البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

أن يكون السامع من أهل الإسلام ، وبيّنه قولهم : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) فجمع الأمّيين وهم اتباع النبي الأمي.

وقرأ أبي بن كعب : تئمنه ، في الحرفين ، و : تئمنا ، في يوسف. وقرأ ابن مسعود ، والأشهب العقيلي ، وابن وثاب : تيمنه ، بتاء مكسورة وياء ساكنة بعدها ، قال الداني : وهي لغة تميم. وأما إبدال الهمزة ياء في : تئمنه ، فلكسرة ما قبلها كما أبدلوا في بئر.

وقد ذكرنا الكلام على حروف المضارعة من : فعل ، ومن : ما أوله همزة وصل عند الكلام على قوله (نَسْتَعِينُ) (١) فأغنى عن إعادته.

وقال : ابن عطية ، حين ذكر قراءة أبي : وما أراها إلّا لغة : قرشية ، وهي كسر نون الجماعة : كنستعين ، وألف المتكلم ، كقول ابن عمر : لا إخاله ، وتاء المخاطب كهذه الآية ، ولا يكسرون الياء في الغائب ، وبها قرأ أبي في : تئمنه. انتهى. ولم يبين ما يكسر فيه حروف المضارعة بقانون كلي ، وما ظنه من أنها لغة قرشية ليس كما ظنّ. وقد بينا ذلك في (نَسْتَعِينُ) (٢) وتقدّم تفسير : القنطار ، في قوله : (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) (٣).

وقرأ الجمهور : يؤده ، بكسر الهاء ووصلها بياء. وقرأ قالون باختلاس الحركة ، وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر ، وحمزة ، والأعمش بالسكون. قال أبو إسحاق : وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بيّن ، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل. وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة ، فغلط عليه كما غلط عليه في : بارئكم ، وقد حكى عنه سيبويه ، وهو ضابط لمثل هذا ، أنه كان يكسر كسرا خفيفا. انتهى كلام ابن إسحاق. وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط ليس بشيء ، إذ هي قراءة في السبعة ، وهي متواترة ، وكفى أنها منقولة من إمام البصريين أبي عمرو بن العلاء. فإنه عربي صريح ، وسامع لغة ، وإمام في النحو ، ولم يكن ليذهب عنه جواز مثل هذا.

وقد أجاز ذلك الفراء وهو إمام في النحو واللغة. وحكى ذلك لغة لبعض العرب تجزم في الوصل والقطع.

وقد روى الكسائي أن لغة عقيل وكلاب : أنهم يختلسون الحركة في هذه الهاء إذا كانت بعد متحرك ، وأنهم يسكنون أيضا. قال الكسائي : سمعت أعراب عقيل وكلاب

__________________

(٢ ـ ١) سورة الفاتحة : ١ / ٢.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٤.

٢٢١

يقولون : (لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (١) بالجزم ، و : لربه لكنود ، بغير تمام وله مال وغير عقيل وكلاب لا يوجد في كلامهم اختلاس ولا سكون في : له وشبهه ، إلّا في ضرورة نحو قوله.

له زجل كأنه صوت حاد

وقال :

إلا لأن عيونه سيل واديها

ونص بعض أصحابنا على أن حركة هذه الهاء بعد الفعل الذاهب منه حرف لوقف أو جزم يجوز فيها الإشباع ، ويجوز الاختلاس ، ويجوز السكون. وأبو إسحاق الزجاج ، يقال عنه : إنه لم يكن إماما في اللغة ، ولذلك أنكر على ثعلب في كتابه : (الفصيح) مواضع زعم أن العرب لا تقولها ، وردّ الناس على أبي إسحاق في إنكاره ، ونقلوها من لغة العرب. وممن ردّ عليه : أبو منصور الجواليقي ، وكان ثعلب إماما في اللغة وإماما في النحو على مذهب الكوفيين ، ونقلوا أيضا قراءتين : إحداهما ضم الهاء ووصلها بواو ، وهي قراءة الزهري ، والأخرى : ضمها دون وصل ، وبها قرأ سلام.

والباء في : بقنطار ، وفي : بدينار قيل : للإلصاق. وقيل : بمعنى على ، إذ الأصل أن تتعدى بعلى ، كما قال مالك : (لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) (٢) وقال : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ) (٣) وقيل : بمعنى في أي : في حفظ قنطار ، وفي حفظ دينار. والذي يظهر أن القنطار والدينار مثالان للكثير والقليل ، فيدخل أكثر من القنطار وأقل. وفي الدينار أقل منه.

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد طبقه يعني في الدينار لا يجوز إلّا في دينار فما زاد ، ولم يعن بذكر الخائنين في : أقل ، إذ هم طغام حثالة. انتهى.

ومعنى : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) قال قتادة ، ومجاهد ، والزجاج ، والفراء ، وابن قتيبة : متقاضيا بأنواع التقاضي من : الخفر ، والمرافعة إلى الحكام ، فليس المراد هيئة القيام ، إنما هو من قيام المرء على أشغاله : أي اجتهاده فيها.

وقال السدي وغيره : قائما على رأسه وهي الهيئة المعروفة وذلك نهاية الخفر ، لأن

__________________

(١) سورة العاديات : ١٠٠ / ٦.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ١١.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ٦٤.

٢٢٢

معنى ذلك أنه في صدد شغل آخر يريد أن يستقبله. وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء ، وانتزعوا من الآية جواز السجن ، لأن الذي يقوم عليه غريمه هو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء ، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن. وقيل : قائما بوجهك فيهابك ويستحي منك. وقيل : معنى : دمت عليه قائما ، أي : مستعليا ، فإن استلان جانبك لم يؤدّ إليك أمانتك.

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وابن أبي ليلى ، والفياض بن غزوان ، وطلحة ، وغيرهم : دمت بكسر الدال ، وتقدم أنها لغة تميم وتقدم الخلاف في مضارعه.

و : ما ، في : ما دمت ، مصدرية ظرفية. و : دمت ، ناقصة فخبرها : قائما ، وأجاز أبو البقاء أن تكون : ما ، مصدرية فقط لا ظرفية ، فتقدر بمصدر ، وذلك المصدر ينتصب على الحال ، فيكون ذلك استثناء من الأحوال لا من الأزمان. قال : والتقدير : إلّا في حال ملازمتك له. فعلى هذا يكون : قائما ، منصوبا على الحال ، لا خبرا لدام ، لأن شرط نقص : دام ، أن يكون صلة لما المصدرية الظرفية.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) روي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال. العرب لكونهم أهل أوثان ، فلما جاء الإسلام ، وأسلم من أسلم من العرب ، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد ، فنزلت الآية مانعة من ذلك. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي ، إلّا الأمانة فإنها مؤادّة إلى البر والفاجر». والإشارة بذلك إلى ترك الأداء الذي دل عليه لا يؤدّه ، أي : كونهم لا يؤدّون الأمانة كان بسبب قولهم.

والضمير في : بأنهم ، قيل : عائد على اليهود وقيل : عائد على لفيف بني إسرائيل. والأظهر أنه عائد على : من ، في قوله : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) وجمع حملا على المعنى ، أي ترك الأداء في الدّينار فما دونه وفما فوقه كائن بسبب قول المانع للأداء الخائن : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ) وهم الذين ليسوا من أهل الكتاب ، وهم العرب. وتقدّم كونهم سموا أمّيين في سورة البقرة.

والسبيل ، قيل : العتاب والذم. وقيل : الحجة على ، نحو قول حميد بن ثور :

٢٢٣

وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة

من السرح موجود عليّ طريق

وقوله : فأولئك ما عليهم من سبيل من هذا المعنى ، وهو كثير في القرآن وكلام العرب. وقيل : السبيل هنا الفعل المؤدّي إلى الإثم. والمعنى : ليس عليهم طريق فيما يستحلون من أموال المؤمنين الأمّيين.

قال : وسبب استباحتهم لأموال الأمّيين أنهم عندهم مشركون ، وهم بعد إسلامهم باقون على ما كانوا عليه ، وذلك لتكذيب اليهود للقرآن وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : لأنهم انتقض العهد الذي كان بينهم بسبب إسلامهم ، فصاروا كالمحاربين ، فاستحلوا أموالهم. وقيل : لأن ذلك مباح في كتابهم أخذ مال من خالفهم.

وقال الكلبي : قالت اليهود : الأموال كلها كانت لنا ، فما في أيدي العرب منها فهو لنا ، وأنهم ظلمونا وغصبونا ، فلا سبيل علينا في أخذ أموالنا منهم. وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن صعصعة ، أن رجلا قال لابن عباس : أنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمّة : الشاة والدجاجة ، ويقولون : ليس علينا بذلك بأس ، فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أنهم إذا أدّوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلّا عن طيب أنفسهم. وذكر هذا الأثر الزمخشري ، وابن عطية ، وفيه بعد ذكر الشاة أو الدجاجة ، قال : فيقولون ماذا قال؟ يقول : ليس علينا في ذلك بأس.

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي القول الكذب يفترونه على الله بادعائهم أن ذلك في كتابهم. قال السدّي ، وابن جريج ، وغيرهما : ادعت طائفة من أهل الكتاب أن في التوراة إحلالا لهم أموال الأمّيين كذبا منها وهي عالمة بكذبها ، فيكون الكذب المقول هنا هو هذا الكذب المخصوص في هذا الفصل. والظاهر أنه أعم من هذا ، فيندرج هذا فيه ، أي : هم يكذبون على الله في غير ما شيء وهم علماء بموضع الصدق.

وجوّزوا أن يكون : علينا ، خبر : ليس ، وأن يكون الخبر : في الأمّيين ، وذهب قوم إلى عمل : ليس ، في الجار ، فيجوز على هذا أن يتعلق بها.

قيل : ويجوز أن يرتفع : سبيل ، بعلينا ، وفي : ليس ، ضمير الأمر ، ويتعلق : على الله ، بيقولون بمعنى : يفترون.

قيل : ويجوز أن يكون حالا من الكذب مقدما عليه ولا يتعلق بالكذب.

٢٢٤

قيل : لأن الصلة لا تتقدّم على الموصول.

(وَهُمْ يَعْلَمُونَ) جملة حالية تنعي عليهم قبيح ما يرتكبون من الكذب ، أي : إن العلم بالشيء يبعد ويقبح أن يكذب فيه ، فكذبهم ليس عن غفلة ولا جهل ، إنما هو عن علم.

(بَلى) جواب لقولهم : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) وهذا مناقض لدعواهم ، والمعنى : بلى عليهم في الأمّيين سبيل ، وقد تقدّم القول في : بلى ، في قوله (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) (١) فأغنى عن إعادته هنا.

(مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أخبر تعالى بأن من أوفى بالعهد واتقى الله في نقضه فهو محبوب عند الله. وقال ابن عباس : اتقى هنا معناه اتقى الشرك ، وهذه الجملة مقررة للجملة المحذوفة بعد بلى ، و : من ، يحتمل أن تكون موصولة ، والأظهر أنها شرطية ، و : أوفى ، لغة الحجاز. و : وفى ، خفيفة لغة نجد. و : وفى ، مشدّدة لغة أيضا. وتقدّم ذكر هذه اللغات.

والظاهر في : بعهده ، أن الضمير عائد على : من. وقيل : يعود على الله تعالى ، ويدخل في الوفاء بالعهد ، العهد الأعظم من ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سواء أضيف العهد إلى : من ، أو : إلى الله ، والشرائط للجملة الخبرية أو الجزائية بمن هو العموم الذي في المتقين ، أو ما قبله ، فرد من أفراده ، ويحتمل أن يكون الخبر محذوفا لدلالة المعنى عليه ، التقدير : يحبه الله ، ثم قال (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) وأتى بلفظ : المتقين ، عاما تشريفا للتقوى دحضا عليها.

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) نزلت في أحبار اليهود : أبي رافع ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وكعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، قاله عكرمة. أو : فيمن حرّف نعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود ، قاله الحسن. أو : في خصومة الأشعث بن قيس مع يهودي ، أو مع بعض قرابته. أو : في رجل حلف على سلعة مساء لأعطي بها أول النهار كذا ، يمينا كاذبة ، قاله مجاهد ، والشعبي.

والإضافة في (بِعَهْدِ اللهِ) إما للفاعل وإما للمفعول ، أي : بعهد الله إياه من الإيمان

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٨١.

٢٢٥

بالرسول الذي بعث مصدّقا لما معهم ، وبأيمانهم التي حلفوها لنؤمنن به ولننصرنه ، أو بعهد الله. والاشتراء هنا مجاز ، والثمن القليل : متاع الدنيا من الرشى والتراؤس ونحو ذلك ، والظاهر أنها في أهل الكتاب لما احتف بها من الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها.

(أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي : لا نصيب لهم في الآخرة ، اعتاضوا بالقليل الفاني عن النعيم الباقي ، ونعني : لا نصيب له من الخير ، نفي نصيب الخير عنه.

(وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) قال الطبري : أي بما يسرهم وقال غيره : لا يكلمهم جملة وإنما تحاسبهم الملائكة ، قاله الزّجاج. وقال قوم : هو عبارة عن الغضب ، أي : لا يحفل بهم ، ولا يرضى عنهم ، وقاله ابن بحر. وقد تقدّم في البقرة شرح : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) (١).

(وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) قال الزمخشري : ولا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم ، تقول : فلان لا ينظر إلى فلان ، يريد نفي اعتداده به ، وإحسانه إليه.

فإن قلت أي فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه.

قلت أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية ، لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان ، وإن لم يكن ثمّ نظر ، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر. انتهى كلامه. وقال غيره : ولا ينظر. أي : لا يرحم. قال :

فقلت انظري يا أحسن الناس كلهم

لذي غلة صديان قد شفه الوجد

(وَلا يُزَكِّيهِمْ) ولا يثني عليهم أو لا ينمي أعمالهم ، فهي تنمية لهم ، أو لا يطهرهم من الذنوب. أقوال ثلاثة ، وتقدّم شرحه في البقرة.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تقدّم شرحه أيضا.

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً) أي : من اليهود ، قاله الحسن : أو : من أهل الكتابين ، قاله ابن عباس. وعن ابن عباس أيضا : هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيّروا التوراة. وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٤.

٢٢٦

(يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) أي : يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف ، قاله الزمخشري وقال ابن عطية : يحرفون ويتحيلون لتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها ، ومثال ذلك قولهم : راعنا ، وأسمع غير مسمع ، ونحو ذلك وليس التبديل المحض. انتهى.

والذي يظهر أن الليّ وقع بالكتاب أي : بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض الناس ، بل التحريف والتبديل وقع في الألفاظ ، والمعاني تبع للألفاظ ، ومن طالع التوراة علم يقينا أن التبديل في الألفاظ والمعاني ، لأنها تضمنت أشياء يجزم العاقل أنها ليست من عند الله ، ولا أن ذلك يقع في كتاب إلهي من كثرة التناقض في الاخبار والأعداد ونسبة أشياء إلى الله تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك ، ونسبة أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر من الخمر والزنا ببناتهم. وغير ذلك من القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها ، فضلا عن منصب النبوة.

وقد صنف الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي ، رحمه‌الله تعالى ، كتابا في (السؤالات على ألفاظ التوراة ومعانيه) ومن طالع ذلك الكتاب رأى فيه عجائب وغرائب ، وجزم بالتبديل لألفاظ التوراة ومعانيها ، هذا مع خلوها من ذكر : الآخرة ، والبعث ، والحشر ، والنشر ، والعذاب والنعيم الأخرويين ، والتبشير برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأين هذا من قوله تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (١) وقوله تعالى وقد ذكر رسوله وصحابته. (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) (٢).

وقد نص تعالى في القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة ، قال تعالى : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) (٣) وقال تعالى (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) (٤) فدلت هاتان الآيتان على أن الذي أخفوه من الكتاب كثير ، ودل بمفهوم الصفة أن الذي أبدوه من الكتاب قليل.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٧.

(٢) سورة الفتح : ٤٨ / ٢٩.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٩١.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ١٥.

٢٢٧

وقرأ الجمهور : يلوون ، مضارع : لوى وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ، وأبو حاتم عن نافع : يلوون بالتشديد ، مضارع : لوّى ، مشدّدا. ونسبها الزمخشري لأهل المدينة ، والتضعيف للمبالغة والتكثير في الفعل لا للتعدية. وقرأ حميد : يلون ، بضم اللام ، ونسبها الزمخشري إلى أنها رواية عن مجاهد ، وابن كثير ، ووجهت على أن الأصل : يلوون ، ثم أبدلت الواو همزة ، ثم نقلت حركتها إلى الساكن قبلها ، وحذفت هي.

والكتاب : هنا التوراة ، والمخاطب في : لتحسبوه ، المسلمون. وقرىء : ليحسبوه ، بالياء وهو يعود على الذين يلوون ألسنتهم لهم ، أي : ليحسبه المسلمون ، والضمير المفعول في : ليحسبوه ، عائد على ما دل عليه ما قبله من المحرف ، أي ليحسبوا المحرف من الكتاب.

ويحتمل أن يكون قوله : بالكتاب ، على حذف مضاف أي : يلوون ألسنتهم بشبه الكتاب ، فيعود الضمير على ذلك المضاف المحذوف ، كقوله تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ) (١) أي : أو كذي ظلمات ، فأعاد المفعول في : يغشاه ، على : ذي ، المحذوف.

(وَما هُوَ : مِنَ الْكِتابِ) أي : وما المحرف والمبدل الذي لووه بألسنتهم من التوراة ، فلا تظنوا ذلك أنه من التوراة.

(وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) تأكيد لما قصدوه من حسبان المسلمين أنه من الكتاب ، وافتراء عظيم على الله ، إذ لم يكتفوا بهذا الفعل القبيح من التبديل والتحريف حتى عضدوا ذلك بالقول ليطابق الفعل القول ، ودل ذلك على أنهم لا يعرضون ، ولا يودّون في ذلك ، بل يصرحون بأنه في التوراة هكذا ، وقد أنزله الله على موسى كذلك ، وذلك لفرط جرأتهم على الله ويأسهم من الآخرة.

(وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) رد عليهم في إخبارهم بالكذب ، وهذا تأكيد لقوله (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) نفى أولا أخص ، إذ التعليل كان لأخص ، ونفى هنا أعم ، لأن الدعوى منهم كانت الأعم ، لأن كونه من عند الله أعم من أن يكون في التوراة أو غيرها.

قال أبو بكر الرازي : هذه الآية فيها دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله ولا

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٤٠.

٢٢٨

من فعله ، لأنها لو كانت من فعله كانت من عنده. وقد نفى الله تعالى نفيا عامّا لكون المعاصي من عنده. انتهى. وهذا مذهب المعتزلة ، وكان الرازي يجنح إلى مذهبهم.

وقال ابن عطية (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) نفى أن يكون منزلا كما ادّعوا ، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ، ومنهم بالتكسب. ولم تعن الآية إلّا معنى التنزيل ، فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله : (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تقدّم تفسير مثل هذا آنفا.

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) روي أن أبا رافع القرظي قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين اجتمعت الأحبار من يهود ، والوفد من نصارى نجران : يا محمد! إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلها كما عبدت النصارى عيسى؟ فقال الرئيس من نصارى نجران : أو ذاك تريد يا محمد وإليه تدعونا؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «معاذ الله ما بذلك أمرت ولا إليه دعوت» ، فنزلت.

وقيل : قال رجل : يا رسول الله! نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك؟ قال : «لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله».

واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله : (ما كانَ لِبَشَرٍ) فقال ابن عباس ، والربيع ، وابن جريج ، وجماعة : الإشارة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكروا سبب النزول المذكور.

وقال النقاش ، وغيره : الإشارة إلى عيسى ، والآية رادّة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة مستندة إلى أوامره ، ومعنى (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ) وما جاء نحوه أنه ينفي عنه الكون ، والمراد نفي الخبر ، وذلك على قسمين.

أحدهما : أن يكون الانتفاء من حيث العقل ، ويعبر عنه بالنفي التام ، ومثاله قوله : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) (١) (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٢).

والثاني : أن يكون الانتفاء فيه على سبيل الانتفاء ، ويعبر عنه بالنفي غير التام ، ومثاله قول أبي بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدّم أن يصلي بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٦٠.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٤٥.

٢٢٩

ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذي النفي فيه ، وهذه الآية من القسم الأول ، لأنا نعلم أن الله لا يعطي الكذبة والمدّعين النبوّة ، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام.

والكتاب : هنا اسم جنس ، والحكم : قيل بمعنى الحكمة ، ومنه : «إن من الشعر لحكما». وقيل : الحكم هنا السنة ، يعنون لمقابلته الكتاب ، والظاهر أن الحكم هنا القضاء والفصل بين الناس ، وهذا من باب الترقي ، بدأ أولا بالكتاب وهو العلم ، ثم ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوّة وهي مجمع الخير.

ثم يقول للناس : أتى بلفظ : ثم ، التي هي للمهلة تعظيما لهذا القول ، وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى ، أي : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول ، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم.

(كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) عبادا جمع عبد. قال ابن عطية : ومن جموعه : عبيد وعبدّى. قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلها بمعنى. وقال قوم : العباد لله والعبيد للبشر. وقال قوم : العبدى إنما يقال في العبيد بني العبيد ، كأنه مبالغة تقتضي الاستغراق في العبودية.

والذي استقرئت في لفظة : العباد ، أنه جمع عبد ، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن فانظر قوله تعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (١) و (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢) و (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) (٣) وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) (٤).

وأما : العبيد ، فيستعمل في التحقير ، ومنه قول امرئ القيس :

قولا لدودان عبيد العصا

ما غركم بالأسد الباسل

ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلّا عبيد لأبي ، ومنه (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٥) لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلام لهم

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٠٧ وآل عمران : ٣ / ٣٠.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٦.

(٣) سورة الزمر : ٣٩ / ١٠.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ١١٨.

(٥) سورة فصلت : ٤١ / ٤٦.

٢٣٠

مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة ، لم يقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) (١) فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في حين فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله : (كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) اعبدوني واجعلوني إلها. انتهى كلام ابن عطية. وفيه بعض مناقشة.

أما قوله : ومن جموعه : عبيد وعبدى ، أما عبيد فالأصح أنه جمع. وقيل : اسم جمع ، و : أما عبدى فاسم جمع ، وألفه للتأنيث. وأما ما استقرأه أن عبادا يساق في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظا في القرآن بلفظ العباد ، وقوله : وأما العبيد فيستعمل في تحقير ، وأنشد بيت إمرئ القيس ، وقول حمزة وقوله تعالى (بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٢) فليس باستقراء صحيح ، وإنما كثر استعمال : عباد ، دون : عبيد ، لأن فعالا في جمع فعل غير اليائي العين قياس مطرد ، وجمع فعل على فعيل لا يطرد.

قال سيبويه : وربما جاء فعيلا وهو قليل ، نحو : الكليب والعبيد. انتهى.

فلما كان فعال هو المقيس في جمع : عبد ، جاء : عباد ، كثيرا. وأما (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٣) فحسن مجيئه هنا وإن لم يكن مقيسا أنه جاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٤) وبعده (قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) (٥) فحسن مجيئه بلفظ العبيد مواخاة هاتين الفاصلتين ، ونظير هذا قوله في سورة ق : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٦) لأن قبله (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) (٧) وبعده (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (٨) وأما مدلوله فمدلول : عباد ، سواء.

وأما بيت امرئ القيس فلم يفهم التحقير من لفظ : عبيد ، إنما فهم من إضافتهم إلى العصا ، ومن مجموع البيت. وكذلك قول حمزة إنما فهم منه معنى التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت ، وفي وقل حمزة على أحد الجائزين.

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ١٠.

(٣ ـ ٢) سورة فصلت : ٤١ / ٤٦.

(٤) سورة فصلت : ٤١ / ٤٤.

(٥) سورة فصلت : ٤١ / ٤٧.

(٦) سورة ق : ٥٠ / ٢٩.

(٧) سورة ق : ٥٠ / ٢٨.

(٨) سورة ق : ٥٠ / ٣٠.

٢٣١

وقرأ الجمهور : ثم يقول ، بالنصب عطفا على : أن يؤتيه ، وقرأ شبل عن ابن كثير ، ومحبوب عن أبي عمرو : بالرفع على القطع أي : ثم هو يقول. وقرأ الجمهور : عبادا لي ، بتسكين ياء الإضافة. وقرأ عيسى بن عمر : بفتحها.

(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) هذا على إضمار القول تقديره : ولكن يقول كونوا ربانيين ، والرباني الحكيم العالم ، قاله قتادة ، وأبو رزين. أو : الفقيه ، قاله علي ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد. أو : العالم الحليم ، قاله قتادة وغيره. أو : الحكيم الفقيه ، قاله ابن عباس. أو : الفقيه العلم ، قاله الحسن ، والضحاك. أو : والي الأمر يربيهم ويصلحهم ، قاله ابن زيد. أو : الحكيم التقي ، قاله ابن جبير. أو : المعلم ، قاله الزجاج. أو : العالم ، قاله المبرد. أو : التائب لربه ، قاله المؤرج. أو : الشديد التمسك بدين الله وطاعته ، قاله الزمخشري. أو : العالم الحكيم الناصح لله في خلقه ، قاله عطاء. أو : العالم العامل بعلمه ، قاله ابن جبير. أو : العالم المعلم ، قاله بعضهم. وهذه أقوال متقاربة.

وللصوفية في تفسيره أقوال كثيرة غير هذه ، وقال مجاهد : الرباني فوق الحبر ، لأن الحبر هو العالم ، والرباني الذي جمع إلى العلم والفقه النظر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم. وفي البخاري : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.

قال ابن عطية : فجملة ما يقال في الرباني : إنه العالم المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس انتهى. ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية : اليوم مات رباني هذه الآمة.

(بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) الباء للسبب ، و : ما ، الظاهر أنها مصدرية ، و : تعلمون ، متعد لواحد على قراءة الحرميين وأبي عمرو إذ قرأوا بالتخفيف مضارع علم ، فأما قراءة باقي السبعة بضم التاء وفتح العين وتشديد اللام المكسورة ، فيتعدّى إلى اثنين ، إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد ، وأول المفعولين محذوف تقديره : تعلمون الناس الكتاب. وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى ، وقد تقدّم أني لا أرى شيئا من هذه التراجيح ، لأنها كلها منقولة متواترة قرآنا ، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على الأخرى.

٢٣٢

وقرأ مجاهد ، والحسن : تعلمون ، بفتح التاء والعين واللام المشددة ، وهو مضارع حذفت منه التاء ، التقدير : تتعلمون ، وقد تقدم الخلاف في المحذوف منهما.

وقرأ أبو حيوة : تدرسون بكسر الراء. وروي عنه : تدرّسون ، بضم التاء وفتح الدال وكسر الراء المشددة أي : تدرسون غيركم العلم ، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا للتعدية. وقرىء : تدرسون ، من أدرس بمعنى درّس نحو : أكرم وكرّم ، و : أنزل نزّل ، وقال الزمخشري : أوجب أن تكون الرئاسة التي هي قوّة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة ، وكفى به دليلا على خيبة سعي من جهد نفسه وكدر وجه في جمع العلم ، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ، ثم قال أيضا ، بعد أسطر : وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من الله في شيء ، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع حيث لم تثبت النسبة إليه إلّا للمتمسكين بطاعته. انتهى كلامه. وفيه دسيسة الاعتزال ، وهو أنه : لا يكون مؤمنا عالما إلّا بالعمل ، وأن العمل شرط في صحة الإيمان.

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) قرأ الحرميان ، والنحويان ، والأعشى والبرجمي : برفع الراء على القطع ، ويختلس أبو عمرو الحركة على أصله ، والفاعل ضمير مستكن في يأمر عائد على الله ، قاله سيبويه ، والزجاج. وقال ابن جريج : عائد على : بشر ، الموصوف بما سبق ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى على هذه القراءة : أنه لا يقع من بشر موصوف بما وصف به أن يجعل نفسه ربا فيعبد ، ولا هو أيضا يأمر باتخاذ غيره من ملائكة وأنبياء أربابا ، فانتفى أن يدعو لنفسه ولغيره. وإن كان الضمير عائدا على الله فيكون إخبارا من الله أنه لم يأمر بذلك ، فانتفى أمر الله بذلك ، وأمر أنبيائه.

وقرأ عاصم وابن عامر ، وحمزة ولا يأمركم ، بنصب الراء ، وخرجه أبو علي وغيره على أن يكون المعنى : ولا له أن يأمركم ، فقدروا : أن ، مضمرة بعد : لا ، وتكون : لا ، مؤكدة معنى النفي السابق ، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام. وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد ، فلا للتوكيد في النفي السابق ، وصار المعنى : ما كان من زيد إتيان ولا منه قيام.

٢٣٣

وقال الطبري قوله : ولا يأمركم ، بالنصب معطوف على قوله : ثم يقول ، قال ابن عطية : وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى. انتهى كلامه. ولم يبين جهة الخطأ ولا عدم التئام المعنى به ، ووجه الخطأ انه إذا كان معطوفا على : ثم يقول ، وكانت لا لتأسيس النفي ، فلا يمكن إلّا أن يقدر العامل قبل : لا ، وهو : أن ، فينسبك من : ان ، والفعل المنفي مصدر منتف فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وصف به انفاء امره باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، وإذا لم يكن له الانتفاء كان له الثبوت ، فصار آمرا باتخاذهم أربابا وهو خطأ ، فإذا جعلت لا لتأكيد النفي السابق كان النفي منسحبا على المصدرين المقدر ثبوتهما ، فينتفي قوله : (كُونُوا عِباداً لِي) وأمره باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، ويوضح هذا المعنى وضع : غير ، موضع : لا ، فإذا قلت : ما لزيد فقه ولا نحو ، كانت : لا ، لتأكيد النفي ، وانتفى عنه الوصفان ، ولو جعلت : لا ، لتأسيس النفي كانت بمعنى : غير ، فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه وثبوت النحو له ، إذ لو قلت : ما لزيد فقه وغير نحو ، كان في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلت : ماله غير نحو. ألا ترى أنك إذا قلت : جئت بلا زاد ، كان المعنى : جئت بغير زاد ، وإذا قلت : ما جئت بغير زاد ، معناه : أنك جئت بزاد؟ لأن : لا ، هنا لتأسيس النفي ، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم القيام المعنى إنما يكون على أحد التقديرين في : لا ، وهي أن يكون لتأسيس النفي ، وأن يكون من عطف المنفي بلا على المثبت الداخل عليه النفي ، نحو : ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم ، تريد : ما أريد أن لا تتعلم.

وأجاز الزمخشري أن أن تكون : لا ، لتأسيس النفي ، فذكر أولا كونها زائدة لتأكيد معنى النفي ، ثم قال : والثاني أن يجعل : لا ، غير مزيده ، والمعنى : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينهي قريشا عن عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح ، فلما قالوا له : أنتخذك ربا ، قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء.

قال : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، وينصرها قراءة عبد الله : ولن يأمركم ، انتهى كلام الزمخشري.

(أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) هذا استفهام إنكار وكونه بعد كونهم مسلمين أفحش وأقبح ، إذ الأمر بالكفر على كل حال منكر ، ومعناه : أنه لا يأمر بكفر لا بعد الإسلام ولا قبله ، سواء كان الآمر الله أم الذي استنبأه الله.

٢٣٤

وفي هذه الآية دلالة على أن المخاطبين كانوا مسلمين ، ودلالة على أن الكفر ملة واحدة إذ الذين اتخذوا الملائكة أربابا هم الصابئة وعبدة الأوثان ، والذين اتخذوا النبيين أربابا هم اليهود والنصارى والمجوس ، ومع هذا الاختلاف سمى الله الجميع : كفرا. و : بعد ، ينتصب بالكفر ، أو : بيأمركم ، و : إذ ، مضافة للجملة الاسمية كقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) (١) وأضيف إليها : بعد ، ولا يضاف إليها إلّا ظرف زمان.

وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى : لما نفى عن أهل الكتاب قبائح أقوالهم وأفعالهم ، وكان مما ذكر أخيرا اشتراءهم بآيات الله ثمنا قليلا ، وما يؤول أمرهم إليه في الآخرة ، وان منهم من بدل في كتابه وغير ، وصف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزه رسوله عن الأمر بأن يعبد هو أو غيره ، بل تفرّد الله تعالى بالعبادة ، أخذ تعالى يقيم الحجة على أهل الكتاب وغيرهم ممن أنكر نبوّته ودينه ، فذكر أخذ الميثاق على أنبيائهم بالإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتصديق له ، والقيام بنصرته ، وإقرارهم بذلك ، وشهادتهم على أنفسهم ، وشهادته تعالى عليهم بذلك ، وهذا العهد مذكور في كتبهم وشاهد بذلك أنبياؤهم.

وقرأ أبي ، وعبد الله : ميثاق الذي أوتوا الكتاب ، بدل : النبيين ، وكذا هو في مصحفيهما. وروي عن مجاهد أنه قال : هكذا هو القرآن ، وإثبات النبيين خطأ من الكاتب ، وهذا لا يصح عنه لأن الرواة الثقات نقلوا عنه أنه قرأ : النبيين ، كعبد الله بن كثير وغيره ، وإن صح ذلك عن غيره فهو خطأ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان.

والخطاب بقوله : وإذ أخذ ، يجوز أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمره أن يذكر أهل الكتاب بما هو في كتبهم من أخذ الميثاق على النبيين ، ويجوز أن يتوجه إلى أهل الكتاب أمروا أن يذكروا ذلك ، وعلى هذين التقديرين يكون العامل : أذكر ، أو : أذكروا ، ويجوز أن يكون العامل في : إذ ، قال من قوله : (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ) وهو حسن ، إذ لا تكلف فيه.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٢٦.

٢٣٥

قيل : ويجوز أن يكون معطوفا على ما تقدم من لفظ إذ ، والعامل فيها : اصطفى ، وهذا بعيد جدا.

وظاهر الكلام يدل على أن الله هو الآخذ ميثاق النبيين. فروي عن عليّ ، وابن عباس ، وطاووس ، والحسن ، والسدّي : أن الذين أخذ ميثاقهم هم الأنبياء دون أممهم ، أخذ عليهم أن يصدّق بعضهم بعضا ، وأن ينصر بعضهم بعضا ، ونصرة كل نبي لمن بعده توصية من آمن به أن ينصره إذا أدرك زمانه. وينبو عن هذا المعنى لفظ : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) إلى آخر الكلام.

وقال ابن عباس أيضا فيما روي عنه : أخذ ميثاق النبيين وأممهم على الأيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونصره ، واجتزأ بذكر النبيين من ذكر أممها لأن الأمم أتباع للأنبياء ، ويدل عليه قول عليّ كرّم الله وجهه : ما بعث الله نبيا إلّا أخذ عليه العهد في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمره بأخذ العهد على قومه فيه بأن يؤمنوا به وينصروه إن أدركوا زمانه. وروي عن ابن عباس أيضا : أنه تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه أخذ الميثاق على جميع المرسلين أن يقروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعلى هذين القولين يكون قوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) عنى به واحد وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يكون جنسا. ويبعد قول ابن عباس : أن الميثاق كان حين أخرجهم من ظهر آدم كالذر.

قرأ حمزة : لما آتيناكم ، لأن الظاهر أن ذلك كان بعد إيتاء الكتاب والحكمة. و : ميثاق ، مضاف إلى النبيين ، فيحتمل أن يكون النبيون هم الموثقون للعهد على أممهم ، ويحتمل أن يكونوا هم الموثق عليهم ، والذي يدل عليه ما قبل الآية من قوله : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ) (١) الآية وما بعدها من قوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) (٢) أن المراد بقوله (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك جاء مصدقا لما معكم. وكثيرا ما وصف بهذا الوصف في القرآن رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ألا ترى إلى قوله (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ) (٣)؟ وكذلك وصف كتابه بأنه مصدق لما في كتبهم ، وإذا تقرر هذا كان المجاز في صدر الآية فيكون على حذف مضاف أي : وإذ أخذ الله ميثاق أتباع النبيين من أهل الكتاب ، أو ميثاق أولاد النبيين ، فيوافق صدر الآية ما بعدها ، وجعل ذلك

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٧٩.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٨٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٠١.

٢٣٦

ميثاقا للنبيين على سبيل التعظيم لهذا الميثاق ، أو يكون المأخوذ عليهم الميثاق مقدّرا بعد النبيين ، التقدير : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على أممهم. ويبين هذا التأويل قراءة أبي ، وعبد الله : ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، ويبين أيضا أن الميثاق كان على الأمم قوله : (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (١) ومحال هذا الفرض في حق النبيين ، وإنما ذلك في حق الأتباع.

وقرأ جمهور السبعة : لما ، بفتح اللام وتخفيف الميم. وقرأ حمزة : لما ، بكسر اللام. وقرأ سعيد بن جبير ، والحسن : لما ، بتشديد الميم.

فأما توجيه قراءة الجمهور ففيه أربعة أقوال.

أحدها : أن : ما ، شرطية منصوبة على المفعول بالفعل بعدها ، واللام قبلها موطئة لمجيء : ما ، بعدها جوابا للقسم ، وهو أخذ الله ميثاق. و : من ، في قوله : من كتاب ، كهي ، في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) (٢) والفعل بعد : ما ، ماض معناه الاستقبال لتقدم ، ما ، الشرطية عليه. وقوله : ثم جاءكم ، معطوف على الفعل بعد : ما ، فهو في حيز الشرط ، ويلزم أن يكون في قوله : ثم جاءكم ، رابط يربطها بما عطفت عليه ، لأن : جاءكم ، معطوف على الفعل بعد : ما ، و : لتؤمنن به ، جواب لقوله (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) ونظيره من الكلام في التركيب : أقسم لأيهم صحبت ، ثم أحسن إليه رجل تميمي لأحسنن إليه ، تريد لأحسنن إلى الرجل التميمي. فلأحسنن جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، وكذلك في الآية جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، والضمير في : به ، عائد على : رسول ، وهذا القول ، وهو أن : ما ، شرطية هو قول الكسائي.

وسأل سيبويه الخليل عن هذه الآية فقال ما نصه : ما ، هاهنا بمنزلة : الذي ، ودخلت اللام كما دخلت على : إن ، حين قلت : والله لئن فعلت لأفعلن ، فاللام في : ما ، كهذه التي في : أن ، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا. انتهى. ثم قال سيبويه : ومثل ذلك (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (٣) إنما دخلت اللام على نية اليمين. انتهى.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٨٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٠٦.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٨.

٢٣٧

وقال أبو علي : لم يرد الخليل بقوله : بمنزلة الذي أنها موصولة ، بل أنها اسم ، كما أن الذي اسم وفرّ أن تكون حرفا كما جاءت حرفا : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) (١) وفي قوله : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ) (٢) انتهى. وتحصل من كلام الخليل وسيبويه أن : ما ، في : لما أتيتكم ، شرطية وقد خرجها على الشرطية غير هؤلاء : كالمازني ، والزجاج ، وأبي علي ، والزمخشري ، وابن عطية وفيه خدش لطيف جدّا ، وهو أنه : إذا كانت شرطية كان الجواب محذوفا لدلالة جواب القسم عليه ، وإذا كان كذلك فالمحذوف من جنس المثبت ، ومتعلقاته متعلقاته ، فإذا قلت : والله لمن جاءني لأكرمنه ، فجواب : من ، محذوف ، التقدير : من جاءني أكرمه. وفي الآية اسم الشرط : ما ، وجوابه محذوف من جنس جواب القسم ، وهو الفعل المقسم عليه ، ومتعلق الفعل هو ضمير الرسول بواسطة حرف الجر لا ضمير : ما ، المقدّر ، فجواب : ما ، المقدّر إن كان من جنس جواب القسم فلا يجوز ذلك ، لأنه تعرّ. والجملة الجوابية إذ ذاك من ضمير يعود على اسم الشرط ، وإن كان من غير جنس جواب القسم فكيف يدل عليه جواب القسم وهو من غير جنسه وهو لا يحذف إلّا إذا كان من جنس جواب القسم؟ ألا ترى أنك لو قلت : والله لئن ضربني زيد لأضربنه؟ فكيف تقدره : إن ضربني زيد أضربه؟ ولا يجوز أن يكون التقدير : والله إن ضربني زيد أشكه لأضربنه ، لأن : لأضربنه ، لا يدل على : أشكه ، فهذا ما يرد على قول من خرج : ما ، على أنها شرطية.

وأما قول الزمخشري : ولتؤمنن ، ساد مسد جواب القسم ، والشرط جميعا فقول ظاهره مخالف لقول من جعل : ما ، شرطية ، لأنهم نصوا على أن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، اللهم إن عنى أنه من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب يسد مسدهما ، فيمكن أن يقال ؛ وأما من حيث تفسير الإعراب فلا يصح ، لأن كلّا منهما ، أعني : الشرط والقسم ، يطلب جوابا على حدة ، ولا يمكن أن يكون هذا محمولا عليهما ، لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل فيه ، فيكون في موضع جزم ، والقسم يطلبه على جهة التعلق المعنوي به بغير عمل فيه ، فلا موضع له من الإعراب. ومحال أن يكون الشيء الواحد له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب.

والقول الثاني : قاله أبو علي الفارسي وغيره ، وهو : أن تكون : ما ، موصولة مبتدأة ،

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١١١.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٣٥.

٢٣٨

وصلتها : آتيناكم ، والعائد محذوف تقديره : آتيناكموه ، و : ثم جاءكم ، معطوف على الصلة ، والعائد منها على الموصول محذوف تقديره : ثم جاءكم رسول به ، فحذف لدلالة المعنى عليه ، هكذا خرجوه ، وزعموا أن ذلك على مذهب سيبويه ، وخرجوه على مذهب الأخفش : أن الربط لهذه الجملة العارية عن الضمير حصل بقوله : لما معكم ، لأنه هو الموصول ، فكأنه قيل : ثم جاءكم رسول مصدق له ، وقد جاء الربط في الصلة بغير الضمير ، إلّا أنه قليل : روي من كلامهم : أبو سعيد الذي رويت عن الخدري ، يريدون : رويت عنه. وقال :

فيا رب ليلى أنت في كل موطن

وأنت الذي في رحمة الله أطمع

يريد في رحمته أطمع.

وخبر المبتدأ ، الذي هو : ما ، الجملة من القسم المحذوف وجوابه ، وهو : لتؤمنن به ، والضمير في : به ، عائد على الموصول المبتدأ ، ولا يعود على : رسول ، لئلا تخلو الجملة التي وقعت خبرا عن المبتدأ من رابط يربطها به ، والجملة الابتدائية التي هي : لما آتيناكم ، إلى آخره هي الجملة المتلقى بها ما أجرى مجرى القسم ، وهو قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ).

والقول الثالث : قاله بعض أهل العلم ، وهو : أن تكون : ما ، موصولة مفعولة بفعل جواب القسم ، التقدير : لتبلغن ما آتيناكم من كتاب وحكمة ، قال : إلّا أنه حذف : لتبلغن ، للدلالة عليه ، لأن لام القسم إنما تقع على الفعل ، فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل حذف ، ثم قال تعالى : (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ، انتهى. ويعني : يكون : لتؤمنن به ، جواب قسم محذوف ، وهذا بعيد جدا لا يحفظ من كلامهم ، والله لزيدا تريد ليضربن زيدا.

والقول الرابع : قاله ابن أبي إسحاق ، وهو : أن يكون : لما ، تخفيف لما ، والتقدير : حين آتيناكم ، ويأتي توجيه قراءة التشديد.

وأمّا توجيه قراءة حمزة : فاللام هي للتعليل ، و : ما ، موصولة : بآتيناكم ، والعائد محذوف. و : ثم جاءكم ، معطوف على الصلة ، والرابط لها بالموصول إما إضمار : به ، على ما نسب إلى سيبويه ، وإما هذا الظاهر الذي هو : لما معكم ، لأنه في المعنى هو الموصول على مذهب أبي الحسن.

٢٣٩

وقول الزمخشري : فجواب : أخذ الله ميثاق النبيين هو لتؤمنن به ، والضمير في : به ، عائد على رسول ، ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور ، لو قلت : أقسمت للخبر الذي بلغني عن عمرو لأحسنن إليه ، جاز. وأجاز الزمخشري ، في قراءة حمزة ، أن تكون : ما ، مصدرية ، وبدأ به في توجيه هذه القراءة ، قال : ومعناه لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ، على أن : ما ، مصدرية ، والفعلان معها أعني : آتيناكم وجاءكم ، في معنى المصدرين ، واللام داخلة للتعليل على معنى : أخذ الله ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ولينصرنه لأجل أن آتيتكم الحكمة ، وأن الرسول الذي أمرتكم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف. انتهى كلامه. إلّا أن ظاهر هذا التعليل الذي ذكره ، وهذا التقدير الذي قدره ، أنه تعليل للفعل المقسم عليه ، فإن عنى هذا الظاهر فهو مخالف لظاهر الآية ، لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلا لأخذ الميثاق لا لمتعلقه ، وهو الإيمان. فاللام متعلقة بأخذ ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقة بقوله : لتؤمنن به ، ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. تقول : والله لأضربن زيدا ، فلا يجوز : والله زيدا لاضربن ، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في : لما ، بقوله : لتؤمنن به.

وقد أجاز بعض النحويين في معمول الجواب ، إذا كان ظرفا أو مجرورا ، تقدّمه ، وجعل من ذلك عوض لا نتفرق ، وقوله تعالى : (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) (١) فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله : لتؤمنن به ، وفي هذه المسألة تفصيل يذكر في علم النحو.

وذكر السجاوندي ، عن صاحب النظم : أن هذه اللام في قراءة حمزة هي بمعنى : بعد ، كقول النابغة :

توهمت آيات لها فعرفتها

لستة أعوام وذا العام سابع

فعلى ذا لا تكون اللام في : لما ، للتعليل.

وأمّا توجيه قراءة سعيد بن جبير ، والحسن : لما ، فقال أبو إسحاق : أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق ، وتكون : لما ، تؤول إلى الجزاء كما تقول : لما جئتني أكرمتك. انتهى كلامه.

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٤٠.

٢٤٠