البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

الفقه ، والبحث فيها في علم النحو أليق. وقال الزمخشري : الأخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية ، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية ، وهو موضع الدلالة على الجمع المطلق ، فدل بالإخوة عليه انتهى. ولا نسلم له دعوى أن الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة ، بل تفيد معنى الجمعية التي بعد التثنية بغير كمية فيما بعد التثنية ، فيحتاج في إثبات دعواه إلى دليل. وظاهر إخوة الإطلاق ، فيتناول الإخوة من الأم فيحجبون كما قلنا قبل. وذهب الروافض : إلى أنّ الإخوة من الأم لا يحجبون الأم ، لأنهم يدلون بها ، فلا يجوز أن يحجبوها ويجعلوه لغيرها فيصيرون ضارين لها نافعين لغيرها. واستدل بهذه الآية على أن البنت تقلب حق الأم من الثلث إلى السدس بقوله : فإن كان له إخوة ، لأنها إذا حرمت الثلث بالإخوة وانتقلت إلى السدس فلان تحرم بالبنت أولى.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) المعنى : أنّ قسمة المال بين من ذكر إنما تكون بعد خروج ما يجب إخراجه بوصية ، أو بدين. وليس تعلق الدين والوصية بالتركة سواء ، إذ لو هلك من التركة شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعا ، ويبقى الباقي بينهم بالشركة ، ولا يسقط من الدين شيء بهلاك شيء من التركة. وتفصيل الميراث على ما ذكروا أنه بعد الوصية يدل على أنه لا يراد ظاهر إطلاق وصية من جواز الوصية بقليل المال وكثيره ، بل دل ذلك على جواز الوصية بنقص المال. ويبين أيضا ذلك قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) (١) ، الآية. إذ لو جازت الوصية بجميع المال لكان هذا الجواز ناسخا لهذه الآية ، وقد دل الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول على أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث. وقد استحبوا النقصان عنه هذا إذا كان له وارث ، فإن لم يكن له وارث ، فقال مالك والأوزاعي والحسن بن صالح : لا تجوز الوصية إلا في الثلث. وقال شريك وأبو حنيفة وأصحابه : يجوز بجميع ماله ، لأنّ الامتناع في الوصية بأكثر من الثلث معلل بوجود الورثة ، فإذا لم يوجد وأجاز لظاهر إطلاق الوصية ، لأنه إذا فقد موجب تخصيص البعض جاز حمل اللفظ على ظاهره.

وقد استدل بقوله : من بعد وصية يوصى بها أو دين ، على أنه إذا لم يكن دين لآدمي ولا وصية ، يكون جميع ماله لورثته وأنه إن كان عليه حج أو زكاة أو كفارة أو نذر لا يجب إخراجه إلا أن يوصي بذلك. وفي هذا الاستدلال نظر. والوصية مندوب إليها ، وقد كانت

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٧.

٥٤١

واجبة قبل نزول الفرائض فنسخت. وادعى قوم وجوبها. وتتعلق من بمحذوف أي : يستحقون ذلك ، كما فصل من بعد وصية ، ويوصي في موضع الصفة ، وبها متعلق بيوصي ، وهو مضارع وقع موقع الماضي. والمعنى : من بعد وصية أوصى بها. ومعنى : أو دين ، لزمه. وقدم الوصية على الدين ، وإن كان أداء الدين هو المقدم على الوصية بإجماع اهتماما بها وبعثا على إخراجها ، إذ كانت مأخوذة من غير عوض شاقا على الورثة إخراجها مظنة للتفريط فيها ، بخلاف الدين. فإنّ نفس الوارث موطنة على أدائه ، ولذلك سوى بينها وبين الدين بلفظ : أو ، في الوجوب. أو لأنّ الوصية مندوب إليها في الشرع محضوض عليها ، فصارت للمؤمن كالأمر اللازم له. والدين لا يلزم أن يوجد ، إذ قد يكون على الميت دين وقد لا يكون ، فبدىء بما كان وقوعه كاللازم ، وأخر ما لا يلزم وجوده. ولهذه الحكمة كان العطف بأو ، إذ لو كان الدين لا يموت أحد إلا وهو راتب لازم له ، لكان العطف بالواو ، أو لأن الوصية حظ مساكين وضعاف ، والدين حظ غريم يطلبه بقوة. وله فيه مقال. قال الزمخشري : (فإن قلت) : ما معنى أو؟ (قلت) : معناها الإباحة ، وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما قدم على قسمة الميراث كقولك : جالس الحسن ، أو ابن سيرين انتهى.

ودلت الآية على أن الميراث لا يكون إلا بعد إخراج ما وجب بالوصية أو الدين ، فدل على أنّ إخراج ما وجب بها سابق على الميراث ، ولم يدل على أنهما أسبق ما يخرج من مال الميت ، إذ الأسبق هو مؤنة تجهيزه من غسله وتكفينه وحمله ووضعه في قبره ، أو ما يحتاج إليه من ذلك. وقرأ الابنان وأبو بكر : يوصي فيهما مبنيا للمفعول ، وتابعهم حفص على الثاني فقط ، وقرأهما الباقون : مبنيا للفاعل.

(آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) قال ابن عباس والحسن : هو في الآخرة لا يدرون أي الوالدين أرفع درجة عند الله ليشفع في ولده ، وكذا الولد في والديه. وقال مجاهد وابن سيرين والسدي : معناه في الدّنيا ، أي : إذا اضطر إلى إنفاقهم للفاقة. ونحا إليه الزجاج ، وقد ينفقون دون اضطرار. وقال ابن زيد : في الدنيا والآخرة ، واللفظ يقتضي ذلك. وروي عن مجاهد : أقرب لكم نفعا في الميراث والشفاعة. وقال ابن بحر : أسرع موتا فيرثه الآخر. وقال ابن عيسى : أي فاقسموا الميراث على ما بين لكم من يعلم النفع والمصلحة ، فإنكم لا تدرون أنتم ذلك ، وقريب منه قول الزجاج. قال : معنى الكلام أنه تعالى قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة ، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم

٥٤٢

أنفع لكم ، فتضعون الأموال على غير حكمة ، ولهذا أتبعه بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) (١) حكما أي عليم بما يصلح لخلقه ، حكيم فيما فرض. قال ابن عطية : وهذا تعريض للحكمة في ذلك ، وتأنيس للعرب الذين كانوا يورّثون على غير هذه الصفة.

وقيل : تضمنت هذه الجملة النهي عن تمني موت الموروث. وقيل : المعنى في أقرب لكم نفعا الأب بالحفظ والتربية ، أو الأولاد بالطاعة والخدمة والشفقة. وقريب من هذا قول أبي يعلى ، قال : معناه أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع ، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعا ، لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء ، والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء. وقال الزمخشري معلقا هذه الجملة : بالوصية ، وأنها جاءت ترغيبا فيها وتأكيدا. قال : لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون ، أمن أوصى منهم أم من لم يوص يعني : أن من أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته ، فهو أقرب لكم نفعا ، وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا ، وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهابا إلى حقيقة الأمر ، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريبا في الصورة إلا أنه فان ، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى ، وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى انتهى كلامه. وهو خطابه. والوصية في الآية لم يأت ذكرها لمشروعيتها وأحكامها في نفسها ، وإنما جاء ذكرها ليبين أنّ القسمة تكون بعد إخراجها وإخراج الدين ، فليست مما يحدث عنها ، وتفسر هذه الجملة بها. ولكنه لما اختلف حكم الابن والأب في الميراث ، فكان حكم الابن إذا مات الأب عنه وعن أنثى ، أن يرث مثل حظ الأنثيين ، وكان حكم الأبوين إذا مات الابن عنهما وعن ولد أن يرث كل منهما السدس ، وكان يتبادر إلى الذهن أن يكون نصيب الوالد أوفر من نصيب الابن ، إذ ذاك لما له على الولد من الإحسان والتربية من نشئه إلى اكتسابه المال إلى موته ، مع ما أمر به الابن في حياته من بر أبيه. أو يكون نصيبه مثل نصيب ابنه في تلك الحالة إجراء للأصل مجرى الفرع في الإرث ، بين تعالى أنّ قسمته هي القسمة التي اختارها وشرعها ، وأن الآباء والأبناء الذين شرع في ميراثهم ما شرع لا ندري نحن أيهم أقرب نفعا ، بل علم ذلك منوط بعلم الله وحكمته. فالذي شرعه هو الحق لا ما يخطر بعقولنا نحن ، فإذا كان علم ذلك عازبا عنا فلا نخوض فيما لا نعلمه ، إذ هي أوضاع من الشارع لا نعلم نحن عللها ولا

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١١.

٥٤٣

ندركها ، بل يجب التسليم فيها لله ولرسوله. وجميع المقدرات الشرعية في كونها لا تعقل عللها هي مثل قسمة المواريث سواء.

قالوا : وارتفع أيهم على الابتداء ، وخبره أقرب ، والجملة في موضع نصب لتدرون ، وتدرون من أفعال القلوب. وأيهم استفهام تعلق عن العمل في لفظه ، لأن الاستفهام في غير الاستثبات لا يعمل فيه ما قبله على ما قرر في علم النحو ، ويجوز فيه عندي وجه آخر لم يذكروه وهو على مذهب سيبويه ، وهو : أن تكون أيهم موصولة مبنية على الضم ، وهي مفعول بتدرون ، وأقرب خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أقرب ، فيكون نظير قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) (١) وقد اجتمع شرط جواز بنائها وهو أنها مضافة لفظا محذوف صدر صلتها (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) انتصب فريضة انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن معنى يوصيكم الله يفرض الله لكم. وقال مكي وغيره هي حال مؤكدة لأن الفريضة ليست مصدرا. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي عليما بمصالح العباد ، حكيما فيما فرض ، وقسم من المواريث وغيرها. وتقدّم الكلام في كان إذا جاءت في نسبة الخبر لله تعالى ، ومن زعم أنها التامة وانتصب عليما على الحال فقوله : ضعيف ، أو أنهار زائدة فقوله : خطأ.

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) لما ذكر تعالى ميراث الفروع من الأصول ، وميراث الأصول من الفروع ، أخذ في ذكر ميراث المتصلين بالسبب لا بالنسب وهو للزوجية هنا ، ولم يذكر في القرآن التوارث بسبب الولاء. والتوارث المستقر في الشرع هو بالنسب ، والسبب الشامل للزوجية والولاء. وكان في صدر الإسلام يتوارث بالموالاة والخلف والهجرة ، فنسخ ذلك. وقدّم ذكر ميراث سبب الزوجية على ذكر الكلالة وإن كان بالنسب ، لتواشج ما بين الزوجين واتصالهما ، واستغناء كل منهما بعشرة صاحبه دون عشرة الكلالة ، وبدىء بخطاب الرجال لما لهم من الدرجات على النساء. ولما كان الذكر من الأولاد حظه مع الأنثى مثل حظ الأنثيين ، جعل في سبب التزوج الذكر له مثلا حظ الأنثى. ومعنى : كان لهن ولد أي : منكم أيها الوارثون ، أو من غيركم. والولد : هنا ظاهره أنه من ولدته لبطنها ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر ، وحكم بين الذكور منها وإن سفلوا حكم الولد للبطن ، في أن فرض الزوج منها الربع مع وجوده بإجماع.

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٦٩.

٥٤٤

(وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) الولد هنا كالولد في تلك الآية. والربع والثمن يشترك فيه الزوجات إن وجدن ، وتنفرد به الواحدة. وظاهر الآية : أنهما يعطيان فرضهما المذكور في الآيتين من غير عول ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس. وذهب الجمهور إلى أنّ العول يلحق فرض الزوج والزوجة ، كما يلحق سائر الفرائض المسماة.

(وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) الكلالة : خلو الميت عن الوالد والوالد قاله : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وسليم بن عبيد ، وقتادة ، والحكم ، وابن زيد ، والسبيعي. وقالت طائفة : هي الخلوّ من الولد فقط. وروي عن أبي بكر وعمر ثم رجعا عنه إلى القول الأوّل. وروي أيضا عن ابن عباس ، وذلك مستقر من قوله في الإخوة مع الوالدين : إنهم يحطون الأم ويأخذون ما يحطونه. ويلزم على قوله : إذ ورثهم بأن الفريضة كلالة أن يعطيهم الثلث بالنص. وقالت طائفة منهم : الحكم بن عيينة ، هي الخلو من الولد. قال ابن عطية : وهذا إن القولان ضعيفان ، لأنّ من بقي والده أو ولده فهو موروث بنسب لا بتكلل. وأجمعت الأمة الآن على أنّ الإخوة لا يرثون مع ابن ولا أب ، وعلى هذا مضت الأعصار والأمصار انتهى.

واختلف في اشتقاقها. فقيل : من الكلال وهو الإعياء ، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بعد إعياء. قال الأعشى :

فيا ليت لا أرثي لها من كلالة

ولا من وجى حتى نلاقي محمدا

وقال الزمخشري : والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال ، وهو ذهاب القوة من الإعياء. فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد ، لأنها بالإضافة إلى قرابتها كالة ضعيفة. انتهى. وقيل : هي مشتقة من تكلله النسب أحاط به. وإذا لم يترك والدا ولا ولدا فقد انقطع طرفاه ، وهما عمودا نسبه ، وبقي موروثه لمن يتكلله نسبه أي : يحيط به من نواحيه كالإكليل. ومنه روض مكلل بالزهر. وقال الفرزدق :

ورثتم قناة المجد لا عن كلالة

عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

وقال الأخفش : الكلالة من لا يرثه أب ولا أم. والذي عليه الجمهور أنّ الكلالة الميت الذي لا والد له ولا مولود ، وهو قول جمهور أهل اللغة صاحب العين ، وأبي منصور اللغوي ، وابن عرفة ، وابن الأنباري ، والعتبي ، وأبي عبيدة. وغلط أبو عبيدة في ذكر الأخ

٥٤٥

مع الأب والولد. وقطرب في قوله : الكلالة اسم لمن عدا الأبوين والأخ ، وسمى ما عدا الأب والولد كلالة ، لأنه بذهاب طرفيه تكلله الورثة وطافوا به من جوانبه. ويرجح هذا القول نزول الآية في جابر ولم يكن له يوم نزولها ابن ولا أب ، لأنّ أباه قتل يوم أحد فصارت قصة جابر بيانا لمراد الآية. وأما الكلالة في الآية فقال عطاء : هو المال. وقالت طائفة : الكلالة الورثة ، وهو قول الراغب قال : الكلالة اسم لكل وارث. قال الشاعر :

والمرء يجمع للغنى

وللكلالة ما يسيم

وقال عمرو ابن عباس : الكلالة الميت الموروث. وقالت طائفة : الورثة بجملتها كلهم كلالة.

وقرأ الجمهور : يورث بفتح الراء مبنيا للمفعول ، من أورث مبنيا للمفعول. وقرأ الحسن : بكسرها مبنيا للفاعل من أورث أيضا. وقرأ أبو رجاء والحسن والأعمش : بكسر الراء وتشديدها. من ورّث. فأما على قراءة الجمهور ومعنى الكلالة أنه الميت أو الوارث ، فانتصاب الكلالة على الحال من الضمير المستكن في يورث. وإذا وقع على الوارث احتيج إلى تقدير : ذا كلالة ، لأن الكلالة إذ ذاك ليست نفس الضمير في يورث. وإن كان معنى الكلالة القرابة ، فانتصابها على أنها مفعول من أجله أي : يورث لأجل الكلالة. وأما على قراءة الحسن وأبي رجاء ، فإن كانت الكلالة هي الميت فانتصابها على الحال ، والمفعولان محذوفان ، التقدير : يورث وارثه ماله في حال كونه كلالة. وإن كان المعنى بها الوارث فانتصاب الكلالة على المفعول به بيورث ، ويكون المفعول الثاني محذوفا تقديره : يورث كلالة ماله أو القرابة ، فعلى المفعول من أجله والمفعولان محذوفان أيضا ، ويجوز في كان أن تكون ناقصة ، فيكون يورث في موضع نصب على الخبر. وتامة فتكون في موضع رفع على الصفة. ويجوز إذا كانت ناقصة والكلالة بمعنى الميت ، أن يكون يورث صفة ، وينتصب كلالة على خبر كان ، أو بمعنى الوارث. فيجوز ذلك على حذف مضاف أي : وإن كان رجل موروث ذا كلالة. وقال عطاء : الكلالة المال ، فينتصب كلالة على أنه مفعول ثان ، سواء بني الفعل للفاعل أو للمفعول. وقال ابن زيد : الكلالة الوراثة ، وينتصب على الحال أو على النعت لمصدر محذوف تقديره : وراثة كلالة.

وقد كثر الاختلاف في الكلالة ، وملخص ما قيل فيها : أنها الوارث ، أو الميت الموروث ، أو المال الموروث ، أو الوراثة ، أو القرابة. وظاهر قوله : يورث أي : يورث منه ،

٥٤٦

فيكون هو الموروث لا الوارث. ويوضحه قراءة من كسر الراء. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : فإن جعلت يورث على البناء للمفعول من أورث فما وجهه؟ (قلت) : الرجل حينئذ هو الوارث لا الموروث. (فإن قلت) : فالضمير في قوله : فلكل واحد منهما إلى من يرجع حينئذ؟ (قلت) : إلى الرجل وإلى أخيه وأخته ، وعلى الأول إليهما (فإن قلت) : إذا رجع الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر والأنثى ، فهل تبقى هذه الفائدة قائمة في هذا الوجه؟ [قلت] : نعم ، لأنك إذا قلت : السدس له ، أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير ، فقد سويت بين الذكر والأنثى انتهى كلامه. وملخص ما قال : أن يكون المعنى : إن كان أحد اللذين يورثهما غيرهما من رجل أو امرأة له أحد هذين من أخ أو أخت ، فلكل واحد منهما السدس. وعطف وامرأة على رجل ، وحذف منها ما قيد به الرجل لدلالة المعنى ، والتقدير : أو امرة تورث كلالة. وإن كان مجرد العطف لا يقتضي تقييد المعطوف بقيد المعطوف عليه. والضمير في : وله ، عائد على الرجل نظير : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) (١) في كونه عاد على المعطوف عليه. وإن كان يجوز أن يعاد الضمير على المعطوف تقول : زيد أو هند قامت ، نقل ذلك الأخفش والفراء. وقد تقدم لنا ذكر هذا الحكم. وزاد الفراء وجها ثالثا وهو : أن يسند الضمير إليهما. قال الفراء : عادة العرب إذا رددت بين اسمين بأو ، أن تعيد الضمير إليهما جميعا ، وإلى أحدهما أيهما شئت. تقول : من كان له أخ أو أخت فليصله. وإن شئت فليصلها انتهى. وعلى هذا الوجه ظاهر قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) (٢) وقد تأوله من منع الوجه. وأصل أخت إخوة على وزن شررة ، كما أن بنتا أصله بنية على أحد القولين في ابن ، أهو المحذوف منه واو أو ياء؟ قيل : فلما حذفت لام الكلمة وتاء التأنيث ، وألحقوا الكلمة بقفل وجذع بزيادة التاء آخرهما قال الفراء : ضم أول أخت ليدل على أن المحذوف واو ، وكسر أول بنت ليدل على أن المحذوف ياء انتهى. ودلت هذه التاء التي للإلحاق على ما دلت عليه تاء التأنيث من التأنيث. وظاهر قوله : وله أخ أو أخت الإطلاق ، إذ الإخوة تكون بين الأحفاد والأعيان وأولاد العلات ، وأجمعوا على أنّ المراد في هذه الآية الإخوة للأم. ويوضح ذلك قراءة أبيّ وله أخ أو أخت من الأم. وقراءة سعد بن أبي وقاص : وله أخ أو أخت من أم ، واختلاف الحكمين هنا ، وفي آخر السورة يدل على اختلاف المحكوم له ، إذ هنا الابنان أو الإخوة يشتركون في الثلث فقط ذكورا أو إناثا بالسوية بينهم. وهناك يحوزون المال للذكر

__________________

(١) سورة الجمعة : ٦٢ / ١١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٣٥.

٥٤٧

مثل حظ الأنثيين ، والبنتان لهما الثلثان ، والضمير في منهما الظاهر أنه يعود على أخ أو أخت. وعلى ما جوزه الزمخشري يعود على أحد رجل وامرأة واحد أخ وأخت ، ولو ماتت عن زوج وأم وأشقاء فله النصف ولهما السدس ، ولهم الباقي أو لأم فلهم الثلث. أو أخوين لأم أشقاء فهذه الحمادية. فهل يشترك الجميع في الثلث ، أم ينفرد به الإخوان لأم؟ قولان ، قال بالتشريك عمر في آخر قضائه ، وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو حنيفة وأصحابه. وقال بالانفراد : علي وأبو موسى ، وأبي ، وابن عباس.

(فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) الإشارة بذلك إلى أخ أو أخت ، أي أكثر من واحد. لأنّ المحكوم عليه بأن له السدس هو كل واحد من الأخ والأخت فهو واحد ، ولم يحكم على الاثنين بأن لهما جميعا السدس ، فتصح الأكثرية فيما أشير إليه وهو ذلك ، بل المعنى هنا بأكثر يعني : فإن كان من يرث زائدا على ذلك أي : على الواحد ، لأنه لا يصح أن يقول هذا أكثر من واحد إلا بهذا المعنى ، لتنافي معنى كثير وواحد ، إذ الواحد لا كثرة فيه. وفي قوله : فإن كانوا ، وفهم شركاء غلب ضمير المذكر ، ولذلك جاء بالواو وبلفظ ، فهم هذا كله على ما قررت فيه الأحكام. وظاهر الآية : أنه إذا ترك أخا أو أختا ، أي أحد هذين ، فلكل واحد منهما السدس أو أكثر اشتركوا في الثلث ، أما إذا ترك اثنين من أخ أو أخت ، فلا يدل على ذلك ظاهر الآية.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) الضمير في يوصي عائد على رجل ، كما عاد عليه في : وله أخ. ويقوي عود الضمير عليه أنه هو الموروث لا الوارث ، لأن الذي يوصي أو يكون عليه الدين هو الموروث لا الوارث. ومن فسر قوله : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ) (١) أنه هو الوارث لا الموروث ، جعل الفاعل في يوصي عائدا على ما دل عليه المعنى من الوارث. كما دل المعنى على الفاعل في قوله : (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) (٢) لأنه علم أن الموصي والتارك لا يكون إلا الموروث ، لا الوارث. والمراد : غير مضار ، ورثته بوصيته أو دينه. ووجوه المضارة كثيرة : كان يوصي بأكثر من الثلث ، أو لوارثه ، أو بالثلث ، أو يحابى به ، أو يهبه ، أو يصرفه إلى وجوه القرب من عتق وشبهه فرارا عن وارث محتاج ، أو يقر بدين ليس عليه. ومشهور مذهب مالك أنه ما دام في الثلث لا يعد مضارا ، وينبغي اعتبار هذا القيد وهو انتفاء الضرر فيما تقدم من ذكر قوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٢.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١١.

٥٤٨

بِها) (١) و (تُوصُونَ) و (يُوصِينَ) (٢) ويكون قد حذف مما سبق لدلالة ما بعده عليه ، فلا يختص من حيث المعنى انتفاء الضرر بهذه الآية المتأخرة. قال ابن عباس : الضرار في الوصية من الكبائر ، ورواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث أبي هريرة : «من ضار في وصيته ألقاه الله في وادي جهنم». وقال قتادة : نهى الله عن الضرار في الحياة وعند الممات.

قالوا : وانتصاب غير مضار على الحال من الضمير المستكن في يوصي ، والعامل فيهما يوصي. ولا يجوز ما قالوه ، لأن فيه فصلا بين العامل والمعمول بأجنبي منهما وهو قوله : أو دين. لأن قوله : أو دين ، معطوف على وصية الموصوفة بالعامل في الحال. ولو كان على ما قالوه من الإعراب لكان التركيب من بعد وصية يوصي بها غير مضار أو دين. وعلى قراءة من قرأ : يوصى بفتح الصاد مبنيا للمفعول ، لا يصح أن يكون حالا لما ذكرناه ، ولأنّ المضار لم يذكر لأنه محذوف قام مقامه المفعول الذي لم يسم فاعله ، ولا يصح وقوع الحال من ذلك المحذوف. لو قلت : ترسل الرياح مبشرا بها بكسر الشين ، لم يجز وإن كان المعنى يرسل الله الرياح مبشرا بها. والذي يظهر أنه يقدر له ناصب يدل عليه ما قبله من المعنى ، ويكون عاما لمعنى ما يتسلط على المال بالوصية أو الدين ، وتقديره : يلزم ذلك ماله أو يوجبه فيه غير مضار بورثته بذلك الإلزام أو الإيجاب. وقيل : يضمر يوصي لدلالة يوصي عليه ، كقراءة يسبح بفتح الباء. وقال رجال : أي يسبحه رجال. وانتصاب وصية من الله على أنه مصدر مؤكد أي : يوصيكم الله بذلك وصية ، كما انتصب (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) (٣).

وقال ابن عطية : هو مصدر في موضع الحال ، والعامل يوصيكم. وقيل : هو نصب على الخروج من قوله : (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) (٤) أو من قوله : (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) (٥) وجوز هو والزمخشري نصب وصية بمضار على سبيل التجوز ، لأن المضارة في الحقيقة إنما تقع بالورثة لا بالوصية ، لكنه لما كان الورثة قد وصى الله تعالى بهم صار الضرر الواقع بالورثة كأنه وقع بالوصية. ويؤيد هذا التخريج قراءة الحسن غير مضار وصية ، فخفض وصية بإضافة مضار إليه ، وهو نظير يا سارق الليلة المعنى : يا سارقا في الليلة ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٢.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١١.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١١.

(٥) سورة النساء : ٤ / ١٢.

٥٤٩

لكنه اتسع في الفعل فعداه إلى الظرف تعديته للمفعول به ، وكذلك التقدير في هذا غير مضار في : وصية من الله ، فاتسع وعدي اسم الفاعل إلى ما يصل إليه بوساطة في تعديته للمفعول به.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) عليم بمن جار أو عدل ، حليم عن الجائر لا يعاجله بالعقوبة قاله : الزمخشري. وفيه دسيسة الاعتزال أي : أنّ الجائر وإن لم يعاجله الله بالعقوبة فلا بد له منها. والذي يدل عليه لفظ حليم هو أن لا يؤاخذه بالذنب كما يقوله أهل السنة. وعلى قولهم يكون هذا الوصف يدل على الصفح عنه البتة. وحسن ذلك هنا لأنه لما وصف نفسه بقوله : عليم ، ودل على اطلاعه على ما يفعله الموروث في مضارته بورثته في وصيته ودينه ، وأنّ ذكر علمه بذلك دليل على مجازاته على مضارته ، أعقب ذلك بالصفة الدالة على الصفح عمن شاء ، وذلك على عادة أكثر القرآن بأنه لا يذكر ما يدل على العقاب ، إلا ويردف بما دل على العفو. وانظر إلى حسن هذا التقسيم في الميراث ، وسبب الميراث هو الاتصال بالميت ، فإن كان بغير واسطة فهو النسب أو الزوجية ، أو بواسطة فهو الكلالة. فتقدّم الأول على الثاني لأنه ذاتي ، والثاني عرض ، وأخّر الكلالة عنهما لأن الاثنين لا يعرض لهما سقوط بالكلية ، ولكون اتصالهما بغير واسطة ، ولأكثرية المخالطة. انتهى ملخصا من كلام الرازي في تفسيره.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) قيل : الإشارة بتلك إلى القسمة المتقدّمة في المواريث. والأولى أن تكون إشارة إلى الأحكام السابقة في أحوال اليتامى والزوجات والوصايا والمواريث ، وجعل هذه الشرائع حدودا ، لأنها مؤقتة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتعدوها إلى غيرها. وقال ابن عباس : حدود الله طاعته. وقال السدّي : شروطه. وقيل : فرائضه. وقيل : سننه. وهذه أقوال متقاربة.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لما أشار تعالى إلى حدوده التي حدّها قسّم الناس إلى عامل بها مطيع ، وإلى غير عامل بها عاص. وبدأ بالمطيع لأن الغالب على من كان مؤمنا بالله تعالى الطاعة ، إذ السورة مفتتحة بخطاب الناس عامّة ، ثم أردف بخطاب من يتصف بالإيمان إلى آخر المواريث ، ولأن قسم الخير ينبغي أن يبتدأ به وأن يعتني بتقديمه. وحمل أولا على لفظ من في قوله : يطع ، ويدخله ، فأفرد ثم حمل على المعنى في قوله : خالدين. وانتصاب خالدين

٥٥٠

على الحال المقدرة ، والعامل فيه يدخله ، وصاحب الحال هو ضمير المفعول في يدخله.

قال ابن عطية : وجمع خالدين على معنى من بعد أن تقدم الإفراد مراعاة للفظ من ، وعكس هذا لا يجوز انتهى. وما ذكر أنه لا يجوز من تقدم الحمل على المعنى ثم على اللفظ جائز عند النحويين ، وفي مراعاة الحملين تفصيل وخلاف مذكور في كتب النحو المطولة. وقال الزمخشري : وانتصب خالدين وخالدا على الحال. (فإن قلت) : هل يجوز أن يكونا صفتين لجنات ونارا؟ (قلت) : لا ، لأنهما جريا على غير من هما له ، فلا بد من الضمير وهو قولك : خالدين هم فيها ، وخالدا هو : فيها انتهى. وما ذكره ليس مجمعا عليه ، بل فرع على مذهب البصريين. وأما عند الكوفيين فيجوز ذلك ، ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذا لم يلبس على تفصيل لهم في ذلك ذكر في النحو. وقد جوز ذلك في الآية الزجاج والتبريزي أخذ بمذهب الكوفيين. وقرأ نافع وابن عامر : ندخله هنا ، وفي : ندخله نارا بنون العظمة. وقرأ الباقون : بالياء عائدا على الله تعالى. قال الراغب : ووصف الفوز بالعظم اعتبار يفوز الدّنيا الموصوف بقوله : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) (١) والصغير والقليل في وصفهما متقاربان.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) لما ذكر ثواب مراعي الحدود ذكر عقاب من يتعداها ، وغلظ في قسم المعاصي ، ولم يكتف بالعصيان بل أكد ذلك بقوله : ويتعدّ حدوده ، وناسب الختم بالعذاب المهين ، لأن العاصي المتعدّي للحدود برز في صورة من اغتر وتجاسر على معصية الله. وقد تقل المبالاة بالشدائد ما لم ينضم إليها الهوان ، ولهذا قالوا : المنية ولا الدنية. قيل : وأفرد خالدا هنا ، وجمع في خالدين فيها ، لأنّ أهل الطاعة أهل الشفاعة ، وإذا شفع في غيره دخلها ، والعاصي لا يدخل النار به غيره ، فبقي وحيدا انتهى.

وتضمنت هذه الآيات من أصناف البديع : التفصيل في : الوارث والأنصباء بعد الإبهام في قوله : للرجال نصيب الآية. والعدول من صيغة : يأمركم الله إلى يوصيكم ، لما في الوصية من التأكيد والحرص على اتباعها. والطباق في : للذكر مثل حظ الأنثيين ، وفي : من يطع ومن يعص ، وإعادة الضمير إلى غير مذكور لقوة الدلالة على ذلك في قوله : مما ترك أي : ترك الموروث. والتكرار في : لفظ كان ، وفي فريضة من الله ، أن الله ، وفي :

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٧٧.

٥٥١

ولدا ، وأبواه ، وفي : من يعد وصية يوصي بها أو دين ، وفي : وصية من الله إن الله ، وفي : حدود الله ، وفي : الله ورسوله. وتلوين الخطاب في : من قرأ ندخله بالنون. والحذف في مواضع.

وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ

٥٥٢

اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)

العشرة : الصحبة والمخالطة. يقال : عاشروا ، وتعاشروا ، واعتشروا. وكان ذلك من أعشار الجذور ، لأنها مقاسمة ومخالطة. الإفضاء إلى الشيء : الوصول إلى فضاء منه ، أي سعة غير محصورة. وفي مثل الناس فوضى فضى أي : مختلطون ، يباشر بعضهم بعضا. ويقال : فضا يفضو فضاء إذا اتسع ، فألف أفضى منقلبة عن ياء أصلها واو. المقت : البغض

٥٥٣

المقرون باستحقار حصل بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه. العمة : أخت الأب. الخالة : أخت الأم ، وألفها منقلبة عن واو ، دليل ذلك قولهم : أخوال في جمع الخال ، ورجل مخول كريم الأخوال. الربيبة : بنت زوج الرجل من غيره. الحجر بفتح الحاء وكسرها : مقدّم ثوب الإنسان وما بين يديه منه في حال اللبس ، ثم استعملت اللفظة في السير والحفظ ، لأن اللابس إنما يحفظ طفلا ، وما أشبهه في ذلك الموضع من الثوب ، وجمعه حجور. الحليلة : الزوجة ، والحليل الزوج قال :

أغشى فتاة الحي عند حليلها

وإذا غزا في الجيش لا أغشاها

سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل ، فهي فعيلة بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج وغيره إلى أنها من لفظ الحلال ، فهي حليلة بمعنى محللة. وقيل : كل واحد منهما يحل إزار صاحبه. الصلب : الظهر ، وصلب صلابة قوي واشتدّ. وذكر الفراء في كتاب لغات القرآن له : أن الصلب وهو الظهر ، على وزن قفل هو لغة أهل الحجاز ويقول فيه تميم وأسد : الصلب بفتح الصاد واللام. قال : وأنشدني بعضهم :

وصلب مثل العنان المؤدم

قال وأنشدني بعض بني أسد

إذا أقوم أشتكي صلبي

المحصنة : المرأة العفيفة. يقال : أحصنت فهي محصن ، وحصنت فهي حصان عفت عن الرّيبة ومنعت نفسها منها. وقال شمر : يقال امرأة حصان ، وحاصن. قال :

وحاصن من حاصنات ملس

من الأذى ومن فراق الوقس

ومصدر حصنت حصن. قال سيبويه : وقال أبو عبيدة والكسائي : حصانة. ويقال في اسم الفاعل من أحصن وأسهب وأبعج ، مفعل بفتح عين الكلمة ، وهو شذوذ نقله ثعلب عن ابن الأعرابي. وأصل الإحصان المنع ، ومنه قيل للدرع وللمدينة : حصينة والحصن وفرس حصان. المسافحة والسفاح : الزنا ، وأصله من السفح وهو الصب ، يسفح كل من الزانيين نطفته. الخدن والخدين : الصاحب. الطول : الفضل ، يقال منه : طال عليه يطول طولا فضل عليه. وقال الليث والزجاج : الطول القدرة. انتهى. ويقال له : عليه طول أي زيادة وفضل ، وقد طاله طولا فهو طائل. قال الشاعر :

لقد زادني حبا لنفسي أنني

بغيض إلى كل امرئ غير طائل

ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه ، كما أن القصر قصور فيه ونقصان. الفتاة الحديثة السن والفتاء الحداثة. قال : فقد ذهب المروءة والفتاء. وقال ابن منصور

٥٥٤

الجواليقي : المتفتية والفتاة المراهقة ، والفتى الرفيق ، ومنه : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) (١) والفتى : العبد. ومنه : «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي». الميل : العدول عن طريق الاستواء. (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) قال مجاهد واختاره أبو مسلم بن بحر الأصبهاني : هذه الآية نزلت في النساء. والمراد بالفاحشة هنا : المساحقة ، جعل حدّهن الحبس إلى أن يمتن أو يتزوجن. قال : ونزلت (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) (٢) في أهل اللواط. والتي في النور : في (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) (٣) وخالف جمهور المفسرين. وبناه أبو مسلم على أصل له : وهو يرى أنه ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمر بالإحسان إلى النساء فذكر إيتاء صدقاتهن وتوريثهن ، وقد كن لا يورثن في الجاهلية ، ذكر التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة ، وفي الحقيقة هو إحسان إليهن ، إذ هو نظر في أمر آخرتهن ، ولئلا يتوهم أنّ من الإحسان إليهن أن لا تقام عليهن الحدود فيصير ذلك سببا لوقوعهن في أنواع المفاسد. ولأنه تعالى لمّا ذكر حدوده وأشار بتلك إلى جميع ما وقع من أول السورة إلى موضع الإشارة ، فكان في مبدأ السورة التحصن بالتزويج ، وإباحة ما أباح من نكاح أربع لمن أباح ذلك ، استطرد بعد ذلك إلى حكم من خالف ما أمر الله به من النكاح من الزواني ، وأفردهن بالذكر أولا ، لأنهن على ما قيل أدخل في باب الشهوة من الرجال ، ثم ذكرهن ثانيا مع الرجال الزانين في قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) فصار ذكر النساء الزواني مرّتين : مرة بالإفراد ، ومرّة بالشمول.

واللاتي جمع من حيث المعنى للتي ، ولها جموع كثيرة أغربها : اللاآت ، وإعرابها إعراب الهندات.

ومعنى يأتين الفاحشة : يجئن ويغشين. والفاحشة هنا الزنا بإجماع من المفسرين ، إلا ما نقل عن مجاهد وتبعه أبو مسلم في أن المراد به المساحقة ، ويأتي الكلام معه في ذلك ، وأطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح. قيل : فإن قيل : القتل والكفر أكبر من الزنا ، قيل : القوى المدبرة للبدن ثلاث : الناطقة وفسادها بالكفر

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٦٠.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٦.

(٣) سورة النور : ٢٤ / ٢.

٥٥٥

والبدعة وشبههما ، والغضبية وفسادها بالقتل والغضب وشبههما ، وشهوانية وفسادها بالزنا واللواط والسحر وهي : أخس هذه القوى ، ففسادها أخس أنواع الفساد ، فلهذا خص هذا العمل بالفاحشة. وحجة أبي مسلم في أن الفاحشة هي السحاق قوله : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) وفي الرجال : (وَالَّذانِ) ومنكم وظاهره التخصيص ، وبأن ذلك لا يكون فيه نسخ ، وبأنه لا يلزم فيه التكرار. ولأن تفسير السبيل بالرجم أو الجلد والتغريب عند القائلين بأنها نزلت في الزنا ، يكون عليهن لا لهن ، وعلى قولنا : يكون السبيل تيسر الشهوة لهن بطريق النكاح. وردوا على أبي مسلم بأن ما قاله لم يقله أحد من المفسرين ، فكان باطلا. وأجاب : بأنه قاله مجاهد ، فلم يكن إجماعا وتفسير السبيل بالحديث الثابت : قد جعل الله لهن سبيلا «الثيب ترجم والبكر تجلد» فدل على أن ذلك في الزناة. وأجاب بأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد ، وأنه غير جائز. وبأن الصحابة اختلفوا في أحكام اللوطية ولم يتمسك أحد منهم بقوله : واللذان يأتيانها منكم ، فدل على أنها ليست فيهم. وأجاب بأن مطلوب الصحابة : هل يقام الحد على اللوطي وليس فيها دلالة على ذلك لا بالنفي ولا بالإثبات؟ فلهذا لم يرجعوا إليه. انتهى. ما احتج به أبو مسلم ، وما ردّ به عليه ، وما أجاب به. والذي يقتضيه ظاهر اللفظ هو قول مجاهد وغيره : أن اللاتي مختص بالنساء ، وهو عام أحصنت أو لم تحصن. وإن واللذان مختص بالذكور ، وهو عام في المحصن وغير المحصن. فعقوبة النساء الحبس ، وعقوبة الرجال الأذى. ويكون هاتان الآيتان وآية النور قد استوفت أصناف الزناة ، ويؤيد هذا الظاهر قوله : من نسائكم وقوله : منكم ، لا يقال : إن السحاق واللواط لم يكونا معروفين في العرب ولا في الجاهلية ، لأن ذلك كان موجودا فيهم ، لكنه كان قليلا. ومن ذلك قول طرفة بن العبد :

ملك النهار وأنت الليل مومسة

ماء الرجال على فخذيك كالقرس

وقال الراجز :

يا عجبا لساحقات الورس

الجاعلات المكس فوق المكس

وقرأ عبد الله : واللاتي يأتين بالفاحشة ، وقوله : من نسائكم اختلف ، هل المراد الزوجات أو الحرائر أو المؤمنات أو الثيبات دون الأبكار؟ لأن لفظ النساء مختص في العرف بالثيب ، أقوال. الأول : قاله قتادة والسدي وغيرهما. قال ابن عطية : قوله من نسائكم إضافة في معنى الإسلام ، لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين ينسب ولا يلحقها هذا الحكم

٥٥٦

انتهى. وظاهر استعمال النساء مضافة للمؤمنين في الزوجات كقوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) (١) (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) (٢) وكون المراد الزوجات وأن الآية فيهم ، هو قول أكثر المفسرين.

وأمر تعالى باستشهاد أربعة تغليظا على المدعي ، وسترا لهذه المعصية. وقيل : يترتب على كل واحد شاهدان. وقوله : عليهن ، أي على إتيانهن الفاحشة. والظاهر أنه يختص بالذكور المؤمنين لقوله : أربعة منكم ، وأنه يجوز الاستشهاد لمعاينة الزنا. وإن تعمد النظر إلى الفرج لا يقدح في العدالة إذا كان ذلك لأجل الزنا.

وإعراب اللاتي مبتدأ ، وخبره فاستشهدوا. وجاز دخول الفاء في الخبر ، وإن كان لا يجوز زيد فاضربه على الابتداء والخبر ، لأن المبتدأ موصول بفعل مستحق به الخبر ، وهو مستوف شروط ما تدخل الفاء في خبره ، فأجرى الموصول لذلك مجرى اسم الشرط. وإذ قد أجرى مجراه بدخول الفاء فلا يجوز أن ينتصب بإضمار فعل يفسره فاستشهدوا ، فيكون من باب الاشتغال ، لأن فاستشهدوا لا يصح أن يعمل فيه لجريانه مجرى اسم الشرط ، فلا يصح أن يفسر هكذا. قال بعضهم : وأجاز قوم النصب بفعل محذوف تقديره : اقصدوا اللاتي. وقيل : خبر اللاتي محذوف تقديره : فيما يتلى عليكم حكم اللاتي يأتين ، كقول سيبويه في قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) (٣) وفي قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) (٤) وعلى ذلك حمله سيبويه. ويتعلق من نسائكم بمحذوف ، لأنه في موضع حال من الفاعل في : يأتين ، تقديره : كائنات من نسائكم. ومنكم يحتمل أن يتعلق بقوله : فاستشهدوا ، أو بمحذوف فيكون صفة لأربعة ، أي : كائنين منكم.

(فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) أي : فإن شهد أربعة منكم عليهن. والمخاطب بهذا الأمر : أهم الأزواج أمروا بذلك إذا بدت من الزوجة فاحشة الزنا ، ولا تقربوهن عقوبة لهن وكانت من جنس جريمتهن؟ أم الأولياء إذا بدت ممن لهم عليهن ولاية ونظر يحبسن حتى يمتن؟ أو أولوا الأمر من الولاة والقضاة إذ هم الذين يقيمون الحدود وينهون عن الفواحش؟ أقوال ثلاثة. والظاهر أن الإمساك في البيوت إلى الغاية المذكورة كان على سبيل الحدّ لهن ، وأنّ حدهن كان ذلك

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٦.

(٢) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٣٨.

(٤) سورة النور : ٢٤ / ٢.

٥٥٧

حتى نسخ ، وهو الصحيح ، قاله : ابن عباس ، والحسن. والحبس في البيت آلم وأوجع من الضرب والإهانة ، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك أخذ المهر على ما ذكره السدي ، لأن ألم الحبس مستمر ، وألم الضرب يذهب. قال ابن زيد : منعن من النكاح حتى يمتن عقوبة لهن حين طلبن النكاح من غير وجهه. وقال قوم : ليس بحد بل هو إمساك لهن بعد أن يحدهنّ الإمام صيانة لهن أن يقعن في مثل ما جرى لهن بسبب الخروج من البيوت ، وعلى هذا لا يكون الإمساك حدا. وإذا كان يتوفى بمعنى يميت ، فيكون التقدير حتى يتوفاهن ملك الموت. وقد صرح بهذا المضاف المحذوف ، وهنا في قوله : قل يتوفاكم ملك الموت. وإن كان المعنى بالتوفي الأخذ ، فلا يحتاج إلى حذف مضاف ، إذ يصير التقدير : حتى يأخذهن الموت. والسبيل الذي جعله الله لهن مبني على الاختلاف المراد بالآية. فقيل : هو النكاح المحصن لهن المغني عن السفاح ، وهذا على تأويل أن الخطاب للأولياء أو للأمراء أو القضاة ، دون الأزواج. وقيل : السبيل هو ما استقر عليه حكم الزنا من الحد ، وهو «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب» رمي بالحجارة. وثبت تفسير السبيل بهذا من حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجب المصير إليه. وحديث عبادة ليس بناسخ لهذه الآية ، ولا لأنه الجلد ، بل هو مبين لمجمل في هذه الآية إذ غيا إمساكهن في البيوت إلى أن يجعل لهن سبيلا ، وهو مخصص لعموم آية الجلد. وعلى هذا لا يصح طعن أبي بكر الرازي على الشافعي في قوله : إن السنة لا تنسخ القرآن ، بدعواه أنّ آية الحبس منسوخة ، بحديث عبادة ، وحديث عبادة منسوخ بآية الجلد ، فيلزم من ذلك نسخ القرآن بالسنة ، والسنة بالقرآن ، خلاف قول الشافعي ، بل البيان والتخصيص أولى من ادعاء نسخ ثلاث مرات على ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة ، إذ زعموا أن آية الحبس منسوخة بالحديث ، وأن الحديث منسوخ بآية الجلد ، وآية الجلد منسوخة بآية الرجم.

(وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) تقدم قول مجاهد واختيار أبي مسلم أنها في اللواطة ، ويؤيده ظاهر التثنية. وظاهر منكم إذ ذلك في الحقيقة هو للذكور ، والجمهور على أنها في الزناة الذكور والإناث. واللذان أريد به الزاني والزانية ، وغلب المذكر على المؤنث ، وترتب الأذى على إتيان الفاحشة وهو مقيد بالشهادة على إتيانها. وبين ذلك في الآية السابقة وهو : شهادة أربعة. والأمر بالأذى يدل على مطلق الأذى بقول أو فعل أو بهما. فقال ابن عباس : هو النيل باللسان واليد ، وضرب النعال وما أشبهه. وقال قتادة

٥٥٨

والسدي : هو التعبير والتوبيخ. وقال قوم : بالفعل دون القول. وقالت فرقة : هو السب والجفا دون تعيير. وقيل : الأذى المأمور به هو الجمع بين الحدين : الجلد والرجم ، وهو قول علي ، وفعله في الهمدانية : جلدها ثم رجمها.

وظاهر قوله : واللذان يأتيانها العموم. وقال قتادة والسدي وابن زيد وغيرهم : هي في الرجل والمرأة البكرين ، وأما الأولى ففي النساء المزوجات ، ويدخل معهن في ذلك من أحصن من الرجال بالمعنى. ورجح هذا القول الطبري. وأجمعوا على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد ، إلا في تفسير على الأذى فلا نسخ ، وإلا في قول من قال : إن الأذى بالتعيير مع الجلد باق فلا نسخ عنده ، إذ لا تعارض ، بل يجمعان على شخص واحد. وإذا حملت الآيتان على الزنا تكون الأولى قد دلت على حبس الزواني ، والثانية على إيذائها وإيذائه ، فيكون الإيذاء مشتركا بينهما ، والحبس مختص بالمرأة فيجمع عليها الحبس والإيذاء ، هذا ظاهر اللفظ. وقيل : جعلت عقوبة المرأة الحبس لتنقطع مادة هذه المعصية ، وعقوبة الرجل الإيذاء ، ولم يجعل الحبس لاحتياجه إلى البروز والاكتساب. وأما على قول قتادة والسدي : من أن الأولى في الثيب والثانية في البكر من الرجال والنساء ، فقد اختلف متعلق العقوبتين ، فليس الإيذاء مشتركا. وذهب الحسن إلى أن هذه الآية قبل الآية المتقدمة ، ثم نزل (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) (١) يعني إن لم يتبن وأصررن فامسكوهن إلى إيضاح حالهن ، وهذا قول يوجب فساد الترتيب ، فهو بعيد. وعلى هذه الأقوال يظهر للتكرار فوائد. وعلى قول قتادة والسدي : لا تكرار ، وكذلك لا تكرار على قول : مجاهد وأبي مسلم.

وإعراب واللذان كإعراب واللاتي. وقرأ الجمهور : واللذان بتخفيف النون. وقرأ ابن كثير : بالتشديد. وذكر المفسرون علة حذف الياء ، وعلة تشديد النون ، وموضوع ذلك علم النحو. وقرأ عبد الله : والذين يفعلونه منكم ، وهي قراءة مخالفة لسواد مصحف الإمام ، ومتدافعة مع ما بعدها. إذ هذا جمع ، وضمير جمع وما بعدهما ضمير تثنية ، لكنه يتكلف له تأويل : بأن الذين جمع تحته صنفا الذكور والإناث ، فعاد الضمير بعده مثنى باعتبار الصنفين ، كما عاد الضمير مجموعا على المثنى باعتبار أن المثنى تحتهما أفراد كثيرة هي في معنى الجمع في قوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (٢) و (هذانِ خَصْمانِ

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٥.

(٢) سورة الحجرات : ٤٩ / ٩.

٥٥٩

اخْتَصَمُوا) (١) والأولى اعتقاد قراءة عبد الله أنها على جهة التفسير ، وأن المراد بالتثنية العموم في الزناة. وقرىء واللذأن بالهمزة وتشديد النون ، وتوجيه هذه القراءة أنه لما شدد النون التقى ساكنان ، ففر القارئ من التقائهما إلى إبدال الألف همزة تشبيها لها بألف فاعل المدغم عينه في لامه ، كما قرىء : (وَلَا الضَّالِّينَ) (٢) (وَلا جَانٌّ) (٣) وقد تقدم لنا الكلام في ذلك مشبعا في قوله : ولا الضالين في الفاتحة.

(فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) أي : إن تابا عن الفاحشة وأصلحا عملهما فاتركوا أذاهما. والمعنى : أعرضوا عن أذاهما. وقيل : الأمر بكف الأذى عنهما منسوخ بآية الجلد. قال ابن عطية : وفي قوة اللفظ غض من الزناة وإن تابوا ، لأنّ تركهم إنما هو أعراض. ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (٤) وليس هذا الإعراض في الآيتين أمرا بهجرة ، ولكنها متاركة معرض ، وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة. انتهى كلامه.

(إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) أي رجاعا بعباده عن معصيته إلى طاعته ، رحيما لهم بترك أذاهم إذا تابوا.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) تقدم الكلام في إنما وفي دلالتها على الحصر ، أهو من حيث الوضع ، أو الاستعمال؟ أم لا دلالة لها عليه؟ وتقدم الكلام في التوبة وشروطها ، فأغنى ذلك عن إعادته. وقوله : إنما التوبة على الله هو على حذف مضاف من المبتدأ والخبر ، والتقدير : إنما قبول التوبة مترتب على فضل الله ، فتكون على باقية على بابها. وقال الزمخشري : يعني إنما القبول والغفران واجب على الله تعالى لهؤلاء انتهى. وهذا الذي قاله هو على طريق المعتزلة ، والذي نعتقده أن الله لا يجب عليه تعالى شيء من جهة العقل ، فأما ما ظاهره الوجوب من جهة السمع على نفسه كتخليد الكفار وقبول الإيمان من الكافر بشرطه فذلك واقع قطعا ، وأما قبول التوبة فلا يجب على الله عقلا وأما من جهة السمع فتظافرت ظواهر الآي والسنة على قبول الله التوبة ، وأفادت القطع بذلك. وقد ذهب أبو المعالي الجويني وغيره : إلى أن هذه الظواهر إنما تفيد غلبة الظن لا القطع بقبول

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ١٩.

(٢) سورة الفاتحة : ١ / ٧.

(٣) سورة الرحمن : ٥٥ / ٣٩.

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ١٩٩.

٥٦٠