البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

جمع رموز ، كرسل ورسول ، وعلى أنه مصدر كرمز جاء على فعل ، وأتبعت العين الفاء كاليسر واليسر.

وقرأ الأعمش : رمزا ، بفتح الراء والميم ، وخرج على أنه جمع رامز ، كخادم وخدم ، وانتصابه إذا كان جمعا على الحال من الفاعل ، وهو الضمير في تكلم ، ومن المفعول وهو : الناس. كما قال الشاعر :

فلئن لقيتك خاليين لتعلمن

أيىّ وأيّك فارس الأحزاب

أي : إلّا مترامزين كما يكلم الأخرس الناس ويكلمونه.

وفي قوله : (إِلَّا رَمْزاً) دلالة على أن الإشارة تتنزل منزلة الكلام ، وذلك موجود في كثير من السنة. وفي الحديث : «أين الله». فأشارت برأسها إلى السماء ، فقال : «أعتقها فإنها مؤمنة». فأجاز الإسلام بالإشارة وهو أصل الديانة التي تحقن الدم وتحفظ المال وتدخل الجنة ، فتكون الإشارة عامة في جميع الديانات ، وهو قول عامة الفقهاء.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) قيل : الذكر هنا هو بالقلب ، لأنه منع من الكلام. وقيل : باللسان لأنه منع من الكلام مع الناس ولم يمنع من الذكر. وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : واذكر عطاء ربك وإجابته لدعائك. وقال محمد بن كعب القرظي : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا ، وللرجل في الحرب. وقد قال تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) (١) وأمر بكثرة الذكر ليكثر ذكر الله له بنعمه وألطافه ، كما قال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (٢).

وانتصاب : كثيرا ، على أنه نعت لمصدر محذوف ، أو منصوب على الحال من ضمير المصدر المحذوف الدال عليه : اذكروا ، على مذهب سيبويه.

(وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي : نزه الله عن سمات النقص بالنطق باللسان بقولك : سبحان الله. وقيل : معنى وسبح وصلّ ، ومنه : كان يصلي سبحة الضحى أربعا ، فلو لا أنه كان من المسبحين على أحد الوجهين.

والظاهر أنه أمر بتسبيح الله في هذين الوقتين : أول الفجر ، ووقت ميل الشمس

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٤٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٥٢.

١٤١

للغروب ، قاله مجاهد. وقال غيره : يحتمل أن يكون أراد بالعشيّ الليل ، وبالإبكار النهار ، فعبر بجزء كل واحد منهما عن جملته ، وهو مجاز حسن.

ومفعول : وسبح ، محذوف للعلم به ، لأن قبله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) أي : وسبح ربك. و : الباء في : بالعشي ، ظرفية أي : في العشي.

وقرىء شاذا والابكار ، بفتح الهمزة ، وهو جمع بكر بفتح الباء والكاف ، تقول : أتيتك بكرا ، وهو مما يلتزم فيه الظرفية إذا كان من يوم معين ونظيره : سحر وأسحار ، وجبل وأجبال. وهذه القراءة مناسبة للعشي على قول من جعله جمع عشية إذ يكون فيها تقابل من حيث الجمعية ، وكذلك هي مناسبة إذا كان العشي مفردا ، وكانت الألف واللام فيه للعموم ، كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (١) وأهلك الناس الدينار الصفر.

وأما على قراءة الجمهور : والإبكار ، بكسر الهمزة ، فهو مصدر ، فيكون قد قابل العشي الذي هو وقت ، بالمصدر ، فيحتاج إلى حذف أي : بالعشي ووقت الإبكار. والظاهر في : بالعشي والإبكار ، أن الألف واللام فيهما للعموم ، ولا يراد به عشى تلك الثلاثة الأيام ولا وقت الإبكار فيها.

وقال الراغب : لم يعن التسبيح طرفي النهار فقط ، بل إدامة العبادة في هذه الأيام. وقال غيره : يدل على أن المراد بالتسبيح الصلاة ، ذكره العشي والإبكار فكأنه قال : اذكر ربك في جميع هذه الأيام والليالي ، وصل طرفي النهار. انتهى.

ويتعلق : بالعشي ، بقوله : وسبح ، ويكون على إعمال الثاني وهو الأولى ، إذ لو كان متعلقا بقوله : واذكر ربك ، لأضمر في الثاني ، إذ لا يجوز حذفه إلا في ضرورة.

قيل : أو في قليل من الكلام ، ويحتمل أن لا يكون من باب الإعمال ، فيكون الأمر بالذكر غير مقيد بهذين الزمانين.

قيل : وتضمنت هذه الآية من فنون الفصاحة أنواعا : الزيادة في البناء في قوله : هنالك ، وقد ذكرت فائدته و : التكرار ، في ربه ، قال رب ، وفي أن الله يبشرك ، وبكلمة من الله. وفي آية قال : آيتك ، وفي : يكون لي غلام وكانت وتأنيث المذكر حملا على اللفظ

__________________

(١) سورة العصر : ١٠٣ / ٢.

١٤٢

وفي : ذرية طيبة ، و : الإسناد المجازي في : وقد بلغني الكبر ، والسؤال والجواب : قال رب أنى؟ قال كذلك قال رب اجعل لي آية. قال : آيتك.

قال أرباب الصناعة : أحسن هذا النوع ما كثرت فيه القلقلة والحذف في مواضع.

وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)

القلم : معروف وهو الذي يكتب به ، وجمعه أقلام ويقع على السهم الذي يقترع به ، وهو فعل بمعنى مفعول لأنه يقلم أي : يبرى ويسوى. وقيل : هو مشتق من القلامة ، وهي نبت ضعيف لترقيقه ، والقلامة أيضا ما سقط من الظفر إذا قلم ، وقلمت أظفاره أخذت منها وسويتها قال زهير :

١٤٣

لدى أسد شاكي السلاح مقذف

له لبد أظفاره لم تقلم

وقال بعض المولدين :

يشبه بالهلال وذاك نقص

قلامة ظفره شبه الهلال

الوحي : إلقاء المعنى في النفس في خفاء ، فقد يكون بالملك للرسل وبالإلهام كقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (١) وبالإشارة كقوله.

لأوحت إلينا والأنامل رسلها

(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا) (٢) وبالكتابة : قال زهير :

أتى العجم والآفاق منه قصائد

بقين بقاء الوحي في الحجر الأصمّ

والوحي : الكتاب قال :

فمدافع الرّيان عرّى رسمها

خلقا كما ضمن الوحيّ سلامها

وقيل : الوحي جمع : وحي ، وأما الفعل فيقال أوحى ووحي.

المسيح : عبراني معرب ، وأصله بالعبراني مشيحا ، بالشين عرب بالسين كما غيرت في موشى ، فقيل : موسى ، قاله أبو عبيد. وقال الزمخشري : ومعناه المبارك ، كقوله (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) (٣) وهو من الألقاب المشرّفة ، كالصدّيق ، والفاروق ، انتهى. وقيل : المسيح عربي ، واختلف : أهو مشتق من السياحة فيكون وزنه مفعلا؟ أو من المسح فيكون وزنه فعيلا؟ وهل يكون بمعنى مفعول أو فاعل خلاف ، ويتبين في التفسير لم سمي بذلك.

الكهل : الذي بلغ سن الكهولة وآخرها ستون. وقيل : خمسون. وقيل : اثنان وخمسون ، ثم يدخل سن الشيخوخة.

واختلف في أوّلها فقيل : ثلاثون وقيل : اثنان وثلاثون. وقيل : ثلاثة وثلاثون. وقيل : خمسة وثلاثون وقيل : أربعون عاما.

وهو من اكتهل النبات إذا قوي وعلا ، ومنه : الكاهل ، وقال ابن فارس : اكتهل الرجل وخطه الشيب ، من قولهم : اكتهلت الروضة إذا عمها النور ، ويقال للمرأة : كهلة. انتهى.

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٦٨.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ١١.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٣١.

١٤٤

ونقل عن الأئمة في ترتيب سن المولود وتنقل أحواله : أنه في الرحم : جنين ، فإذا ولد : فوليد ، فإذا لم يستتم الأسبوع : فصديع ، وإذا دام يرضع : فرضيع ، وإذا فطم : ففطيم ، وإذا لم يرضع : فجحوش ، فإذا دب ونما : فدارج ، فإذا سقطت رواضعه : فمثغور ، فإذا نبتت بعد السقوط : فمثغر ، بالتاء والثاء. فإذا كان يجاوز العشر : فمترعرع وناشيء ، فإذا كان يبلغ الحلم : فيافع ، ومراهق ، فإذا احتلم : فمحزور ، وهو في جميع هذه الأحوال : غلام. فإذا اخضر شاربه وسال عذاره : فباقل ، فإذا صار ذاقنا : ففتى وشارخ ، فإذا كملت لحيته : فمجتمع ، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين : فهو شاب ، ثم هو كهل : إلى أن يستوفي الستين. هذا هو المشهور عند أهل اللغة.

الطين : معروف ، ويقال طانه الله على كذا ، وطامه بابدال النون ميما ، جبله وخلقه على كذا ، ومطين لقب لمحدث معروف.

الهيئة : الشكل والصورة ، وأصله مصدر يقال : هاء الشيء بهاء هيأ وهيئة إذا ترتب واستقر على حال ما ، وتعديه بالتضعيف ، فتقول : هيأته ، قال (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ) (١).

النفخ : معروف.

الإبراء : إزالة العلة والمرض ، يقال : برىء الرجل وبرأ من المرض ، وأما من الذنب ومن الدّين فبريء.

الكمه : العمى يولد به الإنسان وقد يعرض ، يقال : كمه يكمه كمها : فهو أكمه. وكمهتها أنا أعميتها قال سويد :

كمهت عيناه حتى ابيضتا

وقال رؤبة.

فارتد عنها كارتداد الأكمه

البرص : داء معروف وهو بياض يعتري الجلد ، يقال منه : برص فهو أبرص ، ويسمى القمر أبرص لبياضه ، والوزغ سام أبرص للبياض الذي يعلو جلده.

ذخر : الشيء يذخره خبأه ، والذخر المذخور قال :

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١٦.

١٤٥

لها أشارير من لخم تثمره

من الثعالي وذخر من أرانبها

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) لما فرغ من قصة زكريا ، وكان قد استطرد من قصة مريم إليها ، رجع إلى قصة مريم ، وهكذا عادة أساليب العرب ، متى ذكروا شيئا استطردوا منه إلى غيره ثم عادوا إلى الأول إن كان لهم غرض في العود إليه ، والمقصود تبرئة مريم عن ما رمتها به اليهود ، وإظهار استحالة أن يكون عيسى إلها ، فذكر ولادته.

وظاهر قوله الملائكة أنه جمع من الملائكة. وقيل : المراد جبريل ومن معه من الملائكة ، لأنه نقل أنه : لا ينزل لأمر إلّا ومعه جماعة من الملائكة. وقيل : جبريل وحده.

وقرأ ابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو : وإذ قال الملائكة ، وفي نداء الملائكة لها باسمها تأنيس لها وتوطئة لما تلقيه إليها ومعمول القول الجملة المؤكدة : بإن.

والظاهر مشافهة الملائكة لها بالقول قال الزمخشري : روي أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا ، أو إرهاصا لنبوّة عيسى. انتهى. يعني : بالارهاص التقدّم ، والدلالة على نبوّة عيسى وهذا مذهب المعتزلة ، لأن الخارق للعادة عندهم لا يكون على يد غير نبي إلّا إن كان في وقته نبي ، أو انتظر بعث نبي ، فيكون ذلك الخارق مقدمة بين يدي بعثة ذلك النبي.

(وَطَهَّرَكِ) التطهير هنا من الحيض ، قاله ابن عباس. قال السدي : وكانت مريم لا تحيض. وقال قوم : من الحيض والنفاس. وروي عن ابن عباس : من مس الرجال. وعن مجاهد : عما يصم النساء في خلق وخلق ودين ، وعنه أيضا : من الريب والشكوك.

(وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) قيل : كرر على سبيل التوكيد والمبالغة. وقيل : لا توكيد إذ المراد بالاصطفاء الأول اصطفاء الولاية ، وبالثاني اصطفاء ولادة عيسى ، لأنها بولادته حصل لها زيادة اصطفاء وعلو منزلة على الأكفاء. وقيل : الاصطفاء الأول : اختيار وعموم يدخل فيه صوالح من النساء ، والثاني : اصطفاء على نساء العالمين. وقيل : لما أطلق الاصطفاء الأول بيّن بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال. وقال الزمخشري : اصطفاك أوّلا حين تقبلك من أمّك ورباك ، واختصك بالكرامة السنية ، وطهرك مما يستقذر من الأفعال ، ومما قذفك به اليهود ، واصطفاك آخرا على نساء العالمين بأن وهب لك عيسى من غير أب ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء. انتهى. وهو كلام حسن ، ويكون :

١٤٦

نساء العالمين ، على قوله عاما ، ويكون الأمر الذي اصطفيت به من أجله هو اختصاصها بولادة عيسى. وقيل : هو خدمة البيت. وقيل : التحرير ولم تحرر أنثى غير مريم. وقيل : سلامتها من نخس الشيطان. وقيل : نبوتها ، فإنه قيل إنها نبئت ، وكانت الملائكة تظهر لها وتخاطبها برسالة الله لها ، وكان زكريا يسمع ذلك ، فيقول : إن لمريم لشأنا. والجمهور على أنه لم ينبأ امرأة ، فالمعنى الذي اصطفيت لأجله مريم على نساء العالمين هو شيء يخصها ، فهو اصطفاء خاص إذ سببه خاص. وقيل : نساء العالمين ، خاص بنساء عالم زمانها ، فيكون الاصطفاء إذ ذاك عاما ، قاله ابن جريج.

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خير نساء الجنة مريم بنت عمران». وروي : «خير نسائها مريم بنت عمران». وروي : «خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد». وروي : «فضلت خديجة على نساء أمّتي كما فضلت مريم على نساء العالمين». وروي : أنها من الكاملات من النساء.

وقد روي في الأحاديث الصحاح تفضيل مريم على نساء العالمين ، فذهب جماعة من المفسرين إلى ظاهر هذا التفضيل. قال بعض شيوخنا : والذي رأيت ممن اجتمعت عليه من العلماء ، أنهم ينقلون عن أشياخهم : أن فاطمة أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات لأنها بضعة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) لا خلاف بين المفسرين أن المنادي لها بذلك الملائكة الذين تقدّم ذكرهم على الخلاف المذكور ، والمراد بالقنوت هنا : العبادة ، قاله الحسن ، وقتادة. أو : طول القيام في الصلاة ، قاله مجاهد ، وابن جريج ، والربيع ، أو : الطاعة ، أو : الإخلاص ، قاله ابن جبير.

وفي قوله : لربك ، إشارة إلى أن تفرّده بالعبادة وتخصصه بها ، والجمهور على ما قاله مجاهد ، وهو المناسب في المعنى لقوله : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) وروى مجاهد أنها : لما خوطبت بهذا قامت حتى ورمت قدماها. وقال الأوزاعي : قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها. وروي : أن الطير كانت تنزل على رأسها تظنها جمادا لسكونها في طول قيامها.

(وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمرتها الملائكة بفعل ثلاثة أشياء من هيئات

١٤٧

الصلاة ، فإن أريد ظاهر الهيئات فهي معطوفة بالواو ، والواو لا ترتب ، فلا يسأل لم قدم السجود على الركوع إلّا من جهة علم البيان.

والجواب : أن السجود لما كانت الهيئة التي هي أقرب ما يكون العبد فيها إلى الله قدم ، وإن كان متأخرا في الفعل على الركوع ، فيكون إذ ذاك التقديم بالشرف. وقيل : كان السجود مقدّما على الركوع في شرع زكريا وغيره منهم ، ذكره أبو موسى الدمشقي. وقيل : في كل الملل إلّا ملة الإسلام ، فجاء التقديم من حيث الوقوع في ذلك الشرع ، فيكون إذ ذاك التقديم زمانيا من حيث الوقوع ، وهذا التقديم أحد الأنواع الخمسة التي ذكرها البيانيون ، وكذلك التقديم الذي قبله ، وتوارد الزمخشري ، وابن عطية على أنه لا يراد ظاهر الهيئات.

فقال الزمخشري : أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة وأركانها ، ثم قيل لها (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) المعنى : ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة ، أي وانظمي نفسك في جملة المصلين ، وكوني معهم وفي عدادهم ، ولا تكوني في عداد غيرهم.

وقال ابن عطية : القول عندي في ذلك أن مريم أمرت بفعلين ومعلمين من معالم الصلاة ، وهما : طول القيام والسجود ، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة. وهذان يختصان بصلاتها منفردة ، وإلّا فمن يصلي وراء إمام لا يقال له : أطل قيامك ، ثم أمرت بعد بالصلاة في الجماعة ، فقيل لها : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) وقصد هنا معلم آخر من معالم الصلاة لئلا يتكرر لفظ. ولم يرد بالآية السجود والركوع الذي هو منتظم في ركعة واحدة. انتهى كلامه. ولا ضرورة بنا تخرج اللفظ عن ظاهره.

وقد ذكرنا مناسبة لتقديم السجود على الركوع ، وقد استشكل ابن عطية هذا ، فقال : وهذه الآية أشد إشكالا من قولنا : قام زيد وعمرو ، لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة ، وقد علم أن السجود بعد الركوع ، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك في هذه الآية؟ انتهى. وهذا كلام من لم يمعن النظر في كتاب سيبويه ، فإن سيبويه ذكر أن الواو يكون معها في العطف المعية ، وتقديم السابق وتقديم اللاحق يحتمل ذلك احتمالات سواء ، فلا يترجح أحد الاحتمالات على الآخر ، ولا التفات لقول بعض أصحابنا المتأخرين في ترجيح المعية على تقديم السابق وعلى تقديم اللاحق ، ولا في ترجيح تقديم السابق على تقديم اللاحق.

١٤٨

وذكر الزمخشري توجيها آخر في تأخير الركوع عن السجود ، فقال : ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع ، وفيه من يركع ، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ، ولا تكون مع من لا يركع. انتهى. فكأنه قيل : لا تقتصري على القيام والسجود ، بل أضيفي إلى ذلك الركوع.

وقيل : المراد : باقنتي : أطيعي ، وباسجدي : صلي ، ومنه (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (١) أي : الصلوات ، و : باركعي : أشكري مع الشاكرين ، ومنه : (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) (٢) ويقوي هذا المعنى ، ويرد على من زعم أنه لم تشرع صلاة إلّا والركوع فيها مقدّم على السجود ، فإن المشاهد من صلاة اليهود والنصارى خلوّها من الركوع ، ويبعد أن يراد بالركوع الانحناء الذي يتوصل منه إلى السجود ، ويحتمل أن يكون ترك الركوع مما غيرته اليهود والنصارى من معالم شريعتهم.

و : مع ، في قوله : مع الراكعين ، تقتضي الصحبة والاجتماع في إيقاع الركوع مع من يركع ، فتكون مأمورة بالصلاة في جماعة ، ويحتمل أن يتجوز في : مع ، فتكون للموافقة للفعل فقط دون اجتماع ، أي : افعلي كفعلهم ، وإن لم توقعي الصلاة معهم ، فإنها كانت تصلي في محرابها. وجاء : مع الراكعين ، دون الراكعات لأن هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب ، ولمناسبة أواخر الآيات قبل وبعد ، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا إنها مأمورة بصلاة الجماعة.

قال الماتريدي : ولم تكره لها الصلاة في الجماعة ، وإن كانت شابة ، لأنهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم ، ولذلك اختصوا في ضمها وإمساكها. انتهى.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) الإشارة إلى ما تقدّم من قصص امرأة عمران ، وبنتها مريم ، وزكريا ، ويحيى ، والمعنى : أن هذه القصص وصولها إليك من جهة الوحي إذ لست ممن دارس الكتب ، ولا صحب من يعرف ذلك ، وهو من قوم أمّيين ، فمدرك ذلك إنما هو الوحي من عند الله كما قال في الآية الأخرى ، وقد ذكر قصة أبعد الناس زمانا من زمانه ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو نوح عليه‌السلام ، واستوفاها له في سورة هود أكثر مما استوفاها في غيرها (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) (٣) وفي هذا دليل على نبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أخبر بغيوب لم يطلع عليها إلّا من

__________________

(١) سورة ق : ٥٠ / ٤٠.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ٢٤.

(٣) سورة هود : ١١ / ٤٩.

١٤٩

شاهدها ، أو : من قرأها في الكتب السابقة ، أو : من أوحى الله إليه بها. وقد انتفى العيان والقراءة ، فتعين الثالث وهو الوحي من الله تعالى.

والكاف في : ذلك ، و : إليك ، خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأحسن في الإعراب أن يكون : ذلك ، مبتدأ و : من أنباء الغيب ، خبره. وأن يكون : نوحيه ، جملة مستأنفة ، ويكون الضمير في : نوحيه ، عائدا على الغيب ، أي : شأننا أننا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ، ولذلك أتى بالمضارع ، ويكون أكثر فائدة من عوده على : ذلك ، إذ يشتمل ما تقدّم من القصص وغيرها التي يوحيها إليه في المستقبل ، إذ يصير نظير : زيد يطعم المساكين ، فيكون إخبارا بالحالة الدائمة. والمستعمل في هذا المعنى إنما هو المضارع ، وإذ يلزم من عوده على : ذلك ، أن يكون : نوحيه ، بمعنى : أوحيناه إليك ، لأن الوحي به قد وقع وانفصل ، فيكون أبعد في المجاز منه إذا كان شاملا لهذه القصص وغيرها مما سيأتي ، وجوّزوا أن يكون : نوحيه ، خبرا : لذلك ، و : من أنباء ، حال من : الهاء ، في : نوحيه ، أو متعلقا : بنوحيه.

(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) هذا تقرير وتثبيت أن ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من الله تعالى ، والمعلم به قصتان : قصة مريم ، وقصة زكريا. فنبه على قصة مريم إذ هي المقصودة بالإخبار أولا ، وإنما جاءت قصة زكريا على سبيل الاستطراد ، ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من يكفل ، فما خلت من تنبيه على قصة.

ومعنى : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي : ما كنت معهم بحضرتهم إذ يلقون أقلامهم. ونفي المشاهدة ، وإن كانت منتفية بالعلم ولم تنتف القراءة والتلقي ، من حفاظ الأنباء على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي ، وقد علموا أنه ليس ممن يقرأ ، ولا ممن ينقل عن الحفاظ للأخبار ، فتعين أن يكون علمه بذلك بوحي من الله تعالى إليه ، ونظيره في قصة موسى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) (١) (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) (٢) وفي قصة يوسف (ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) (٣).

والضمير ، في : لديهم ، عائد على غير مذكور ، بل على ما دل عليه المعنى ، أي : وما كنت لدى المتنازعين ، كقوله : (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) (٤) أي : بالمكان.

والعامل في : إذ ، العامل في : لديهم. وقال أبو علي الفارسي : العامل في : إذ ،

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٤٤.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٤٦.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٢.

(٤) سورة العاديات : ١٠٠ / ٤.

١٥٠

كنت. انتهى. ولا يناسب ذلك مذهبه في كان الناقصة. لأنه يزعم أنها سلبت الدلالة على الحدث ، وتجردت للزمان وما سبيله هكذا ، فكيف يعمل في ظرف؟ لأن الظرف وعاء للحدث ولا حدث فلا يعمل فيه ، والمضارع بعد : إذ ، في معنى الماضي ، أي : إذ ألقوا أقلامهم للاستهام على مريم ، والظاهر أنها الأقلام التي للكتابة. وقيل : كانوا يكتبون بها التوراة ، فاختاروها للقرعة تبركا بها. وقيل : الأقلام هنا الأزلام ، وهي : القداح ، ومعنى الإلقاء هنا الرمي والطرح ، ولم يذكر في الآية ما الذي ألقوها فيه ، ولا كيفية حال الإلقاء ، كيف خرج قلم زكريا. وقد ذكرنا فيما سبق شيئا من ذلك عن المفسرين ، والله أعلم بالصحيح منها. وقال أبو مسلم : كانت الأمم يكتبون أسماءهم على سهام عند المنازعة ، فمن خرج له السهم سلم له الأمر ، وهو شبيه بأمر القداح التي يتقاسم بها الجزور.

وارتفع (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) على الابتداء والخبر ، وهو في موضع نصب إما على الحكاية بقول محذوف ، أي : يقولون أيهم يكفل مريم ، وإما بعلة محذوفة أي : ليعلموا أيّهم يكفل ، وإما بحال محذوفة أي : ينظرون أيّهم يكفل ، ودل على المحذوف : (يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) وقد استدل بهذه الآية على إثبات القرعة وهي مسألة فقهية تذكر في علم الفقه.

(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي : بسبب مريم ، ويحتمل أن يكون هذا الاختصام هو الاقتراع ، وأن يكون اختصاما آخر بعده ، والمقصود شدّة رغبتهم في التكفل بشأنها. والعامل في : إذ ، العامل في : لديهم ، أو ، كنت ، على قول أبي علي في : إذ يلقون.

وتضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة : التكرار في : اصطفاك ، وفي : يا مريم ، وفي : ما كنت لديهم. قيل : والتقديم والتأخير في : واسجدي واركعي ، على بعض الأقوال. والاستعارة ، فيمن جعل القنوت والسجود والركوع ليس كناية عن الهيئات التي في الصلاة ، والإشارة بذلك من أنباء الغيب ، والعموم المراد به الخصوص في نساء العالمين على أحد التفسيرين ، والتشبيه في أقلامهم ، إذا قلنا إنه أراد القداح. والحذف في عدة مواضع.

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) العامل في : إذ ، اذكر أو : يختصمون ، أو إذ ، بدل من إذ ، في قوله : إذ يختصمون ، أو من : وإذ قالت الملائكة ، أقوال يلزم في القولين المتوسطين اتحاد زمان الاختصام وزمان قول الملائكة ، وهو بعيد ، وهو

١٥١

قول الزجاج. ويبعد الرابع لطول الفصل بين البدل والمبدل منه. والرابع اختيار الزمخشري وبه بدأ.

والخلاف في الملائكة : أهم جمع من الملائكة أو جبريل وحده على ما سبق قبل في خطابهم لزكريا ولمريم؟ وتقدم تكليم الملائكة قبل هذا التبشير بذكر الاصطفاء والتطهير من الله ، وبالأمن بالعبادة له على سبيل التأنيس واللطف ، ليكون ذلك مقدمة لهذا التبشير بهذا الأمر العجيب الخارق الذي لم يجر لامرأة قبلها ، ولا يجري لأمرأة بعدها ، وهو أنها تحمل من غير مس ذكر لها ، وكان جرى ذلك الخارق من رزق الله لها أيضا تأنيسا لهذا الخارق.

وقرأ ابن مسعود ، وابن عمر : وإذ قال الملائكة.

والكلمة من الله هو عيسى عليه‌السلام ، سمي كلمة لصدوره بكلمة : كن ، بلا أب. قاله قتادة. وقيل : لتسميته المسيح ، وهو كلمة من الله أي : من كلام الله. وقيل : لوعد الله به في كتابه التوراة والكتب السابقة. وفي التوراة : أتانا الله من سيناء ، وأشرق من ساعر ، واستعلن من جبال فاران. وساعر هو الموضع الذي بعث منه المسيح. وقيل : لأن الله يهدي بكلمته. وقيل : لأنه جاء على وفق كلمة جبريل ، وهو : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) (١) فجاء على الصفة التي وصف. وقيل : سماه الله بذلك كما سمى من شاء من سائر خلقه بما شاء من الأسماء ، فيكون على هذا علما موضوعا له لم تلحظ فيه جهة مناسبة. وقيل : الكلمة هنا لا يراد بها عيسى ، بل الكلمة بشارة الملائكة لمريم بعيسى. وقيل : بشارة النبي لها.

(اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) الضمير في اسمه ، عائد على : الكلمة ، على معنى : نبشرك بمكون منه ، أو بموجود من الله. وسمي : المسيح ، لأنه مسح بالبركة ، قاله الحسن ، وسعيد ، وشمر. أو : بالدهن الذي يمسح به الأنبياء ، خرج من بطن أمّه ممسوحا به ، وهو دهن طيب الرائحة إذا مسح به شخص علم أنه نبي. أو : بالتطهير من الذنوب ، أو : بمسح جبريل له بجناحه أو : لمسح رجليه فليس فيهما خمص ، والأخمص ما تجافى عن الأرض من باطن الرجل ، وكان عيسى أمسح القدم لا أخمص له. قال الشاعر :

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ١٩.

١٥٢

بات يقاسيها غلام كالزلم

خدلج الساقين ممسوح القدم

أو : لمسح الجمال إياه وهو ظهوره عليه ، كما قال الشاعر :

على وجه مي مسحة من ملاحة

أو : لمسحه من الأقذار التي تنال المولودين ، لأن أمه كانت لا تحيض ولم تدنس بدم نفاس. أقوال سبعة ، ويكون : فعيل ، فيها بمعنى مفعول ، والألف واللام في : المسيح ، للغلبة مثلها في : الدبران والعيوق. وقال ابن عباس : سمي بذلك لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلّا بريء ، فعلى هذا يكون : فعيل ، مبنيا للمبالغة : كعليم ، ويكون من الأمثلة التي حولت من فاعل إلى فعيل للمبالغة. وقيل : من المساحة ، وكان يجول في الأرض فكأنه كان يمسحها. وقيل : هو مفعل من ساح يسيح من السياحة. وقال مجاهد ، والنخعي : المسيح : الصديق. وقال ابن عباس ، وابن جبير : المسيح : الملك ، سمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى وغير ذلك من الآيات. وقال أبو عبيد : أصله بالعبرانية مشيحا ، فغير ، فعلى هذا يكون اسما مرتجلا ليس هو مشتقا من المسح ولا من السياحة (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) الأبناء ينسبون إلى الآباء ، ونسب إليها. وإن كان الخطاب لها إعلاما أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إليها.

والظاهر أن اسمه : المسيح ، فيكون : اسمه المسيح ، مبتدأ وخبرا ، و : عيسى ، جوزوا فيه أن يكون خبرا بعد خبر ، وأن يكون بدلا ، وأن يكون عطف بيان. ومنع بعض النحويين أن يكون خبرا بعد خبر ، وقال : كان يلزم أن يكون أسماه على المعنى ، أو أسماها على لفظ الكلمة ، ويجوز أن يكون : عيسى ، خبرا لمبتدأ محذوف ، أي : هو عيسى ابن مريم. قال ابن عطية : ويدعو إلى هذا كون قوله : ابن مريم ، صفة : لعيسى ، إذ قد أجمع الناس على كتبه دون الألف. وأما على البدل ، أو عطف البيان ، فلا يجوز أن يكون : ابن مريم ، صفة : لعيسى ، لأن الاسم هنا لم يرد به الشخص. هذه النزعة لأبي علي. وفي صدر الكلام نظر. انتهى كلامه.

وقال الزمخشري فإن قلت لم قيل : (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) وهذه ثلاثة أشياء الاسم منها : عيسى ، وأما : المسيح و : الابن ، فلقب وصفة؟.

قلت : الاسم للمسمى علامة يعرف بها ، ويتميز من غيره ، فكأنه قيل : الذي يعرف به

١٥٣

ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة. انتهى كلامه. ويظهر من كلامه أن اسمه مجموع هذه الثلاثة ، فتكون الثلاثة أخبارا عن قوله : اسمه ، ويكون من باب : هذا حلو حامض ، و : هذا أعسر يسر. فلا يكون أحدها على هذا مستقلا بالخبرية. ونظيره في كون الشيئين أو الأشياء في حكم شيء واحد قول الشاعر :

كيف أصبحت كيف أمسيت مما

يزرع الود في فؤاد الكريم؟

أي : مجموع هذا مما يزرع الود ، فلما جاز في المبتدأ أن يتعدد دون حرف عطف إذا كان المعنى على المجموع ، كذلك يجوز في الخبر. وأجاز أبو البقاء أن يكون : ابن مريم ، خبر مبتدأ محذوف أي : هو ابن مريم ، ولا يجوز أن يكون بدلا مما قبله ، ولا صفة ، لأن : ابن مريم ، ليس باسم. ألا ترى أنك لا تقول : اسم هذا الرجل ابن عمرو إلّا إذا كان علما عليه؟ انتهى.

قال بعضهم : ومن قال إن المسيح صفة لعيسى ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره : اسمه عيسى المسيح ، لأن الصفة تابعة لموصوفها. انتهى. ولا يصح أن يكون المسيح في هذا التركيب صفة ، لأن المخبر به على هذا اللفظ ، والمسيح من صفة المدلول لا من صفة الدال ، إذ لفظ عيسى ليس المسيح.

ومن قال : إنهما اسمان تقدم المسيح على عيسى لشهرته. قال ابن الأنباري : وإنما بدأ بلقبه لأن : المسيح ، أشهر من : عيسى ، لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه ، وعيسى قد يقع على عدد كثير ، فقدمه لشهرته. ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم؟ وهذا يدل على أن المسيح عند أبن الأنباري لقب لا اسم.

قال الزجاج : وعيسى معرب من : ايسوع ، وإن جعلته عربيا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة لأن فيه ألف تأنيث ، ويكون مشتقا من : عاسه يعوسه ، إذا ساسه وقام عليه.

وقال الزمخشري : مشتق من العيس كالرقم في الماء.

(وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) قال ابن قتيبة : الوجيه ذو الجاه ، يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة. وقال ابن دريد : الوجيه المحب المقبول. وقال الأخفش : الشريف ذو القدر والجاه. وقيل : الكريم على من يسأله ، لأنه لا يرده لكرم وجهه.

ومعناه في حق عيسى أن وجاهته في الدنيا بنبوته ، وفي الآخرة بعلو درجته. وقيل :

١٥٤

في الدنيا بالطاعة ، وفي الآخرة بالشفاعة. وقيل : في الدنيا بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وفي الآخرة بالشفاعة. وقيل : في الدنيا كريما لا يرد وجهه ، وفي الآخرة في عليه المرسلين. وقال الزمخشري : الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس ، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة. وقال ابن عطية : وجاهة عيسى في الدنيا نبوته وذكره ورفعه ، وفي الآخرة مكانته ونعيمه وشفاعته.

(وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) معناه من الله تعالى. وقال الزمخشري : وكونه من المقرّبين رفع إلى السماء وصحبته الملائكة. وقال قتادة : ومن المقربين عند الله يوم القيامة. وقيل : من الناس بالقبول والإجابة ، قاله الماوردي. وقيل : معناه : المبالغ في تقريبهم ، لأن فعل من صيغ المبالغة ، فقال : قرّبه يقرّبه إذا بالغ في تقريبه انتهى. وليس فعل هنا من صيغ المبالغة ، لأن التضعيف هنا للتعدية ، إنما يكون للمبالغة في نحو : جرّحت زيدا و : موّت الناس.

(وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) معطوف على قوله : وجيها ، وتقديره : ومقربا من جملة المقربين.

أعلم تعالى أن ثمّ مقربين ، وأن عيسى منهم. ونظير هذا العطف قوله تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ) (١) فقوله : وبالليل ، جار ومجرور في موضع الحال ، وهو معطوف على : مصبحين ، وجاءت هذه الحال هكذا لأنها من الفواصل ، فلو جاء : ومقربا ، لم تكن فاصلة ، وأيضا فأعلم تعالى أن عيسى مقرب من جملة المقربين ، والتقريب صفة جليلة عظيمة. ألا ترى إلى قوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)؟ (٢) وقوله : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ)؟ (٣) وهو تقريب من الله تعالى بالمكانة والشرف وعلو المنزلة.

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) وعطف : ويكلم ، وهو حال أيضا على : وجيها ، ونظيره : (إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) (٤) أي : وقابضات. وكذلك : ويكلم ، أي : ومكلما. وأتى في الحال الأول بالاسم لأن الاسم هو للثبوت ، وجاءت الحال الثانية جارا ومجرورا لأنه يقدر بالاسم. وجاءت الحال الثالثة جملة لأنها في الرتبة الثالثة. ألا ترى أن

__________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ١٣٧.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٧٢.

(٣) سورة الواقعة : ٥٦ / ٨٨ و ٨٩.

(٤) سورة الملك : ٦٧ / ١٩.

١٥٥

الحال وصف في المعنى؟ فكما أن الأحسن والأكثر في لسان العرب أنه إذا اجتمع أوصاف متغايرة بدىء بالاسم ، ثم الجار والمجرور ، ثم بالجملة. كقوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) (١) فكذلك الحال ، بدىء بالاسم ، ثم الجار والمجرور ، ثم بالجملة. وكانت هذه الجملة مضارعية لأن الفعل يشعر بالتجدد ، كما أن الاسم يشعر بالثبوت ، ويتعلق : في المهد ، بمحذوف إذ هو في موضع الحال ، التقدير : كائنا في المهد وكهلا ، معطوف على هذا الحال ، كأنه قيل : طفلا وكهلا ، فعطف صريح الحال على الجار والمجرور الذي في موضع الحال. ونظيره عكسا : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ) (٢) ومن زعم أن : وكهلا ، معطوف على : وجيها ، فقد أبعد.

والمهد : مقر الصبي في رضاعه ، وأصله مصدر سمي به يقال : مهدت لنفسي بتخفيف الهاء وتشديدها ، أي : وطأت ، ويقال : أمهد الشيء ارتفع.

وتقدم تفسير : الكهل لغة. وقال مجاهد : الكهل الحليم ، وهذا تفسير باللازم غالبا ، لأن الكهل يقوى عقله وإدراكه وتجربته ، فلا يكون في ذلك كالشارخ ، والعرب تتمدح بالكهولة ، قال :

وما ضر من كانت بقاياه مثلنا

شباب تسامى للعلى وكهول

ولذلك خص هذا السن في الآية دون سائر العمر ، لأنها الحالة الوسطى في استحكام العقل وجودة الرأي ، وفي قوله : وكهلا ، تبشير بأنه يعيش إلى سن الكهولة ، قاله الربيع ، ويقال : إن مريم ولدته لثمانية أشهر ، ومن ولد لذلك لم يعش ، فكان ذلك بشارة لها بعيشه إلى هذا السن. وقيل : كانت العادة أن من تكلم في المهد مات ، وفي قوله : (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) إشارة إلى تقلب الأحوال عليه ، ورد على النصارى في دعواهم إلهيته. وقال ابن كيسان : ذكر ذلك قبل أن يخلقه إعلاما به أنه يكتهل ، فإذا أخبرت به مريم علم أنه من علم الغيب. واختلف في كلامه : في المهد ، أكان ساعة واحدة ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق؟ أو كان يتكلم دائما في المهد حتى بلغ إبان الكلام؟ قولان : الأول : عن ابن عباس.

ونقل الثعالبي أشياء من كلامه لأمه وهو مرضع ، والظاهر أنه كان حين كلم الناس في المهد نبيا لقوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٣) ولظهور هذه المعجزة منه والتحدي بها. وقيل : لم يكن نبيا في ذلك الوقت ، وإنما كان الكلام تأسيسا لنبوته ، فيكون

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٢٨.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ١٣٧.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٣٠.

١٥٦

قوله : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (١) إخبارا عما يؤول إليه بدليل قوله : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) (٢) ولم يتعرض لوقت كلامه إذا كان كهلا ، فقيل : كلامه قبل رفعه إلى السماء كلمهم بالوحي والرسالة.

وقيل : ينزل من السماء كهلا ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فيقول لهم : إني عبد الله ، كما قال في المهد ، وهذه فائدة قوله : وكهلا ، أخبر أنه ينزل عند قتله الدجال كهلا ، قاله ابن زيد. وقال الزمخشري : معناه : ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل ، وينبأ فيها الأنبياء. انتهى.

قيل : وتكلم في المهد سبعة : عيسى ، ويحيى ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج. وصبي ماشطة امرأة فرعون ، وصاحب الجبار ، وصاحب الأخدود ، وقصص هؤلاء مروية ، ولا يعارض هذا ما جاء من حصر من تكلم رضيعا في ثلاثة ، لأن ذلك كان إخبارا قبل أن يعلم بالباقين ، فأخبر على سبيل ما أعلم به أولا ، ثم أعلم بالباقين.

(وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي : وصالحا من جملة الصالحين ، وتقدم تفسير الصلاح الموصوف به الأنبياء.

وانتصاب : وجيها ، وما عطف عليه على الحال من قوله : بكلمة منه ، وحسن ذلك ، وإن كان نكرة ، كونه وصف بقوله : منه ، وبقوله : منه ، وبقوله : اسمه المسيح.

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) لما أخبرتها الملائكة أن الله بشرها بالمسيح ، نادت ربها ، وهو الله ، مستفهمة على طريق التعجب من حدوث الولد من غير أب إذ ذاك من الأمور الموجبة للتعجب ، وهذه القضية أعجب من قضية زكريا ، لأن قضية زكريا حدث منها الولد بين رجل وامرأة ، وهنا حدث من امرأة بغير واسطة بشر ، ولذلك قالت : (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ).

وقيل : استفهمت عن الكيفية ، كما سأل زكريا عن الكيفية ، تقديره : هل يكون ذلك على جري العادة بتقدم وطء؟ أم بأمر من قدرة الله؟.

وقال الانباري : لما خاطبها جبريل ظنته آدميا يريد بها سوأ ، ولهذا قالت : (إِنِّي أَعُوذُ

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٣٠.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٣١.

١٥٧

بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) (١) فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله لأنها لم تعلم أنه ملك ، فقالت : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ)؟

ومن ذهب إلى أن قولها : رب ، وقول زكريا : رب ، إنما هو نداء لجبريل لما بشرهما ، ومعناه : يا سيدي فقد أبعد. وقال الزمخشري : هو من بدع التفاسير ، و : يكون ، يحتمل أن تكون الناقصة والتامة ، كما سبق في قصة زكريا. و : لم يمسسني بشر ، جملة حالية ، والمسيس هنا كناية عن الوطء ، وهذا نفي عام أن يكون باشرها أحد بأي نوع كان من تزوّج أو غيره ، والبشر يطلق على الواحد والجمع ، والمراد هنا النفي العام ، وسمي بشرا لظهور بشرته وهو جلده ، وبشرت الأديم قشرت وجهه ، وأبشرت الأرض أخرجت نباتها ، وتباشير الصبح أول ما يبدو من نوره.

(قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) تقدم الكلام في نظيرها في قصة زكريا ، إلّا أن في قصته (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٢) من حيث إن أمر زكريا داخل في الإمكان العادي الذي يتعارف ، وإن قل ، وفي قصة مريم : يخلق ، لأنه لا يتعارف مثله ، وهو وجود ولد من غير والد ، فهو إيجاد واختراع من غير سبب عادي ، فلذلك جاء بلفظ : يخلق ، الدال على هذا المعنى.

وقد ألغز بعض العرب المستشهد بكلامها فقال :

ألا رب مولود وليس له أب

وذي ولد لم يلده أبوان

يريد : عيسى وآدم.

(إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة : لغة وتفسيرا وقراءة وإعرابا ، فأغنى ذلك عن إعادته.

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الكتاب : هنا مصدر ، أي : يعلمه الخط باليد ، قاله ابن عباس ، وابن جريج وجماعة. وقيل : الكتاب هو كتاب غير معلوم ، علمه الله عيسى مع التوراة والإنجيل. وقيل : كتب الله المنزلة. والألف واللام للجنس. وقيل : هو التوراة والإنجيل.

قالوا : وتكون الواو في : والتوراة ، مقحمة ، والكتاب عبارة عن المكتوب ، وتعليمه إياها قيل : بالإلهام ، وقيل : بالوحي ، وقيل : بالتوفيق والهداية للتعلم والحكمة. تقدم

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ١٨.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٤٠ والحج : ٢٢ / ١٨.

١٥٨

تفسيرها ، وفسرت هنا : بسنن الأنبياء ، وبما شرعه من الدين ، وبالنبوة ، وبالصواب في القول والعمل وبالعقل ، وبأنواع العلم. وبمجموع ما تقدم أقوال سبعة.

روي أن عيسى كان يستظهر التوراة ، ويقال لم يحفظها عن ظهر قلب غير : موسى ، ويوشع ، وعزير ، وعيسى.

وذكر الإنجيل لمريم وهو لم ينزل بعد لأنه كان كتابا مذكورا عند الأنبياء والعلماء ، وأنه سينزل.

وقرأ نافع ، وعاصم ، ويعقوب ، وسهل : ويعلمه ، بالياء. وقرأ الباقون : بالنون ، وعلى كلتا القراءتين هو معطوف على الجملة المقولة ، وذلك ان قوله : قال كذلك ، الضمير في : قال ، عائد على الرب ، والجملة بعده هي المقولة ، وسواء كان لفظ الله مبتدأ ، وخبره فيما قبله ، لزم مبتدأ وخبره يخلق على ما مر إعرابه في : (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) فيكون هذا من المقول لمريم ، أم على سبيل الاغتباط والتبشير بهذا الولد الذي يوجده الله منها ، ويجوز أن يكون معطوفا على : يخلق ، سواء كانت خبرا عن الله أم تفسيرا لما قبلها ، إذا أعربت لفظ : الله مبتدأ وما قبله الخبر ، وهذا ظاهر كله على قراءة الياء. وأما على قراءة النون ، فيكون من باب الالتفات ، خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم لما في ذلك من الفخامة.

وقال أبو علي : وجوزه الزمخشري ، وغيره عطف : ويعلمه ، على : يبشرك ، وهذا بعيد جدا لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه. وأجاز ابن عطية وغيره أن يكون معطوفا على : ويكلم ، وأجاز الزمخشري أن يكون معطوفا على : وجيها ، فيكون على هذين القولين في موضع نصب على الحال. وفيما أجازه أبو علي والزمخشري في موضع رفع لأنه معطوف على خبر إن ، وهذا القولان بعيدان أيضا لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولا يقع مثله في لسان العرب.

وقال بعضهم : ونعلمه ، بالنون حمله على قوله (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) فإن عنى بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير ، وإن عنى بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح وقال الزمخشري : أو هو كلام مبتدأ يعني أنه لا يكون معطوفا على شيء من هذه التي ذكرت ، فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله ، أو من الله ، على اختلاف القراءتين ، فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفا على شيء قبله ، فلا يكون ابتداء كلام إلّا أن يدعى

١٥٩

زيادة الواو في : ويعلمه ، فحينئذ يصح أن يكون ابتداء كلام ، وإن عنى أنه ليس معطوفا على ما ذكر ، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه ، وأن يكون الذي عطف عليه ابتداء كلام حتى يكون المعطوف كذلك.

وقال الطبري : قراءة الياء عطف على قوله (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) وقراءة النون عطف على قوله (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) قال ابن عطية : وهذا القول الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى. انتهى. ولم يبين ابن عطية جهة إفساد المعنى ، أما قراءة النون فظاهر فساد عطفه على : نوحيه ، من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان العرب لبعد الفصل المفرط ، وتعقيد التركيب ، وتنافر الكلام. وأما من حيث المعنى فإن المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه ، فيصير المعنى بقوله ذلك من أنباء الغيب أي : إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمران ، وولادتها لمريم ، وكفالة زكريا ، وقصته في ولادة يحيى له ، وتبشير الملائكة لمريم بالاصطفاء والتطهير ، كل ذلك من أخبار الغيب ، نعلّمه ، أي : نعلم عيسى الكتاب ، فهذا كلام لا ينتظم معناه مع معنى ما قبله.

وأما قراءة الياء وعطف : ويعلمه ، على : يخلق ، فليست مفسدة للمعنى ، بل هو أولى وأصح ما يحمل عليه عطف : ويعلمه ، لقرب لفظه وصحة معناه. وقد ذكرنا جوازه قبل ، ويكون الله قد أخبر مريم بأنه تعالى يخلق الأشياء الغريبة التي لم تجر بها عادة ، مثل ما خلق لك ولدا من غير أب ، وأنه تعالى يعلم هذا الولد الذي يخلقه لك ما لم يعلمه قبله من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشير لها بهذا الولد ، وإظهار بركته ، وأنه ليس مشبها أولاد الناس من بني إسرائيل ، بل هو مخالف لهم في أصل النشأة ، وفيما يعلمه تعالى من العلم ، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف : ويعلمه.

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) اختلفوا في : رسولا ، هنا. فقيل : هو وصف بمعنى المرسل على ظاهر ما يفهم منه. وقيل : هو مصدر بمعنى رسالة ، إذ قد ثبت أن رسولا يكون بمعنى رسالة ، وممن جوز ذلك فيه هنا الحوفي ، وأبو البقاء ، وقالا : هو معطوف على الكتاب ، أي : ويعلمه رسالة إلى بني إسرائيل ، فتكون : رسالة ، داخلا في ما يعلمه الله عيسى. وأجاز أبو البقاء في هذا الوجه أن يكون مصدرا في موضع الحال. وأما الوجه الأول فقالوا في إعرابه ، وجوها.

١٦٠