البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٣٩

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) لما ذكر تعالى وعيد الكفار أعقب بوعد المؤمنين ، وجاءت جملة الكفار مؤكدة بأن على سبيل تحقيق الوعيد المؤكد ، ولم يحتج إلى ذلك في جملة المؤمنين ، وأتى فيها بالسين المشعرة بقصر مدة التنفيس على سبيل تقريب الخير من المؤمن وتبشيره به.

(لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) تقدم تفسير مثل هذا.

(وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) قال ابن عطية : أي يقي من الحر والبرد. ويصح أن يريد أنه ظل لا ينتقل ، كما يفعل ظل الدنيا فأكده بقوله : ظليلا لذلك ويصح أن يصفه بظليل لامتداده ، فقد قال عليه‌السلام : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها» انتهى كلامه. وقال أبو مسلم الظليل : هو القوي المتمكن. قال : ونعت الشيء بمثل ما اشتق من لفظه يكون مبالغة كقولهم : ليل أليل ، وداهية دهياء. وقال أبو عبد الله الرازي : وإنما قال ظلا ظليلا لأن بلاد العرب في غاية الحرارة ، فكان الظل عندهم من أعظم أسباب الراحة ، ولهذا المعنى جعل كناية عن الراحة ووصفه بالظليل مبالغة في من أعظم أسباب الراحة ، ولهذا المعنى جعل كناية عن الراحة ووصفه بالظليل مبالغة في الراحة. وقال الزمخشري : ظليل صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه ، كما يقال : ليل أليل ، ويوم أيوم ، وما أشبه ذلك وهو ما كان فينانا لا جوب فيه ، ودائما لا تنسخه الشمس. وسجسجا لا حرّ فيه ولا برد ، وليس ذلك إلا ظل الجنة رزقنا الله بتوفيقه ما يزلف إليه التفيؤ تحت ذلك الظل. وفي قراءة عبد الله : سيدخلهم بالياء انتهى. وقال الحسن : قد يكون ظل ليس بظليل يدخله الحر والشمس ، فلذلك وصف ظل الجنة بأنه ظليل. وعن الحسن : ظل أهل الجنة يقي الحر والسموم ، وظل أهل النار من يحموم لا بارد ولا كريم. ويقال : إنّ أوقات الجنة كلها سواء اعتدال ، لا حر فيها ولا برد. وقرأ النخعي وابن وثاب : سيدخلهم بالياء ، وكذا ويدخلهم ظلا ، فمن قرأ بالنون وهم الجمهور فلاحظ قوله في وعيد الكفار : (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ) (١) ومن قرأ بالياء لاحظ قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) (٢) فأجراه على الغيبة.

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنواعا من الفصاحة والبيان والبديع. الاستفهام الذي يراد به التعجب في : ألم تر في الموضعين. والخطاب العام ويراد به الخاص في : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا وهو دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن صوريا وكعبا وغيرهما من

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٥٦.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٥٦.

٦٨١

الأحبار إلى الإيمان حسب ما في سبب النزول. والاستعارة في قوله : من قبل أن نطمس وجوها ، في قول من قال : هو الصرف عن الحق ، وفي : ليذوقوا العذاب ، أطلق اسم الذوق الذي هو مختص بحاسة اللسان وسقف الحلق على وصول الألم للقلب. والطباق في : فنردّها على أدبارها ، والوجه ضد القفا ، وفي : للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا ، وفي : إن الذين كفروا والذين آمنوا ، وفي : من آمن ومن صدّ ، وهذا طباق معنوي. والاستطراد في : أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت. والتكرار في : يغفر ، وفي : لفظ الجلالة ، وفي : لفظ الناس ، وفي : آتينا وآتيناهم ، وفي : فمنهم ومنهم ، وفي : جلودهم وجلودا ، وفي : سندخلهم وندخلهم. والتجنيس المماثل في : نلعنهم كما لعنا وفي : لا يغفر ويغفر ، وفي : لعنهم الله ومن يلعن الله ، وفي : لا يؤتون ما آتاهم آتينا وآتيناهم وفي : يؤمنون بالجبت وآمنوا أهدى. والتعجب : بلفظ الأمر في قوله : انظر كيف يفترون. وتلوين الخطاب في : يفترون أقام المضارع مقام الماضي إعلاما أنهم مستمرون على ذلك. والاستفهام الذي معناه التوبيخ والتقريع في : أم لهم نصيب وفي : أم يحسدون. والإشارة في : أولئك الذين. والتقسيم في : فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه. والتعريض في : فإذن لا يؤتون الناس نقيرا عرض بشدة بخلهم. وإطلاق الجمع على الواحد في : أم يحسدون الناس إذا فسر بالرسول ، وإقامة المنكر مقام المعرف لملاحظة الشيوع. والكثرة في : سوف نصليهم نارا. والاختصاص في : عزيزا حكيما. والحذف في : مواضع.

إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ

٦٨٢

صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣)

الزعم : قول يقترن به الاعتقاد الظني. وهو بضم الزاي وفتحها وكسرها. قال الشاعر وهو أبو ذؤيب الهذلي :

فإن تزعميني كنت أجهل فيكم

فإني شريت الحلم بعدك بالجهل

وقال ابن دريد : أكثر ما يقع على الباطل. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مطية الرجل زعموا».

وقال الأعشى :

ونبئت قيسا ولم أبله

كما زعموا خير أهل اليمن

فقال الممدوح وما هو إلا الزعم وحرمه. وإذا قال سيبويه : زعم الخليل ، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به ، وكان أقوى. وذكر صاحب العين : أنّ الأحسن في زعم أن توقع على أن قال ، قال. وقد توقع في الشعر على الاسم. وأنشد بيت أبي ذؤيب هذا وقول الآخر :

زعمتني شيخا ولست بشيخ

إنما الشيخ من يدب دبيبا

ويقال : زعم بمعنى كفل ، وبمعنى رأس ، فيتعدى إلى مفعول واحد مرة ، وبحرف جر أخرى. ويقال : زعمت الشاة أي سمنت ، وبمعنى هزلت ، ولا يتعدى. التوفيق : مصدر وفق ، والوفاق والوفق ضد المخالفة.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) سبب نزولها فيما رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وقاله : مجاهد والزهري وابن جريج ومقاتل ما ذكروا في قصة مطولة مضمونها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ مفتاح الكعبة من سادنيها عثمان بن طلحة ، وابن عمه شيبة بن عثمان بعد تأب من عثمان ولم يكن أسلم ، فسأل العباس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجمع له بين السقاية والسدانة ، فنزلت. فرد المفتاح إليهما وأسلم عثمان. وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلا ظالم». وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقاله : زيد بن أسلم ، ومكحول ، واختاره أبو

٦٨٣

سليمان الدمشقي : نزلت في الأمراء أن يؤدوا الأمانة فيما ائتمنهم الله من أمر رعيته. وقيل : نزلت عامة ، وهو مروي عن : أبي ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين ، وذكر عمل الصالحات ، نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة ، فأحدهما ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أداء الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى ، وهو من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين. ولما كان الترتيب الصحيح أن يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ، ثم يشتغل بحال غيره ، أمر بأداء الأمانة أولا ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق. والظاهر في : يأمركم أنّ الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة.

وقال ابن جريج : خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن مفتاح الكعبة. وقال علي ، وابن أسلم ، وشهر ، وابن زيد : خطاب لولاة المسلمين خاصة ، فهو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمرائه ، ثم يتناول من بعدهم. وقال ابن عباس : في الولاة أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ، ويردوهنّ إلى الأزواج. وقيل : خطاب لليهود أمروا برد ما عندهم من الأمانة ، من نعت الرسول أن يظهروه لأهله ، إذ الخطاب معهم قبل هذه الآية. ونقل التبريزي : أنها خطاب لأمراء السرايا بحفظ الغنائم ووضعها في أهلها. وقيل : ذلك عام فيما كلفه العبد من العبادات. والأظهر ما قدمناه من أنّ الخطاب عام يتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ، ورد الظلامات ، وعدل الحكومات. ومنه دونهم من الناس في الودائع ، والعواري ، والشهادات ، والرجل يحكم في نازلة. قال ابن عباس : لم يرخص الله لموسر ولا معسر أن يمسك الأمانة.

وقرىء : أن تؤدّوا الأمانة على التوحيد ، وأن تحكموا ، ظاهره : أن يكون معطوفا على أن تؤدّوا ، وفصل بين حرف العطف والمعطوف بإذا. وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحابنا وجعله كقوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) (١) (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) (٢) (سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (٣) ففصل في هذه الآية بين

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٠١.

(٢) سورة يس : ٣٦ / ٩.

(٣) سورة الطلاق : ٦٥ / ٢.

٦٨٤

الواو والمعطوف بالمجرور. وأبو عليّ يخص هذا بالشعر ، وليس بصواب. فإن كان المعطوف مجرورا أعيد الجار نحو : امرر بزيد وغدا بعمرو. ولكنّ قوله : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا ، ليس من هذه الآيات ، لأن حرف الجر يتعلق في هذه الآيات بالعامل في المعطوف ، والظرف هنا ظاهره أنه منصوب بأن تحكموا ، ولا يمكن ذلك لأن الفعل في صلة ، ولا يمكن أن ينتصب بالناصب لأن تحكموا لأنّ الأمر ليس واقعا وقت الحكم. وقد خرجه على هذا بعضهم. والذي يظهر أنّ إذا معمولة لأن تحكموا مقدرة ، وأن تحكموا المذكورة مفسرة لتلك المقدرة ، هذا إذا فرغنا على قول الجمهور. وأما إذا قلنا بمذهب الفرّاء فإذا منصوبة بأن تحكموا هذه الملفوظ بها ، لأنه يجيز : يعجبني العسل أن يشرب ، فتقدم معمول صلة أن عليها.

(إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) أصله : نعم ما ، وما معرفة تامة على مذهب سيبويه والكسائي. كأنه قال : نعم الشيء يعظكم به ، أي شيء يعظكم به. ويعظكم صفة لشيء ، وشيء هو المخصوص بالمدح وموصولة على مذهب الفارسي في أحد قوليه. والمخصوص محذوف التقدير : نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل. ونكرة في موضع نصب على التمييز ، ويعظكم صفة له على مذهب الفارسي في أحد قوليه ، والمخصوص محذوف تقديره كتقدير ما قبله. وقد تأولت ما هنا على كل هذه الأقوال ، وتحقيق ذلك في علم النحو. وقال ابن عطية : وما المردفة على نعم إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في ربما ، ومما في قوله : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يحرك شفتيه وكقول الشاعر :

وإنا لمما نضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقى اللسان من الفم

ونحوه. وفي هذا هي بمنزلة ربما ، وهي لها مخالفة في المعنى : لأنّ ربما معناها التقليل ، ومما معناها التكثير. ومع أن ما موطئة ، فهي بمعنى الذي. وما وطأت إلا وهي اسم ، ولكنّ القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل انتهى كلامه. وهو كلام متهافت ، لأنه من حيث جعلها موطئة مهيئة لا تكون اسما ، ومن حيث جعلها بمعنى الذي لا تكون مهيئة موطئة فتدافعا. وقرأ الجمهور : نعما بكسر العين اتباعا لحركة العين. وقرأ بعض القراء : نعما بفتح النون على الأصل ، إذ الأصل نعم على وزن شهد. ونسب إلى أبي عمرو سكون العين ، فيكون جمعا بين ساكنين.

(إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً) أي لأقوالكم الصادرة منكم في الأحكام.

٦٨٥

(بَصِيراً) بردّ الأمانات إلى أهلها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قيل : نزلت في أمراء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكروا قصة طويلة مضمونها : أنّ عمارا أجار رجلا قد أسلم ، وفر أصحابه حين أنذروا بالسرية فهربوا ، وأقام الرجل وإنّ أميرها خالدا أخذ الرجل وماله ، فأخبره عمار بإسلامه وإجارته إياه فقال خالد : وأنت تجيز؟ فاستبا وارتفعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير على أمير.

ومناسبتها لما قبلها أنه لما أمر الولاة أن يحكموا بالعدل أمر الرعية بطاعتهم ، قال عطاء : أطيعوا الله في فريضته ، والرسول في سنته. وقال ابن زيد : في أوامره ونواهيه ، والرسول ما دام حيا ، وسنته بعد وفاته. وقيل : فيما شرع ، والرسول فيما شرح. وقال ابن عباس ، وأبو هريرة ، والسدي ، وابن زيد : أولوا الأمر هم الأمراء. وقال مجاهد : أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال التبريزي : المهاجرون والأنصار. وقيل : الصحابة والتابعون. وقيل : الخلفاء الأربع. وقال عكرمة : أبو بكر وعمر. وقال جابر ، والحسن ، وعطاء ، وأبو العالية ، ومجاهد أيضا : العلماء ، واختاره مالك. وقال ميمون ، ومقاتل ، والكلبي ، أمراء السرايا ، أو الأئمة من أهل البيت قاله : الشيعة. أو عليّ وحده قالوه أيضا. والظاهر أنه كل من ولي أمر شيء ولاية صحيحة. قالوا : حتى المرأة يجب عليها طاعة زوجها ، والعبد مع سيده ، والولد مع والديه ، واليتيم مع وصيه فيما يرضى الله وله فيه مصلحة.

وقال الزمخشري : والمراد ، بأولي الأمر منكم ، أمراء الحق ، لأن أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم ، فلا يعطفون على الله ورسوله. وكان أول الخلفاء يقول : أطيعوني ما عدلت فيكم ، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم. وعن أبي حازم : أن مسلمة بن عبد الملك قال له : ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله وأولي الأمر منكم؟ قال : أليس قد نزعت منكم إذ خالفتم الحق بقوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (١). وقيل : هم أمراء السرايا. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع أميري فقد أطاعني ، ومن يعص أميري فقد عصاني» وقيل : هم العلماء الدّينون الذين يعلمون الناس الدّين ، يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر انتهى. وقال سهل التستري : أطيعوا السلطان في سبعة : ضرب الدنانير ، والدراهم ، والمكاييل ، والأوزان ، والأحكام ، والحج ، والجمعة ، والعيدين ، والجهاد. وإذا نهى السلطان العالم أن يفتى

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٥٩.

٦٨٦

فليس له أن يفتي ، فإن أفتى فهو عاص وإن كان أميرا جائرا. قيل : ويحمل قول سهل على أنه يترك الفتيا إذا خاف منه على نفسه. وقال ابن خويز منداد : وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان فيه طاعة ، ولا تجب فيما كان فيه معصية. قال : ولذلك قلنا : أن أمراء زماننا لا تجوز طاعتهم ، ولا معاونتهم ، ولا تعظيمهم ، ويجب الغزو معهم متى غزوا ، والحكم من قبلهم ، وتولية الإمامة والحسبة ، وإقامة ذلك على وجه الشريعة. فإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم ، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يخافوا فتصلى معهم تقية ، وتعاد الصلاة فيما بعد. انتهى.

واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول من قال : بإمام معصوم بقوله : وأولي الأمر منكم. فإنّ الأمراء والفقهاء يجوز عليهم الغلط والسهو ، وقد أمرنا بطاعتهم. ومن شرط الإمام العصمة فلا يجوز ذلك عليه ، ولا يجوز أن يكون المراد الإمام لأنه قال في نسق الخطاب : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ، فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجبا ، وكان هو يقطع التنازع ، فلما أمر برد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة دون الإمام ، دلّ على بطلان الإمامة. وتأويلهم : أنّ أولي الأمر عليّ رضي‌الله‌عنه فاسد ، لأنّ أولي الأمر جمع ، وعليّ واحد. وكان الناس مأمورين بطاعة أولي الأمر في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليّ لم يكن إماما في حياته ، فثبت أنهم كانوا أمراء ، وعلى المولى عليهم طاعتهم ما لم يأمروا بمعصية. فكذلك بعد موتهم في لزوم اتباعهم طاعتهم ما لم تكن معصية. وقال أبو عبد الله الرازي : وأولي الأمر منكم إشارة إلى الإجماع ، والدليل عليه أنه أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر بطاعته على الجزم والقطع لا بد أن يكون معصوما عن الخطأ ، وإلّا لكان بتقدير إقدامه على الخطأ مأمورا باتباعه ، والخطأ منهى عنه ، فيؤدّي إلى اجتماع الأمر والنهي في فعل واحد باعتبار واحد ، وأنه محال. وليس أحد معصوما بعد الرسول إلا جمع الأمة أهل العقد والحلّ ، وموجب ذلك أنّ إجماع الأمة حجة.

(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) قال مجاهد ، وقتادة ، والسدي ، والأعمش ، وميمون بن مهران : فردوه إلى كتاب الله ، وسؤال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته ، وإلى سنته بعد وفاته. وقال قوم منهم الأصم : معناه قولوا : الله ورسوله أعلم. وقال الزمخشري : فإن اختلفتم أنتم وأولوا الأمر في شيء من أمور الدين فردوه ارجعوا فيه إلى

٦٨٧

الكتاب والسنة انتهى. وقد استدل نفاة القياس ومثبتوه بقوله : فردوه إلى الله ورسوله ، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الفقه.

(إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) شرط وجوابه محذوف ، أي : فردوه إلى الله والرسول. وهو شرط يراد به الحض على اتباع الحق ، لأنه ناداهم أولا بيا أيها الذين آمنوا ، فصار نظير : إن كنت ابني فأطعني. وفيه إشعار بوعيد من لم يرد إلى الله والرسول.

(ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) ذلك الرد إلى الكتاب والسنة ، أو إلى أن تقولوا : الله ورسوله أعلم. وقال قتادة ، والسدي ، وابن زيد : أحسن عاقبة. وقال مجاهد : أحسن جزاء. وقيل : أحسن تأويلا من تأويلكم أنتم. وقالت فرقة : المعنى : أن الله ورسوله أحسن نظرا وتأويلا منكم إذا انفردتم بتأويلكم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) ذكر في سبب نزولها قصص طويل ملخصه : أنّ أبا بردة الأسلمي كان كاهنا يقضي بين اليهود ، فتنافر إليه نفر من أسلم ، أو أنّ قيسا الأنصاري أحد من يدعي الإسلام ورجلا من اليهود تداعيا إلى الكاهن وتركا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما دعا اليهودي إلى الرسول ، والأنصاري يأبى إلا الكاهن. أو أنّ منافقا ويهوديا اختصما ، فاختار اليهودي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختار المنافق كعب بن الأشرف ، فأبى اليهودي ، وتحاكما إلى الرسول ، فقضى لليهودي ، فخرجا ولزمه المنافق ، وقال : ننطلق إلى عمر ، فانطلقا إليه فقال اليهودي : قد تحاكمنا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرض بقضائه ، فأقرّ المنافق بذلك عند عمر ، فقتله عمر وقال : هكذا أقضي فيمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأنه تعالى لما أمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر ، ذكر أنه يعجب بعد ورود هذا الأمر من حال من يدّعي الإيمان ويريد أن يتحاكم إلى الطاغوت ويترك الرسول. وظاهر الآية يقتضي أن تكون نزلت في المنافقين ، لأنه قال : يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، فلو كانت في يهود أو في مؤمن ويهودي كان ذلك بعيدا من لفظ الآية ، إلا إن حمل على التوزيع ، فيجعل بما أنزل إليك في منافق ، وما أنزل من قبلك في يهودي ، وشملوا في ضمير يزعمون فيمكن. وقال السدي : نزلت في المنافقين من قريظة والنضير ، تفاخروا بسبب تكافؤ دمائهم ، إذ كانت

٦٨٨

النضير في الجاهلية تدي من قتلت وتستقيه إذا قتلت قريظة منهم ، فأبت قريظة لما جاء الإسلام ، وطلبوا المنافرة ، فدعا المؤمنون منهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعا المنافقون إلى بردة الكاهن ، فنزلت. وقال الحسن : احتكم المنافقون بالقداح التي يضرب بها عند الأوثان فنزلت. أو لسبب اختلافهم في أسباب النزول اختلفوا في الطاغوت. فقيل : كعب بن الأشرف. وقيل : الأوثان. وقيل : ما عبد من دون الله. وقيل : الكهان.

(وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) جملة حالية من قوله : يريدون ، ويريدون حال ، فهي حال متداخل. وأعاد الضمير هنا مذكرا ، وأعاده مؤنثا في قوله : اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها. وقرأ بها هنا عباس بن الفضل على التأنيث ، وأعاد الضمير كضمير جمع العقلاء في قوله : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ) (١).

(وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) ضلالا ليس جاريا على يضلهم ، فيحتمل أن يكون جعل مكان إضلال ، ويحتمل أن يكون مصدر المطاوع يضلهم ، أي : فيضلون ضلالا بعيدا. وقرأ الجمهور : بما أنزل إليك وما أنزل مبنيا للمفعول فيهما. وقرىء : مبنيا للفاعل فيهما.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) قرأ الحسن : تعالوا بضم اللام. قال أبو الفتح : وجهها أنّ لام الفعل من تعاليت حذفت تخفيفا ، وضمت اللام التي هي عين الفعل لوقوع واو الجمع بعدها. ولظهر الزمخشري حذف لام الكلمة هنا بحذفها في قولهم : ما باليت به بالة ، وأصله : بالية كعافية. وكمذهب الكسائي في آية ، أن أصلها أيلة فحذفت اللام. قال : ومنه قول أهل مكة : تعالي بكسر اللام للمرأة. وفي شعر الحمداني :

تعالي أقاسمك الهموم تعالي

والوجه : فتح اللام انتهى. وقول الزمخشري : قول أهل مكة تعالي يحتمل أن تكون عربية قديمة ، ويحتمل أن يكون ذلك مما غيرته عن وجهه العربي فلا يكون عربيا. وأما قوله في شعر الحمداني فقد صرّح بعضهم بأنه أبو فراس ، وطالعت ديوانه جمع الحسين بن خالويه فلم أجد ذلك فيه. وبنو حمدان كثيرون ، وفيهم عدة من الشعراء ، وعلى تقدير ثبوت ذلك في شعرهم لا حجة فيه ، لأنه لا يستشهد بكلام المولدين. والظاهر من قوله : رأيت

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٧.

٦٨٩

المنافقين أنها من رؤية العين ، صدوا مجاهرة وتصريحا ، ويحتمل أن يكون من رؤية القلب أي : علمت. ويكون صدهم مكرا وتخابثا ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه. وصدودا : مصدر لصد ، وهو هنا متعد بحرف الجر ، وقد يتعدى بنفسه نحو : «فصدهم عن السبيل» (١) وقياس صدّ في المصدر فعل نحو : صده صدّا. وحكى ابن عطية : أن صدودا هنا ليس مصدرا ، والمصدر عنده صد.

(فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) قال الزجاج : كيف في موضع نصب تقديره : كيف تراهم ، أو في موضع رفع أي : فكيف صنيعهم والمصيبة. قال الزجاج : قتل عمر الذي ردّ حكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : كل مصيبة تصيب المنافقين في الدنيا والآخرة ، ثم عاد الكلام إلى ما سبق يخبر عن فعلهم فقال : ثم جاؤك يحلفون بالله. وقيل : هي هدم مسجد الضرار ، وفيه نزلت الآية ، حلفوا دفاعا عن أنفسهم ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة وموافقة الكتاب. وقيل : ترك الاستعانة بهم وما يلحقهم من الذل من قوله : فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ، والذي قدّمت أيديهم ردهم حكم الرسول أو معاصيهم المتقدّمة أو نفاقهم واستهزاؤهم ثلاثة أقوال. وقيل في قوله : إلا إحسانا وتوفيقا أي : ما أردنا بطلب دم صاحبنا الذي قتله عمر إلا إحسانا إلينا ، وما يوافق الحق في أمرنا. وقيل : ما أردنا بالرفع إلى عمر إلا إحسانا إلى صاحبنا بحكومة العدل ، وتوفيقا بينه وبين خصمه. وقيل : جاؤوا يعتذرون إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من محاكمتهم إلى غيره ما أردنا في عدولنا عنك إلا إحسانا بالتقريب في الحكم ، وتوفيقا بين الخصوم ، دون الحمل على الحق. وفي قوله : فكيف إذا أصابتهم مصيبة ، وعيد لهم على فعلهم ، وأنهم سيندمون عليه عند حلول بأس الله تعالى حين لا ينفعهم الندم ، ولا يغني عنهم الاعتذار.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) أي : يعلم ما في قلوبهم من النفاق. والمعنى : يعلمه فيجازيهم عليه ، أو يجازيهم على ما أسرّوه من الكفر ، وأظهروه من الحلف الكاذب. وعبر بالعلم عن المجازاة. فأعرض عنهم : أي عن معاتبتهم وشغل البال بهم ، وقبول إيمانهم وأعذارهم. وقيل : المعنى بالإعراض معاملتهم بالرفق والإناة ، ففي ذلك تأديب لهم ، وهو عتابهم. ولا

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٢٤.

٦٩٠

يراد بالإعراض الهجر والقطيعة ، فإنّ قوله : وعظهم يمنع من ذلك. وعظهم : أي خوفهم بعذاب الله وازجرهم ، وأنكر عليهم أن يعودوا لمثل ما فعلوا.

والقول البليغ هو الزجر والردع. قال الحسن : هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق. ويتعلق قوله : في أنفسهم بقوله : قل على أحد معنيين ، أي : قل لهم خاليا بهم لا يكون معهم أحد من غيرهم مسارا لأنّ النصح إذا كان في السرّ كان أنجح ، وكان بصدد أن يقبل سريعا. ومعنى بليغا : أي مؤثرا فيهم. أو قل لهم في معنى أنفسهم النجسة المنطوية على النفاق قولا يبلغ منهم ما يزجرهم عن العود إلى ما فعلوا.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : بم تعلق قوله : في أنفسهم؟ (قلت) : بقوله : بليغا أي : قل لهم قولا بليغا في أنفسهم ، مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما ، ويستشعرون منه الخوف استشعارا ، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق ، وأطلع قرنه ، وأخبرهن أنّ ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله ، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين. وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان ، وإسراركم الكفر وإضماره ، فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيت انتهى كلامه. وتعليقه في أنفسهم بقوله : بليغا لا يجوز على مذهب البصريين ، لأن معمول الصفة لا يتقدّم عندهم على الموصوف. لو قلت : هذا رجل ضارب زيدا لم يجز أن تقول : هذا زيدا رجل ضارب ، لأن حق المعمول ألا يحل إلا في موضع يحل فيه العامل ، ومعلوم أن النعت لا يتقدّم على المنعوت ، لأنه تابع ، والتابع في ذلك بمذهب الكوفيين. وأما ما ذكره الزمخشري بعد ذلك من الكلام المسهب فهو من نوع الخطابة ، وتحميل لفظ القرآن ما لا يحتمله ، وتقويل الله تعالى ما لم يقله ، وتلك عادته في تفسيره وهو تكثير الألفاظ. ونسبة أشياء إلى الله تعالى لم يقلها الله تعالى ، ولا دل عليها اللفظ دلالة واضحة ، والتفسير في الحقيقة إنما هو شرح اللفظ المستغلق عند السامع مما هو واضح عنده مما يرادفه أو يقاربه ، أو له دلالة عليه بإحدى طرق الدلالات. وحكي عن مجاهد أن قوله : في أنفسهم متعلق بقوله : مصيبة ، وهو مؤخر بمعنى التقديم ، وهذا ينزه مجاهد أن يقوله ، فإنه في غاية الفساد.

وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً

٦٩١

رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢)

شجر الأمر : التبس ، يشجر شجورا وشجرا ، وشاجر الرجل غيره في الأمر نازعه فيه ، وتشاجروا. وخشبات الهودج يقال لها شجار لتداخل بعضها ببعض. ورمح شاجر ، والشجير الذي امتزجت مودته بمودّة غيره ، وهو من الشجر شبه بالتفاف الأغصان. وقد تقدّم ذكر هذه المادّة في البقرة وأعيدت لمزيد الفائدة.

نفر الرجل ينفر نفيرا ، خرج مجدا بكسر الفاء في المضارع وضمها ، وأصله الفزع ، يقال : نفر إليه إذا فزع إليه ، أي طلب إزالة الفزع. والنفير النافور ، والنفر الجماعة. ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفورا أي هربت باستعجال.

الثبة : الجماعة الاثنان والثلاثة في كلام العرب قاله : الماتريدي. وقيل : هي فوق العشرة من الرجال ، وزنها فعلة. ولامها قيل : واو ، وقيل : ياء ، مشتقة من تثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه ، كأنك جمعت محاسنه. ومن قال : إن لامها واو ، جعلها من ثبا يثبو مثل حلا يحلو. وتجمع بالألف والتاء وبالواو والنون فتضم في هذا الجمع تاؤها ، أو تكسر وثبة الحوض وسطه الذي يثوب الماء إليه ، المحذوف منه عينه ، لأنه من ثاب يثوب ، وتصغيره ثويبة كما تقول في سه سييهة ، وتصغير تلك ثبية. البطء التثبط عن الشيء. يقال : أبطأ وبطؤ مثل أسرع وسرع مقابله ، وبطآن اسم فعل بمعنى بطؤ.

٦٩٢

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) نبه تعالى على جلالة الرسل ، وأنّ العالم يلزمهم طاعتهم ، والرسول منهم تجب طاعته. ولام ليطاع لام كي ، وهو استثناء مفرّغ من المفعول من أجله أي : وما أرسلنا من رسول بشيء من الأشياء إلا لأجل الطاعة. وبإذن الله أي بأمره ، قاله : ابن عباس. أو بعلمه وتوفيقه وإرشاده. وحقيقة الإذن التمكين مع العلم بقدر ما مكن فيه. والظاهر أن بإذن الله متعلق بقوله : ليطاع. وقيل : بأرسلنا أي : وما أرسلنا بأمر الله أي : بشريعته ، ودينه وعبادته من رسول إلا ليطاع. قال ابن عطية : وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ ، خاص المعنى ، لأنّا نقطع أنّ الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه أن لا يطيعوه ، ولذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم ، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم ، وهو تخريج حسن. لأن الله إذا علم من أحد أنه يؤمن وفقه لذلك ، فكأنه أذن له انتهى. ولا يلزم ما ذكره من أن الكلام عام اللفظ خاص المعنى ، لأن قوله : ليطاع مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله ، ولا يلزم من الفاعل المحذوف أن يكون عاما ، فيكون التقدير : ليطيعه العالم ، بل المحذوف ينبغي أن يكون خاصا ليوافق الموجود ، فيكون أصله : إلا ليطيعه من أردنا طاعته. وقال عبد الله الرازي : والآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعا في تلك الشريعة ، ومتبوعا فيها ، إذ لو كان لا يدعو إلا إلى شرع من قبله لم يكن هو في الحقيقة مطاعا ، بل المطاع هو الرسول المتقدم الذي هو الواضع لتلك الشريعة ، والله تعالى حكم على كل رسول بأنه مطاع انتهى. ولا يعجبني قوله : الواضع لتلك الشريعة ، والأحسن أن يقال : الذي جاء بتلك الشريعة من عند الله.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) ظلموا أنفسهم بسخطهم لقضائك أو بتحاكمهم إلى الطاغوت ، أو بجميع ما صدر عنهم من المعاصي. جاؤوك فاستغفروا الله بالإخلاص ، واعتذروا إليك. واستغفر لهم الرسول أي : شفع لهم الرسول في غفران ذنوبهم. والعامل في إذ جاؤوك ، والتفت في قوله : واستغفر لهم الرسول ، ولم يجىء على ضمير الخطاب في جاؤوك تفخيما لشأن الرسول ، وتعظيما لاستغفاره ، وتنبيها على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله تعالى بمكان ، وعلى أنّ هذا الوصف الشريف وهو إرسال الله إياه موجب لطاعته ، وعلى أنه مندرج في عموم قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) (١) ومعنى وجدوا : علموا ، أي : بإخباره أنه قبل توبتهم ورحمهم.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٦٤.

٦٩٣

وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : فائدة ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم بأنهم بتحاكمهم إلى الطاغوت خالفوا حكم الله ، وأساءوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجب عليهم أن يعتذروا ويطلبوا من الرسول الاستغفار ، أو لمّا لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم التمرد ، فإذا تابوا وجب أن يظهر منهم ما يزيد التمرد بأن يذهبوا إلى الرسول ويطلبوا منه الاستغفار ، أو إذا تابوا بالتوبة أتوا بها على وجه من الخلل ، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صارت مستحقة. والآية تدل على قبول توبة التائب لأنه قال بعدها : (لَوَجَدُوا اللهَ) (١) وهذا لا ينطبق على ذلك الكلام إلا إذا كان المراد من قوله : (تَوَّاباً رَحِيماً) (٢) قبول توبته انتهى. وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبره وحثا من ترابه على رأسه ثم قال :

يا خير من دفنت في الترب أعظمه

فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم قال : قد قلت : يا رسول الله فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله فوعينا عنك ، وكان فيما أنزل الله عليك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك الآية ، وقد ظلمت نفسي وجئت أستغفر الله ذنبي ، فاستغفر لي من ربي ، فنودي من القبر أنه قد غفر لك.

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) قال مجاهد وغيره : نزلت فيمن أراد التحاكم إلى الطاغوت. ورجحه الطبري لأنه أشبه بنسف الآيات. وقيل : في شأن الرجل الذي خاصم الزبير في السقي بماء الحرة ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك» فغضب وقال : «إن كان ابن عمتك ، فغضب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستوعب للزبير حقه فقال : احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر ، ثم أرسل الماء». والرجل هو من الأنصار بدري. وقيل : هو حاطب بن أبي بلتعة. وقيل : نزلت نافية لإيمان الرجل الذي قتله عمر ، لكونه رد حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومقيمة عذر عمر في قتله ، إذ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما كنت أظن أنّ عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن». وأقسم بإضافة الرب إلى كاف الخطاب تعظيما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو التفات راجع إلى قوله : (جاؤُكَ) (٣) ولا في قوله : فلا. قال الطبري : هي رد على ما تقدم تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٦٤.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٦٤.

(٣) سورة النساء : ٤ / ٦٤.

٦٩٤

أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله : وربك لا يؤمنون. وقال غيره : قدم لا على القسم اهتماما بالنفي ، ثم كررها بعد توكيدا للتهم بالنفي ، وكان يصح إسقاط لا الثانية ، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ، ويذهب معنى الاهتمام. وقيل : الثانية زائدة ، والقسم معترض بين حرف النفي والنفي. وقال الزمخشري : لا مزيدة لتأكيد معنى القسم ، كما زيدت في لئلا يعلم لتأكيد وجوب العلم. ولا يؤمنون جواب القسم. (فإن قلت) : هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر لا في. لا يؤمنون. (قلت) : يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه ، وذلك قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (١) انتهى كلامه. ومثل الآية قول الشاعر :

ولا والله لا يلقى لما بي

ولا للما بهم أبدا دواء

وحتى هنا غاية ، أي : ينتفي عنهم الإيمان إلى هذه الغاية ، فإذا وجد ما بعد الغاية كانوا مؤمنين. وفيما شجر بينهم عام في كل أمر وقع بينهم فيه نزاع وتجاذب. ومعنى يحكموك ، يجعلوك حكما. وفي الكلام حذف التقدير : فتقضي بينهم.

(ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي ضيقا من حكمك. وقال مجاهد : شكا لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له البيان. وقال الضحاك : إثما أي : سبب إثم. والمعنى : لا يخطر ببالهم ما يأثمون به من عدم الرضا. وقيل : هما وحزنا ، ويسلموا أي ينقادوا ويذعنوا لقضائك ، لا يعارضون فيه بشيء قاله : ابن عباس والجمهور. وقيل : معناه ويسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك ، ذكره الماوردي ، وأكد الفعل بالمصدر على سبيل صدور التسليم حقيقة ، وحسّنه كونه فاصلة. وقرأ أبو السمال : فيما شجر بسكون الجيم ، وكأنه فرّ من توالي الحركات ، وليس بقوي لخفة الفتحة بخلاف الضمة والكسرة ، فإن السكون بدلهما مطرد على لغة تميم.

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) قالت اليهود لما لم يرض المنافق بحكم الرسول : ما رأينا أسخف من هؤلاء يؤمنون بمحمد ويتبعونه ، ويطئون عقبه ، ثم لا يرضون بحكمه ، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا ، وبلغ القتل فينا سبعين ألفا. فقال ثابت بن قيس : لو كتب ذلك علينا لفعلنا فنزلت. وروي هذا السبب بألفاظ متغايرة والمعنى قريب.

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ٣٨ ـ ٤٠.

٦٩٥

ومعنى الآية : أنه تعالى لو فرض عليهم أن يقتلوا أنفسهم ، إمّا أن يقتل نفسه بيده ، أو يقتل بعضهم بعضا ، أو أن يخرجوا من ديارهم كما فرض ذلك على بني إسرائيل حين استتيبوا من عبادة العجل لم يطع منهم إلا القليل ، وهذا فيه توبيخ عظيم حيث لا يمتثل أمر الله إلا القليل. وقال السبيعي : لما نزلت قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنّ من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» قال ابن وهب : الرجل القائل ذلك هو أبو بكر. وروي عنه أنه قال : لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي. وذكر النقاش : أنه عمر. وذكر أبو الليث السمرقندي : أن القائل منهم عمار ، وابن مسعود ، وثابت بن قيس.

والضمير في عليهم قيل : يعود على المنافقين ، أي : ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة ، وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم. وقيل : يعود على الناس مؤمنهم ومنافقهم. وكسر النون من أن ، وضم الواو من أو ، أبو عمرو. وكسرهما حمزة وعاصم ، وضمهما باقي السبعة. وأن هنا يحتمل أن تكون تفسيرية ، وأن تكون مصدرية على ما قرروا أنّ أن توصل بفعل الأمر.

وفي الآية دليل على صعوبة الخروج من الديار ، إذ قرنه الله تعالى بقتل الأنفس ، وقد خرج الصحابة المهاجرون من ديارهم وفارقوا أهاليهم حين أمرهم الله تعالى بالهجرة ، وارتفع قليل ، على البدل من الواو في فعلوه على مذهب البصريين ، وعلى العطف على الضمير على قول الكوفيين ، وبالرفع قرأ الجمهور. وقرأ أبيّ ، وابن أبي إسحاق ، وابن عامر ، وعيسى بن عمر : إلا قليلا بالنصب ، ونص النحويون على أن الاختيار في مثل هذا التركيب اتباع ما بعد إلا لما قبلها في الإعراب على طريقة البدل أو العطف ، باعتبار المذهبين اللذين ذكرناهما.

وقال الزمخشري : وقرىء إلا قليلا بالنصب على أصل الاستثناء ، أو على إلا فعلا قليلا انتهى. إلا ما النصب على أصل الاستثناء فهو الذي وجه الناس عليه هذه القراءة. وأما قوله : على إلا فعلا قليلا فهو ضعيف لمخالفة مفهوم التأويل قراءة الرفع ، ولقوله منهم فإنه تعلق على هذا التركيب : لو قلت ما ضربوا زيدا إلا ضربا قليلا منهم لم يحسن أن يكون منهم لا فائدة في ذكره. وضمير النصب في فعلوه عائد على أحد المصدرين المفهومين من قوله : أن اقتلوا أو اخرجوا. وقال أبو عبد الله الرازي : الكناية في قوله ما فعلوه عائد على

٦٩٦

القتل والخروج معا ، وذلك لأن الفعل جنس واحد ، وإن اختلفت صورته انتهى. وهو كلام غير نحوي.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) الضمير في : ولو أنهم مختص بالمنافقين ، ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا. قال الزمخشري : ما يوعظون به من اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاعته ، والانقياد لما يراه ويحكم به ، لأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ، لكان خيرا لهم في عاجلهم وآجلهم ، وأشد تثبيتا لإيمانهم ، وأبعد من الاضطراب فيه. وقال ابن عطية : ولو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيرا لهم وتثبيتا معناه يقينا وتصديقا انتهى. وكلاهما شرح ما يوعظون به بخلاف ما يدل عليه الظاهر. لأنّ الذي يوعظ به ليس هو اتباع الرسول وطاعته ، وليس مدلول ما يوعظون به اتعظوا وأنابوا ، وقيل : الوعظ هنا بمعنى الأمر أي : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به فانتهوا عما نهوا عنه. وقال في ري الظمآن : ما يوعظون به أي : ما يوصون ويؤمرون به من الإخلاص والتسليم. وقال الراغب : أخبر أنهم لو قبلوا الموعظة لكان خيرا لهم. وقال أبو عبد الله الرازي : المراد أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا ، وسمي هذا التكليف والأمر وعظا ، لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، والثواب والعقاب ، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظا. وقال الماتريدي : وقيل ما يوعظون به من الأمر من القرآن.

وهذه كلها تفاسير تخالف الظاهر ، لأن الوعظ هو التذكار بما يحل بمن خالف أمر الله تعالى من العقاب ، فالموعظ به هي الجمل الدالة على ذلك ، ولا يمكن حمله على هذا الظاهر ، لأنهم لم يؤمروا بأن يفعلوا الموعظ به ، وإنما عرض لهم شرح ذلك بما خالف الظاهر ، لأنهم علقوا به بقوله : ما يوعظون ، على طريقة ما يفهم من قولك : وعظتك بكذا ، فتكون الباء قد دخلت على الشيء الموعظ به وهي الجملة الدالة على الوعظ. أما إذا كان المعنى على أنّ الباء للسببية فيحمل إذ ذاك اللفظ على الظاهر ، ويصح المعنى ، ويكون التقدير : ولو أنهم فعلوا الشيء الذي يوعظون بسببه أي : بسبب تركه. ودلّ على حذف تركه قوله : ولو أنهم فعلوا. ويبقى لفظ يوعظون على ظاهره ، ولا يحتاج إلى ما تأولوه.

لكان خيرا لهم : أي يحصل لهم خير الدارين ، فلا يكون أفعل التفضيل. ويحتمل أن يكونه أي : لكان أنفع لهم من غيره : وأشد تثبيتا ، لأنه حق ، فهو أبقى وأثبت. أو لأنّ الطاعة تدعو إلى أمثالها ، أو لأنّ الإنسان يطلب أولا تحصيل الخير ، فإذا حصله طلب

٦٩٧

بقاءه. فقوله : لكان خيرا لهم إشارة إلى الحالة الأولى. وقوله : وأشد تثبيتا إشارة إلى الحالة الثانية. قاله : أبو عبد الله الرازي.

(وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) قال الزمخشري : وإذا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : وماذا يكون لهم أيضا بعد التثبيت؟ فقيل : وإذا لو ثبتوا لآتيناهم. لأنّ إذا جواب وجزاء انتهى. وظاهر قول الزمخشري : لأن إذا جواب وجزاء يفهم منه أنها تكون للمعنيين في حال واحد على كل حال ، وهذه مسألة خلاف. ذهب الفارسي إلى أنها قد تكون جوابا فقط في موضع ، وجوابا وجزاء في موضع نفي ، مثل : إذن أظنك صادقا لمن قال : أزورك ، هي جواب خاصة. وفي مثل : إذن أكرمك لمن قال : أزورك ، هي جواب وجزاء. وذهب الأستاذ أبو عليّ إلى أنها تتقدر بالجواب والجزاء في كل موضع وقوفا مع ظاهر كلام سيبويه. والصحيح قول الفارسي ، وهي مسألة يبحث عنها في علم النحو.

والأجر كناية عن الثواب على الطاعة ، ووصفه بالعظم باعتبار الكثرة ، أو باعتبار الشرف. والصراط المستقيم هو الإيمان المؤدّي إلى الجنة قاله : ابن عطية. وقيل : هو الطريق إلى الجنة. وقيل : الأعمال الصالحة. ولما فسر ابن عطية الصراط المستقيم بالإيمان قال : وجاء ترتيب هذه الآية كذا. ومعلوم أنّ الهداية قبل إعطاء الأجر ، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب ، فالمعنى : وكهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر انتهى. وأمّا إذا فسرت الهداية إلى الصراط هنا بأنه طريق الجنة ، أو الأعمال الصالحة ، فإنه يظهر الترتيب.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) قال الكلبي : نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتى ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه فقال : «يا ثوبان ما غير لونك؟» فقال : يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع ، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك ، واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك ، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين ، وإنّي وإن كنت أدخل الجنة كنت في منزل أدنى من منزلك ، وإن لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبدا. انتهى قول الكلبي. وحكي مثل قول ثوبان عن جماعة من الصحابة منهم : عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري ، وهو الذي أري الأذان قال :

٦٩٨

يا رسول الله ، إذا مت ومتنا ، كنت في عليين فلا نراك ولا نجتمع بك ، وذكر حزنه على ذلك ، فنزلت. وحكى مكي عن عبد الله هذا أنه لما مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اللهم اعمني حتى لا أرى شيئا بعده ، فعمي. والمعنى في مع النبيين : إنه معهم في دار واحدة ، وكل من فيها رزق الرضا بحاله ، وهم بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر ، وإن بعد مكانه.

وقيل : المعية هنا كونهم يرفعون إلى منازل الأنبياء متى شاؤوا تكرمة لهم ، ثم يعودون إلى منازلهم. وقيل : إنّ الأنبياء والصدّيقين والشهداء ينحدرون إلى من أسفل منهم ليتذاكروا نعمة الله ، ذكره المهدوي في تفسيره الكبير. قال أبو عبد الله الرازي : هذه الآية تنبيه على أمرين من أحوال المعاد : الأول : إشراق الأرواح بأنوار المعرفة. والثاني : كونهم مع النبيين. وليس المراد بهذه المعية في الدرجة ، فإنّ ذلك ممتنع ، بل معناه : إن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا بقيت بعد المفارقة تلك العلائق ، فينعكس الشعاع من بعضها على بعض ، فتصير أنوارها في غاية القوة ، فهذا ما خطر لي انتهى كلامه. وهو شبيه بما قالته الفلاسفة في الأرواح إذا فارقت الأجساد. وأهل الإسلام يأبون هذه الألفاظ ومدلولاتها ، ولكن من غلب عليه شيء وحبه جرى في كلامه. وقوله : مع الذين أنعم الله عليهم ، تفسير لقوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (١) وهم من ذكر في هذه الآية. والظاهر أن قوله : من النبيين ، تفسير للذين أنعم الله عليهم. فكأنه قيل : من يطع الله ورسوله منكم ألحقه الله بالذين تقدمهم ممن أنعم عليهم. قال الراغب : ممن أنعم عليهم من الفرق الأربع في المنزلة والثواب : النبي بالنبي ، والصديق بالصديق ، والشهيد بالشهيد ، والصالح بالصالح. وأجاز الراغب أن يتعلق من النبيين بقوله : ومن يطع الله والرسول. أي : من النبيين ومن بعدهم ، ويكون قوله : فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم إشارة إلى الملأ الأعلى. ثم قال : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٢) ويبين ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين الموت «اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى» وهذا ظاهر انتهى. وهذا الوجه الذي هو عنده ظاهر فاسد من جهة المعنى ، ومن جهة النحو. أما من جهة المعنى فإنّ الرسول هنا هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخبر الله تعالى أن من يطيعه ويطيع رسوله فهو مع من ذكر ، ولو كان من النبيين معلقا بقوله : ومن يطع الله والرسول ، لكان قوله : من النبيين تفسيرا لمن في قوله : ومن يطع. فيلزم أن يكون في زمان الرسول أو بعده أنبياء يطيعونه ، وهذا غير ممكن ، لأنه قد

__________________

(١) سورة الفاتحة : ١ / ٦.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٦٩.

٦٩٩

أخبر تعالى أنّ محمدا هو خاتم النبيين. وقال هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نبي بعدي». وأما من جهة النحو فما قبل فاء الجزاء لا يعمل فيما بعدها ، لو قلت : إن تقم هند فعمرو ذاهب ضاحكة ، لم يجز.

واختلفوا في الأوصاف الثلاثة التي بعد النبيين. فقال بعضهم : كلها أوصاف لموصوف واحد ، وهي صفات متداخلة ، فإنه لا يمتنع في الشخص الواحد أن يكون صديقا وشهيدا وصالحا. وقيل : المراد بكل وصف صنف من الناس. فأما الصديق فهو فعيل للمبالغة كشريب. فقيل : هو الكثير الصدق ، وقيل : هو الكثير الصدقة. وللمفسرين في تفسيره وجوه : الأول : أنّ كل من صدق بكل الذي لا يتخالجه فيه شك فهو صديق لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) (١). الثاني : أفاضل أصحاب الرسول. الثالث : السابق إلى تصديق الرسول. فصار في ذلك قدوة لسائر الناس. وأما الشهيد : فهو المقتول في سبيل الله ، المخصوص بفضل الميتة. وفرق الشرع حكمهم في ترك الغسل والصلاة ، لأنهم أكرم من أن يشفع فيهم. وقد تقدم الكلام في كونهم سموا شهداء ، ولكن لفظ الشهداء في الآية يعم أنواع الشهداء الذين ذكرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو عبد الله الرازي : لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الإنسان مقتول الكافر ، بل نقول : الشهيد فعيل بمعنى فاعل ، وهو الذي يشهد لدين الله تارة بالحجة بالبيان ، وتارة بالسيف والسنان. فالشهداء هم القائمون بالقسط ، وهم الذين ذكرهم الله في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٢). والصالح : هو الذي يكون صالحا في اعتقاده وعمله. وجاء هذا التركيب على هذا القول على حسب التنزل من الأعلى إلى الأدنى ، إلى أدنى منه. وفي هذا الترغيب للمؤمنين في طاعة الله وطاعة رسوله ، حيث وعدوا بمرافقة أقرب عباد الله إلى الله ، وأرفعهم درجات عنده.

وقال الراغب : قسم الله المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام ، وجعل لهم أربعة منازل بعضها دون بعض ، وحث كافة الناس أن يتأخروا عن منزل واحد منهم : الأول : الأنبياء الذين تمدهم قوة الإلهية ، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من قريب. ولذلك قال تعالى : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) (٣). الثاني : الصديقون وهم الذين يزاحمون الأنبياء في المعرفة ،

__________________

(١) سورة الحديد : ٥٧ / ١٩.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٨.

(٣) سورة النجم : ٥٣ / ١٢.

٧٠٠