البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

أي : ليس يخطئون مواضع العطاء. قال ابن عباس وغيره : ومبادرة كبرهم أن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ويقول : أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله.

وانتصب إسرافا وبدارا على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي : مسرفين ومبادرين. والبدار مصدر بادر ، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين. لأن اليتيم مبادر إلى الكبر ، والولي مبادر إلى أخذ ماله ، فكأنهما مستبقان. ويجوز أن يكون من واحد ، وأجيز أن ينتصبا على المفعول من أجله ، أي : لإسرافكم ومبادرتكم. وإن يكبروا مفعول بالمصدر ، أي : كبركم كقوله : أو إطعام يتيما (١) وفي إعمال المصدر المنوّن خلاف. وقيل : التقدير مخافة أن يكبروا ، فيكون أن يكبروا مفعولا من أجله ، ومفعول بدارا محذوف.

(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) ظاهر هذه الجملة يدل على أنه تقسيم لحال الوصي على اليتيم ، فأمره تعالى بالاستعفاف عن ماله إن كان غنيا ، واقتناعه بما رزقه الله تعالى من الغنى ، وأباح له الأكل بالمعروف من مال اليتيم إن كان فقيرا ، بحيث يأخذ قوتا محتاطا في تقديره.

وظاهر هذه الإباحة أنه لا تبعة عليه ، ولا يترتب في ذمته ما أخذ مما يسدّ جوعته بما لا يكون رفيعا من الثياب ، ولا يقضي إذا أيسر قاله : ابراهيم ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، وعلى هذا القول الفقهاء. وقال عمر ، وابن عباس ، وعبيدة ، والشعبي ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وابن جبير : يقضي إذا أيسر ، ولا يستلف أكثر من حاجته. وبه قال الأوزاعي. وقال ابن عباس أيضا وأبو العالية ، والحسن ، والشعبي : إنما يأكل بالمعروف إذا شرب من اللبن ، وأكل من التمر ، بما يهنأ الجرباء ويليط الحوض ، ويجد التمر وما أشبهه. فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للولي أخذها.

وقالت طائفة : المعروف أن يكون له أجر بقدر عمله وخدمته ، وهذه رواية عن الإمام أحمد. وفصل الحسن بن حي فقال : إن كان وصي أب فله الأكل بالمعروف ، أو وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه ، وأجرته على بيت المال. وفصل أبو حنيفة وصاحباه فقالوا : إن كان وصي اليتيم مقيما فلا يجوز له أن يأخذ من ماله شيئا ، وإن كان مسافرا فله أن يأخذ ما يحتاج إليه ، ولا يقتني شيئا. وفصل الشعبي فقال : إن كان مضطرا بحال من

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٦.

٥٢١

يجوز له أكل الميتة أكل بقدر حاجته وردّ إذا وجد ، وإلّا فلا يأكل لا سفرا ولا حضرا. وقال مجاهد : هذه الإباحة منسوخة بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) (١). وقال أبو يوسف : لعلها منسوخة بقوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (٢) فليس له أن يأخذ قرضا ولا غيره. وقال ابن عباس والنخعي أيضا : هذا الأمر ليس متعلقا بمال اليتيم ، والمعنى : أنّ الغني يستعفف بغناه ، وأما الفقير فيأكل بالمعروف من مال نفسه ، ويقوم على نفسه بماله حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه. واختار هذا القول من الشافعية الكيا الطبري. وقيل : إن كان مال اليتيم كثيرا يحتاج إلى قيام كثير عليه بحيث يشغل الولي عن مصالح نفسه ومهماته فرض له في مال اليتيم أجر عمله ، وإن كان لا يشغله فلا يأكل منه شيئا ، غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن ، وأكل قليل الطعام والسمن ، غير مضربه ولا مستكثر منه على ما جرت به العادة والمسامحة. وقالت طائفة منهم ربيعة ويحيى بن سعيد : هذا تقسيم لحال اليتيم ، لا لحال الوصي. والمعنى : من كان منهم غنيا فليعف بماله ، ومن كان منهم فقيرا فليقتر عليه بالمعروف والاقتصاد. ويكون من خطاب العين ، ويراد به الغير. خوطب اليتامى بالاستعفاف والأكل بالمعروف ، والمراد الأولياء. لأن اليتامى ليسوا من أهل الخطاب ، فكأنه قال للأولياء والأوصياء : إن كان اليتيم غنيا فانفقوا عليه نفقة متعفف مقتصد لئلا يذهب ماله بالتوسع في نفقته ، وإن كان فقيرا فلينفق عليه بقدر ماله لئلا يذهب فيبقى كلا مضعفا.

فهذه أقوال ملخصها : هل تقسيم في الولي أو الصبي قولان : فإذا كان في الولي فهل الأمر متوجه إلى مال نفسه ، أو مال الصبي؟ قولان. وإذا كان متوجها إلى مال الصبي ، هل ذلك منسوخ أم لا؟ قولان. وإذا لم يكن منسوخا ، فهل يكون تفصيلا بالنسبة إلى الأكل أو المأكول؟ قولان. فإذا كان بالنسبة إلى الأكل ، فهل يختص بولي الأب ، أو بالمسافر ، أو بالمضطر ، أو بالمشتغل بذلك عن مهمات نفسه؟ أقوال. وإذا كان بالنسبة للمأكول ، فهل يختص بالتافه أم يتعدّى إلى غيره؟ قولان. وإذا تعدّى إلى غيره ، فهل يكون أجرة أم لا؟ قولان. وإذا لم يكن أجرة فأخذ ، فهل يترتب دينا في ذمته يجب قضاؤه إذا أيسر أم لا؟ قولان. ودلائل هذه الأقوال مذكورة في مسائل الخلاف. ولفظه فليستعفف أبلغ من فليعف ، لأن فيه طلب زيادة العفة.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٠.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٨٨.

٥٢٢

(فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) أمر تعالى بالإشهاد لحسم مادة النزاع ، وسوء الظن بهم ، والسلامة من الضمان والغرم على تقدير إنكار اليتيم ، وطيب خاطر اليتيم بفك الحجر عنه ، وانتظامه في سلك من يعامل ويعامل. وإذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع يمينه عند أبي حنيفة وأصحابه ، وعند مالك. والشافعي : لا يصدق إلا بالبينة. فكان في الإشهاد الاحتراز من توجه الحلف المفضي إلى التهمة ، أو من وجوب الضمان إذ لم يقم البينة. وظاهر الأمر أنه واجب. وقال قوم : هو ندب.

وظاهر الآية الأمر بالإشهاد عليهم إذا دفع إليهم أموالهم ، وهي المأمور بدفعها في قوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (١) وقال عمرو بن جبير : هذا الإشهاد إنما هو على دفع الولي ما استقرضه من مال اليتيم حالة فقره إذا أيسر. وقيل : فيها دليل على وجوب القضاء على من أكل من مال اليتيم ، المعنى : أقرضتم أو أكلتم فأشهدوا إذا غرمتم. وقيل : المعنى إذا أنفقتم شيئا على المولى عليه فاشهدوا ، حتى لو وقع خلاف أمكن إقامة البينة ، فإن مالا قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بإشهاد على دفعه.

(وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي كافيا في الشهادة عليكم. ومعناه : محسبا من أحسبني كذا ، أي كفاني ، قاله : الأعمش والطبري. فيكون فعيلا بمعنى مفعل ، أو محاسبا ، أو حاسبا لأعمالكم يجازيكم بها ، فعليكم بالصدق ، وإياكم والكذب. فيكون في ذلك وعيد لجاحد الحق.

وحسيب فعيل بمعنى مفاعل ، كجليس وخليط ، أو بمعنى فاعل ، حول للمبالغة في الحسبان. وقال ابن عباس والسدي ومقاتل : معنى حسيبا شهيدا.

وفي كفى خلاف : أهي اسم فعل ، أم فعل؟ والصحيح أنها فعل ، وفاعله اسم الله ، والباء زائدة. وقيل : الفاعل مضمر وهو ضمير الاكتفاء ، أي : كفى هو ، أي الاكتفاء بالله ، والباء ليست بزائدة ، فيكون بالله في موضع نصب ، ويتعلق إذ ذاك بالفاعل. وهذا الوجه لا يسوغ إلا على مذهب الكوفيين ، حيث يجيزون أعمال ضمير المصدر كأعمال ظاهره. وإن عنى بالإضمار الحذف ففيه إعمال المصدر وهو موصول ، وإبقاء معموله وهو عند البصريين لا يجوز ، أعني : حذف الفاعل وحذف المصدر. وانتصب حسيبا على التمييز لصلاحية دخول من عليه. وقيل :

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٦.

٥٢٣

على الحال. وكفى هنا متعدية إلى واحد وهو محذوف ، التقدير : وكفاكم الله حسيبا. وتأتي بغير هذا المعنى ، فتعديه إلى اثنين كقوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) (١) (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) قيل : سبب نزولها هو خبر أم كجه وقد تقدم ، قاله : عكرمة وقتادة وابن زيد. قال المروزي : كان اليونان يعطون جميع المال للبنات ، لأن الرّجل لا يعجز عن الكسب ، والمرأة تعجز. وكانت العرب لا يعطون البنات ، فردّ الله على الفريقين. والمعنيّ : بالرجال الذكور ، وبالنساء الإناث كقوله : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) (٢).

وأبهم في قوله : نصيب ، ومما ترك في موضع الصفة لنصيب. وقيل : يتعلق بلفظ نصيب فهو من تمامه. والوالدان : يعني والدي الرجال والنساء ، وهما أبواهم ، وسمي الأب والدا ، لأن الولد منه ، ومن الوالدة. وللاشتراك جاء الفرق بينهما بالتاء كقوله : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) (٣) وجمع بالألف والتاء قياسا كقوله : (وَالْوالِداتُ) (٤) قال ابن عطية : كما قال الشاعر :

بحيث يعتشّ الغراب البائض

لأن البيض من الأنثى والذكر انتهى. ولا يتعين أن يراد بالغراب هنا الذكر ، لأن لفظ الغراب ينطلق على الذكر والأنثى ، وليس مما فرق بينه وبين مؤنثه بالتاء. فهو كالرّعوب ينطلق على الذكر والأنثى ، ولا يرجح كونه ذكرا وصفه بالبائض ، وهو وصف مذكر لاحتمال أن يكون ذكر حملا على اللفظ ، إذ لم تظهر فيه علامة تأنيث كما أنث المذكر حملا على لفظ التأنيث في قوله : وعنترة الفلحاء. وفي قوله : أبوك خليفة ولدته أخرى.

والأقربون : هم المتوارثون من ذوي القرابات. وقد أبهم في لفظ الأقربون كما أبهم في النصيب ، وعين الوارث والمقدار في الآيات بعدها. وقوله : مما قلّ منه ، هو بدل من قوله : مما ترك الأخير ، أعيد معه حرف الجر ، والضمير في منه عائد على ما من قوله : مما ترك الأخير. واكتفى بذكره في هذه الجملة ، وهو مراد في الجملة الأولى ، ولم يضطرّ إلى

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٣٧.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٣.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٣.

٥٢٤

ذكره لأن البدل جاء على سبيل التوكيد ، إذ ليس فيه إلا توضيح أنه أريد بقوله : مما ترك العموم في المتروك. وهذا البدل فيه ذكر نوعي المتروك من القلة أو الكثرة.

وقال أبو البقاء : مما قلّ يجوز أن يكون حالا من الضمير المحذوف في ترك ، أي : مما تركه مستقرا مما قلّ.

ومعنى نصيبا مفروضا : أي حظا مقطوعا به لا بد لهم من أن يحوزوه. وقال الزجاج ومكي : نصيبا منصوب على الحال ، المعنى : لهؤلاء أنصباء على ما ذكرنا هنا في حال الفرض. وقال الفراء : نصب لأنه أخرجه مخرج المصدر ، ولذلك وحده كقولك له : عليّ كذا حقا لازما ، ونحوه : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) (١) ولو كان اسما صحيحا لم ينصب ، لا تقول : لك عليّ حق درهما انتهى. وقال الزمخشري قريبا من هذا القول قال : ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد لقوله : فريضة من الله ، كأنه قسمة مفروضة. وقال ابن عطية نحوا من كلام الزجاج قال : إنما هو اسم نصب كما ينصب المصدر في موضع الحال تقدبره : فرضا. ولذلك جاز نصبه كما تقول له : عليّ كذا وكذا حقا واجبا ، ولو لا معنى المصدر الذي فيه ما جاز في الاسم الذي ليس بمصدر هذا النصب ، ولكنّ حقه الرفع انتهى كلامه. وهو مركب من كلام الزجاج والفراء ، وهما متباينان لأن الانتصاب على الحال مباين للانتصاب على المصدر المؤكد مخالف له. وقال الزمخشري : ونصيبا مفروضا نصب على الاختصاص بمعنى أعني : نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا انتهى. فإن عني بالاختصاص ما اصطلح عليه النحويون فهو مردود بكونه نكرة ، والمنصوب على الاختصاص نصوا على أنه لا يكون نكرة. وقيل : انتصب نصب المصدر الصريح ، لأنه مصدر أي نصيبه نصيبا. وقيل : حال من النكرة ، لأنها قد وصفت. وقيل : بفعل محذوف تقديره : جعلته أو ، أوجبت لهم نصيبا. وقيل : حال من الفاعل في قلّ أو كثر.

واستدلّ بظاهر هذه الآية على وجوب القسمة في الحقوق المتميزة إذا أمكنت وطلب ذلك كل واحد من الشريكين بلا خلاف. واختلفوا في قسمة المتروك على الفرائض ، إذا كانت القسمة بغيره على حاله كالحمام والرحا والبئر والدار التي تبطل منافعها بافتراق السهام. فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة : تقسم. وقال ابن أبي ليلى وأبو ثور : لا تقسم. قال ابن المنذر : وهو أصح القولين. واستدل بها أيضا على وجوب توريث الأخ للميت مع

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١١.

٥٢٥

البنت ، فإذا أخذت النصف أخذ الباقي. واختلف في ابني عم أحدهما أخ لأم ، فقال عليّ وزيد : للأخ من الأم السدس ، وما بقي بينهما نصفان ، وهو قول فقهاء الأمصار. وقال عمر وعبد الله وشريح والحسن : المال للأخ من الأم.

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) قيل : نزلت في أرباب الأموال يقسمونها عند ما يحضر الموت في وصية ، وجهات يختارونها ، ويحضرهم من القرابات محجوب عن الإرث ، فيوصون للأجانب ويتركون المحجوبين فيحرمون الإرث والوصية قاله : ابن عباس وابن المسيب وابن زيد وأبو جعفر. وقيل : نزلت في أرباب الفرائض يحضرهم أيضا محجوب ، فأمروا أن يرضخوا لهم مما أعطاهم الله. روي عن ابن عباس وابن المسيب : أنها منسوخة ، وبه قال : عكرمة والضحاك قالوا : كانت قسمة جعلها الله ثلاثة أصناف ، ثم نسخ ذلك بآية الميراث ، وأعطى كل ذي حظ حظه ، وجعل الوصية للذين يحرمون ولا يرثون. وقيل : هي محكمة أمر الله من استحق إرثا ، وحضر القسمة قريب أو يتيم أو مسكين لا يرث ، أن لا يحرموا إن كان المال كثيرا ، وأن يعتذر إليهم إن كان قليلا ، وأمر به أبو موسى الأشعري. وقال الحسن والنخعي : كان المؤمنون يفعلون ذلك يقسمون لهم من العين الورق والفضة ، فإذا قسموا الأرضين والرقيق قالوا لهم قولا معروفا : بورك فيكم. وفعله عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وتلا هذه الآية. وإذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف ، هل يفعل ذلك الولي أو لا؟ قولان. والظاهر من سياق هذه الآية عقيب ما قبلها أنها في الوارثين لا في المحتضرين الموصين ، والذي يظهر من القسمة أنها مصدر بمعنى القسم قال تعالى : (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (١).

وقيل : المراد بالقسمة المقسوم. وقيل : القسمة الاسم من الاقتسام لا من القسم ، كالخيرة من الاختيار. ولا يكاد الفصحاء يقولون قسمت بينهم قسمة ، وروى ذلك الكسائي. وقسمتك ما أخذته من الاقسام ، والجمع قسم. وقال الخليل : القسم الحظ والنصيب من الجزء ، ويقال : قاسمت فلانا المال وتقاسمناه واقتسمناه ، والقسم الذي يقاسمك.

وظاهر قوله : فارزقوهم ، الوجوب. وبه قال جماعة منهم : مجاهد ، وعطاء ، والزهري. وقال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن : هو ندب. وفي قوله : فارزقوهم إضافة

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٢٢.

٥٢٦

الرزق إلى غير الله تعالى ، كما قال : (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١) وقيل : كان ذلك في الورثة واجبا فنسخته آية الميراث ، والضمير في : منه عائد على المال المقسوم ، ودل عليه القسمة ، لأن القسمة وهي المصدر تدل على متعلقها وهو المال. وقيل : يعود إلى ما من قوله : ما ترك الوالدان والأقربون. ومن قال : القسمة المقسوم ، أعاد الضمير إلى القسمة على معنى التذكير ، إذ المراد المقسوم. وقدّم اليتامى على المساكين لأنّ ضعفهم أكثر ، وحاجتهم أشد ، فوضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم للأجر. والظاهر أنهم يرزقون من عين المال المقسوم ، ورأى عبيدة وابن سيرين : أن الرزق في هذه الآية أن يصنع لهم طعام يأكلونه ، وفعلا ذلك وذبحا شاة من التركة ، وقسم عند عبيدة مال ليتيم فاشترى منه شاة وذبحها ، وقال عبيدة : لو لا هذه لكانت من مالي. وقوله : منه يدل على التبعيض ، ولا تقدير فيه بالإجماع ، وهذا مما يدل على الندب. إذ لو كان لهؤلاء حق معين لبين الله قدر ذلك الحق ، كما بين في سائر الحقوق. وعلى هذا فقهاء الأمصار إذا كان الورثة كبارا ، وإن كانوا صغارا فليس إلا القول المعروف.

والضمير في قوله : وقولوا لهم ، عائد على ما عاد عليه الضمير في : فارزقوهم ، وهم : أولوا القربى واليتامى والمساكين. وقال ابن جرير : الآية محكمة في الوصية ، والضمير في فارزقوهم عائد على أولي القربى الموصى لهم ، وفي لهم عائد على اليتامى والمساكين. أمر أن يقال لهم قول معروف. وقيل أيضا بتفريق الضمير ، ويكون المراد من أولي القربى الذين يرثون ، والمراد من اليتامى والمساكين الذين لا يرثون. فقوله : فارزقوهم راجع إلى أولي القربى. وقوله : لهم ، راجع إلى اليتامى والمساكين. وما قيل من تفريق الضمير تحكم لا دليل عليه.

والمقول المعروف فسره هنا ابن جبير أن يقول لهم : هذا المال لقوم غيب أو ليتامى صغار ، وليس لكم فيه حق. وقيل : الدعاء لهم بالرزق والغنى. وقيل : هو القول الدال على استقلال ما أرضخوهم به ، وروي عن ابن جبير. وقيل : العدة الحسنة بأن يقال : هؤلاء أيتام صغار ، فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم قاله : عطاء بن يسار ، عن ابن جبير. وقيل : المعروف ما يؤنس به من دعاء وغيره. وظاهر الكلام أن الأصناف الثلاثة يجمع لهم بين الرزق والقول المعروف. وقيل : إما أن يعطوا وإما أن يقال لهم قول معروف.

__________________

(١) سورة الجمعة : ٦٢ / ١١.

٥٢٧

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) ظاهر هذه الجملة أنه أمر بخشية الله واتقائه. والقول السديد من ينظر في حال ذرية ضعاف لتنبيهه على ذلك بكونه هو يترك ذرية ضعافا ، فيدخل في ذلك ولاة الأيتام ، وبه فسر ابن عباس. والذي ينهى المحتضر عن الوصية لذوي القربى ، ومن يستحق ويحسن له الإمساك على قرابته وأولاده. وبه فسر مقسم وحضرمي ، والذي يأمر المحتضر بالوصية لفلان وفلان ويذكره بأن يقدم لنفسه ، وقصده إيذاء ورثته بذلك. وبه فسر ابن عباس أيضا وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد. وقالت فرقة : المراد جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس ، وإن لم يكونوا في حجرهم. وأن يسددوا لهم القول كما يحبون أن يفعل بأولادهم. قال الزمخشري : ويجوز أن يتصل بما قبله ، وأن يكون آمرا للورثة بالشفقة على الذين يحضرون القسمة من ضعفاء أقاربهم واليتامى والمساكين ، وأن يتصور أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضائعين محتاجين ، هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخشية؟ انتهى كلامه. وهو ممكن أن يكون مرادا. قال القاضي : الأليق بما تقدم وما تأخر أن يكون من الآيات الواردة في الأيتام ، فجعل تعالى آخر ما دعاهم به إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ، ولا شك أن هذا من أقوى البواعث في هذا المقصود على الاحتياط فيه.

وقرأ الزهري والحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر : بكسر لام الأمر في : وليخش ، وفي : فليتقوا ، وليقولوا. وقرأ الجمهور : بالإسكان. ومفعول وليخش محذوف ، ويحتمل أن يكون اسم الجلالة أي الله ، ويحتمل أن يكون هذا الحذف على طريق الأعمال ، أعمل فليتقوا. وحذف معمول الأول ، إذ هو منصوب يجوز أن يحذف اقتصارا ، فكان حذفه اختصارا أجوز ، ويصير نحو قولك : أكرمت فبررت زيدا. وصلة الذين الجملة من لو وجوابها. قال ابن عطية : تقديره لو تركوا لخانوا. ويجوز حذف اللام في جواب لو تقول : لو قام زيد لقام عمرو ، ولو قام زيد قام عمرو ، انتهى كلامه. وقال الزمخشري : معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا وذلك عند احتضارهم ، خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل :

لقد زاد الحياة إليّ حبا

بناتي إنهنّ من الضعاف

أحاذر أن يرثن البؤس بعدي

وأن يشربن رنقا بعد صاف

٥٢٨

انتهى كلامه. وقال غيرهما : لو تركوا ، لو يمتنع بها الشيء لامتناع غيره ، وخافوا جواب لو انتهى.

فظاهر هذه النصوص أنّ لو هنا هي التي تكون تعليقا في الماضي ، وهي التي يعبر عنها سيبويه : بأنها حرف لما كان يقع لوقوع غيره. ويعبر غيره عنها بأنها حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره. وذهب صاحب التسهيل : إلى أنّ لو هنا شرطية بمعنى أن فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال ، والتقدير : وليخش الذين إن تركوا من خلفهم. قال : ولو وقع بعد لو هذه مضارع لكان مستقبل المعنى كما يكون بعد أن قال الشاعر :

لا يلفك الراجيك إلا مظهرا

خلق الكريم ولو تكون عديما

وكان قائل هذا توهم أنه لما أمروا بالخشية ، والأمر مستقبل ، ومتعلق الأمر هو موصول ، لم يصلح أن تكون الصلة ماضية على تقدير دالة على العدم الذي ينافي امتثال الأمر. وحسن مكان لو لفظ أن فقال : إنها تعليق في المستقبل ، وأنها بمعنى إن. وكأن الزمخشري عرض له هذا التوهم ، فلذلك قال : معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا ، فلم تدخل لو على مستقبل ، بل أدخلت على شارفوا الذي هو ماض أسند للموصول حالة الأمر. وهذا الذي توهموه لا يلزم في الصلة إلا إن كانت الصلة ماضية في المعنى ، واقعة بالفعل. إذ معنى : لو تركوا من خلفهم ، أي ماتوا فتركوا من خلفهم ، فلو كان كذلك للزم التأويل في لو أن تكون بمعنى : أن إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل من مات بالفعل. أما إذا كان ماضيا على تقدير يصح أن يقع صلة ، وأن يكون العامل في الموصول الفعل المستقبل نحو قولك : ليزرنا الذي لو مات أمس بكيناه. وأصل لو أن تكون تعليقا في الماضي ، ولا يذهب إلى أنه يكون في المستقبل بمعنى : إن ، إلا إذا دلّ على ذلك قرينة كالبيت المتقدّم. لأن جواب لو فيه محذوف مستقبل لاستقبال ما دل عليه وهو قوله : لا يلفك. وكذلك قوله :

قوم إذا حاربوا شدّة مآزرهم

دون النساء ولو بانت بإطهار

لدخول ما بعدها في حيز إذا ، وإذا للمستقبل. ولو قال قائل : لو قام زيد قام عمرو ، لتبادر إلى الذهن أنه تعليق في الماضي دون المستقبل. ومن خلفهم متعلق بتركوا. وأجاز أبو البقاء أن يكون في موضع الحال من ذرية.

وقرأ الجمهور ضعافا جمع ضعيف ، كظريف وظراف. وأمال فتحة العين حمزة ،

٥٢٩

وجمعه على فعال قياس. وقرأ ابن محيصن : ضعفا بضمتين ، وتنوين الفاء. وقرأت عائشة والسلمي والزهري وأبو حيوة وابن محيصن أيضا : ضعفاء بضم الضاد والمد ، كظريف وظرفاء ، وهو أيضا قياس. وقرىء ضعافى وضعافى بالإمالة ، نحو سكارى وسكارى.

وأمال حمزة خافوا للكسرة التي تعرض له في نحو : خفت. وانظر إلى حسن ترتيب هذه الأوامر حيث بدأ أولا بالخشية التي محلها القلب وهي الاحتراز من الشيء بمقتضى العلم ، وهي الحاملة على التقوى ، ثم أمر بالتقوى ثانيا وهي متسببة عن الخشية ، إذ هي جعل المرء نفسه في وقاية مما يخشاه. ثم أمر بالقول السديد ، وهو ما يظهر من الفعل الناشئ عن التقوى الناشئة عن الخشية. ولا يراد تخصيص القول السديد فقط ، بل المعنى على الفعل والقول السديدين. وإنما اقتصر على القول السديد لسهولة ذلك على الإنسان ، كأنه قيل : أقل ما يسلك هو القول السديد. قال مجاهد : يقولون للذين يفرقون المال زد فلانا وأعط فلانا. وقيل : هو الأمر بإخراج الثلث فقط. وقيل : هو تلقين المحتضر الشهادة. وقيل : الصدق في الشهادة. وقيل : الموافق للحق. وقيل : للعدل. وقيل : للقصد. وكلها متقاربة.

والسداد : الاستواء في القول والفعل. وأصل السد إزالة الاختلال. والسديد يقال في معنى الفاعل ، وفي معنى المفعول. ورجل سديد متردد بين المعنيين ، فإنه يسدّد من قبل متبوعه ، ويسدّد لتابعه.

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) نزلت في المشركين كانوا يأكلون أموال اليتامى ولا يورثونهم ولا النساء ، قاله : ابن زيد. وقيل : في حنظلة بن الشمردل ، ولي يتيما فأكل ماله. وقيل : في زيد بن زيد الغطفاني ولي مال ابن أخيه فأكله ، قاله : مقاتل. وقال الأكثرون : نزلت في الأوصياء الذين يأكلون من أموال اليتامى ما لم يبح لهم ، وهي تتناول كل أكل بظلم وإن لم يكن وصيا وانتصاب ظلما على أنه مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله ، وخبر ان هي الجملة من قوله : إنما يأكلون. وفي ذلك دليل على جواز وقوع الجملة المصدرة بأن خبرا ، لأن وفي ذلك خلاف. وحسن ذلك هنا تباعدهما يكون اسم إنّ موصولا ، فطال الكلام بذكر صلته. وفي بطونهم : معناه ملء بطونهم يقال : أكل في بطنه ، وفي بعض بطنه. كما قال :

كلوا في بعض بطنكم تعفوا

فإن زمانكم زمن خميص

٥٣٠

والظاهر : تعلق في بطونهم بيأكلون ، وقاله الحوفي. وقال أبو البقاء : هو في موضع الحال من قوله : نارا. ونبّه بقوله : في بطونهم على نقصهم ، ووصفهم بالشره في الأكل ، والتهافت في نيل الحرام بسبب البطن. وأين يكون هؤلاء من قول الشاعر؟!

تراه خميص البطن والزاد حاضر

وقول الشنفري :

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن

بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

وظاهر قوله : نارا أنهم يأكلون نارا حقيقة. وفي حديث أبي سعيد عن ليلة الإسراء قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل ، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صحرا من نار يخرج من أسافلهم ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وبأكلهم النار حقيقة» قالت طائفة : وقيل : هو مجاز ، لما كان أكل مال اليتيم يجر إلى النار والتعذيب ، بها عبر عن ذلك بالأكل في البطن ، ونبه على الحامل على أخذ المال وهو البطن الذي هو أخس الأشياء التي ينتفع بالمال لأجلها ، إذ مآل ما يوضع فيه إلى الاضمحلال والذهاب في أقرب زمان. ولذلك قال : «ما ملأ الإنسان وعاء شرا من بطنه».

وقرأ الجمهور : وسيصلون مبنيا للفاعل من الثلاثي. وقرأ ابن عامر وأبو بكر : بضم الياء وفتح اللام مبنيا للمفعول من الثلاثي. وابن أبي عبلة : بضم الياء وفتح الصاد واللام مشدّدة مبنيا للمفعول. والصلا من : التسخن بقرب النار ، والإحراق إتلاف الشيء بالنار. وعبر بالصلا بالنار عن العذاب الدائم بها ، إذ النار لا تذهب ذواتهم بالكلية ، بل كما قال : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (١) وهذا وعيد عظيم على هذه المعصية. وجاء يأكلون بالمضارع دون سين الاستقبال ، وسيصلون بالسين ، فإن كان الأكل للنار حقيقة فهو مستقبل ، واستغنى عن تقييده بالسين بعطف المستقبل عليه. وإن كان مجازا فليس بمستقبل ، إذ المعنى : يأكلون ما يجر إلى النار ويكون سببا إلى العذاب بها. ولما كان لفظ نار مطلقا في قوله : إنما يأكلون في بطونهم نارا ، قيد في قوله سعيرا ، إذ هو الجمر المتقد.

وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والفصاحة. الطباق في : واحدة وزوجها ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٥٦.

٥٣١

وفي غنيا وفقيرا ، وفي : قل أو كثر. والتكرار في : اتقوا ، وفي : خلق ، وفي : خفتم ، وأن لا تقسطوا ، وأن لا تعدلوا من جهة المعنى ، وفي اليتامى ، وفي النساء ، وفي فادفعوا إليهم أموالهم ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم ، وفي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ، وفي قوله : وليخش ، وخافوا من جهة المعنى على قول من جعلهما مترادفين ، وإطلاق اسم المسبب على السبب في : ولا تأكلوا وشبهه لأن الأخذ سبب للأكل. وتسمية الشيء باسم ما كان عليه في : وآتوا اليتامى ، سماهم يتامى بعد البلوغ. والتأكيد بالاتباع في : هنيئا مريئا وتسمية الشيء باسم ما يؤول اليه في : نصيب مما ترك ، وفي نارا على قول من زعم أنها حقيقة. والتجنيس المماثل في : فادفعوا فإذا دفعتم ، والمغاير في : وقولوا لهم قولا. والزيادة للزيادة في المعنى في : فليستعفف. وإطلاق كل على بعض في : الأقربون ، إذ المراد أرباب الفرائض. وإقامة الظرف المكاني مقام الزماني في : من خلفهم ، أي من بعد وفاتهم. والاختصاص في : بطونهم ، خصها دون غيرها لأنها محل للمأكولات. والتعريض في : في بطونهم ، عرض بذكر البطون لخستهم وسقوط هممهم والعرب تذم بذلك قال :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وتأكيد الحقيقة بما يرفع احتمال المجاز بقوله : في بطونهم. رفع المجاز العارض في قوله : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) (١) وهذا على قول من حمله على الحقيقة ، ومن حمله على المجاز فيكون عنده من ترشيح المجاز ، ونظير كونه رافعا للمجاز قوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (٢) ، وقوله : (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (٣). والحذف في عدة مواضع.

يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١)

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٢.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٧٩.

٥٣٢

وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لما أبهم في قوله : (نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) (١) في المقدار والأقربين ، بيّن في هذه الآية المقادير ومن يرث من الأقربين ، وبدأ بالأولاد وإرثهم من والديهم ، كما بدأ في قوله : للرّجال نصيب مما ترك الوالدان بهم. وفي قوله : يوصيكم الله في أولادكم إجمال أيضا بينه بعد. وبدأ بقوله : للذكر ، وتبين ما له دلالة على فضله. وكان تقديم الذكر أدل على فضله من ذكر بيان نقص الأنثى عنه ، ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث ، فكفاهم إن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن إذ هن يدلين بما يدلون به من الولدية.

وقد اختلف القول في سبب النزول ، ومضمن أكثر تلك الأقاويل : أنهم كانوا لا يورّثون البنات كما تقدم ، فنزلت تبيينا لذلك ولغيره. وقيل : نزلت في جابر إذ مرض ، فعاده الرسول فقال : كيف أصنع في مالي؟ وقيل : كان الإرث للولد والوصية للوالدين ، فنسخ بهذه الآيات. قيل : معنى يوصيكم يأمركم. كقوله : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) (٢) وعدل

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٧.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٥١.

٥٣٣

إلى لفظ الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام ، وطلب حصوله سرعة ، وقيل : يعهد إليكم كقوله : (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) (١) وقيل : يبين لكم في أولادكم مقادير ما أثبت لهم من الحق مطلقا بقوله للرّجال وأولوا الأرحام (٢) وقيل : يفرض لكم. وهذه أقوال متقاربة.

والخطاب في : يوصيكم ، للمؤمنين ، وفي أولادكم : هو على حذف مضاف. أي : في أولاد موتاكم ، لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده ويفرض عليه ذلك ، وإن كان المعنى بيوصيكم يبين جاز أن يخاطب الحي ، ولا يحتاج إلى حذف مضاف. والأولاد يشمل الذكور والإناث ، إلا أنه خص من هذا العموم من قام به مانع الإرث ، فأما الرّق فمانع بالإجماع ، وأما الكفر فكذلك ، إلا ما ذهب إليه معاذ من : أن المسلم يرث الكافر. وأما القتل فإن قتل أباه لم يرث ، وكذا إذا قتل جده وأخاه أو عمه ، لا يرث من الدية ، هذا مذهب ابن المسيب ، وعطاء ، ومجاهد ، والزهري ، والأوزاعي ، ومالك ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وابن المنذر. وقال أبو حنيفة وسفيان وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد : لا يرث من المال ، ولا من الدية شيئا. واستثنى النخعي من عموم أولادكم الأسير ، فقال : لا يرث.

وقال الجمهور : إذا علمت حياته يرث ، فإن جهلت فحكمه حكم المفقود. واستثنى من العموم الميراث من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما الجنين فإن خرج ميتا لم يرث ، وإن خرج حيا فقال القاسم ، وابن سيرين ، وقتادة ، والشعبي ، والزهري ، ومالك ، والشافعي : يستهل صارخا ، ولو عطس أو تحرك أو صاح أو رضع أو كان فيه نفس. وقال الأوزاعي وسفيان والشافعي : إذا عرفت حياته بشيء من هذه ، وإن لم يستهل فحكمه حكم الحي في الإرث. وأما الجنين في بطن أمه فلا خلاف في أنه يرث ، وإنما الخلاف في قسمة المال الذي له فيه سهم. وذلك مذكور في كتب الفقه. وأما الخنثى فداخل في عموم أولادكم ، ولا خلاف في توريثه ، والخلاف فيما يرث وفيما يعرف به أنه خنثى ، وذلك مذكور في كتب الفقه. وأما المفقود فقال أبو حنيفة : لا يرث في حال فقده من أحد شيئا.

وقال الشافعي : يوقف نصيبه حتى يتحقق موته ، وهو ظاهر قول مالك : وأما المجنون والمعتوه والسفيه فيرثون إجماعا ، والولد حقيقة في ولد الصلب ويستعمل في ولد الابن ، والظاهر أنه مجاز. إذ لو كان حقيقة بطريق الاشتراك أو التواطؤ لشارك ولد الصلب مطلقا ،

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ١٣.

(٢) إشارة إلى الآية ٧ من سورة النساء.

٥٣٤

والحكم أنه لا يرث إلا عند عدم ولد الصلب ، أو عند وجود من لا يأخذ جميع الميراث منهم.

وهذا البحث جار في الأب والجد والأم والجدة ، والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة لاتفاق الصحابة على أنّ الجد ليس له حكم مذكور في القرآن ، ولو كان اسم الأب يتناوله حقيقة لما صح هذا الاتفاق. ولو أوصى لولد فلان فعند الشافعي لا يدخل ولد الولد ، وعند مالك يدخل ، وعند أبي حنيفة يدخل إن لم يكن لفلان ولد صلب.

وللذكر : إما أن يقدّر محذوف أي : للذكر منهم ، أو تنوب الألف واللام عن الضمير على رأي من يرى ذلك التقدير لذكرهم. ومثل : صفة لمبتدأ محذوف تقديره حظ مثل.

قال الفراء : ولم يعمل يوصيكم في مثل إجراء له مجرى القبول في حكاية الجمل ، فالجملة في موضع نصب بيوصيكم. وقال الكسائي : ارتفع مثل على حذف أن تقديره : أنّ للذكر. وبه قرأ ابن أبي عبلة وأريد بقوله : للذكر مثل حظ الأنثيين حالة اجتماع الذكر والأنثيين فله سهمان ، كما أن لهما سهمين. وأما إذا انفرد الابن فيأخذ المال أو البنتان ، فسيأتي حكم ذلك. ولم تتعرض الآية للنص على هاتين المسألتين.

وقال أبو مسلم الأصبهاني : نصيب الذكر هنا هو الثلثان ، فوجب أن يكون نصيب الأنثيين. وقال أبو بكر الرازي : إذا كان نصيبها مع الذكر الثلث ، فلا أن يكون نصيبها مع أنثى الثلث أولى ، لأن الذكر أقوى من الأنثى. وقيل : حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى ، وإلا لزم حظ الذكر مثل حظ الأنثى ، وهو خلاف النص ، فوجب أن يكون حظهما الثلثين ، لأنه لا قائل بالفرق. فهذه وجوه ثلاثة مستنبطة من الآية تدل على أن فرض البنتين الثلثان. ووجه رابع من القياس الجلي وهو أنه لم يذكر هنا حكم الثنتين ، وذكر حكم الواحدة وما فوق الثنتين. وفي آخر السورة ذكر حكم الأخت الواحدة ، وحكم الأختين ، ولم يذكر حكم الأخوات ، فصارت الآيتان مجملتين من وجه ، مبينتين من وجه.

فنقول : لما كان نصيب الأختين الثلثين ، كانت البنتان أولى بذلك لأنهما أقرب إلى الميت. ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزاد على الثلثين ، وجب أن لا يزاد نصيب الأخوات على ذلك ، لأن البنت لما كانت أشدّ اتصالا بالميت امتنع جعل الأضعف زائدا على الأقوى. وقال الماتريدي : في الآية دليل على أن المال كله للذكر إذا لم يكن معه أنثى ، لأنه جعل للذكر مثل ما للأنثيين. وقد جعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر

٥٣٥

بقوله : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) (١) فدل على أن للذكر حالة الانفراد مثلي ذلك ومثلا النصف ، هو الكل انتهى.

وقرأ الحسن واب أبي عبلة : يوصيكم بالتشديد. قرأ الحسن ونعيم بن ميسرة والأعرج : ثلثا وثلث والربع والسدس والثمن بإسكان الوسط ، والجمهور بالضم ، وهي لغة الحجاز وبني أسد ، قاله : النحاس من الثلث إلى العشر. وقال الزجاج هي لغة واحدة ، والسكون تخفيف ، وتقدير الآية : يوصيكم الله في شأن أولادكم الوارثين للذكر منهم حظ مثل حظ الأنثيين حالة اجتماعهم مما ترك الموروثون أن انفرد بالإرث ، فإن كان معهما ذو فرض كان ما يبقى من المال لهما ، والفروض هي المذكورة في القرآن وهي ستة : النصف ، والربع ، والثمن ، والثلثان ، والثلث ، والسدس.

(فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) ظاهر هذا التقسيم أنّ ما زاد على الثنتين من الأولاد يرثن الثلثين مما ترك موروثهما ، وظاهر السياق انحصار الوارث فيهن. ولما كان لفظ الأولاد يشمل الذكور والإناث ، وقصد هنا بيان حكم الإناث ، أخلص الضمير للتأنيث. إذ الإناث أحد قسمي ما ينطلق عليه الأولاد ، فعاد الضمير على أحد القسمين ، وكأن قوله تعالى : (فِي أَوْلادِكُمْ) (٢) في قوة قوله : (فِي أَوْلادِكُمْ) الذكور والإناث. وإذا كان الضمير قد عاد على جمع التكسير العاقل المذكر بالنون في نحو قوله : ورب الشياطين ومن أضللن كما يعود على الإناث كقوله : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) (٣) فلأن يعود على جمع التكسير العاقل الجامع للمذكر والمؤنث ، باعتبار أحد القسمين الذي هو المؤنث أولى ، واسم كان الضمير العائد على أحد قسمي الأولاد ، والخبر نساء بصفته الذي هو فوق اثنتين ، لأنه لا تستقل فائدة الأخبار بقوله : نساء وحده ، وهي صفة للتأكيد ترفع أن يراد بالجمع قبلهما طريق المجاز ، إذ قد يطلق الجمع ويراد به التثنية. وأجاز الزمخشري أن يكون نساء خبرا ثانيا ، لكان ، وليس بشيء ، لأن الخبر لا بد أن تستقل به فائدة الإسناد. ولو سكت على قوله فإن كن نساء لكان نظير ، أن كان الزيدون رجالا ، وهذا ليس بكلام. وقال بعض البصريين : التقدير وإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين. وقدره الزمخشري : البنات أو المولودات.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : هل يصح أن يكون الضميران في كن وكانت مبهمين ، ويكون نساء وواحدة تفسيرا لهما على أن كان تامّة؟ (قلت) : لا أبعد ذلك انتهى.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١١.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٣.

٥٣٦

ونعني بالإبهام أنهما لا يعودان على مفسر متقدّم ، بل يكون مفسرهما هو المنصوب بعدهما ، وهذا الذي لم يبعده الزمخشري هو بعيد ، أو ممنوع البتة. لأن كان ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمرا يفسره ما بعده ، بل هو مختص من الأفعال بنعم وبئس وما حمل عليهما ، وفي باب التنازع على ما قرر في النحو. ومعنى فوق اثنتين : أكثر من اثنتين بالغات ما بلغن من العدد ، فليس لهن إلا الثلثان. ومن زعم أن معنى قوله : نساء فوق اثنتين ، اثنتان فما فوقهما ، وأنّ قوة الكلام تقتضي ذلك كابن عطية ، أو أنّ فوق زائدة مستدلا بأن فوق قد زيدت في قوله : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) (١) فلا يحتاج في ردّ ما زعم إلى حجة لوضوح فساده. وذكروا أنّ حكم الثنتين في الميراث الثلثان كالبنات. قالوا : ولم يخالف في ذلك إلا ابن عباس ، فإنه يرى لهما النصف إذا انفردا كحالهما إذا اجتمعا مع الذكر ، وما احتجوا به تقدّم ذكره. وورد في الحديث في قصة أوس بن ثابت : «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى البنتين الثلثين» وبنات الابن أو الأخوات الأشقاء أو لأب كبنات الصلب في الثلثين إذا انفردن عن من يحجبهن.

(وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) قرأ الجمهور واحدة بالنصب على أنه خبر كان ، أي : وإن كانت هي أي البنت فذة ليس معها أخرى. وقرأ نافع واحدة بالرفع على إن كان تامة وواحدة الفاعل. وقرأ السلمي : النصف بضم النون ، وهي قراءة عليّ وزيد في جميع القرآن. وتقدّم الخلاف في ضم النون وكسرها في (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) (٢) في البقرة. وبنت الابن إذا لم تكن بنت صلب ، والأخت الشقيقة أو لأب ، والزوج إذا لم يكن للزوجة ولد ، ولا ولد ابن كبنت الصلب لكل منهم النصف.

(وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) لما ذكر الفروع ومقدار ما يرثون أخذ في ذكر الأصول ومقدار ما يرثون ، فذكر أنّ الميت يرث منه أبواه كل واحد السدس إن كان للميت ولد ، وأبواه هما : أبوه وأمه. وغلب لفظ الأب في التثنية كما قيل : القمران ، فغلب القمر لتذكيره على الشمس ، وهي تثنية لا تقاس. وشمل قوله : وله ولد الذكر والأنثى ، والواحد والجماعة.

وظاهر الآية أن فرض الأب السدس إذا كان للميت ولد أي ولد كان ، وباقي المال للولد ذكرا كان أو أنثى. والحكم عند الجمهور أنه لو كان الولد أنثى أخذ السدس فرضا ،

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ١٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٧.

٥٣٧

والباقي تعصيبا. وتعلقت الروافض بظاهر لفظ ولد فقالوا : السدس لكل واحد من أبويه ، والباقي للبنت أو الابن ، إذ الولد يقع على : الذكر ، والأنثى ، والجد ، وبنات الابن مع البنت ، والأخوات لأب مع أخت لأب وأم ، والواحدة من ولد الأم ، والجدات كالأب مع البنت في السدس. وقال مالك : لا ترث جدة أبي الأب. وقال ابن سيرين : لا ترث أم الأم.

والضمير في لأبويه عائد على ما عاد عليه الضمير في ترك ، وهو ضمير الميت الدال عليه معنى الكلام وسياقه. ولكل واحد منهما بدل من أبويه ، ويفيد معنى التفصيل. وتبيين أن السدس لكل واحد ، إذ لو لا هذا البدل لكان الظاهر اشتراكهما في السدس ، وهو أبلغ وآكد من قولك : لكل واحد من أبويه السدس ، إذ تكرر ذكرهما مرتين : مرة بالإظهار ، ومرة بالضمير العائد عليهما. قال الزمخشري : والسدس مبتدأ ، وخبره لأبويه ، والبدل متوسط بينهما انتهى. وقال أبو البقاء : السدس رفع بالابتداء ، ولكل واحد منهما الخبر ، ولكل بدل من الأبوين ، ومنهما نعت لواحد. وهذا البدل هو بدل بعض من كل ، ولذلك أتى بالضمير ، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء ، وهما لعين واحدة ، لجواز أبواك يصنعان كذا ، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا. بل تقول : يصنع كذا. وفي قول الزمخشري : والسدس مبتدأ وخبره لأبويه نظر ، لأنّ البدل هو الذي يكون الخبر له دون المبدل منه ، كما مثلناه في قولك : أبواك كل واحد منهما يصنع كذا ، إذا أعربنا كلا بدلا. وكما تقول : إنّ زيدا عينه حسنة ، فلذلك ينبغي أن يكون إذا وقع البدل خبرا فلا يكون المبدل منه هو الخبر ، واستغنى عن جعل المبدل منه خبرا بالبدل كما استغنى عن الاخبار عن اسم إن وهو المبدل منه بالأخبار عن البدل. ولو كان التركيب : ولأبويه السدسان لا وهم التنصيف أو الترجيح في المقدار بين الأبوين ، فكان هذا التركيب القرآني في غاية النصية والفصاحة ، وظاهر قوله : ولأبويه ، أنهما اللذان ولدا الميت قريبا لا جداه ، ولا من علا من الأجداد. وزعموا أن قوله : أولادكم ، يتناول من سفل من الأبناء. قالوا : لأنّ الأبوين لفظ مثنى لا يحتمل العموم ولا الجمع ، بخلاف قوله : في أولادكم. وفيما قالوه : نظروهما عندي سواء في الدلالة ، إن نظر إلى حمل اللفظ على حقيقته فلا يتناول إلا الأبناء الذين ولدهم الأبوان قريبا ، لا من سفل كالأبوين لا يتناول إلا من ولداه قريبا ، لا من علا. أو إلى حمل اللفظ على مجازه ، فيشترك اللفظان في ذلك ، فينطلق الأبوان على من ولداه قريبا. ومن علا كما ينطلق الأولاد على من ولداهم قريبا ومن سفل يبين حمله على الحقيقة في الموضعين أنّ ابن الابن

٥٣٨

لا يرث مع الابن ، وأن الجدة لا يفرض لها الثلث بإجماع ، فلم ينزل ابن الابن منزلة الابن مع وجوده ، ولا الجدة منزلة الأم.

(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) قوله : فإن لم يكن له ولد قسيم لقوله : (إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) (١) وورثه أبواه دليل على أنهما انفردا بميراثه ليس معهما أحد من أهل السهام ، لا ولد ولا غيره ، فيكون قوله : وورثه أبواه حكما لهما بجميع المال. فإذا خلص للأم الثلث كان الثاني وهو الثلثان للأب ، فذكر القسم الواحد يدل على الآخر كما تقول : هذا المال لزيد وعمرو ، لزيد منه الثلث ، فيعلم قطعا أن باقيه وهو الثلثان لعمرو. فلو كان معهما زوج كان للأم السدس وهو : الثلث بالإضافة إلى الأب.

وقال ابن عباس وشريح : للأم الثلث من جميع المال مع الزوج ، والنصف للزوج ، وما بقي للأب ، فيكون معنى : وورثه أبواه منفردين أو مع غير ولد ، وهذا مخالف لظاهر قوله : وورثه أبواه. إذ يدل على أنهما انفردا بالإرث ، فيتقاسمان للذكر مثل حظ الأنثيين. ولا شك أن الأب أقوى في الإرث من الأم ، إذ يضعف نصيبه على نصيبها إذ انفردا بالإرث ، ويرث بالفرض وبالتعصيب وبهما. وفي قول ابن عباس وشريح : يكون لها مع الزوج والأب مثل حظ الذكرين ، فتصير أقوى من الأب ، وتصير الأنثى لها مثلا حظ الذكر ، ولا دليل على ذلك من نص ولا قياس.

وفي إقامة الجد مقام الأب خلاف. فمن قال : أنه أب وحجب به الإخوة جماعة منهم : أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، ولم يخالفه أحد من الصحابة في أيام حياته. وقال بمقالته بعد وفاته : أبي ومعاذ ، وأبو الدرداء ، وابن عباس ، وابن الزبير عبد الله ، وعائشة ، وعطاء ، وطاووس ، والحسن ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وإسحاق ، وأبو ثور. وذهب علي ، وزيد ، وابن مسعود : إلى توريث الجد مع الإخوة ، ولا ينقص من الثلث مع الإخوة للأب والأم أو للأم أو للأب ، إلا مع ذوي الفروض ، فإنه لا ينقص معهم من السدس شيئا في قول : زيد ، وهو قول : مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، ومحمد ، وأبي يوسف. كان عليّ يشرك بين الجد والأخوة في السدس ، ولا ينقصه من السدس شيئا مع ذوي الفروض وغيرهم ، وهو قول ابن أبي ليلى. وذهب الجمهور : إلى أنّ الجد يسقط بني الإخوة من الميراث ، إلا ما روي عن الشعبي عن علي : أنه أجرى بين الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١١.

٥٣٩

وأما أم الأم فتسمى أمّا مجازا ، لكن لا يفرض لها الثلث إجماعا ، وأجمعوا على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم ، وعلى أن الأم تحجب أمها وأم الأب ، وعلى أن الأب لا يحجب أم الأم. واختلفوا في توريث الجدة وابنتها. فروي عن عثمان وعلي وزيد : أنها لا ترث وابنتها حية ، وبه قال : الأوزاعي ، والثوري ، ومالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي. وروي عن عثمان وعلي أيضا ، وعمرو ابن مسعود وأبي موسى وجابر : أنها ترث معها. وقال به : شريك ، وعبيد الله بن الحسن ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن المنذر. وقال : كما أن الجد لا يحجبه إلا الأب ، كذلك الجدة لا يحجبها إلا الأم.

وقرأ الإخوان : فلأمه هنا موضعين ، وفي القصص (فِي أُمِّها) (١) وفي الزخرف : في (أُمِّ الْكِتابِ) (٢) بكسر الهمزة ، لمناسبة الكسرة والياء. وكذا قرأ من (بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) (٣) في النحل والزمر والنجم ، أو (بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ) (٤) في النور. وزاد حمزة : في هذه كسر الميم اتباعا لكسرة الهمزة وهذا في الدرج. فإذا ابتدأ بضم الهمزة ، وهي قراءة الجماعة درجا وابتداء. وذكر سيبويه أن كسر الهمزة من أم بعد الياء ، والكسر لغة. وذكر الكسائي والفراء : أنها لغة هوازن وهذيل.

(فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ، المعنى : أنه إذا كان أب وأم وإخوة ، كان نصيب الأم السدس ، وحطها الإخوة من الثلث إلى السدس ، وصار الأب يأخذ خمسة الأسداس. وذهب ابن عباس إلى أن الإخوة يأخذون ما حجبوا الأم عنه وهو السدس ، ولا يأخذه الأب. وروي عنه : أن الأب يأخذه لا الإخوة ، لقول الجماعة من العلماء. قال قتادة : وإنما أخذه الأب دونهم لأنه يمونهم ويلي نكاحهم والنفقة عليهم. وظاهر لفظ إخوة اختصاصه بالجمع المذكر ، لأن إخوة جمع أخ. وقد ذهب إلى ذلك طائفة فقالوا : الإخوة تحجب الأم عن الثلث دون الأخوات ، وعندنا يتناول الجمعين على سبيل التغليب. فإذن يصير المراد بقوله : إخوة ، مطلق الإخوة ، أي : أشقاء ، أو لأب ، أو لأم ، ذكورا أو إناثا ، أو الصنفين. وظاهر لفظ إخوة ، الجمع. وأن الذين يحطون الأم إلى السدس ثلاثة فصاعدا ، وهو قول ابن عباس : الأخوات عنده في حكم الواحد لا يحطان كما لا يحط ، فالجمهور على أن الأخوين حكمهما في الحط حكم الثلاث فصاعدا.

ومنشأ الخلاف : هل الجمع أقله اثنان أو ثلاثة؟ وهي مسألة يبحث فيها في أصول

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ١٠ ، ١٢.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٤.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ٧٨ ، وسورة الزمر : ٣٩ / ٦.

(٤) سورة النور : ٢٤ / ٦١.

٥٤٠