وتسجيل على من لا يرى الثواب موصولا إليه بالعمل بالجهل والغباوة انتهى. وآخر كلامه إشارة إلى مذهب المعتزلة وطعن على أهل السنة والجماعة.

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) قيل : نزلت في اليهود كانوا يضربون في الأرض فيصيبون الأموال قاله : ابن عباس. وقال أيضا : هم أهل مكة. وروي أنّ ناسا من المؤمنين كانوا يرون ما كانوا فيه من الخصب والرخاء ولين العيش ، فيقولون : إنّ أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد. وقال مقاتل : في مشركي العرب والذين كفروا لفظ عام ، والكاف للخطاب. فقيل : لكل سامع. وقيل : هو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد أمته. قاله : ابن عطية. وقال : نزلت لا يغرنك في هذه الآية منزلة لا تظن أن حال الكفار حسنة فتهتم لذلك ، وذلك أن المغتر فارح بالشيء الذي يغتر به. فالكفار مغترون بتقلبهم ، والمؤمنون مهتمون به. لكنه ربما يقع في نفس مؤمن أنّ هذا الإملاء للكفار إنما هو خير لهم ، فيجيء هذا جنوحا إلى حالهم ، ونوعا من الاغترار ، ولذلك حسنت لا يغرنك. ونظيره قول عمر لحفصة : «لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» المعنى : لا تغتري بما ينم لتلك من الإدلال فتقعي فيه فيطلقك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى. وقال الزمخشري : لا يغرنك الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل أحد. أي : لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق ، والمضطرب ودرك العاجل وإصابة حظوظ الدنيا ، ولا نغترر بظاهر ما ترى من تبسطهم في الأرض وتصرفهم في البلاد. (فإن قلت) : كيف جاز أن يغتر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك حتى ينهى عنه وعن الاغترار به؟ (قلت) : فيه وجهان : أحدهما أن مدرة القوم ومقدمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعا ، فكأنه قيل : لا يغرنكم. والثاني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان غير مغرور بحالهم ، فأكد عليه ما كان وثبت على التزامه كقوله : (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) (١) و (لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٢) (فَلا

__________________

(١) سورة هود : ١٣ / ١٤.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٤.

٤٨١

تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (١) وهذا في النهي نظير قوله في الأمر : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٢) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) (٣) وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب ، وهو في المعنى للمخاطب. وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب ، لأن التقلب لو غره لاغتر به ، فمنع السبب ليمتنع المسبب انتهى كلامه. وملخص الوجهين اللذين ذكرهما : أن يكون الخطاب له والمراد أمّته ، أوله على جهة التأكيد والتنبيه ، وإن كان معصوما من الوقوع فيه كما قيل :

قد يهزّ الحسام وهو حسام

ويجب الجواد وهو جواد

وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب : لا يغرنك ولا يصدنك ولا يصدنكم ولا يغرنكم وشبهه بالنون الخفيفة. وتقلبهم : هو تصرفهم في التجارات قاله : ابن عباس ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج. أو ما يجري عليهم من النعم قاله : عكرمة ، ومقاتل. أو تصرّفهم غير مأخوذين بذنوبهم قاله : بعض المفسرين.

(مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي ذلك التقلب والتبسط شيء قليل متعوا به ، ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. وقلته باعتبار انقضائه وزواله ، وروي : «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» أخرجه الترمذي.

وروي : «ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب قال في ظل شجرة في يوم حار ثم راح وتركها» أو باعتبار ما فاتهم من نعيم الآخرة ، أو باعتبار ما أعدّ الله للمؤمنين من الثواب.

(ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) ثم المكان الذي يأوون إليه إنما هو جهنم ، وعبر بالمأوى إشعارا بانتقالهم عن الأماكن التي تقلبوا فيها وكان البلاد التي تقلبوا فيها إنما كانت لهم أماكن انتقال من مكان إلى مكان ، لا قرار لهم ولا خلود. ثم المأوى الذي يأوون إليه ويستقرّون فيه هو جهنم.

(وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي وبئس المهاد جهنم. وقال الحطيئة :

أطوّف ما أطوف ثم آوى

إلى بيت قعيدته لكاع

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) لما تضمن ما تقدم أن ذلك التقلب والتصرف في البلاد هو متاع قليل ، وإنهم يأوون بعد إلى جهنم ،

__________________

(١) سورة القلم : ٦٨ / ٨.

(٢) سورة الفاتحة : ١ / ٥.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١٣٦.

٤٨٢

فدل على قلّة ما متعوا به ، لأنّ ذلك منقض بانقضاء حياتهم ، ودلّ على استقرارهم في النار. استدرك بلكن الإخبار عن المتقين بمقابل ما أخبر به عن الكافرين ، وذلك شيئان : أحدهما مكان استقرار وهي الجنات ، والثاني ذكر الخلود فيها وهو الإقامة دائما والتمتع بنعيمها سرمدا. فقابل جهنم بالجنات ، وقابل قلة متاعهم بالخلود الذي هو الديمومة في النعيم ، فوقعت لكن هنا أحسن موقع ، لأنه آل معنى الجملتين إلى تكذيب الكفار وإلى تنعيم المتقين ، فهي واقعة بين الضدين. وقرأ الجمهور : لكن خفيفة النون. وقرأ أبو جعفر : بالتشديد ، ولم يظهر لها عمل ، لأن اسمها مبني.

(نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) النزل ما يعد للنازل من الضيافة والقرى. ويجوز تسكين رايه ، وبه قرأ : الحسن ، والنخعي ، ومسلمة بن محارب ، والأعمش. وقال الشاعر :

وكنا إذا الجبار بالجيش خافنا

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

قال ابن عباس : النزل الثواب ، وهي كقوله : (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) وقال ابن فارس : النزل ما يهيأ للنزيل ، والنزيل الضيف. وقيل : النزل الرزق وما يتغذى به. ومنه : (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) (٢) أي فغذاؤه. ويقال : أقمت للقوم نزلهم أي ما يصلح أن ينزل عليه من الغذاء ، وجمعه أنزال. وقال الهروي : الأنزال التي سويت ، ونزل عليها. ومعنى من عند الله : أي لا من عند غيره ، وسماه نزلا لأنه ارتفع عنهم تكاليف السعي والكسب ، فهو شيء مهيأ يهيأ لهم لا تعب عليهم في تحصيله هناك ، ولا مشقة. كالطعام المهيأ للضيف لم يتعب في تحصيله ، ولا في تسويته ومعالجته. وانتصاب نزلا قالوا : إما على الحال من جنات لتخصصها بالوصف ، والعامل فيها العامل في لهم. وإما بإضمار فعل أي : جعلها نزلا. وإمّا على المصدر المؤكد فقدره ابن عطية : تكرمة ، وقدره الزمخشري : رزقا أو عطاء. وقال الفرّاء : انتصب على التفسير كما تقول : هو لك هبة وصدقة انتهى. وهذا القول راجع إلى الحال.

(وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) ظاهره حوالة الصلة على ما تقدم من قوله : نزلا من عند الله. والمعنى : أن الذي أعده الله للأبرار في الآخرة خير لهم ، فيحتمل أن يكون المفضل عليه بالنسبة للأبرار أي خير لهم مما هم فيه في الدنيا ، وإليه ذهب : ابن مسعود. وجاء «لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى الكفار ،

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩٥.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ٩٣.

٤٨٣

أي : خير لهم مما يتقلب فيه الكفار من المتاع الزائل. وقيل : خير هنا ليست للتفضيل ، كما أنها في قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) (١) والأظهر ما قدمناه.

وللأبرار متعلق بخير ، والأبرار هم المتقون الذين أخبر عنهم بأن لهم جنات. وقيل : فيه تقديم وتأخير. أي الذي عند الله للأبرار خير لهم ، وهذا ذهول عن قاعدة العربية من أن المجرور إذ ذاك يتعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة للموصول ، فيكون المجرور داخلا في حيز الصلة ، ولا يخبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها.

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) لما مات أصمحة النجاشي ملك الحبشة. ومعنى أصمحة بالعربية عطية ، قال سفيان بن عيينة وغيره : «صلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فقال قائل : يصلي عليه العلج النصراني وهو في أرضه فنزلت ، قاله : جابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وأنس. وقال الحسن وقتادة : في النجاشي وأصحابه. وقال ابن عباس فيما روى عنه أبو صالح : في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وبه قال : مجاهد. وقال ابن جريج وابن زيد ومقاتل : في عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال عطاء : في أربعين من نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم ، كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن في لمن الظاهر أنها موصولة ، وأجيز أن تكون نكرة موصوفة أي : لقوما. والذي أنزل إلينا هو القرآن ، والذي أنزل إليهم هو كتابهم.

(خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) كما اشترت بها أحبارهم الذين لم يؤمنوا. وانتصاب خاشعين على الحال من الضمير في يؤمن ، وكذلك لا يشترون هو في موضع نصب على الحال. وقيل : حال من الضمير في إليهم ، والعامل فيها أنزل. وقيل : حال من الضمير في لا يشترون ، وهما قولان ضعيفان. ومن جعل من نكرة موصوفة ، يجوز أن يكون خاشعين ولا يشترون صفتين للنكرة. وجمع خاشعين على معنى من كما جمع في وما أنزل إليهم. وحمل أولا على اللفظ في قوله : يؤمن ، فأفرد وإذا اجتمع الحملان ، فالأولى أن يبدأ بالحمل على اللفظ. وأتى في الآية بلفظ يؤمن دون آمن ، وإن كان إيمان من نزل فيهم قد وقع إشارة إلى الديمومة والاستمرار. ووصفهم بالخشوع وهو التذلل والخضوع المنافي للتعاظم والاستكبار ، كما قال تعالى : (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (٢).

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٤.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٨٢.

٤٨٤

(أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي ثواب إيمانهم ، وهذا الأجر مضاعف مرتين بنص الحديث الصحيح : / وأن من آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين يضاعف لهم الثواب بما تضاعف منهم من الأسباب. وعند ظرف في موضع الحال ، والعامل فيه العامل في لهم ، ومعنى عند ربهم : أي في الجنة.

(إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي سريع الإتيان بيوم القيامة وهو يوم الحساب. والمعنى : أنّ أجرهم قريب إتيانه أو سريع حسابه لنفوذ علمه ، فهو عالم بما لكل عامل من الأجر. وتقدم تفسير هذه الجملة مستوفى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الوصاية التي جمعت الظهور في الدنيا على العدو ، والفوز بنعيم الآخرة ، فأمره تعالى بالصبر والمصابرة والرباط. فقيل : اصبروا وصابروا بمعنى واحد للتأكيد. وقال الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وابن جريج : اصبروا على طاعة الله في تكاليفه ، وصابروا أعداء الله في الجهاد ، ورابطوا في الثغور في سبيل الله. أي : ارتبطوا الخيل كما يرتبطها أعداؤكم. وقال أبي ومحمد بن كعب القرظي : هي مصابرة وعد الله بالنصر ، أي : لا تسأموا وانتظروا الفرج. وقيل : رابطوا ، استعدوا للجهاد كما قال : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (١). وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : الرباط انتظارا الصلاة بعد الصلاة ، ولم يكن في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو مرابط فيه. واحتج بقوله عليه‌السلام : «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ثلاثا فعلى هذا لا يكون رابطوا من باب المفاعلة. قال ابن عطية : والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله ، أصلها من ربط الخيل ، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا ، فارسا كان أو راجلا ، واللقطة مأخوذة من الربط. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فذلكم الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله ، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية ، والرباط اللغوي هو الأول. والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما قاله : ابن المواز ، ورواه. فأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعتمرون ويكتسبون هناك فهم وإن

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٦٠.

٤٨٥

كانوا حماة ، ليسوا بمرابطين انتهى كلامه. وقال الزمخشري : وصابروا أعداء الله في الجهاد أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب ، لا تكونوا أقل صبرا منهم وثباتا. والمصابرة باب من الصبر ، ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تحقيقا لشدته وصعوبته. ورابطوا : وأقيموا في الثغور رباطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو. قال الله تعالى : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (١) وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة» انتهى كلام الزمخشري. وفي البخاري قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» وفي مسلم : «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه رزقه وأمن الفتان» وفي سنن أبي داود قال : «كل الميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتاني القبر».

وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع الاستعارة. عبر بأخذ الميثاق عن التزامهم أحكام ما أنزل عليهم من التوراة والإنجيل ، وبالنبذ وراء ظهورهم عن ترك عملهم بمقتضى تلك الأحكام ، وباشتراء ثمن قليل عن ما تعوضوه من الحطام على كتم آيات الله ، وبسماع المنادي إن كان القرآن عن ما تلقوه من الأمر والنهي والوعد والوعيد بالاستجابة عن قبول مسألتهم ، وبانتفاء التضييع عن عدم مجازاته على يسير أعمالهم ، وبالتقلب عن ضربهم في الأرض لطلب المكاسب ، وبالمهاد عن المكان المستقر فيه ، وبالنزل عما يعجل الله لهم في الجنة من الكرامة ، وبالخشوع الذي هو تهدم المكان وتغير معالمه عن خضوعهم وتذللهم بين يديه ، وبالسرعة التي هي حقيقة في المشي عن تعجيل كرامته. قيل : ويحتمل أن يكون الحساب استعير للجزاء ، كما استعير (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) (٢) لأن الكفار لا يقام لهم حساب كما قال تعالى : (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (٣) والطباق في : لتبيينه للناس ولا تكتمونه ، وفي السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، فالسماء جهة العلو والأرض جهة السفل ، والليل عبارة عن الظلمة والنهار عبارة عن النور ، وفي : قياما وقعودا ومن : ذكر أو أنثى. والتكرار : في لا تحسبن فلا تحسبنهم ، وفي : ربنا في خمسة مواضع ، وفي : فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا إن كان المعنى واحدا

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٦٠.

(٢) سورة الحاقة : ٦٩ / ٢٦.

(٣) سورة الكهف : ١٨ / ١٠٥.

٤٨٦

وفي : ما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ، وفي : ثوابا وحسن لثواب. والاختصاص في : لأولي الألباب ، وفي : وما للظالمين من أنصار ، وفي : توفنا مع الأبرار ، وفي : ولا تخزنا يوم القيامة ، وفي : وما عند الله خير للأبرار. والتجنيس المماثل في : أن آمنوا فآمنا ، وفي : عمل عامل منكم. والمغاير في : مناديا ينادي. والإشارة في : ما خلقت هذا باطلا ، والحذف في مواضع.

٤٨٧

سورة النّساء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ

٤٨٨

ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)

الرقيب : فعيل للمبالغة من رقب يرقب رقبا ورقوبا ورقبانا ، أحد النظر إلى أمر ليتحققه على ما هو عليه. ويقترن به الحفظ ومنه قيل للذي يرقب خروج السهم : رقيب.

وقال أبو داود :

كمقاعد الرقباء للضرباء أيديهم نواهد والرقيب : السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء. والرقيب : ضرب من الحيات ، والمرقب : المكان العالي المشرف الذي يقف عليه الرقيب. والارتقاب : الانتظار.

الحوب : الإثم. يقال : حاب يحوب حوبا وحوبا وحابا وحؤوبا وحيابة. قال : المخبل السعدي.

فلا يدخلني الدهر قبرك حوب

فإنك تلقاه عليك حسيب

وقال آخر :

وإن تهاجرين تكففاه

غرايته لقد خطيا وحابا

وقيل : الحوب بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم ، وتحوّب الرجل ألقى الحوب عن نفسه كتحنث وتأثم وتحرج. وفلان يتحوب من كذا يتوقع. وأصل الحوب : الزجر للإبل ، فسمي الإثم حوبا لأنه يزجر عنه ، وبه الحوبة الحاجة ، ومنه في الدعاء إليك أرفع حوبتي. ويقال : ألحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة.

مثنى وثلاث ورباع : معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة. ولا يراد بالمعدول عنه التوكيد ، إنما يراد بذلك تكرار العدد إلى غاية المعدود. كقوله : ونفروا بعيرا بعيرا ، وفصلت الحساب لك بابا بابا ، ويتحتم منع صرفها لهذا العدل. والوصف على مذهب سيبويه والخليل وأبي عمرو ، وأجاز الفرّاء أن تصرف ، ومنع الصرف عنده أولى. وعلة المنع عنده العدل والتعريف بنية الألف واللام ، وامتنع عنده إضافتها لأنها في نية

٤٨٩

الألف واللام. وامتنع ظهور الألف واللام لأنها في نية الإضافة ، وقد ذكرنا الردّ عليه في كتاب التكميل من تأليفنا.

وقال الزمخشري : إنما منعت الصرف لما فيها من العدلين : عدلها عن صيغتها ، وعدلها عن تكريرها. وهي نكرات تعرفن بلام التعريف يقال : فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع انتهى كلامه. وما ذهب إليه من امتناع الصرف لما فيها من العدلين : عدلها عن صيغتها ، وعدلها عن تكرّرها ، لا أعلم أحدا ذهب إلى ذلك ، بل المذاهب في علة منع الصرف المنقولة أربعة : أحدها : ما نقلناه عن سيبويه. والثاني : ما نقلناه عن الفراء. والثالث : ما نقل عن الزجاج وهو لأنها معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، وأنه عدل عن التأنيث. والرابع : ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف هي تكرار العدل فيه ، لأنه عدل عن لفظ اثنين وعدل عن معناه. وذلك أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة تقول : جاءني اثنان وثلاثة ، ولا يجوز : جاءني مثنى وثلاث حتى يتقدّم قبله جمع ، لأن هذا الباب جعل بيانا لترتيب الفعل. فإذا قال : جاءني القوم مثنى ، أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين. فأما الاعداد غير المعدولة فإنما الغرض منها الإخبار عن مقدار المعدودون غيره. فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى ، فلذلك جاز أن تقوم العلة مقام العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين انتهى ما قرر به هذا المذهب.

وقد ردّ الناس على الزجاج قوله : أنه عدل عن التأنيث بما يوقف عليه في كتب النحو ، والزمخشري لم يسلك شيئا من هذه العلل المنقولة ، فإن كان تقدّمه سلف ممن قال ذلك فيكون قد تبعه ، وإلا فيكون مما انفرد بمقالته. وأما قوله : يعرفن بلام التعريف ، يقال : فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع ، فهو معترض من وجهين : أحدهما : زعمه أنها تعرف بلام التعريف ، وهذا لم يذهب إليه أحد ، بل لم يستعمل في لسان العرب إلا نكرات. والثاني : أنه مثل بها ، وقد وليت العوامل في قوله : فلان ينكح المثنى ، ولا يلي العوامل ، إنما يتقدّمها ما يلي العوامل ، ولا تقع إلا خبرا كما جاء : «صلاة الليل مثنى». أو حالا نحو : (ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى) (١) أو صفه نحو : (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (٢) وقوله :

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٣.

(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ١.

٤٩٠

ذئاب يبغي الناس مثنى وموحدا

وقد تجيء مضافة قليلا نحو ، قول الآخر :

بمثنى الزقاق المترعات وبالجزر

وقد ذكر بعضهم أنها تلي العوامل على قلة ، وقد يستدل له بقول الشاعر :

ضربت خماس ضربة عبشمي

أدار سداس أن لا يستقيما

ومن أحكام هذا المعدول أنه لا يؤنث ، فلا تقول : مثناة ، ولا ثلاثة ، ولا رباعة ، بل يجري بغير تاء على المذكر والمؤنث. عال : يعول عولا وعيالة ، مال. وميزان فلان عائل. وعال الحاكم في حكمه جار ، وقال أبو طالب في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

له شاهد من نفسه غير عائل

وحكى ابن الأعرابي : أن العرب تقول : عال الرجل يعول كثر عياله. ويقال : عال يعيل افتقر وصار عالة. وعال الرجل عياله يعولهم ما نهم ومنه : «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» والعول في الفريضة مجاوزته لحد السهام المسماة. وجماع القول في عال : أنها تكون لازمة ومتعدية. فاللازمة بمعنى : مال ، وجار ، وكثر عياله ، وتفاقم ، وهذا مضارعه يعول. وعال الرجل افتقر ، وعال في الأرض ذهب فيها ، وهذا مضارعه يعيل. والمتعدية بمعنى أثقل ، ومان من المئونة. وغلب منه أعيل صبري وأعجز. وإذا كان بمعنى أعجز فهو من ذوات الياء ، تقول : عالني الشيء يعيلي عيلا ومعيلا أعجزني ، وباقي المتعدّي من ذوات الواو.

الصدقة على وزن سمرة المهر ، وقد تسكن الدال ، وضمها وفتح الصاد لغة أهل الحجاز. ويقال : صدقة بوزن غرفة. وتضم داله فيقال : صدقة وأصدقها أمهرها.

النحلة : العطية عن طيب نفس. والنحلة الشرعة ، ونحلة الإسلام خير النحل. وفلان ينحل بكذا أي يدين به.

هنيئا مريئا : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا كان سائغا لا تنغيص فيه. ويقال : هنا يهنا بغير همز ، وهنأني الطعام ومرّأني ، فإذا لم تذكر هنأني قلت : أمرأني رباعيا ، واستعمل مع هنأني ثلاثيا للاتباع. قال سيبويه : هنيئا مريئا صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو

٤٩١

بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل ، للدلالة التي في الكلام عليه كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئا مريئا انتهى. وقال كثير :

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلت

قيل : واشتقاق الهنيء من هناء البعير ، وهو الدواء الذي يطلى به من الجرب ، ويوضع في عقره. ومنه قوله :

متبذل تبدو محاسنه

يضع الهناء مواضع النقب

والمريء ما يساغ في الحلق ، ومنه قيل لمجرى الطعام في الحلقوم إلى فم المعدة : المريء. آنس كذا أحس به وشعر. قال :

آنست شاة وأفزعها القناص عصرا وقددنا الإمساء وقال الفراء : وجد. وقال الزجاج : علم. وقال عطاء : أبصر. وقال ابن عباس : عرف. وهي أقوال متقاربة. السديد من القول هو الموافق للحق منه :

أعلمه الرماية كل يوم

فلما اشتدّ ساعده رماني

المعنى : لما وافق الأغراض التي يرمي إليها. صلى بالنار تسخن بها ، وصليته أدنيته منها. التسعير : الجمر المشتعل من سعرت النار أوقدتها ، ومنه مسعر حرب.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) الجمهور على أن هذه السورة مدنية إلا قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (١). وقال النحاس : مكية. وقال النقاش : نزلت عند الهجرة من مكة إلى المدينة انتهى. ولا خلاف أنّ فيها ما نزل بالمدينة. وفي البخاري : آخر آية نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ ، قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) (٢).

ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولى الألباب ، ونبه تعالى بقوله : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) (٣) على المجازاة. وأخبر أنّ بعضهم من بعض في أصل التوالد ، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل ، وتفرّع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدم

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٥٨.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٧٦.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٩٥.

٤٩٢

الاختلاف ، ولينبه بذلك على أنّ أصل الجنس الإنساني كان عابدا لله مفرده بالتوحيد والتقوى ، طائعا له ، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه. فنادى تعالى : دعاء عامّا للناس ، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر ، وجعل سببا للتقوى تذكاره تعالى إياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة. ومن كان قادرا على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفع والضر فهو جدير بأن يتقى. ونبه بقوله : من نفس واحدة ، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناس إلى بعض ، وألفه له دون غيره ، ليتألف بذلك عباده على تقواه. والظاهر في الناس : العموم ، لأن الألف واللام فيه تفيده ، وللأمر بالتقوى وللعلة ، إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان. وقيل : المراد بالناس أهل مكة ، كان صاحب هذا القول ينظر إلى قوله : (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) (١) لأن العرب هم الذين يتساءلون بذلك. يقول : أنشدك بالله وبالرحم. وقيل : المراد المؤمنون نظرا إلى قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (٢) وقوله : «المسلم أخو المسلم» والأغلب أنه إذا كان الخطاب والنداء بيا أيها الناس وكان للكفرة فقط ، أو لهم مع غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية والربوبية ، لأنهم غير عارفين بالله ، فنبهوا على الفكر في ذلك لأن يعرفوا نحو : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) (٣) (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (٤) وإذا كان الخطاب للمؤمنين أعقب بذكر النعم لمعرفتهم بالربوبية.

قيل : وجعل هذا المطلع مطلعا لسورتين : إحداهما : هذه وهي الرابعة من النصف الأول. والثانية : سورة الحج ، وهي الرابعة من النصف الثاني. وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد. وبدأ بالمبدأ بأنه الأول ، وهو ظاهر الأمر بالتقوى أنها تقوى عامّة فيما يتقي من موجب العقاب ، ولذلك فسر باجتناب ما جاء فيه الوعيد. وقيل : يجوز أن يكون أراد بالتقوى تقوى خاصة ، وهو أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم ، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله. فقيل : اتقوا ربكم الذي وصل بينكم بأن جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب لبعضكم على بعض ولبعض ، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه. وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة.

وقال ابن عباس : المراد بالتقوى الطاعة. وقال مقاتل : الخشية. وقيل : اجتناب

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١.

(٢) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٠.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ٥.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢١.

٤٩٣

الكبائر والصغائر. والمراد بقوله : من نفس واحدة آدم ، وقرأ الجمهور : واحدة بالتاء على تأنيث لفظ النفس. وقرأ ابن أبي عبلة : واحد على مراعاة المعنى ، إذ المراد به آدم ، أو على أن النفس تذكر وتؤنث ، فجاءت قراءته على تذكير النفس. ومعنى الخلق هنا : الاختراع بطريق التفريع ، والرجوع إلى أصل واحد كما قال الشاعر :

إلى عرق الثرى وشجت عروقي

وهذا الموت يسلبني شبابي

قال : في ري الظمآن ، ودلت الإضافة على جواز إضافة الشيء إلى الأصل الذي يرجع إليه ، وأن يعد ذلك الراجع إلى التوالد والتعاقب والتتابع. وعلى أنّا لسنا فيه كما زعم بعض الدهرية ، وإلا لقال : أخرجكم من نفس واحدة ، فأضاف خلقنا إلى آدم ، وإن لم نكن من نفسه بل كنا من نطفة واحدة حصلت بمن اتصل به من أولاده ، ولكنه الأصل انتهى. وقال الأصم : لا يدل العقل على أنّ الخلق مخلوقين من نفس واحدة ، بل السمع. ولما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّيّا ما قرأ كتابا ، كان معنى خلقكم دليلا على التوحيد ، ومن نفس واحدة دليلا على النبوّة انتهى.

وفي قوله : من نفس واحدة إشارة إلى ترك المفاخرة والكبر ، لتعريفه إياهم بأنهم من أصل واحد ودلالة على المعاد ، لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفين من شخص واحد فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى. وزوجها : هي حواء. وظاهر منها ابتداء خلق حوّاء من نفسه ، وأنه هو أصلها الذي اخترعت وأنشئت منه ، وبه قال : ابن عباس ، ومجاهد ، والسدّي. وقتادة قالوا إن الله تعالى خلق آدم وحشا في الجنة وحده ، ثم نام فانتزع الله تعالى أحد أضلاعه القصرى من شماله. وقيل : من يمينه ، فحلق منها حواء. قال ابن عطية : ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه‌السلام : «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها». انتهى. ويحتمل أن يكون ذلك على جهة التمثيل لاضطراب أخلاقهن ، وكونهن لا يثبتن على حالة واحدة ، أي : صعبات المراس ، فهي كالضلع العوجاء كما جاء خلق الإنسان من عجل. ويؤيد هذا التأويل قوله : إن المرأة ، فأتى بالجنس ولم يقل : إن حوّاء. وقيل : هو على حذف مضاف ، التقدير : وخلق من جنسها زوجها قاله : ابن بحر وأبو مسلم لقوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) (١) و (رَسُولاً مِنْهُمْ) (٢). قال القاضي : الأول أقوى ، إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ١١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٢٩.

٤٩٤

الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة. ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة من لابتداء الغاية ، فلما كان ابتداء الخلق وقع بآدم ، صح أن يقال خلقكم من نفس واحدة. ولما كان قادرا على خلق آدم من التراب كان قادرا على خلق حواء أيضا كذلك. وقيل : لا حذف ، والضمير في منها ، ليس عائدا على نفس ، بل هو عائد على الطينة التي فصلت عن طينة آدم. وخلقت منها حواء أي : أنها خلقت مما خلق منه آدم. وظاهر قول ابن عباس ومن تقدم : أنها خلقت وآدم في الجنة ، وبه قال : ابن مسعود. وقيل : قبل دخوله الجنة وبه قال : كعب الأحبار ووهب ، وابن إسحاق. وجاءت الواو في عطف هذه الصلة على أحد محاملها ، من أنّ خلق حواء كان قبل خلق الناس. إذ الواو لا تدل على ترتيب زماني كما تقرر في علم العربية ، وإنما تقدم ذكر الصلة المتعلقة بخلق الناس ، وإن كان مدلولها واقعا بعد خلق حواء ، لأجل أنهم المنادون المأمورون بتقوى ربهم. فكان ذكر ما تعلق بهم أولا آكد ، ونظيره : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (١) ومعلوم أنّ خلقهم تأخر عن خلق من قبلهم. ولكنهم لما كانوا هم المأمورين بالعبادة والمنادين لأجلها ، اعتنى بذكر التنبيه على إنشائهم أولا ، ثم ذكر إنشاء من كان قبلهم. وقد تكلف الزمخشري في إقرار ما عطف بالواو متأخرا عن ما عطف عليه ، فقدر معطوفا عليه محذوفا متقدما على المعطوف في الزمان ، فقال : يعطف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها وخلق منها زوجها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه. والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها ، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حوّاء من ضلع من أضلاعها. ولا حاجة إلى تكلف هذا الوجه مع مساغ الوجه الذي ذكرناه على ما اقتضته العربية. وقد ذكر ذلك الوجه الزمخشري فقال : يعطف على خلقكم. ويكون الخطاب في : يا أيها الناس الذين بعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعنى : خلقكم من نفس آدم ، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حوّاء انتهى. ويجوز أن يكون قوله : وخلق منها زوجها معطوفا على اسم الفاعل الذي هو واحدة التقدير من نفس وحدت ، أي انفردت. وخلق منها زوجها ، فيكون نظير (صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) (٢) وتقول العرب : وحد يحد وحدا ووحدة ، بمعنى انفرد.

ومن غريب التفسير أنه عنى بالنفس الروح المذكورة فيما قيل أنه قال عليه الصلاة والسلام : «إن الله خلق الأرواح قبل الأجسام بكذا وكذا سنة» وعنى بزوجها البدن ، وعنى

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ١٩.

٤٩٥

بالخلق التركيب. وإلى نحوه أشار بقوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) (١) وقوله : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) (٢) ولا يصح ذلك في النبات إلا على معنى التركيب. وبدأ بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على أنها لا تنفك من تركيب ، والواحد في الحقيقة ليس إلا الله تعالى انتهى. وهذا مخالف لكلام المتقدمين ، قال بعضهم : ونبه بقوله : وخلق منها زوجها على نقصها وكمالها ، لكونها بعضه. وبث منهما أي من تلك النفس ، وزوجها أي : نشر وفرق في الوجود. ويقال : أبث الله الخلق رباعيا ، وبث ثلاثيا ، وهو الوارد في القرآن رجالا كثيرا ونساء. قيل : نكر لما في التنكير من الشيوع ولم يكتف بالشيوع حتى صرح بالكثرة وقدم الرجال لفضلهم على النساء ، وخص رجالا بذكر الوصف بالكثرة ، فقيل : حذف وصف الثاني لدلالة وصف الأول عليه ، والتقدير : ونساء كثيرة. وقيل : لا يقدر الوصف وإن كان المعنى فيه صحيحا ، لأنّه نبه بخصوصية الرجال بوصف الكثرة ، على أن اللائق بحالهم الاشتهار والخروج والبروز ، واللائق بحال النساء الخمول والاختفاء. وفي تنويع ما خلق من آدم وحوّاء إلى رجال ونساء دليل على انتفاء الخنثى ، إذ حصر ما خلق في هذين النوعين ، فإن وجد ما ظاهره الإشكال فلا بد من صيرورته إلى هذين النوعين. وقرىء : وخالق منها زوجها ، وبات على اسم الفاعل وهو : خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو خالق.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) كرر الأمر بالتقوى تأكيدا للأول. وقيل : لاختلاف التعليل وذكر أولا : الرب الذي يدل على الإحسان والتربية ، وثانيا : الله الذي يدل على القهر والهيبة. بنى أولا على الترغيب ، وثانيا على الترهيب. كقوله : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) (٣) و (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) (٤) كأنه قال : إنه ربك أحسن إليك فاتق مخالفته ، فإن لم تتقه لذلك فاتقه لأنه شديد العقاب. وقرأ الجمهور من السبعة : تساءلون. وقرأ الكوفيون : بتخفيف السين ، وأصله تتساءلون.

قال ابن عطية : وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفا ، وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة. قال أبو علي : وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال ، كما قالوا : طست فابدلوا من السين الواحدة تاء ، إذ الأصل طس. قال العجاج :

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٤٩.

(٢) سورة يس : ٣٦ / ٣٦.

(٣) سورة السجدة : ٣٢ / ١٦.

(٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ٩٠.

٤٩٦

لو عرضت لأسقفي قس

أشعث في هيكله مندس

حن إليها كحنين الطس

انتهى. أما قول ابن عطية : حذفوا التاء الثانية فهذا مذهب أهل البصرة. وذهب هشام بن معاوية الضرير الكوفي : إلى أنّ المحذوفة هي الأولى ، وهي تاء المضارعة ، وهي مسألة خلاف ذكرت دلائلها في علم النحو. وأما قوله : وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى ، كان ينبغي أن ينبه على الإثبات ، إذ يجوز الإثبات وهو الأصل ، والإدغام وهو قريب من الأصل ، إذ لم يذهب الحرف إلا بأن أبدل منه مماثل ما بعده وأدغم. والحذف ، لاجتماع المثلين. وظاهر كلامه اختصاص الإدغام والحذف بتتفاعلون ، وليس كذلك. أما الإدغام فلا يختص به ، بل ذلك في الأمر والمضارع والماضي واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر. وأما الحذف فيختص بما دخلت عليه التاء من المضارع ، فقوله : لاجتماع حروف متقاربة ظاهرة تعليل الحذف فقط لقربه ، أو تعليل الحذف والإدغام ، وليس كذلك. أما إن كان تعليلا فليس كذلك ، بل الحذف علة اجتماع متماثلة لا متقاربة. وأما إن كان تعليلا لهما فيصح الإدغام لا الحذف كما ذكرنا.

وأما قول أبي علي : إذا اجتمعت المتقاربة فكذا ، فلا يعني أن ذلك حكم لازم ، إنما معناه : أنه قد يكون التخفيف بكذا ، فكم وجد من اجتماع متقاربة لم يخفف لا بحذف ولا إدغام ولا بدل. وأما تمثيله بطست في طس فليس البدل هنا لاجتماع ، بل هذا من اجتماع المثلين كقولهم في لص لصت.

ومعنى يتساءلون به : أي يتعاطون به السؤال ، فيسأل بعضكم بعضا. أو يقول : أسألك بالله أن تفعل ، وظاهر تفاعل الاشتراك أي : تسأله بالله ، ويسألك بالله. وقالت طائفة : معناه تسألون به حقوقكم وتجعلونه معظما لها. وقرأ عبد الله : تسألون به مضارع سأل الثلاثي. وقرى : تسلون بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى السين. قال ابن عباس : معنى تساءلون به أي تتعاطفون. وقال الضحاك والربيع : تتعاقدون وتتعاهدون.

وقال الزجاج : تتطلبون به حقوقكم والأرحام. قرأ جمهور : السبعة بنصب الميم.

وقرأ حمزة : بجرها ، وهي قراءة النخعي وقتادة والأعمش.

وقرأ عبد الله بن يزيد : بضمها ، فأما النصب فظاهره أن يكون معطوفا على لفظ الجلالة ، ويكون ذلك على حذف مضاف ، التقدير : واتقوا الله ، وقطع الأرحام. وعلى هذا المعنى فسرها ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم.

٤٩٧

والجامع بين تقوى الله وتقوى الأرحام هذا القدر المشترك ، وإن اختلف معنى التقويين ، لأن تقوى الله بالتزام طاعته واجتناب معاصيه ، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يفضل بالبر والإحسان ، وبالحمل على القدر المشترك يندفع قول القاضي : كيف يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة؟ ونقول أيضا أنه في الحقيقة من باب عطف الخاص على العام ، لأن المعنى : واتقوا الله أي اتقوا مخالفة الله. وفي عطف الأرحام على اسم الله دلالة على عظم ذنب قطع الرحم ، وانظر إلى قوله : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى) (١) كيف قرن ذلك بعبادة الله في أخذ الميثاق.

وفي الحديث : «من أبرّ؟ قال : أمّك وفيه : أنت ومالك لأبيك» وقال تعالى في ذم من أضله : من الفاسقين (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (٢). وقيل : النصب عطفا على موضع به كما تقول : مررت بزيد وعمرا. لما لم يشاركه في الاتباع على اللفظ اتبع على موضعه. ويؤيد هذا القول قراءة عبد الله : تساءلون به وبالأرحام. أما الرفع فوجه على أنه مبتدأ والخبر محذوف قدره ابن عطية : والأرحام أهل أن توصل. وقدره الزمخشري : والأرحام مما يتقى ، أو مما يتساءل به ، وتقديره أحسن من تقدير ابن عطية ، إذ قدر ما يدل عليه اللفظ السابق ، وابن عطية قدر من المعنى. وأما الجر فظاهره أنه معطوف على المضمر المجرور من غير إعادة الجار ، وعلى هذا فسرها الحسن والنخعي ومجاهد. ويؤيده قراءة عبد الله : وبالأرحام. وكانوا يتناشدون بذكر الله والرحم.

قال الزمخشري : وليس بسديد يعني : الجر عطفا على الضمير. قال : لأن الضمير المتصل متصل كاسمه ، والجار والمجرور كشيء واحد ، فكانا في قولك : مررت به وزيد ، وهذا غلامه وزيد شديدي الاتصال ، فلما اشتد الاتصال لتكرره اشتبه العطف على بعض الكلمة فلم يجر ، ووجب تكرير العامل كقولك : مررت به وبزيد ، وهذا غلامه وغلام زيد. ألا ترى إلى صحة رأيتك وزيدا ، ومررت بزيد وعمرو لما لم يقو الاتصال لأنه لم يتكرر؟ وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار ، ونظير هذا قول الشاعر :

فما بك والأيام من عجب

وقال ابن عطية : وهذه القراءة عند رؤساء نحويين البصرة لا تجوز ، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض. قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٧.

٤٩٨

والمعطوف عليه شريكان ، يحل كل واحد منهما محل صاحبه. فكما لا يجوز مررت بزيدوك ، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد. وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر كما قال :

فاليوم قدبت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيام من عجب

وكما قال :

تعلق في مثل السواري سيوفنا

وما بينها والكف غوط تعانف

واستسهلها بعض النحويين انتهى كلام ابن عطية. وتعليل المازني معترض بأنه يجوز أن تقول : رأيتك وزيدا ، ولا يجوز رأيت زيداوك ، فكان القياس رأيتك وزيدا ، أن لا يجوز. وقال ابن عطية أيضا : المضمر المخفوض لا ينفصل ، فهو كحرف من الكلمة ، ولا يعطف على حرف.

ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان : أحدهما : أن ذكر الأرحام مما تساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا تفريق في معنى الكلام. وغض من فصاحته ، وإنما الفصاحة في أن تكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة. والوجه الثاني : أن في ذكرها على ذلك تقدير التساؤل بها والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» انتهى كلامه. وذهبت طائفة إلى أنّ الواو في والأرحام واو القسم لا واو العطف ، والمتلقى به القسم هي الجملة بعده. ولله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما جاء في غير ما آية في كتاب الله تعالى ، وذهبوا إلى تخريج ذلك فرارا من العطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار ، وذهابا إلى أن في القسم بها تنبيها على صلتها وتعظيما لشأنها ، وأنها من الله تعالى بمكان. قال ابن عطية : وهذا قول يأباه نظم الكلام وسره انتهى. وما ذهب إليه أهل البصرة وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية : من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار ، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح ، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز. وقد أطلنا الاحتجاج في ذلك عند قوله تعالى : (وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (١). وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١٧.

٤٩٩

وأما قول ابن عطية : ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان ، فجسارة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه. إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بها سلف الأمة ، واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت. وأقرأ الصحابة أبيّ بن كعب عمد إلى ردّها بشيء خطر له في ذهنه ، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري ، فإنه كثيرا ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم ، وحمزة رضي‌الله‌عنه : أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش ، وحمدان بن أعين ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد الصادق ، ولم يقرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر. وكان حمزة صالحا ورعا ثقة في الحديث ، وهو من الطبقة الثالثة ، ولد سنة ثمانين وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة ، وأم الناس سنة مائة ، وعرض عليه القرآن من نظرائه جماعة منهم : سفيان الثوري ، والحسن بن صالح. ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي. وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم : غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض. وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع عمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظنا بها وبقارئها ، فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك. ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم ، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون ، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون ، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية ، لا أصحاب الكنانيس المشتغلون بضروب من العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) لا يراد بكان تقييد الخبر بالمخبر عنه في الزمان الماضي المنقطع في حق الله تعالى ، وإن كان موضوع كان ذلك ، بل المعنى على الديمومة فهو تعالى رقيب في الماضي وغيره علينا ، والرقيب تقدم شرحه في المفردات. وقال بعضهم : هنا هو العليم ، والمعنى : انه مراع لكم لا يخفى عليه من أمركم شيء فاتقوه (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) قال مقاتل والكلبي : نزلت في رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ طلب المال فمنعه. ومناسبتها لما قبلها أنه لما وصل الأرحام أتبع بالأيتام ، لأنهم صاروا بحيث لا كافل لهم ، ففارق حالهم حال من له رحم ماسه. وظاهره الأمر بإعطاء اليتامى أموالهم.

واليتم في بني آدم : فقد الأب ، وهو جمع يشمل الذكور والإناث. وينقطع هذا الاسم

٥٠٠