البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

وَلِيًّا) (١) (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) (٢) جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض قاله الزمخشري ، وبدأ به. ويضعفه أن هذه جمل ثلاث ، وإذا كان الفارسي قد منع أن يعترض بجملتين ، فأحرى أن يمنع أن يعترض بثلاث.

يحرفون الكلم أي : كلم التوراة ، وهو قول الجمهور. أو كلم القرآن وهو قول طائفة ، أو كلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قول ابن عباس. قال : كان اليهود يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسألونه عن الأمر فيخبرهم ، ويرى أنهم يأخذون بقوله ، فإذا انصرفوا من عنده حرفوا الكلام. وكذا قال مكي : إنه كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فتحريف كلم التوراة بتغيير اللفظ ، وهو الأقل لتحريفهم أسمر ربعة في صفته عليه‌السلام بآدم طوال مكانه ، وتحريفهم الرجم بالحديد له ، وبتغيير التأويل ، وهو الأكثر قاله الطبري. وكانوا يتأوّلون التوراة بغير التأويل الذي تقتضيه معاني ألفاظها الأمور يختارونها ويتوصلون بها إلى أموال سفلتهم ، وأن التحريف في كلم القرآن أو كلم الرسول فلا يكون إلا في التأويل.

وقرىء : يحرّفون الكلم بكسر الكاف وسكون اللام ، جمع كلمة تخفيف كلمة. وقرأ النخعي وأبو رجاء : يحرفون الكلام ، وجاء هنا عن مواضعه. وفي المائدة جاء : (عَنْ مَواضِعِهِ) (٣) وجاء (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) (٤).

قال الزمخشري : أما عن مواضعه فعلى ما فسرنا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه. وأما من بعد مواضعه : فالمعنى أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره ، والمعنيان متقاربان انتهى. والذي يظهر أنهما سياقان ، فحيث وصفوا بشدة التمرد والطغيان ، وإظهار العداوة ، واشترائهم الضلالة ، ونقض الميثاق ، جاء يحرفون الكلم عن مواضعه. ألا ترى إلى قوله : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) (٥) وقوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) (٦) فكأنهم لم يتركوا الكلم من التحريف عن ما يراد بها ، ولم تستقر في مواضعها ، فيكون التحريف بعد استقرارها ، بل بادروا إلى تحريفها بأول وهلة. وحيث

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤٥.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٤٥.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ١٣.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ٤١.

(٥) سورة النساء : ٤ / ٤٦.

(٦) سورة المائدة : ٥ / ١٣.

٦٦١

وصفوا ببعض لين وترديد وتحكيم للرسول في بعض الأمر ، جاء من بعد مواضعه. ألا ترى إلى قوله : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) (١) وقوله بعد : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) (٢) فكأنهم لم يبادروا بالتحريف ، بل عرض لهم التحريف بعد استقرار الكلم في مواضعها. وقد يقال : أنهما شيئان ، لكنه حذف هنا. وفي أول المائدة : من بعد مواضعه ، لأن قوله : عن مواضعه يدل على استقرار مواضع له ، وحذف في ثاني المائدة عن مواضعه. لأن التحريف من بعد مواضعه يدل على أنه تحريف عن مواضعه ، فالأصل يحرفون الكلم من بعد مواضعه. فحذف هنا البعدية ، وهناك حذف عنها. كل ذلك توسع في العبارة ، وكانت البداءة هنا بقوله : عن مواضعه ، لأنه أخصر. وفيه تنصيص باللفظ على عن ، وعلى المواضع ، وإشارة إلى البعدية.

(وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك ، أو سمعناه جهرا ، وعصيناه سرا قولان. والظاهر أنهم شافهوا بالجملتين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبالغة منهم في عتوهم في الكفر ، وجريا على عادتهم مع الأنبياء. ألا ترى إلى قوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) (٣).

(وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) هذا الكلام غير موجه ، ويحتمل وجوها. والظاهر أنهم أرادوا به الوجه المكروه لسياق ما قبله من قوله : سمعنا وعصينا ، فيكون معناه : اسمع لا سمعت. دعوا عليه بالموت أو بالصمم ، وأرادوا ذلك في الباطن ، وأروا في الظاهر تعظيمه بذلك. إذ يحتمل أن يكون المعنى : واسمع غير مأمور وغير صالح أن تسمع مأمورا بذلك. وقال الزمخشري : أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ومعناه : غير مسمع جوابا يوافقك ، فكأنك لم تسمع شيئا انتهى ، وقاله ابن عباس. قال الزمخشري : أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ، فسمعك عنه ناب. ويجوز على هذا أن يكون غير مسمع مفعول اسمع ، أي : اسمع كلاما غير مسمع إياك ، لأنّ أذنك لا تعيه نبوّا عنه. ويحتمل المدح أي : اسمع غير مسمع مكروها من قولك : أسمع فلان فلانا إذا سبه. قال ابن عطية : ومن قال : غير مسمع غير مقبول منك ، فإنه لا يساعده التصريف ، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد انتهى. ووجه أن التصريف لا يساعد عليه هو أن العرب لا تقول أسمعتك بمعنى قبلت منك ، وإنما

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٤١.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٤٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٩٣.

٦٦٢

تقول : سمعت منك بمعنى قبلت ، فيعبرون عن القبول بالسماع على جهة المجاز ، لا بالأسماع. ولو أريد ما قاله الحسن ومجاهد لكان اللفظ : واسمع غير مسموع منك.

(وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) تقدم تفسير راعنا في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) (١) أي فتلا بها. وتحريفا عن الحق إلى الباطل حيث يضعون راعنا مكان انظرنا ، وغير مسمع مكان لا أسمعت مكروها. أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا. وانتصاب غير مسمع على الحال من المضمر في اسمع ، وتقدم إعراب الزمخشري إياه مفعولا في أحد التقادير ، وانتصاب ليا وطعنا على المفعول من أجله.

وقيل : هما مصدران في موضع الحال أي : لاوين وطاعنين. ومعنى : وطعنا في الدين ، أي باللسان. وطعنهم فيه إنكار نبوّته ، وتغيير نعته ، أو عيب أحكام شريعته ، أو تجهيله. وقولهم : لو كان نبيا لدرى أنا نسبه ، أو استخفافهم واعتراضهم وتشكيكهم اتباعه أقوال أربعة. قال ابن عطية : وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل ، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة ، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب انتهى. وهو يحكي عن يهود الأندلس ، وقد شاهدناهم وشاهدنا يهود ديار مصر على هذه الطريقة ، وكأنهم يربون أولادهم الصغار على ذلك ، ويحفظونهم ما يخاطبون به المسلمين مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير. قال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين ، بعد ما صرحوا وقالوا سمعنا وعصينا؟ (قلت) : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ، ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء ، ويحتمل أن يقولوه فيما بينهم ، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ، ولكنهم لما لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطقوا به.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) أي : لو تبدّلوا بالعصيان الطاعة ، ومن الطاعة الإيمان بك ، واقتصروا على لفظ اسمع ، وتبدلوا براعنا قولهم : وانظرنا ، فعدلوا عن الألفاظ الدالة على عدم الانقياد ، والموهمة إلى ما أمروا به ، لكان أي : ذلك القول ، خيرا لهم عند الله وأعدل أي : أقوم وأصوب. قال عكرمة ومجاهد وغيرهما : أنظرنا أي انتظرنا بمعنى أفهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك ، كما قال الحطيئة :

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤٦.

٦٦٣

وقد نظرتكم أثناء صادرة

للخمس طال بها مسحى وابساسي

وقالت فرقة : معناه انظر إلينا ، وكأنه استدعاء اهتبال وتحف منهم. ومنه قول ابن قيس الرقيات :

ظاهرات الجمال والحسن ينظرن كما تنظر الأراك الظباء.

وقرأ أبي : وأنظرنا من الإنظار وهو الإمهال. قال الزمخشري : المعنى ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا لكان قولهم ذلك خيرا لهم وأقوم وأعدل وأسد انتهى. فسبك من أنهم قالوا مصدرا مرتفعا يثبت على الفاعلية ، وهذا مذهب المبرد خلافا لسيبويه. إذ يرى سيبويه أنّ أن بعد لو مع ما عملت فيه مقدر باسم مبتدأ ، وهل الخبر محذوف ، أم لا يحتاج إلى تقدير خبر لجريان المسند والمسند إليه في صلة أن؟ قولان أصحهما هذا. فالزمخشري وافق مذهب المبرد ، وهو مذهب مرجوح في علم النحو.

(وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي : أبعدهم الله عن الهدى بسبب كفرهم السابق. وقال الزمخشري : أي خذلهم بسبب كفرهم وأبعدهم عن ألطافه انتهى. وهذا على طريقة الاعتزالي.

(فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) استثناء من ضمير المفعول في لعنهم أي : إلا قليلا لم يلعنهم فآمنوا ، أو استثناء من الفاعل في : فلا يؤمنون ، أي : إلا قليلا فآمنوا كعبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، وغيرهما. أو هو راجع إلى المصدر المفهوم من قوله : فلا يؤمنون أي : إلا إيمانا قليلا قلله إذ آمنوا بالتوحيد ، وكفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبشرائعه. وقال الزمخشري : إلا إيمانا قليلا أي : ضعيفا ركيكا لا يعبأ به ، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره. وأراد بالقلة العدم كقوله : قليل التشكي للهموم تصيبه. أي عديم التشكي.

وقال ابن عطية : من عبر بالقلة عن الإيمان قال : هي عبارة عن عدمه على ما حكى سيبويه من قولهم : أرض قلما تنبت كذا ، وهي لا تنبته جملة. وهذا الذي ذكره الزمخشري وابن عطية من أن التقليل يراد به العدم هو صحيح في نفسه ، لكن ليس هذا التركيب الاستثنائي من تراكيبه. فإذا قلت : لا أقوم إلا قليلا ، لم يوضع هذا لانتفاء القيام البتة ، بل هذا يدل على انتفاء القيام منك إلا قليلا فيوجد منك. وإذا قلت : قلما يقوم أحد إلا زيد ، وأقل رجل يقول ذلك احتمل هذا ، أن يراد به التقليل المقابل للتكثير ، واحتمل أن يراد به النفي المحض. وكأنك قلت : ما يقوم أحد إلا زيد ، وما رجل يقول ذلك. إمّا أن تنفي ثم توجب

٦٦٤

ويصير الإيجاب بعد النفي يدل على النفي ، فلا إذ تكون إلا وما بعدها على هذا التقدير ، جيء بها لغوا لا فائدة فيه ، إذ الانتفاء قد فهم من قولك : لا أقوم. فأيّ فائدة في استثناء مثبت يراد به الانتفاء المفهوم من الجملة السابقة؟ وأيضا ، فإنه يؤدي إلى أن يكون ما بعد إلا موافقا لما قبلها في المعنى. وباب الاستثناء لا يكون فيه ما بعد إلا موافقا لما قبلها ، وظاهر قوله : فلا يؤمنون إلا قليلا ، إذا جعلناه عائدا إلى الإيمان ، إنّ الإيمان يتجزأ بالقلة والكثرة ، فيزيد وينقص ، والجواب : إن زيادته ونقصه هو بحسب قلة المتعلقات وكثرتها.

وتضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبلاغة والبديع. قالوا : التجوز بإطلاق الشيء على ما يقاربه في المعنى في قوله : إن الله لا يظلم ، أطلق الظلم على انتقاص الأجر من حيث أن نقصه عن الموعود به قريب في المعنى من الظلم. والتنبيه بما هو أدنى على ما هو أعلى في قوله : مثقال ذرة. والإبهام في قوله : يضاعفها ، إذ لم يبين فيه المضاعفة في الأجر. والسؤال عن المعلوم لتوبيخ السامع ، أو تقريره لنفسه في : فكيف إذا جئنا. والعدول من بناء إلى بناء لمعنى في : بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا. والتجنيس المماثل في : وجئنا وفي : بشهيد وشهيدا. والتجنيس المغاير : في واسمع غير مسمع. والتجوز بإطلاق المحل على الحال فيه في : من الغائط. والكناية في : أو لامستم النساء. والتقديم والتأخير في : إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا إلى قوله : فتيمموا. والاستفهام المراد به التعجب في : ألم تر. والاستعارة في : يشترون الضلالة. والطباق في : هذا أي بالهدى ، والطباق الظاهر في : وعصينا وأطعنا. والتكرار في : وكفى بالله وليا ، وكفى بالله ، وفي سمعنا وسمعنا. والحذف في عدة مواضع.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ

٦٦٥

وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦)

طمس : متعد ولازم. تقول : طمس المطر الأعلام أي محا آثارها ، وطمست الأعلام درست ، وطمس الطريق درس وعفت أعلامه قاله : أبو زيد. ومن المتعدّي : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (١) أي استؤصلت. وقال ابن عرفة في قوله : اطمس على أموالهم أي أذهبها كلية ، وأعمى مطموس أي : مسدود العينين. وقال كعب :

من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت

عرضتها طامس الأعلام مجهول

والطمس والطسم والطلس والدرس كلها متقاربة في المعنى. الفتيل : فعيل بمعنى مفعول. فقيل : هو الخيط الذي في شق نواة التمرة. وقيل : ما خرج من الوسخ من بين كفيك وأصبعيك إذا فتلتهما. الجبت : اسم لصنم ثم صار مستعملا لكل باطل ، ولذلك اختلفت فيه أقاويل المفسرين على ما سيأتي. وقال قطرب : الجبت الجبس ، وهو الذي لا خير عنده ، قلبت السين تاء. قيل : وإنما قال هذا لأن الجبت مهمل. النقير : النقطة التي على ظهر النواة منها تنبت النخلة قاله : ابن عباس. وقال الضحاك : هو البياض الذي في وسطها. النضج : أخذ الشيء في التهري وتفرق أجزائه ، ومنه نضج اللحم ، ونضج الثمرة. يقال : نضج الشيء ينضج نضجا ونضاجا. الجلد معروف.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحبار اليهود منهم عبد الله بن صوريا إلى الإسلام وقال لهم : «إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق» فقالوا : ما نعرف ذلك ، فنزلت. قاله ابن عباس. ومناسبة هذه الآية لما قبلها

__________________

(١) سورة المرسلات : ٧٧ / ٨.

٦٦٦

هو أنه تعالى لما رجاهم بقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا) (١) الآية. خاطب من يرجى إيمانه منهم بالأمر بالإيمان ، وقرن بالوعيد البالغ على تركه ليكون أدعى لهم إلى الإيمان والتصديق به ، ثم أزال خوفهم من سوء الكبائر السابقة بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (٢) الآية. وأعلمهم أن تزكيتهم أنفسهم بما لم يزكهم به الله لا ينفع.

والذين أوتوا الكتاب هنا اليهود ، والكتاب التوراة قاله : الجمهور ، أو اليهود والنصارى قاله : الماوردي وابن عطية. والكتاب التوراة والإنجيل ، وبما نزلنا هو القرآن بلا خلاف ، ولما معكم من شرع وملة لا لما معهم من مبدل ومغير من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدباها. قرأ الجمهور : نطمس بكسر الميم. وقرأ أبو رجاء : بضمها. وهما لغتان ، والظاهر أن يراد بالوجوه مدلولها الحقيقي ، وأما طمسها فقال ابن عباس وعطية العوفي : هو أن تزال العينان خاصة منها وترد في القفا ، فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى. وعلى هذا يكون ذلك على حذف مضاف أي : من قبل أن نطمس عيون وجوه ، ولا يراد بذلك مطلق وجوه ، بل المعنى وجوهكم. وقالت طائفة : طمس الوجوه أن يعفى آثار الحواس منها فترجع كسائر الأعضاء في الخلو من آثار الحواس منها ، والرد على الإدبار هو بالمعنى أي : خلوه من الحواس. دثر الوجه لكونه عابرا بها ، وحسن هذا القول الزمخشري وجوزه وأوضحه ، فقال : إن نطمس وجوها أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم ، فنردها على أدبارها ، فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الإقفاء مطموسة مثلها. والفاء للتسبيب ، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بالعقابين أحدهما عقيب الآخر ردها على أدبارها بعد طمسها ، فالمعنى : أن نطمس وجوها فننكسها الوجوه إلى خلف ، والإقفاء إلى قدام انتهى. والطمس بمعنى المحو الذي ذكره مروي عن ابن عباس ، واختاره القتبي. وقال قتادة والضحاك : معناه نعمي أعينها. وذكر الوجوه وأراد العيون ، لأن الطمس من نعوت العين. قال تعالى : (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) (٣). ويروى هذا أيضا عن ابن عباس. وقال الفراء : طمس الوجوه جعلها منابت للشعر كوجوه القردة. وقيل : ردها إلى صورة بشيعة كوجوه الخنازير والقردة. وقال مجاهد والسدّي والحسن. ذلك تجوز ، والمراد وجوه الهدى والرشد ، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها ، والرد على الإدبار التصيير إلى الكفر. وقال ابن زيد : الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤٦.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٤٨.

(٣) سورة القمر : ٥٤ / ٣٧.

٦٦٧

وطمسها إخراجهم منها. والرد على الإدبار رجوعهم إلى الشام من حيث أتوا أولا. وحسّن الزمخشري هذا القول ، فقال : ووجه آخر وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير ، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة ، وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي : من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ، ونكسوها صغارهم وأدبارهم ، أو نردهم إلى حيث جاؤوا منه. وهي أذرعات الشام ، يريد إجلاء بني النضير انتهى.

(أَوْ نَلْعَنَهُمْ) هو معطوف على قوله : أن نطمس. وظاهر اللعنة هو المتعارف كما في قوله : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) (١). وقال الحسن : معناه نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت. وقال ابن عطية : هم أصحاب ايلة الذين اعتدوا في السبت بالصيد ، وكانت لعنتهم إن مسخوا خنازير وقردة. وقيل : معناه نهيمهم في التيه حتى يموت أكثرهم.

وظاهر قوله : من قبل أن نطمس أو نلعن ، أنّ ذلك يكون في الدنيا. ولذلك روي أنّ عبد الله بن سلام لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يأتي أهله ويده على وجهه فأسلم وقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي. وقال مالك : كان إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية ، فوضع كفه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه ، وقال : والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي. وقيل : الطمس المسخ لليهود قبل يوم القيامة ولا بد. وقيل : المراد أنه يحل بهم في القيامة ، فيكون ذلك أنكى لهم لفضيحتهم بين الأوّلين والآخرين ، ويكون ذلك أول ما عجل لهم من العذاب. وهذا إذا حمل طمس الوجوه على الحقيقة ، وإمّا إن أريد بذلك تغيير أحوال وجهائهم أو وجوه الهدى والرشد ، فقد وقع ذلك. وإن كان الطمس غير ذلك فقد حصل اللعن ، فإنهم ملعونون بكل لسان. وتعليق الإيمان بقبلية أحد أمرين لا يلزم منه وقوعهما ، بل متى وقع أحدهما صح التعليق ، ولا يلزم من ذلك تعيين أحدهما. وقيل : الوعيد مشروط بالإيمان ، وقد آمن منهم ناس. ومن قبل : متعلق بآمنوا ، وعلى أدبارها متعلق بفنردها.

وقال أبو البقاء : على أدبارها حال من ضمير الوجوه ، والضمير المنصوب في نلعنهم.

قيل : عائد على الوجوه إن أريد به الوجهاء ، أو عائد على أصحاب الوجوه ، لأن

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٦٠.

٦٦٨

المعنى : من قبل أن نطمس وجوه قوم ، أو على الذين أوتوا الكتاب على طريق الالتفات ، وهذا عندي أحسن. ومحسن هذا الالتفات هو أنه تعالى لما ناداهم كان ذلك تشريفا لهم ، وهز السماع ما يلقيه إليهم ، ثم ألقى إليهم الأمر بالإيمان بما نزل ، ثم ذكر أنّ الذي نزل هو مصدق لما معهم من كتاب ، فكان ذلك أدعى إلى الإيمان ، ثم ذكر هذا الوعيد البالغ فحذف المضاف إليه من قوله : من قبل أن نطمس وجوها والمعنى : وجوهكم ، ثم عطف عليه قوله : أو نلعنهم ، فأتى بضمير الغيبة ، لأن الخطاب حين كان الوعيد بطمس الوجوه وباللعنة ليس لهم ليبقى التأنيس والهم والاستدعاء إلى الإيمان غير مشوب بمفاجأة الخطاب الذي يوحش السامع ويروع القلب ويصير أدعى إلى عدم القبول ، وهذا من جليل المخاطبة. وبديع المحاورة.

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) الأمر هنا واحد الأمور ، واكتفى به لأنه دال على الجنس ، وهو عبارة عن المخلوقات : كالعذاب ، واللعنة ، والمغفرة. وقيل : المراد به المأمور ، مصدر وقع موقع المفعول ، والمعنى : الذي أراده أوجده. وقيل : معناه أنّ كل أمر أخر تكوينه فهو كائن لا محالة والمعنى : أنه تعالى لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله. وقال : وكان إخبارا عن جريان عادة الله في تهديده الأمم السالفة ، وأنّ ذلك واقع لا محالة ، فاحترزوا وكونوا على حذر من هذا الوعيد. ولذلك قال الزمخشري : ولا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا يعني : الطمس واللعنة.

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قال ابن الكلبي : نزلت في وحشي وأصحابه ، وكان جعل له على قتل حمزة رضي‌الله‌عنه أن يعتق ، فلم يوف له ، فقدم مكة وندم على الذي صنعه هو وأصحابه ، فكتبوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا قد ندمنا على ما صنعنا ، وليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول بمكة : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (١) الآيات وقد دعونا مع الله إلها آخر ، وقتلنا النفس التي حرم الله ، وزنينا ، فلو لا هذه الآيات لاتبعناك ، فنزلت : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ) (٢) الآيات ، فبعث بها إليهم فكتبوا : إنّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا ، فنزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية ، فبعث بها إليهم ، فبعثوا إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته ، فنزلت :

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٨.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٦٠.

٦٦٩

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (١) الآيات فبعث بها إليهم ، فدخلوا في الإسلام ، فقبل منهم ثم قال لوحشي : «أخبرني كيف قتلت حمزة؟» فلما أخبره قال : «ويحك غيّب عني وجهك» فلحق وحشي بالشام إلى أن مات.

وأجمع المسلمون على تخليد من مات كافرا في النار ، وعلى تخليد من مات مؤمنا لم يذنب قط في الجنة. فأما تائب مات على توبته فالجمهور : على أنه لاحق بالمؤمن الذي لم يذنب ، وطريقة بعض المتكلمين أنه في المشيئة. وأما مذنب مات قبل توبته فالخوارج تقول : هو مخلد في النار سواء كان صاحب كبيرة أم صاحب صغيرة. والمرجئة تقول : هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته. والمعتزلة تقول : إن كان صاحب كبيرة خلد في النار. وأما أهل السنة فيقولون : هو في المشيئة ، فإن شاء غفر له وأدخله الجنة من أول وهلة ، وإن شاء عذبه وأخرجه من النار وأدخله الجنة بعد مخلدا فيها.

وسبب هذا الاختلاف تعارض عمومات آيات الوعيد وآيات الوعد ، فالخوارج جعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كافرين ومؤمنين غير تائبين. وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن الذي لم يذنب قط ، أو المذنب التائب. والمرجئة جعلوا آيات الوعيد مخصوصة في الكفار ، وآيات الوعد مخصوصة في المؤمن تقيهم وعاصيهم. وأهل السنة خصصوا آيات الوعيد بالكفرة ، وبمن سبق في علمه أنه يعذبه من المؤمنين العصاة ، وخصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب ، وبالتائب ، وبمن سبق في علمه العفو عنه من المؤمنين العصاة. والمعتزلة خصصوا آيات الوعد بالمؤمن الذي لم يذنب ، وبالتائب. وآيات الوعيد بالكافر وذي الكبيرة الذي لم يتب.

وهذه الآية هي الحاكمة بالنص في موضع النزاع ، وهي جلت الشك ، وردّت على هذه الطوائف الثلاث. فقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ، والمعنى : أنّ من مات مشركا لا يغفر له ، هو أصل مجمع عليه من الطوائف الأربع. وقوله : ويغفر ما دون ذلك ، راد على الخوارج وعلى المعتزلة ، لأن ما دون ذلك عام تدخل فيه الكبائر والصغائر. وقوله : لمن يشاء رادّ على المرجئة ، إذ مدلوله أنّ غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم على ما شاء تعالى ، بخلاف ما زعموه بأن كل مؤمن مغفور له. وأدلة هؤلاء الطوائف مذكورة في

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٥٣.

٦٧٠

علم أصول الدين. وقد رامت المعتزلة والمرجئة ردّ هذه الآية إلى مقالاتهما بتأويلات لا تصح ، وهي منافية لما دلت عليه الآية.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : قد ثبت أن الله عزّ وعلا يغفر الشرك لمن تاب منه ، وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة ، فما وجه قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء؟ (قلت) : الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعا موجهين إلى قوله : لمن يشاء كأنه قيل : إنّ الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك. على أن المراد بالأول من لم يتب ، وبالثاني من تاب. ونظيره قولك : إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يستأهله انتهى كلامه. فتأول الآية على مذهبه. وقوله : قد ثبت أن الله عز وعلا يغفر الشرك لمن تاب عنه ، هذا مجمع عليه. وقوله : وإنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة. فنقول له : وأين ثبت هذا؟ وإنما يستدلون بعمومات تحتمل التخصيص ، كاستدلالهم بقوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) (١) الآية ، وقد خصصها ابن عباس بالمستحل ذلك وهو كافر. وقوله : قال : فجزاؤه إن جازاه الله. وقال : الخلود يراد به المكث الطويل لا الديمومة لا إلى نهاية ، وكلام العرب شاهد بذلك. وقوله : إن الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعا موجهين إلى قوله : لمن يشاء ، إن عنى أنّ الجار يتعلق بالفعلين ، فلا يصح ذلك. وإن عنى أن يقيد الأول بالمشيئة كما قيد الثاني فهو تأويل. والذي يفهم من كلامه أنّ الضمير الفاعل في قوله : يشاء عائد على من ، لا على الله. لأن المعنى عنده : أنّ الله لا يغفر الشرك لمن يشاء أن لا يغفر له بكونه مات على الشرك غير تائب منه ، ويغفر ما دون الشرك من الكبائر لمن يشاء أن يغفر له بكونه تاب منها. والذي يدل عليه ظاهر الكلام أنه لا قيد في الفعل الأول بالمشيئة ، وإن كانت جميع الكائنات متوقفا وجودها على مشيئته على مذهبنا. وأنّ الفاعل في يشاء هو عائد على الله تعالى ، لا على من ، والمعنى : ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء أن يغفر له. وفي قوله تعالى : لمن يشاء ، ترجئة عظيمة بكون من مات على ذنب غير الشرك لانقطع عليه بالعذاب ، وإن مات مصرّا.

قال عبد الله بن عمر : كنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا له أنه من أهل النار ، حتى نزلت هذه الآية ، فأمسكنا عن الشهادات. وفي حديث عبادة بن الصامت في آخره «ومن أصاب شيئا من ذلك أي ـ من المعاصي التي تقدّم ذكرها ـ فستره

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٩٣.

٦٧١

عليه ، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه» أخرجه مسلم. ويروى عن علي وغيره من الصحابة : ما في القرآن آية أحب إلينا من هذه الآية. وفي هذه الآية دليل على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع ، وإلا كان مغايرا للمشرك ، فوجب أن يكون مغفورا له. ولأن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود ، فاليهودية داخلة تحت اسم الشرك. فأما قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) (١) ثم قال : (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (٢) وقوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) (٣) و (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) (٤) فالمغايرة وقعت بحسب المفهوم اللغوي ، والاتحاد بحسب المفهوم الشرعي.

وقد قال الزجاج : كل كافر مشرك ، لأنه إذا كفر مثلا بنبي زعم أنّ هذه الآيات التي أتى بها ليست من عند الله ، فيجعل ما لا يكون إلا لله لغير الله ، فيصير مشركا بهذا المعنى. فعلى هذا يكون التقدير : إنّ الله لا يغفر كفر من كفر به ، أو بنبي من أنبيائه. والمراد : إذ ألقى الله بذلك ، لأن الإيمان يزيل عنه إطلاق الوصف بما تقدمه من الكفر بإجماع ، ولقوله عليه‌السلام : «الإسلام يجبّ ما قبله».

(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) أي اختلق وافتعل ما لا يمكن. وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الذنب أعظم؟ قال : «أن تجعل الله ندا وقد خلقك».

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) قال الجمهور : هم اليهود. وقال الحسن وابن زيد : هم النصارى. قال ابن مسعود : يزكي بعضهم بعضا لتقبل عليهم الملوك وسفلتهم ، ويواصلوهم بالرشا. وقال عطية عن ابن عباس : قالوا آباؤنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله ويشفعون لنا. وقال الضحاك والسدي في آخرين : أتى مرحب بن زيد وبحري بن عمرو وجماعة من اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعهم أطفالهم فقالوا : هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال : لا. فقالوا : نحن كهم ما أذنبنا بالليل يكفر عنها بالنهار ، وما أذنبنا بالنهار يكفر عنا بالليل فنزلت. وقيل : هو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه. وعلى القول بأنهم اليهود والنصارى فتزكيتهم أنفسهم. قال عكرمة ، ومجاهد ، وأبو مالك : كانوا يقدمون الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم فيصلون بهم ويقولون : ليست لهم ذنوب ، فإذا صلّى بنا المغفور له غفر لنا. وقال قتادة

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٦٢.

(٢) سورة.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٠٥.

(٤) سورة البينة : ٩٨ / ١.

٦٧٢

والحسن : هو قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (١) (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) (٢) وفي الآية دلالة على الغض ممن يزكي نفسه بلسانه ويصفها بزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله إني لأمين في السماء ، أمين في الأرض» حين قال له المنافقون : اعدل في القسمة ، إكذاب لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه ، وشتان من شهد الله له بالتزكية ، ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم. قاله الزمخشري وفيه بعض تلخيص.

قال الراغب ما ملخصه : التزكية ضربان : بالفعل ، وهو أن يتحرى فعل ما يظهره وبالقول ، وهو الإخبار عنه بذلك ومدحه به. وحظر أن يزكي الإنسان نفسه ، بل أن يزكي غيره ، إلا على وجه مخصوص. فالتزكية إخبار بما ينطوي عليه الإنسان ، ولا يعلم ذلك إلا الله تعالى.

(بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) بل : إضراب عن تزكيتهم أنفسهم ، إذ ليسوا أهلا لذلك. واعلم أنّ المزكي هو الله تعالى ، وأنه تعالى هو المعتد بتزكيته ، إذ هو العالم ببواطن الأشياء والمطلع على خفياتها. ومعنى يزكي من يشاء أي : من يشاء تزكيته بأن جعله طاهرا مطهرا ، فذلك هو الذي يصفه الله تعالى بأنه مزكي.

(وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) إشارة إلى أقلّ شيء كقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٣) فإذا كان تعالى لا يظلم مقدار فتيل ، فكيف يظلم ما هو أكبر منه؟ وجوزوا أن يعود الضمير في : ولا يظلمون ، إلى الذين يزكون أنفسهم ، وأن يعود إلى من على المعنى ، إذ لو عاد على اللفظ لكان : ولا يظلم وهو أظهر ، لأنه أقرب مذكور ، ولقطع بل ما بعدها عن ما قبلها. وقيل : يعود على المذكورين من زكى نفسه ، ومن يزكيه الله. ولم يذكر ابن عطية غير هذا القول.

وقال الزمخشري : ولا يظلمون أي ، الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم ، أو من يشاء يثابون ولا ينقصون من ثوابهم ونحوه ، فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى انتهى. وقرأ الجمهور : ألم تر بفتح الراء. وقرأ السلمي : بسكونها إجراء للوصل مجرى الوقف. وقيل : هي لغة قوم لا يكتفون بالجزم بحذف لام الفعل ، بل

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١١١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٣٥.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٤٠.

٦٧٣

يسكنون بعده عين الفعل. وقرأ الجمهور : ولا يظلمون بالياء. وقرأت طائفة : ولا تظلمون بتاء الخطاب ، وانتصاب فتيلا. قال ابن عطية : على أنه مفعول ثان ، ويعني على تضمين تظلمون معنى ما يتعدى لاثنين ، والمعنى : مقدار فتيل ، وهو كناية عن أحقر شيء ، وإلى أنه الخيط الذي في شق النواة ذهب ابن عباس وعطاء ومجاهد ، وإلى أنه ما يخرج من بين الأصابع أو الكفين بالفتل ذهب ابن عباس أيضا. وأبو مالك والسدي ، وإلى أنه نفس الشق ذهب الحسن.

(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) هو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولمّا خاطبه أولا بقوله : (أَلَمْ تَرَ) (١) أي ألا تعجب لهؤلاء الذين يزكون أنفسهم؟ خاطبه ثانيا بالنظر في كيفية افترائهم الكذب على الله ، وأتى بصيغة يفترون الدالة على الملابسة والديمومة ، ولم يخص الكذب في تزكيتهم أنفسهم ، بل عمم في ذلك وفي غيره. وأي ذنب أعظم ممن يفتري على الله الكذب (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (٢) فمن أظلم ممن كذب على الله.

وكيف : سؤال عن حال ، وانتصابه على الحال ، والعامل فيه يفترون ، والجملة في موضع نصب بانظر ، لأن انظر معلقة. وقال ابن عطية : وكيف يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون؟ ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في قوله : يفترون انتهى. أما قوله : يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون فصحيح على ما قررناه ، وأما قوله ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء ، والخبر في قوله يفترون ، فهذا لم يذهب إليه أحد ، لأنّ كيف ليست من الأسماء التي يجوز الابتداء بها ، وإنما قوله : كيف يفترون على الله الكذب في التركيب نظير كيف يضرب زيد عمرا ، ولو كانت مما يجوز الابتداء بها ما جاز أن يكون مبتدأ في هذا التركيب ، لأنه ذكر أنّ الخبر هي الجملة من قوله : يفترون ، وليس فيها رابط يربط هذه الجملة بالمبتدأ ، وليست الجملة نفس المبتدأ في المعنى ، فلا يحتاج إلى رابط. فهذا الذي قال فيه : ويصح ، هو فاسد على كل تقدير.

(وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) تقدّم الكلام في نظير وكفى به. والضمير في : به ، عائد على الافتراء ، وهو الذي أنكر عليهم. وقيل : على الكذب. وقال الزمخشري : وكفى بزعمهم لأنه قال : «كيف يفترون على الله الكذب» (٣) في زعمهم أنهم عند الله أزكياء ، وكفى

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤٩.

(٢) سورة سبأ : ٣٤ / ٨.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٥٠.

٦٧٤

بزعمهم هذا إثما مبينا من بين سائر آثامهم انتهى. فجعل افتراءهم الكذب مخصوصا بالتزكية ، وذكرنا نحن أنّه في هذا وفي غيره ، وانتصاب إثما على التمييز ، ومعنى مبينا أي : بينا واضحا لكل أحد.

وقال ابن عطية : وكفى به خبر في ضمنه تعجب وتعجيب من الأمر ، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب أن يكتفي لهم بهذا الكذب إثما ، ولا يطلب لهم غيره ، إذ هو موبق ومهلك انتهى. وفي ما ذكر من أن الباء دخلت لتدل على معنى الأمر بالتعجب نظر ، وقد أمعنا الكلام في قوله.

(وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) (١) فيطالع هناك : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) أجمعوا أنّها في اليهود. وسبب نزولها أنّ كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وجماعة معهما وردوا مكة يحالفون قريشا على محاربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أنتم أهل كتاب ، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلانا من مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ، ففعلوا. وقال أبو سفيان : أنحن أهدى سبيلا أم محمد؟ فقال كعب : ماذا يقول محمد؟ قالوا : يأمر بعبادة الله وحده ، وينهى عن الشرك. قال : وما دينكم؟ قالوا : نحن ولاة البيت نسقي الحاج ، ونقري الضيف ، ونفك العاني ، وذكروا أفعالهم. فقال : أنتم أهدى سبيلا. وفي بعض ألفاظ هذا السبب خلاف قاله ابن عباس. وقال عكرمة ، خرج كعب في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ، والكتاب هنا التوراة على قول الجمهور ، ويحتمل أن يكون التوراة والإنجيل.

والجبت والطاغوت صنمان كانا لقريش قاله : عكرمة وغيره. أو الجبت هنا حيي ، والطاغوت كعب ، قاله : ابن عباس أيضا. أو الجبت السحر ، والطاغوت الشيطان ، قاله : مجاهد ، والشعبي وروي عن عمر والجبت الساحر ، والطاغوت الشيطان قاله : زيد بن أسلم. أو الجبت الساحر ، والطاغوت الكاهن ، قاله : رفيع وابن جبير. أو الجبت الكاهن ، والطاغوت الشيطان ، قاله : ابن جبير أيضا. أو الجبت الكاهن ، والطاغوت الساحر ، قاله : ابن سيرين. أو الجبت الشيطان ، والطاغوت الكاهن قاله : قتادة. أو الجبت كعب ، والطاغوت الشيطان كان في صورة انسان ، أو الجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤٥.

٦٧٥

والطاغوت الشيطان قاله : الزمخشري. أو الجبت والطاغوت كل معبود من دون الله من حجر ، أو صورة ، أو شيطان قاله : الزجاج ، وابن قتيبة.

وأورد بعض المفسرين الخلاف مفرقا فقال : الجبت السحر قاله : عمر ، ومجاهد ، والشعبي. أو الأصنام رواه عطية عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، والفراء ، أو كعب بن الأشرف. رواه الضحاك ، عن ابن عباس. وليث ، عن مجاهد. أو الكاهن روى عن ابن عباس ، وبه قال : مكحول ، وابن سيرين. أو الشيطان قاله : ابن جبير في رواية ، وقتادة والسدي أو الساحر قاله : أبو العالية وابن زيد. وروى أبو بشر عن ابن جبير قال : الجبت الساحر بلسان الحبشة ، وأما الطاغوت فالشيطان قاله : عمر ، ومجاهد في رواية الشعبي وابن زيد. أو المترجمون بين يدي الأصنام رواه العوفي عن ابن عباس ، أو كعب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال : الضحاك ، والفرّاء. أو الكاهن قاله عكرمة أو الساحر ، روي عن ابن عباس ، وابن سيرين ، ومكحول ، أو كل ما عبد من دون الله قاله : مالك. وقال قوم : الجبت والطاغوت مترادفان على معنى واحد ، والجمهور وأقوال المفسرين على خلاف ذلك ، وأنهما اثنان. وقد جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكلام على المغيبات جبتا لكون علم الغيب يختص بالله تعالى. خرج أبو داود في سننه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الطرق والطيرة والعيافة من الجبت» الطرق الزجر ، والعيافة الخط. فان الجبت والطاغوت الأصنام أو ما عبد من دون الله ، فالإيمان بهما التصديق بأنهما آلهة يشركونهما في العبادة مع الله ، وان كان حييا ، وكعبا ، أو جماعة من اليهود ، أو الساحر ، أو الكاهن ، أو الشيطان ، فالإيمان بهم عبارة عن طاعتهم وموافقتهم على ما هم عليه ، ويكون من باب إطلاق ثمرة الإيمان وهي الطاعة على الإيمان.

(وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) الضمير في : يقولون عائد على الذين أوتوا. وفي سبب النزول ان كعبا هو قائل هذه المقالة ، والجملة من يؤمنون حال ، ويقولون معطوف على يؤمنون فهي حال. ويحتمل أن يكون استئناف أخبار تبين التعجب منهم كأنه قال : ألا تعجب إلى حال الذين أوتوا نصيبا ، فكأنه قيل : وما حالهم وهم قد أوتوا نصيبا من كتاب الله؟ فقال : يؤمنون بكذا ، ويقولون كذا. أي : أن أحوالهم متنافية. فكونهم أوتوا نصيبا من الكتاب يقتضي لهم أن لا يقعوا فيما وقعوا فيه ، ولكن الحامل لهم على ذلك هو الحسد. واللام في للذين كفروا للتبليغ متعلقة بيقولون. والذين كفروا هم قريش ، والإشارة بهؤلاء إليهم ، والذين آمنوا هم النبي وأمته. والظاهر أنهم أطلقوا أفعل

٦٧٦

التفضيل ولم يلحظوا معنى التشريك فيه ، أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) اشارة إلى من آمن بالجبت والطاغوت وقال تلك المقالة ، أبعدهم الله تعالى ومقتهم.

(وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) أي من ينصره ويمنعه من آثار اللعنة وهو العذاب العظيم.

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) أم هنا منقطعة التقدير : بل ألهم نصيب من الملك انتقل من الكلام إلى كلام تام ، واستفهم على الإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك. وحكى ابن قتيبة أنّ أم يستفهم بها ابتداء. وقال بعض المفسرين. أم هنا بمعنى بل ، وفسروا على سبيل الاخبار أنهم ملوك أهل الدنيا وعتو وتنعم لا يبغون غير ذلك ، فهم بخلاء حريصون على أن لا يكون ظهور لغيرهم. والمعنى على القول الأوّل : ألهم نصيب ، من الملك؟ فلو كان لهم نصيب من الملك لبخلوا به. والملك ملك أهل الدنيا ، وهو الظاهر. أو ملك الله لقوله : «قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الانفاق» (١) وقيل : المال ، لأنه به ينال الملك وهو أساسه. وقيل : استحقاق الطاعة. وقيل : النبوة. وقيل : صدق الفراسة ذكره الماوردي. والأفصح إلغاء اذن بعد حرف العطف الواو والفاء ، وعليه أكثر القرّاء.

وقرأ عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس : لا يؤنوا بحذف النون على إعمال اذن. والناس هنا العرب ، أو المؤمنون ، أو النبي ، أو من اليهود وغيرهم أقوال. والنقير : النقطة في ظهر النواة رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعطاء ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، والسدي ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة في آخرين. وقيل : القشر يكون في وسط النواة ، رواه التميمي عن ابن عباس. أو الخيط في وسط النواة ، روى عن مجاهد ، أو نقر الرجل الشيء بطرف إبهامه رواه أبو العالية عن ابن عباس. أو حبة النواة التي في وسطها رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال الأزهري : الفتيل والنقير ، والقطمير ، يضرب مثلا للشيء التافه الحقير ، وخصت الأشياء الحقيرة بقوله : «فتيلا» في قوله : «ولا يظلمون فتيلا» (٢) وهنا بقوله نقير الوفاق النظير من الفواصل.

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أم أيضا منقطعة فتقدّر ببل.

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ١٠٠.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٤٩.

٦٧٧

والهمزة فبل : للانتقال من كلام إلى كلام ، والهمزة للاستفهام الذي يصحبه الإنكار. أنكر عليهم أولا البخل ، ثم ثانيا الحسد. فالبخل منع وصول خير من الإنسان إلى غيره ، والحسد تمنّي زوال ما أعطى الله الإنسان من الخير وإيتاؤه له. نعى الله تعالى عليهم تحليهم بهاتين الخصلتين الذميمتين ، ولمّا كان الحسد شر الخصلتين ترقى إلى ذكره بعد ذكر البخل. والناس هنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والفضل النبوة ، قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، والضحاك ، ومقاتل.

وقال ابن عباس ، والسدي أيضا : والفضل ما أبيح له من النساء. وسبب نزول الآية عندهم أنّ اليهود قالت لكفار العرب : انظروا إلى هذا الذي يقول أنه بعث بالتواضع ، وأنه لا يملأ بطنه طعاما ، ليس همه إلا في النساء ونحو هذا ، فنزلت. والمعنى : لم تخصونه بالحسد ، ولا تحسدون آل إبراهيم ـ يعني ـ : سليمان وداود في أنهما أعطيا النبوة والكتاب ، وأعطيا مع ذلك ملكا عظيما في أمر النساء ، وهو ما روي أنه كان لسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية ، ولداود مائة امرأة. فالملك في هذه القول إباحة النساء ، كأنه المقصود أولا بالذكر. وقال قتادة : الناس هنا العرب حسدتها بنو إسرائيل إن كان الرسول منها ، والفضل هنا الرسول. والمعنى : لم يحسدون العرب على هذا النبي وقد أوتي أسلافهم أنبياء. وكتبا كالتوراة والزبور ، وحكمة وهي الفهم في الدين مما لم ينص عليه الكتاب؟ وروي عن ابن عباس أنه قال : نحن الناس يريد قريشا.

(فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) أي ملك سليمان قاله : ابن عباس. وقال مجاهد : هو النبوّة. وقال همام بن الحرث وأبو مسلمة وابن زيد هو التأييد بالملائكة. وقيل : الناس هنا الرسول ، وأبو بكر ، وعمر. والكتاب : التوراة والإنجيل أو هما ، والزبور أقوال ، والحكمة النبوّة قاله : السدي ومقاتل. أو الفقه في الدين قاله أبو سليمان الدمشقي. وقيل : الملك العظيم هو الجمع بين سياسة الدنيا وشرع الدين ذكره الماوردي. وقال الزمخشري : أم يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله النصرة والغلبة وازدياد العز والتقدم كل يوم ، فقد آتينا الزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين أسلاف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتي أسلافه. وعن ابن عباس : الملك في آل إبراهيم ملك يوسف ، وداود ، وسليمان ، انتهى كلامه. وهو كلام حسن.

٦٧٨

(فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) أي : من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ، ومنهم من كفر كقوله : «فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون» (١) قاله السدي : أو فمن آل إبراهيم من آمن بالكتاب ، أو فمن اليهود المخاطبين بقوله : «يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا» (٢) من آمن به أي بالقرآن ، وهو المأمور بالإيمان به في قوله : بما نزلنا قاله مجاهد ، ومقاتل ، والفراء ، والجمهور ولذلك ارتفع الطمس ولم يقع. أو فمن اليهود من آمن بالفضل الذي أوتيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو العرب على ما تقدّم. أو فمن اليهود من آمن به ، أي بما ذكر من حديث آل إبراهيم. أو فمن اليهود من آمن برسول الله ، ومنهم من أنكر نبوّته. والظاهر أنه تعالى لما أنكر على اليهود حسدهم الناس على فضل الله الذي آتاهم ، أتى بما بعده على سبيل الاستطراد والنظر والاستدلال عليهم بأنه لا ينبغي لكم أن تحسدوا فقد حاز أسلافكم من الشرف ما ينبغي أن لا تحسدوا أحدا.

وتضمنت هذه الآية تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كونهم يحسدونه ولا يتبعونه ، فذكر أنّهم أيضا مع أسلافهم وأنبيائهم انقسموا إلى مؤمن وكافر ، هذا وهم أسلافهم فكيف بنبي ليس هو منهم؟.

وقرأ ابن مسعود وابن عباس ، وابن جبير ، وعكرمة ، وابن يعمر ، والجحدري : ومن صد عنه برفع الصاد مبنيا للمفعول. وقرأ أبي وأبو الحوراء وأبو رجاء والحوقي ، بكسر الصاد مبنيا للمفعول. والمضاعف المدغم الثلاثي يجوز فيه إذا بني للمفعول ما جاز في باع إذا بني للمفعول ، فتقول : حب زيد بالضم ، وحب بالكسر. ويجوز الإشمام. والصد ليس مقابلا للإيمان إلا من حيث المعنى ، وكان المعنى والله أعلم : فمنهم من آمن به واتبعه ، ومنهم من كذب به وصد عنه.

(وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) أي احتراقا والتهابا أي لمن صدّ عنه. وسعيرا يميز وهو شدة توقد النار. والتقدير : وكفى بسعير جهنم سعيرا ، وهو كناية عن شدة العذاب والعقوبة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) لما ذكر قوله : ومنهم من صد عنه ، وكفى بجهنم سعيرا أتبع ذلك بما أعد الله للكافرين بآياته ، ثم بعد يتبع بما أعد للمؤمنين ، وصار نظير وتسود وجوه ، «فأما الذين اسودت وجوههم» (٣). وقرأ الجمهور نصليهم من أصلى. وقرأ حميد : نصليهم من صليت. وقرأ سلام ويعقوب : نصليهم بضم الهاء.

__________________

(١) سورة الحديد : ٥٣ / ٢٦.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٤٧.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٠٦.

٦٧٩

(كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) انتصاب كل على الظرف لأنه مضاف إلى ما المصدرية الظرفية ، والعامل فيه بدلناهم ، وهي جملة فيها معنى الشرط ، وهي في موضع الحال ، والعامل فيها نصليهم. والتبديل على معنيين : تبديل في الصفات مع بقاء العين ، وتبديل في الذوات بأن تذهب العين وتجيء مكانها عين أخرى ، يقال : هذا بدل هذا. والظاهر في الآية هذا المعنى الثاني. وأنه إذا نضج ذلك الجلد وتهرى وتلاشى جيء بجلد آخر مكانه ، ولهذا قال : جلودا غيرها. قال السدي : إن الجلود تخلق من اللحم ، فإذا أحرق جلد بدله الله من لحم الكافر جلدا آخر. وقيل : هي بعينها تعاد بعد إحراقها ، كما تعاد الأجساد بعد البلى في القبور ، فيكون ذلك عائدا إلى الصفة ، لا إلى الذات. وقال الفضيل : يجعل النضيج غير نضيج. وقيل : تبدل كل يوم سبع مرات. وقال الحسن : سبعين. وأبعد من ذهب إلى أن الجلود هي سرابيل من قطران تخالط جلودهم مخالطة لا يمكن إزالتها. فيبدل الله تلك السرابيل كل يوم مائة مرة. أو كما قيل : مائة ألف مرة. وسميت جلودا لملابستها الجلود. وأبعد أيضا من ذهب إلى أن هذا استعاره عن الدوام ، كلما انتهى فقد ابتدأ من أوله ، يعني : كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة ، بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا ، فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه. وقال ابن عباس : يلبسهم الله جلودا بيضاء كأنها قراطيس. وقال عبد العزيز بن يحيى : يلبس أهل النار جلودا تؤلمهم ولا تؤلم هي.

(لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) أي ذلك التبديل كلما نضجت الجلود ، هو ليذوقوا ألم العذاب. وأتي بلفظ الذوق المشعر بالإحسان الأول وهو آلم ، فجعل كلما وقع التبديل كان لذوق العذاب بخلاف من تمرن على العذاب. وقال الزمخشري : ليذوقوا العذاب ليدوم لهم دونه ولا ينقطع ، كقولك للعزيز : أعزك الله أي أدامك على عزك ، وزادك فيه.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) أي عزيزا لا يغالب ، حكيما يضع الأشياء مواضعها. وقال الزمخشري : عزيز لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين ، حكيما لا يعذب إلا بعدل من يستحقه.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)

٦٨٠