البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغاضبة. كما أن ضرب اليد على اليد يتبع هيئة النفس المتلهفة على فائت قريب الفوت. وكما أن قرع السن هيئة تتبع هيئة النفس النادمة ، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه. ويحتمل أن لا يكون ثمّ عض أنامل ، ويكون ذلك من مجاز التمثيل عبر بذلك عن شدة الغيظ ، والتأسف على ما يفوتهم من إذايتكم. ونبه تعالى بهذه الآية على أن من كان بهذه الأوصاف من : بغض المؤمنين ، والكفر بالقرآن ، والرياء بإظهار ما لا ينطوي عليه باطنه ، جدير بأن لا يتخذ صديقا.

(قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) ظاهره : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بأن يقول لهم ذلك. وهي صيغة أمر ، ومعناها الدّعاء : أذن الله لنبيه أن يدعو عليهم لمّا يئس من إيمانهم ، هذا قول الطبري. وكثير من المفسرين قالوا : فله أن يدعو مواجهة. وقيل : أمر هو وأمته أن يواجهوهم بهذا. فعلى هذا زال معنى الدعاء ، وبقي معنى التقريع ، قاله : ابن عطية. وقيل : صورته أمر ، ومعناه الخبر ، والباء للحال أي تموتون ومعكم الغيظ وهو على جهة الذم على قبيح ما عملوه. وقال الزمخشري : دعا عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به. والمراد بزيادة الغيظ ما يغيظهم من قوة الإسلام وعزة أهله ، وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار انتهى كلامه. وليس ما فسر به ظاهر قوله : قل موتوا بغيظكم ، ويكون ما قاله الزمخشري يشبه قولهم : مت بدائك ، أي أبقى الله داءك حتى تموت به. لكن في لفظ الزمخشري زيادة الغيظ ، ولا يدل عليه لفظ القرآن. قال بعض شيوخنا : هذا ليس بأمر جازم ، لأنه لو كان أمرا لماتوا من فورهم كما جاء فقال لهم الله : موتوا. وليس بدعاء ، لأنه لو أمره بالدعاء لماتوا جميعهم على هذه الصفة ، فإن دعوته لا ترد. وقد آمن منهم بعد هذه الآية كثير ، وليس بخبر لأنه لو كان خبر الوقع على حكم ما أخبر به يعني ولم يؤمن أحد بعد ، وإنما هو أمر معناه التوبيخ والتقريع كقوله : اعملوا ما شئتم ، إذا لم تستح فاصنع ما شئت. قيل : ويجوز أن لا يكون ثم قول ، وإن يكون أمرا بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ، كأنه قيل : حدث نفسك بذلك.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) قيل : يجوز أن يكون من جملة المقول ، والمعنى : أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظا إذا خلوا وقل لهم : إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرّونه بينكم وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أن شيئا من أسراركم يخفى عليه. ويجوز أن لا تدخل تحت القول ، ومعناه : قل لهم ذلك ، ولا تتعجب من اطلاعي إياك على

٣٢١

ما يسرون ، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو مضمرات صدورهم لم يظهروه بألسنتهم. والظاهر الأول أورد ذلك على أنّه وعيد مواجهون به.

والذات لفظ مشترك ومعناه هنا أنه تأنيث ذي بمعنى صاحب. فأصله هنا عليم بالمضمرات ذوات الصدور ، ثم حذف الموصوف ، وغلبت إقامة الصفة مقامه. ومعنى صاحبة الصدور : الملازمة له التي لا تنفك عنه كما تقول : فلان صاحب فلان ، ومنه أصحاب الجنة أصحاب النار. واختلفوا في الوقف على ذات. فقال الأخفش والفراء وابن كيسان : بالتاء مراعاة لرسم المصحف. وقال الكسائي والجرمي : بالهاء لأنها تاء تأنيث.

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) الحسنة هنا ما يسر من رخاء وخصب ونصرة وغنيمة ، ونحو ذلك من المنافع. والسيئة ضد ذلك. بين تعالى بذلك فرط عداوتهم حيث يسوءهم ما نال المؤمنين من الخير ، ويفرحون بما يصيبهم من الشدة. قال الزمخشري : المس مستعار لمعنى الإصابة ، فكان المعنى واحدا. ألا ترى إلى قوله : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) (١) الآية (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٢) (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٣) وقال ابن عطية : ذكر الله تعالى المس في الحسنة ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ، ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإصابة ، وهي عبارة عن التمكن. لأن الشيء المصيب لشيء هو متمكن منه ، أو فيه. فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة ، إذ هو حقد لا يذهب عند نزول الشدائد ، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين انتهى كلامه. والنكرة هنا في سياق الشرط بأن تعم عموم البدل ، ولم يأت معرفا لإيهام التعيين بالعهد ، ولإيهام العموم الشمولي. وقابل الحسنة بالسيئة ، والمساءة بالفرح وهي مقابلة بديعة.

قال قتادة والربيع وابن جريج : الحسنة بظهوركم على العدو ، والغنيمة منهم ، والتتابع بالدخول في دينكم ، وخصب معاشكم. والسيئة بإخفاق سرية منكم ، أو إصابة عدو منكم ، أو اختلاف بينكم. وقال الحسن : الحسنة الألفة ، واجتماع الكلمة. والسيئة إصابة العدو ، واختلاف الكلمة. وقال ابن قتيبة : الحسنة النعمة. والسيئة المصيبة. وهذه الأقوال هي على سبيل التمثيل ، وليست على سبيل التعيين.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٥٠.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٧٩.

(٣) سورة المعارج : ٧٠ / ٢٠ ـ ٢١.

٣٢٢

(وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) قال ابن عباس : وإن تصبروا على أذاهم ، وتتقوا الله ، ولا تقنطوا ، ولا تسأموا أذاهم وإن تكرر. وقال مقاتل : وإن تصبروا على أمر الله ، وتتقوا مباطنتهم. وقال ابن عباس أيضا : وإن تصبروا على الإيمان وتتقوا الشرك. وقيل : وإن تصبروا على الطاعة وتتقوا المعاصي. وقيل : وإن تصبروا على حربهم. والذي يظهر أنه لم يذكر هنا متعلق الصبر ، ولا متعلق التقوى. لكنّ الصبر هو حبس النفس على المكروه ، والتقوى اتخاذ الوقاية من عذاب الله. فيحسن أن يقدّر المحذوف من جنس ما دل عليه لفظ الصبر ولفظ التقوى. وفي هذا تبشير للمؤمنين ، وتثبيت لنفوسهم ، وإرشاد إلى الاستعانة على كيد العدو بالصبر والتقوى.

وقرأ الجمهور : إن تمسسكم بالتاء. وقرأ السلمي بالياء معجمة من أسفل ، لأن تأنيث الحسنة مجازى. وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحمزة في رواية عنه : لا يضركم من ضار يضير. ويقال : ضار يضور ، وكلاهما بمعنى ضرّ. وقرأ الكوفيون وابن عامر : لا يضرّكم بضم الضاد والراء المشدّدة ، من ضرّ يضرّ. واختلف ، أحركة الراء إعراب فهو مرفوع؟ أم حركة اتباع لضمة الضاد وهو مجزوم كقولك : مدّ؟ ونسب هذا إلى سيبويه ، فخرج الإعراب على التقديم. والتقدير : لا يضركم أن تصبروا ، ونسب هذا القول إلى سيبويه. وخرج أيضا على أنّ لا بمعنى ليس ، مع إضمار الفاء. والتقدير : فليس يضركم ، وقاله : الفراء والكسائي. وقرأ عاصم فيما روى أبو زيد عن المفضل عنه : بضم الضاد ، وفتح الراء المشددة. وهي أحسن من قراءة ضم الراء نحو لم يرد زيد ، والفتح هو الكثير المستعمل. وقرأ الضحاك : بضم الضاد ، وكسر الراء المشدّدة على أصل التقاء الساكنين. وقال ابن عطية : فأما الكسر فلا أعرفه قراءة ، وعبارة الزجاج في ذلك متجوز فيها ، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة انتهى. وهي قراءة كما ذكرنا عن الضحاك. وقرأ أبيّ : لا يضرركم بفك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز ، وعليها في الآية إن يمسسكم. ولغة سائر العرب الإدغام في هذا كله.

(إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) من قرأ بالياء فهو وعيد ، والمعنى : محيط جزاؤه. وعبر بالإحاطة عن الاطلاع التام والقدرة والسلطان. ومن قرأ بالتاء وهو : الحسن بن أبي الحسن فعلى الالتفات للكفار ، أو على إضمار قل : لهم يا محمد. أو على أنه خطاب للمؤمنين تضمن توعدهم في اتخاذ بطانة من الكفار.

قالوا : وتضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة والفصاحة. منها : الوصل والقطع في (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) والتكرار : في أصحاب النار هم. والعدول عن اسم

٣٢٣

الفاعل إلى غيره : في يتلون وما بعده ، وفي يظلمون. والاكتفاء بذكر بعض الشيء عن كله إذا كان فيه دلالة على الباقي في : يؤمنون بالله واليوم الآخر. والمقابلة : في تأمرون وتنهون ، وفي المعروف والمنكر. ويجوز أن يكون طباقا معنويا ، وفي حسنة وسيئة ، وفي تسؤهم ويفرحوا. والاختصاص : في عليم بالمتقين ، وفي أموالهم ولا أولادهم ، وفي كمثل ريح ، وفي حرث قوم ظلموا أنفسهم ، وفي عليم بذات الصدور. والتشبيه : في مثل ما ينفقون ، وفي بطانة ، وفي عضوا عليكم الأنامل من الغيظ على أحد التأويلين ، وفي تمسسكم حسنة وتصبكم سيئة. شبه حصولهما بالمس والإصابة ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، والصحيح أن هذه استعارة. وفي محيط شبه القدرة على الأشياء والعلم بها بالشيء المحدق بالشيء من جميع جهاته ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس. والتجنيس المماثل : في ظلمهم ويظلمون ، وفي تحبونهم ولا يحبونكم ، وفي تؤمنون وآمنا ، وفي من الغيظ وبغيظكم. والالتفات : في وما تفعلوا من خير فلن تكفروه على قراءة من قرأ بالتاء ، وفي ما تعملون محيط على أحد الوجهين. وتسمية الشيء باسم محله : في من أفواههم عبر بها عن الألسنة لأنها محلها. والحذف في مواضع.

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧)

غدا الرجل : خرج غدوة. والغدو يكون في أول النهار. وفي استعمال غدا بمعنى صار ، فيكون فعلا ناقصا خلاف.

الهم : دون العزم ، والفعل منه هم يهمّ. وتقول العرب : هممت وهمّت يحذفون أحد

٣٢٤

المضعفين كما قالوا : أمست ، وظلت ، وأحست ، في مسست وظللت وأحسست. وأوّل ما يمر الأمر بالقلب يسمى خاطرا ، فإذا تردد صار حديث نفس ، فإذ ترجّح فعله صار هما ، فإذا قوي واشتد صار عزما ، فإذا قوي العزم واشتدّ حصل الفعل أو القول.

الفشل في البدن : الإعياء. وفي الحرب : الجبن والخور ، وفي الرأي : العجز والفساد. وفعله : فشل بكسر الشين.

التوكل : تفعل من وكل أمره إلى فلان ، إذا فوّضه له. قال ابن فارس : هو إظهار العجز والاعتماد على غيرك ، يقال. فلان وكلة تكلة ، أي عاجز يكل أمره إلى غيره. وقيل : هو من الوكالة ، وهو تفويض الأمر إلى غيره ثقة بحسن تدبيره.

بدر في الآية : اسم علم لما بين مكة والمدينة. سمي بذلك لصفائه ، أو لرؤية البدر فيه لصفائه ، أو لاستدارته. قيل : وسمي باسم صاحبه بدر بن كلدة. قيل : بدر بن بجيل بن النضر بن كنانة. وقيل : هو بئر لغفار. وقيل : هو اسم وادي الصفراء. وقيل : اسم قرية بين المدينة والحجاز.

الفور : العجلة والإسراع. تقول : اصنع هذا على الفور. وأصله من فارت القدر اشتد غليانها ، وبادر ما فيها إلى الخروج. ويقال : فار غضبه إذا جاش وتحرك. وتقول : خرج من فوره ، أي من ساعته ، لم يلبث استعير الفور للسرعة ، ثم سميت به الحالة التي لا ريب فيها ولا تعريج على شيء من صاحبها.

الخمسة : رتبة من العدد معروفة ، ويصرف منها فعل يقال : خمست الأربعة أي صيرتهم في خمسة.

الطرف : جانب الشيء الأخير ، ثم يستعمل للقطعة من الشيء ، وإن لم يكن جانبا أخيرا. الكبت : الهزيمة. وقيل : الصرع على الوجه أو إلى اليدين. وقال النقاش وغيره : التاء بدل من الدال. أصله : كبده ، أي فعل فعلا يؤذي كبده. الخيبة : عدم الظفر بالمطلوب.

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) قال المسور بن مخرمة : قلت لعبد الرحمن بن عوف : أي خال أخبرني عن قصتكم يوم أحد ، فقال : اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجد : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) ـ إلى ـ (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ) (١) ومناسبة هذه الآية لما

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٢١ ـ ١٥٤.

٣٢٥

قبلها أنه لما نهاهم عن اتخاذ بطانة من الكفار ووعدهم أنّهم إن صبروا واتقوا فلا يضرّكم كيدهم. ذكرهم بحالة اتفق فيها بعض طواعية ، واتباع لبعض المنافقين ، وهو ما جرى يوم أحد لعبد الله بن أبي بن سلول حين انخذل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتبعه في الانخذال ثلاثمائة رجل من المنافقين وغيرهم من المؤمنين. والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحد ، وفيها نزلت هذه الآيات كلها ، وهو قول : عبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والزهري ، والسدي ، وابن إسحاق. وقال الحسن : كان هذا الغدو في غزوة الأحزاب. وهو قول : مجاهد ، ومقاتل ، وهو ضعيف. لأن يوم الأحزاب كان فيه ظفر المؤمنين ، ولم يجر فيه شيء مما ذكر في هذه الآيات بل قصتاهما متباينتان. وقال الحسن أيضا : كان هذا الغدو يوم بدر. وذكر المفسرون قصة غزوة أحد وهي مستوعبة في كتب السير ، ونحن نذكر منها ما يتعلق بألفاظ الآية بعض تعلق عند تفسيرها. وظاهر قوله : وإذ غدوت ، خروجه غدوة من عند أهله. وفسر ذلك بخروجه من حجرة عائشة يوم الجمعة غدوة حين استشار الناس ، فمن مشير بالإقامة وعدم الخروج إلى القتال. وأن المشركين إن جاؤوا قاتلوهم بالمدينة ، وكان ذلك رأيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن مشير بالخروج وهم : جماعة من صالحي المؤمنين فأتتهم وقعة بدر وتبوئة المؤمنين مقاعد للقتال ، على هذا القول هو أن يقسم أفطار المدينة على قبائل الأنصار. وقيل : غدوه هو نهوضه يوم الجمعة بعد الصلاة وتبوئته في وقت حضور القتال. وسماه غدوا إذ كان قد عزم عليه غدوة. وقيل : غدوه كان يوم السبت للقتال. ولما لم تكن تلك الليلة موافقة للغدو وكأنه كان في أهله ، والعامل في إذا ذكر. وقيل : هو معطوف على قوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) (١) أي وآية إذ غدوت ، وهذا في غاية البعد. ولو لا أنه مسطور في الكتب ما ذكرته. وكذلك قول من جعل من في معنى مع ، أي : وإذ غدوت مع أهلك. وهذه تخريجات يقولها وينقلها على سبيل التجويز من لا بصر له بلسان العرب. ومعنى تبوىّء : تنزل ، من المباءة وهي المرجع ومنه (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) (٢) فليتبوأ مقعده من النار ، وقال الشاعر :

كم صاحب لي صالح

بوّأته بيديّ لحدا

وقال الأعشى :

وما بوّأ الرحمن بيتك منزلا

بشرقيّ أجياد الصفا والمحرم

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٣.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٥٨.

٣٢٦

ومقاعد : جمع مقعد ، وهو هناك مكان القعود. والمعنى : مواطن ومواقف. وقد استعمل المقعد والمقام في معنى المكان. ومنه : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) (١) و (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) (٢).

وقال الزمخشري : وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار انتهى. أمّا إجراء قعد مجرى صار فقال أصحابنا : إنما جاء في لفظة واحدة وهي شاذة لا تتعدى ، وهي في قولهم : شحذ شفرته حتى قعدت كأنها حربة ، أي صارت. وقد نقد على الزمخشري تخريج قوله تعالى : (فَتَقْعُدَ مَلُوماً) (٣) على أن معناه : فتصير ، لأن ذلك عند النحويين لا يطرد. وفي اليواقيت لأبي عمر الزاهد قال ابن الأعرابي : القعد الصيرورة ، والعرب تقول : قعد فلان أميرا بعد ما كان مأمورا أي صار. وأمّا إجراء قام مجرى صار فلا أعلم أحدا عدّها في أخوات كان ، ولا ذكر أنها تأتي بمعنى صار ، ولا ذكر لها خبرا إلا أبا عبد الله بن هشام الخضراوي فإنه قال في قول الشاعر :

على ما قام يشتمني لئيم

إنها من أفعال المقاربة

وقال ابن عطية : لفظة القعود أدل على الثبوت ، ولا سيما أنّ الرماة إنما كانوا قعودا ، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولا ، والمبارزة والسرعان يجولون. وجمع المقاعد لأنه عيّن لهم مواقف يكونون فيها : كالميمنة والميسرة ، والقلب ، والشاقة. وبيّن لكل فريق منهم موضعهم الذي يقفون فيه.

خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد صلاة الجمعة ، وأصبح بالشعب يوم السبت للنصف من شوال ، فمشى على رجليه ، فجعل يصفّ أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح. إن رأى صدرا خارجا قال : «تأخر» ، وكان نزوله في غدوة الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم : «انصحوا عنا بالنبل» لا يأتونا من ورائنا».

وتبوىء جملة حالية من ضمير المخاطب. فقيل : هي حال مقدرة ، أي خرجت قاصد التبوئة ، لأن وقت الغدوّ لم يكن وقت التبوئة. وقرأ الجمهور تبوىء من بوّأ. وقرأ عبد الله : تبوّىء من أبوأ ، عداه الجمهور بالتضعيف ، وعبد الله بالهمزة. وقرأ يحيى بن وثاب : تبوى بوزن تحيا ، عداه بالهمزة ، وسهل لام الفعل بإبدال الهمزة ياء نحو : يقرى في يقرىء. وقرأ

__________________

(١) سورة القمر : ٥٩ / ٥٥.

(٢) سورة النمل : ٢٧ / ٣٩.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٢٩.

٣٢٧

عبد الله : للمؤمنين بلام الجر على معنى : ترتب وتهيىء. ويظهر أنّ الأصل تعديته لواحد بنفسه ، وللآخر باللام لأن ثلاثيه لا يتعدى بنفسه ، إنما يتعدى بحرف جر.

وقرأ الأشهب : مقاعد القتال على الإضافة ، وانتصاب مقاعد على أنه مفعول ثان لتبوى. ومن قرأ للمؤمنين كان مفعولا لتبوىء ، وعداه باللام كما في قوله : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) (١) وقيل : اللام في لابراهيم زائدة ، واللام في للقتال لام العلة تتعلق بتبوئ. وقيل : في موضع الصفة لمقاعد. وفي الآية دليل على أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر ويختارون لهم المواضع للحرب ، وعلى الأجناد طاعتهم قاله : الماتريدي. وهو ظاهر.

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع لأقوالكم ، عليم بنياتكم. وجاءت هاتان الصفتان هنا لأنّ في ابتداء هذه الغزوة مشاورة ومجاوبة بأقوال مختلفة ، وانطواء على نيات مضطربة حبسما تضمنته قصة غزوة أحد.

(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) الطائفتان : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وهما الجناحان قاله : ابن عباس ، وجابر ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والربيع ، والسدي ، وجمهور المفسرين. وقيل : الطائفتان هما من الأنصار والمهاجرين. روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في ألف. وقيل : في تسعمائة وخمسين ، والمشركون في ثلاثة آلاف. ووعدهم الفتح إن صبروا ، فانخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس. وسبب انخذاله أنه أشار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة حين شاوره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يشاوره قبلها ، فأشار عليه بالمقام في المدينة فلم يفعل وخرج ، فغضب عبد الله وقال : أطاعهم ، وعصاني. وقال : يا قوم على م نقتل أنفسنا وأولادنا ، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري. وفي رواية أبو جابر السلمي فقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم. فقال عبد الله : لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، فهم الجبان باتباع عبد الله ، فعصمهم الله ومضوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن عباس : أضمروا أن يرجعوا ، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا ، وهذا الهمّ غير مؤاخذ به ، إذ ليس بعزيمة ، إنما هو ترجيح من غير عزم. ولا شك أن النفس عند ما تلاقي الحروب ومن يجالدها يزيد عليها مثلين وأكثر ، يلحقها بعض الضعف عن الملاقاة ، ثم يوطئها صاحبها على القتال فتثبت وتستقر. ألا ترى إلى قول الشاعر :

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٢٦.

٣٢٨

وقولي : كلما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

و (إِذْ هَمَّتْ) : بدل من إذ غدوت. قال الزمخشري : أو عمل فيه معنى سميع عليم انتهى. وهذا غير محرر ، لأن العامل لا يكون مركبا من وصفين ، فتحريره أن يقول : أو عمل فيه معنى سميع أو عليم ، وتكون المسألة من باب التنازع. وجوز أن يكون معمولا لتبوىء ، ولغدوت. وهمّ يتعدى بالباء ، فالتقدير : بأن تفشلا والمعنى : أن تفشلا عن القتال.

وأما أحسن قول الشاعر في التحريض على القتال والنهي عن الفشل :

قاتلوا القوم بالخداع ولا

يأخذكم عن قتالهم فشل

القوم أمثالكم لهم شعر

في الرأس لا ينشرون إن قتلوا

وأدغم السبعة تاء التأنيث في الطاء ، وعن قالون خلاف ذكرناه في عقد اللآلئ في القراءات السبع العوالي من إنشائنا. والظاهر أن هذا الهم كان عند تبوئة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقاعد للقتال وانخذال عبد الله بمن انخذل. وقيل : حين أشاروا عليه بالخروج وخالفوا عبد الله بن أبي. وفي قوله : طائفتان إشارة لطيفة إلى الكناية عن من يقع منه ما لا يناسب والستر عليه ، إذ لم يعين الطائفتين بأنفسهما ، ولا صرح بمن هما منه من القبائل سترا عليهما.

(وَاللهُ وَلِيُّهُما) معنى الولاية هنا التثبيت والنصر ، فلا ينبغي لهما أن يفشلا. وقيل : جعلها من أوليائه المثابرين على طاعته. وفي البخاري عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : فينا نزلت (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما) قال : نحن الطائفتان بنو حارثة ، وبنو سلمة. وما تحب أنها لم تنزل لقول الله : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) قال ذلك جابر لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية ، وأنّ تلك الهمة المصفوح عنها لكونها ليست عزما كانت سببا لنزولها. وقرأ عبد الله : والله وليهم أعاد الضمير على المعنى لا على لفظ التثنية ، كقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (١) و (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا) (٢) وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب ، بل جاءت مستأنفة لثناء الله على هاتين الطائفتين.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لما ذكر تعالى ما همت به الطائفتان من الفشل ، وأخبر تعالى أنه وليهما ، ومن كان الله وليه فلا يفوض أمره إلا إليه. أمرهم بالتوكل عليه ، وقدم المجرور للاعتناء بمن يتوكل عليه ، أو للاختصاص على مذهب من يرى ذلك. ونبّه

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ٩.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ١٩.

٣٢٩

على الوصف الذي يقتضي ذلك وهو الإيمان ، لأنّ من آمن بالله خير أن لا يكون اتكاله إلا عليه ، ولذلك قال : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١) وأتى به عاما لتندرج الطائفتان الهامّتان وغيرهم في هذا الأمر ، وأن متعلقة من قام به الإيمان. وفي هذا الأمر تحريض على التغبيط بما فعلته الطائفتان من اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسير معه.

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) لمّا أمرهم بالتوكل عليه ذكّرهم بما يوجب التوكل عليه ، وهو ما سنى لهم ويسر من الفتح والنصر يوم بدر ، وهم في حال قلة وذلة ، إذ كان ذلك النصر ثمرة التوكل عليه والثقة به. والنصر المشار إليه ببدر بالملائكة ، أو بإلقاء الرعب ، أو بكف الحصى التي رمى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو بإرادة الله لقوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٢) أقوال.

والجملة من قوله : وأنتم أذلة حال من المفعول في نصركم ، والمعنى : وأنتم أذلة في أعين غيركم ، إذ كانوا أعزة في أنفسهم ، وكانوا بالنسبة إلى عدوهم ، وجميع الكفار في أقطار الأرض عند المتأمل مغلوبين. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد».

والأذلة : جمع ذليل. وجمع الكثرة ذلان ، فجاء على جمع القلة ليدل أنهم كانوا قليلين. والذلة التي ظهرت لغيرهم عليهم هي ما كانوا عليه من الضعف وقلة السلاح والمال والمركوب. خرجوا على النواضح يعتقب النفر على البعير الواحد ، وما كان معهم من الخيل إلا فرس واحد ، ومع عدوهم مائة فرس. وكان عدد المسلمين ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلا : سبعة وسبعون من المهاجرين وصاحب رايتهم علي بن أبي طالب ، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وصاحب رايتهم سعد بن عبادة. وقيل : ثلاثمائة وستة عشر رجلا. وقيل : ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا. وفي رواية : ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا. وكان عدوهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل. وما أحسن قول الشاعر :

وقائلة ما بال أسوة عاديا

تفانت وفيها قلة وخمول

تعيرنا أنا قليل عديدنا

فقلت لها إن الكرام قليل

وما ضرنا أنا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٢٣.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٢٦.

٣٣٠

والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش ، وعلى يوم بدر انبنى الإسلام. وكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان لثمانية عشر شهرا من الهجرة.

(فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أمر بالتقوى مطلقا. وقيل : في الثبات مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترجيه الشكر إمّا على الإنعام السابق بالنصر يوم بدر ، أو على الإنعام المرجو أن يقع. فكأنه قيل : لعلكم ينعم عليكم نعمة أخرى فتشكرونها. وضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له.

(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى) ظاهر هذه الآية اتصالها بما قبلها ، وأنّها من قصة بدر ، وهو قول الجمهور ، فيكون إذ معمولا لنصركم. وقيل : هذا من تمام قصة أحد ، فيكون قوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) (١) معترضا بين الكلامين لما فيه من التحريض على التوكل والثبات للقتال. وحجة هذا القول أن يوم بدر كان المدد فيه من الملائكة بألف ، وهنا بثلاثة آلاف وخمسة آلاف. والكفار يوم بدر كانوا ألفا ، والمسلمون على الثلث. فكان عدد الكفار ثلاثة آلاف ، فوعدوا بثلاثة آلاف من الملائكة. وقال : (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ) أي الإمداد. ويوم بدر ذهب المسلمون إليهم. قال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف يصح أن يقوله لهم يوم أحد ، ولم ينزل فيه الملائكة؟ (قلت) : قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم. فلم يصبروا عن الغنائم ، ولم يتقوا حيث خالفوا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلذلك لم تنزل الملائكة ، ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت. وإنما قدّم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ، ويثقوا بنصر الله انتهى كلامه.

وقوله : لم تنزل فيه الملائكة ليس مجمعا عليه ، بل قال مجاهد : حضرت فيه الملائكة ولم تقاتل ، فعلى قول مجاهد يسقط السؤال. وقوله : قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم ، فلم يصبروا عن الغنائم ، ولم يتقوا إلى آخره المشروط بالصبر والتقوى هو الإمداد بخمسة آلاف. أمّا الإمداد الأوّل وهو بثلاثة آلاف فليس بمشروط ، ولا يلزم من عدم إنزال خمسة آلاف لفوات شرطه أن لا ينزل ثلاثة آلاف ، ولا شيء منها ، وأجيب عن عدم إنزال ثلاثة آلاف : أنه وعد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال ، وأمرهم بالسكون والثبات فيها ، فكان هذا الوعد مشروطا بالثبوت في تلك المقاعد. فلما

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٢٣.

٣٣١

أهملوا الشرط لم يحصل المشروط انتهى. ولا خفاء بضعف هذا الجواب. قال الضحاك : كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد ، ففرّ الناس وولوا مدبرين فلم يهدهم الله ، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة. وقال ابن زيد : لم يصبروا. وقال عكرمة : لم يصبروا ، ولم يتقوا يوم أحد ، فلم يمدوا. ولو مدوا لم ينهزموا. وكان الوعد بالإمداد يوم بدر ، ورجح أنه قال ذلك يوم بدر ، فظاهر اتصال الكلام. ولأن قلة العدد ، والعدد كان يوم بدر ، فكانوا إلى تقوية قلوبهم بالوعد أحوج. ولأنّ الوعد بثلاثة آلاف كان ، غير مشروط ، فوجب حصوله. وإنما حصل يوم بدر والجمع بين ألف وثلاثة آلاف كان غير مشروط ، فوجب حصوله ، وإنما حصل يوم بدر أنهم مدوا أولا بألف ، ثم زيد فيهم ألفان ، وصارت ثلاثة آلاف. أو مدوا بألف أولا ، ثم بلغهم إمداد المشركين بعدد كثير ، فوعدوا بالخمسة على تقدير إمداد الكفار. فلم يمد الكفار ، فاستغنى عن إمداد المسلمين.

والظاهر في هذه الأعداد إدخال الناقص في الزائد ، فيكون وعدوا بألف ، ثم ضم إليه ألفان ، ثم ألفان ، فصار خمسة. ومن ضم الناقص إلى الزائد وجعل ذلك في قصة أحد ، فيكونون قد وعدوا بثمانية آلاف. أو في قصة بدر فيكونون قد وعدوا بتسعة آلاف. ولم تتعرض الآية الكريمة لنزول الملائكة ، ولا لقتالهم المشركين وقتلهم ، بل هو أمر مسكوت عنه في الآية. وقد تظاهرت الروايات وتظافرت على أن الملائكة حضرت بدرا وقاتلت. ذكر ذلك ابن عطية عن جماعة من الصحابة بما يوقف عليه في كتابه. ولما لم تتعرض له الآية لم نكثر كتابنا بنقله. وذكر ابن عطية أن الشعبي قال : لم تمد المؤمنون بالملائكة يوم بدر ، وكانت الملائكة بعد ذلك تحضر حروب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مددا ، وهي تحضر حروب المسلمين إلى يوم القيامة. قال : وخالف الناس الشعبي في هذه المقالة ، وذكر أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ما نصه وأجمع أهل التفسير والسير : على أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار. ثم قال : وأما أبو بكر الأصم فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار ، وذكر عنه حججا ثم قال : وكل هذه الشبه تليق بمن ينكر القرآن والنبوّة ، لأن القرآن والسنة ناطقان بذلك ، يعني بإنزال الملائكة. ثم قال : واختلفوا في نصرة الملائكة. فقيل : بالقتال. وقيل : بتقوية نفوس المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكفار. والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال ، وأن يكون مجرد حضورهم كافيا انتهى كلامه.

ودخلت أداة الاستفهام على حرف النفي على سبيل الإنكار ، لانتفاء الكفاية بهذا

٣٣٢

العدد من الملائكة. وكان حرف النفي «لن» الذي هو أبلغ في الاستقبال من لا ، إشعارا بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكتهم كالآيسين من النصر.

وبلى : إيجاب لما بعد لن ، يعني : بلى يكفيكم الإمداد بهم ، فأوجب الكفاية. وفي مصحف أبيّ : ألا يكفيكم انتهى. ومعظمه من كلام الزمخشري.

وقال ابن عطية : ألن يكفيكم تقرير على اعتقادهم الكفاية في هذا العدد من الملائكة؟ ومن حيث كان الأمر بينا في نفسه أن الملائكة كافية ، بادر المتكلم إلى جواب ليبني ما يستأنف من قوله عليه فقال : بلى ، وهي جواب المقررين. وهذا يحسن في الأمور البينة التي لا محيد في جوابها ، ونحوه قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) (١) انتهى. وقال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي : ألن يكفيكم جواب الصحابة حين قالوا : هلا أعلمتنا بالقتال لنتأهب. فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألن يكفيكم». قال ابن عيسى : والكفاية مقدار سد الخلة ، والإمداد إعطاء الشيء حالا بعد حال انتهى.

وقرأ الحسن : بثلاثة آلاف يقف على الهاء ، وكذلك بخمسة آلاف. قال ابن عطية : ووجه هذه القراءة ضعيف ، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال ، إذ هما كالاسم الواحد ، وإنما الثاني كمال الأول. والهاء إنما هي أمارة وقف ، فتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال ، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع. فمن ذلك ما حكاه الفراء أنهم يقولون : أكلت لحما شاة ، يريدون لحم شاة ، فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف ، كما قالوا في الوقف قالا : يريدون. قال : ثم مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها في مواضع الروية والتثبت. ومن ذلك في الشعر قول الشاعر :

ينباع من زفرى غضوب جسرة

زيانة مثل العتيق المكرم

يريد ينبع فمطل. ومنه قول الآخر :

أقول إذ حزت على الكلكال

يا ناقتا ما جلت من مجال

يريد الكلكل فمطل. ومنه قول الآخر :

فأنت من الغوائل حين ترمى

ومن ذم الرجال بمنتزاح

يريد بمنتزح. قال أبو الفتح : فإذا جاز أن يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٩.

٣٣٣

الواحدة ، جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه ، إذ هما في الحقيقة اثنان انتهى كلامه. وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب ، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مجرى الوقف ، أبدلها هاء في الوصل ، كما أبدلوا لها هاء في الوقف ، وموجود في كلامهم إجراء الوصل مجرى الوقف ، وإجراء الوقف مجرى الوصل. وأما قوله : لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع ، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة. وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوصل ، وإنما هو نظير قولهم : ثلاثة أربعة ، أبدل التاء هاء ، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها ، وحذف الهمزة ، فأجرى الوصل مجرى الوقف في الإبدال. ولأجل الوصل نقل إذ لا يكون هذا النقل إلا في الوصل.

وقرىء شاذا بثلاثة آلاف بتسكين التاء في الوصل ، أجراه مجرى الوقف. واختلفوا في هذه التاء الساكنة أهي بدل من الهاء التي يوقف عليها أم تاء التأنيث هي؟ وهي التي يوقف عليها بالتاء كما هي؟ وهي لغة.

وقرأ الجمهور منزلين بالتخفيف مبنيا للمفعول ، وابن عامر بالتشديد مبنيا للمفعول أيضا ، والهمزة والتضعيف للتعدية فهما سيان. وقرأ ابن أبي عبلة : منزلين بتشديد الزاي وكسرها مبنيا للفاعل. وبعض القراء بتخفيفها وكسرها مبنيا للفاعل أيضا ، والمعنى : ينزلون النصر. (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) رتب تعالى على مجموع الصبر والتقوى وإتيان العدد من فورهم إمداده تعالى المؤمنين بأكثر من العدد السابق وعلّقه على وجودها ، بحيث لا يتأخر نزول الملائكة عن تحليهم بثلاثة الأوصاف. ومعنى من فورهم : من سفرهم. هذا قاله ابن عباس. أو من وجههم هذا قاله : الحسن ، وقتادة ، والسدي. قيل : وهي لغة هذيل ، وقيس ، وغيلان ، وكنانة : أو من غصبهم هذا قاله : مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو صالح مولى أم هانىء أو معناه في نهضتهم هذه قاله : ابن عطية. أو المعنى من ساعتهم هذه قاله الزمخشري.

ولفظة الفور تدل على السرعة والعجلة. تقول : افعل هذا على الفور ، لا على التراخي. ومنه الفور في الحج والوضوء. وفي إسناد الإمداد إلى لفظة ربكم دون غيره من أسماء الله إشعار بحسن النظر لهم ، واللطف بهم.

وقرأ الصاحبان والأخوان مسوّمين بفتح الواو ، وأبو عمرو وابن كثير وعاصم :

٣٣٤

بكسرها. وقيل : من السومة ، وهي العلامة يكون على الشاة وغيرها ، يجعل عليها لون يخالف لونها لتعرف. وقيل : من السوم وهو ترك البهيمة ترعى. فعلى الأول روي أن الملائكة كانت بعمائم بيض ، إلا جبريل فبعمامة صفراء كالزبير قاله : ابن إسحاق ، والزجاج. وقيل : بعمائم صفر كالزبير قاله : عروة وعبد الله ابنا الزبير ، وعباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير ، والكلبي وزاد : مرخاة على أكتافهم. قيل : وكانوا على خيل بلق ، وكانت سيماهم قاله : قتادة ، والربيع. أو خيلهم مجزوزة النواصي والأذناب ، معلمتها بالصوف والعهن. قاله : مجاهد. فبفتح الواو ومعلمين ، وبكسرها معلمين أنفسهم أو خيلهم. ورجح الطبري قراءة الكسر ، بأنه عليه الصلاة والسلام قاله يوم بدر : «سوّموا فإن الملائكة قد سوّمته» وعلى القول الثاني : وهو السوم. فمعنى مسوّمين بكسر الواو : وسوّموا خيلهم أي أعطوها من الجري والجولان للقتال ، ومنه سائمة الماشية. وأما بفتح الواو فيصح فيه هذا المعنى أيضا ، قاله : المهدوي وابن فورك. أي سوّمهم الله تعالى ، بمعنى أنه جعلهم يجولون ويجرون للقتال. وقال أبو زيد : سوّم الرجل خيله أي أرسلها في الغارة. وحكى بعض البصريين : سوّم الرجل غلامه أرسله وخلى سبيله. ولهذا قال الأخفش : معنى مسوّميم مرسلين. وفي الآية دليل على جواز اتخاذ العلامة للقبائل والكتائب لتتميز كل قبيلة وكتيبة عند الحرب.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) الظاهر أن الهاء في جعله عائدة على المصدر والمفهوم من يمددكم وهو الإمداد. وجوّز أن يعود على التسويم ، أو على النصر ، أو على التنزيل ، أو على العدد ، أو على الوعد. وإلّا بشرى مستثنى من المفعول له ، أي : ما جعله الله لشيء إلا بشرى لكم. فهو استثناء فرغ له العامل ، وبشرى مفعول من أجله. وشروط نصبه موجودة وهو : أنه مصدر متحد الفاعل والزمان. ولتطمئن معطوف على موضع بشرى ، إذ أصله لبشرى. ولما اختلف الفاعل في ولتطمئن ، أتى باللام إذ فات شرط اتحاد الفاعل ، لأن فاعل بشرى هو الله ، وفاعل تطمئن هو قلوبكم. وتطمئن منصوب بإضمار أن بعد لام كي ، فهو من عطف الاسم على توهم. موضع اسم آخر ، وجعل على هذا التقدير متعدية إلى واحد.

وقال الحوفي : إلا بشرى في موضع نصب على البدل من الهاء ، وهي عائدة على الوعد بالمدد. وقيل : بشرى مفعول ثان لجعله الله. فعلى هذين القولين تتعلق اللام في لتطمئن بمحذوف ، إذ ليس قبله عطف يعطف عليها. قالوا : تقديره ولتطمئن قلوبكم به

٣٣٥

بشركم. وبشرى : فعلى مصدر كرجعى ، وهو مصدر من بشر الثلاثي المجرد ، والهاء في به تعود على ما عادت عليه في جعله على الخلاف المتقدم.

وقال ابن عطية : اللام في ولتطمئن متعلقة تفعل مضمر يدل عليه جعله. ومعنى الآية : وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به ، وتطمئن به قلوبكم انتهى. وكأنه رأى أنه لا يمكن عنده أن يعطف ولتطمئن على بشرى على الموضع ، لأن من شرط العطف على الموضع ـ عند أصحابنا ـ أن يكون ثم محرز للموضع ، ولا محرز هنا ، لأن عامل الجر مفقود. ومن لم يشترط المحرز فيجوز ذلك على مذهبه ، وإن لا فيكون من باب العطف على التوهم كما ذكرناه أولا.

وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي : قال بعضهم : الواو زائدة في ولتطمئن. وقال أيضا في ذكر الإمداد : مطلوبان ، أحدهما : إدخال السرور في قلوبهم ، وهو المراد بقوله : ألا بشرى. والثاني : حصول الطمأنينة بالنصر ، فلا تجبنوا ، وهذا هو المقصود الأصلي. ففرق بين هاتين العبارتين تنبيها على حصول التفاوت بين الأمرين ، فعطف الفعل على الاسم. ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة أدخل حرف التعليل انتهى. وفيه بعض ترتيب وتناقش في قوله : فعطف الفعل على الاسم ، إذ ليس من عطف الفعل على الاسم. وفي قوله : أدخل حرف التعليل ، وليس ذلك لما ذكر.

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) حصر كينونة النصر في جهته ، لا أنّ ذلك يكون من تكثير المقاتلة ، ولا من إمداد الملائكة. وذكر الإمداد بالملائكة تقوية لرجاء النصر لهم ، وتثبيتا لقلوبهم. وذكر وصف العزة وهو الوصف الدال على الغلبة ، ووصف الحكمة وهو الوصف الدال على وضع الأشياء مواضعها من : نصر وخذلان وغير ذلك.

(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) الطرف : من قتل ببدر هم سبعون من رؤساء قريش ، أو من قتل بأحد وهم اثنان وعشرون رجلا على الصحيح. وقال السدي : ثمانية عشر ، أو مجموع المقتولين في الوقعتين ثلاثة أقوال. وكنى عن الجماعة بقوله : طرفا ، لأن من قتله المسلمون في حرب هم طرف من الكفار ، إذ هم الذين يلون القاتلين ، فهم حاشية منهم. فكان جميع الكفار رفقة ، وهؤلاء المقتولون طرفا منها. قيل : ويحتمل أن يراد بقوله : طرفا دابرا أي آخرا ، وهو راجع لمعنى الطرف ، لأن آخر الشيء طرف منه.

٣٣٦

(أَوْ يَكْبِتَهُمْ) : أي ليخزيهم ويغيظهم ، فيرجعوا غير ظافرين بشيء مما أملوه. ومتى وقع النصر على الكفار ، فإما بقتل ، وإما بخيبة ، وإما بهما. وهو كقوله : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) (١). وقرأ الجمهور أو تكبتهم بالتاء. وقرأ لاحق بن حميد : أو يكبدهم بالدال مكان التاء ، والمعنى : يصيب الحزن كبدهم. وللمفسرين في يكبتهم أقوال : يهزمهم قاله : ابن عباس والزجاج ، أو يخزيهم قاله : قتادة ومقاتل ، أو يصرعهم قاله : أبو عبيد واليزيدي ، أو يهلكهم قاله : أبو عبيدة. أو يلعنهم قاله : السدي. أو يظفر عليهم قاله : المبرد. أو يغيظهم قاله : النضر بن شميل ، واختاره ابن قتيبة. وأما قراءة لاحق فهي من إبدال الدال بالتاء كما قالوا. هوت الثوب وهرده إذا حرقه ، وسبت رأسه وسبده إذا حلقه ، فكذلك كبت العدو وكبده أي أصاب كبده.

واللام في ليقطع يتعلق قيل : بمحذوف تقديره أمدكم أو نصركم. وقال الحوفي : بتعلق بقوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ) (٢) أي نصركم ليقطع. قال : ويجوز أن يتعلق بقوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ). ويجوز أن تكون متعلقة بيمددكم. وقال ابن عطية : وقد يحتمل أن تكون اللام متعلقة بجعله ، وقيل : هو معطوف على قوله. ولتطمئن ، وحذف حرف العطف منه ، التقدير : ولتطمئن قلوبكم به وليقطع ، وتكون الجملة من قوله : وما النصر إلا من عند الله اعتراضية بين المعطوف عليه والمعطوف. والذي يظهر أن تتعلق بأقرب مذكور وهو : العامل من في عند الله وهو خبر المبتدأ. كأنّ التقدير : وما النصر إلا كائن من عند الله ، لا من عند غيره. لأحد أمرين : إما قطع طرف من الكفار بقتل وأسر ، وإما بخزي وانقلاب بخيبة. وتكون الألف واللام في النصر ليست للعهد في نصر مخصوص ، بل هي للعموم ، أي : لا يكون نصر أي نصر من الله للمسلمين على الكفار إلا لأحد أمرين.

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٢٥.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٢٣.

٣٣٧

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) اختلف في سبب النزول وملخصه : أنه لعن ناسا أو شخصا عين أنه عتبة بن أبي وقاص ، أو أشخاصا دعا عليهم وعينوا : أبا سفيان ، والحرث بن هشام ، وصفوان بن أمية. أو قبائل عين منها : لحيان ، ورعل ، وذكوان ، وعصية. أو هم بسبب الذين انهزموا يوم أحد ، أو استأذن ربه أن يدعو. ودعا يوم أحد حين شجّ في وجهه ، وكسرت رباعيته ، ورمي بالحجارة ، حتى صرع لجنبه ، فلحقة ناس من فلاحهم ، ومال إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم ، فنزلت. فعلى هذه الأسباب يكون معنى الآية : التوقيف على أن جميع الأمور إنما هي لله ، فيدخل فيها هداية هؤلاء وإقرارهم على حالة. وفي خطابه : دليل على صدور أمر منه أو هم به ، أو استئذان في الدعاء كما تقدّم ذكره ، وأن عواقب الأمور بيد الله. قال الكوفيون : نسخت هذه الآية القنوت على رعل وذكوان وعصية وغيرهم من المشركين. وقال السخاوي : ليس هذا شرط الناسخ ، لأنه لم ينسخ قرآنا.

(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) قيل : هو عطف على ما قبله من الأفعال المنصوبة. ويكون قوله : ليس لك من الأمر شيء جملة اعتراضية ، والمعنى : أن الله مالك أمرهم ، فإما أن يهلكهم ، أو يهزمهم ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر. وقيل : أن مضمرة بعد أو ، بمعنى : إلا أن ، وهي التي في قولهم : لألزمنك أو تقضيني حقي ، والمعنى : أنه ليس له من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم بالإسلام فيسر بهداهم ، أو يعذبهم بقتل وأسر في الدنيا ، أو بنار في الآخرة ، فيستشفى بذلك ويستريح. وعلى هذا التأويل تكون الجملة المنفية للتأسيس ، لا للتأكيد. وقيل : أو يتوب معطوف على الأمر. وقيل : على شيء. أي : ليس لك من الأمر ، أو من توبتهم ، أو تعذيبهم شيء. أو ليس لك من الأمر شيء أو توبتهم ، أو تعذيبهم. والظاهر من هذه التخاريج الأربعة هو الأول. وأبعد من ذهب إلى أن قوله : ليس لك من الأمر ، أي أمر الطائفتين اللتين همتا أن تفشلا.

وقال ابن بحر : من الأمر ، من هذا النصر ، وإنما هو من الله كما قال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) (١) وقيل : المراد بالأمر أمر القتال. والظاهر الحمل على العموم ، والأمور كلها لله تعالى.

وقرأ أبي : أو يتوب عليهم أو يعذبهم برفعهما على معنى : أو هو يتوب عليهم ، ثم نبه

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ١٧.

٣٣٨

على العلة المقتضية للتعذيب بقوله : فإنهم ظالمون ، وأتى بأن الدالة على التأكيد في نسبة الظلم إليهم.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لمّا قدم ليس لك من الأمر شيء ، بيّن أن الأمور إنما هي لمن له الملك ، والملك فجاء بهذه الجملة مؤكدة للجملة السابقة. وتقدم شرح هذه الجملة. وما : إشارة إلى جملة العالم وما هيأته ، فلذلك حسنت ما هنا.

(يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) لما تقدّم قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم ، أتى بهذه الجملة موضحة أن تصرفاته تعالى على وفق مشيئته ، وناسب البداءة بالغفران ، والإرداف بالعذاب ما تقدم من قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم ، ولم يشرط في الغفران هنا التوبة. إذ يغفر تعالى لمن يشاء من تائب وغير تائب ، ما عدا ما استثناه تعالى من الشرك. وقال الزمخشري ما نصه عن الحسن رحمه‌الله : يغفر لمن يشاء بالتوبة ، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين. ويعذب من يشاء ، ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب. وعن عطاء : يغفر لمن يتوب إليه ، ويعذب من لقيه ظالما وأتباعه قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، تفسير بين لمن يشاء ، فإنهم المتوب عليهم أو الظالمون. ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامون ويتعامون عن آيات الله تعالى ، فيخبطون خبط عشواء ، ويطيبون أنفسهم بما يفترون. عن ابن عباس من قولهم : يهب الذنب الكبير لمن يشاء ، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير. انتهى كلامه. وهو مذهب المعتزلة. وذلك أن من مات مصرا على كبيرة لا يغفر الله له. وما ذكره عن الحسن لا يصح البتّة. ومذهب أهل السنة ؛ أنّ الله تعالى يغفر لمن يشاء وإن مات مصرّا على كبيرة غير تائب منها.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في هذه الجملة ترجيح لجهة الإحسان والإنعام (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) قال ابن عطية : هذا النهي عن أكل الربا اعترض أثناء قصة أحد ، ولا أحفظ شيئا في ذلك مرويا انتهى.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ومجيئها بين أثناء القصة : أنّه لما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من غيرهم ، واستطرد لذكر قصة أحد. وكان الكفار أكثر معاملاتهم بالربا مع أمثالهم ومع المؤمنين ، وهذه المعاملة مؤدية إلى مخالطة الكفار ، نهوا عن هذه المعاملة التي هي الربا قطعا لمخالطة الكفار ومودّتهم ، واتخاذ إخلاء منهم ، لا سيما والمؤمنون في أول حال الإسلام ذوو إعسار ، والكفار من اليهود وغيرهم ذوو يسار. وكان أيضا أكل الحرام له مدخل

٣٣٩

عظيم في عدم قبول الأعمال الصالحة والأدعية ، كما جاء في الحديث : «إن الله تعالى لا يستجيب لمن مطعمه حرام ومشربه حرام إذا دعا» ، «وأن آكل الحرام يقول إذا حج : لبيك وسعديك. فيقول الله له : لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك» فناسب ذكر هذه الآية هنا.

وقيل : ناسب اعتراض هذه الجملة هنا أنه تعالى وعد المؤمنين بالنصر والإمداد مقرونا بالصبر والتقوى ، فبدأ بالأهم منها وهو : ما كانوا يتعاطونه من أكل الأموال بالباطل ، وأمر بالتقوى ، ثم بالطاعة. وقيل : لما قال تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (١) وبيّن أنّ ما فيهما من الموجودات ملك له ، ولا يجوز أن يتصرّف في شيء منها إلا بإذنه على الوجه الذي شرعه. وآكل الربا متصرّف في ماله بغير الوجه الذي أمر ، نبّه تعالى على ذلك ، ونهى عما كانوا في الإسلام مستمرّين عليه من حكم الجاهلية ، وقد تقدم الربا في سورة البقرة.

وانتصب أضعافا ، فانهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها ، كان الطالب يقول : أتقضي أم تربي ، وربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين ، لأنه إذا لم يجد وفاء زاد في الدين ، وزاد في الأصل. وأشار بقوله : مضاعفة ، إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاما بعد عام. والربا محرم جميع أنواعه ، فهذه الحال لا مفهوم لها ، وليست قيدا في النهي ، إذ ما لا يقع أضعافا مضاعفة مساو في التحريم لما كان أضعافا مضاعفة. وقد تقدم الكلام في نسبة الآكل إلى الربا في البقرة.

وقيل : المضاعفة منصرفة إلى الأموال. فإن كان الربا في السن يرفعونها ابنة مخاض بابنة لبون ، ثم حقة ، ثم جذعة ، ثم رباع ، هكذا إلى فوق. وإن كان في النقود فمائة إلى قابل بمائتين ، فإن لم يوفهما فأربعمائة. والأضعاف : جمع ضعف ، وهو من جموع القلة. فلذلك أردفه بالمضاعفة. (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لما نهاهم عن أمر صعب عليهم فراقه وهو الربا ، أمر بتقوى الله إذ هي الحاملة على مخالفة ما تعوده المرء مما نهى الشرع عنه. ثم ذكر أنّ التقوى سبب لرجاء الفلاح وهو الفوز ، وأمر بها مطلقا لا مقيدا بفعل الربا ، لأنه لما نهى عن الربا كان المؤمنون أسرع شيء لطواعية الله تعالى ، فلم يأت واتقوا الله في أكل الربا بل أمروا بالتقوى ، لا بالنسبة إلى شيء خاص منعوه من جهة الشريعة. (وَاتَّقُوا

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٢٩.

٣٤٠