الدّارس في التاريخ المدارس - ج ١

عبد القادر بن محمّد النعيمي الدمشقي

الدّارس في التاريخ المدارس - ج ١

المؤلف:

عبد القادر بن محمّد النعيمي الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

وستين وستمائة تقريبا ، واشتغل هناك ، وقدم دمشق في أول سنة ثلاث وتسعين ، وله ترجمة طويلة توفي بدمشق سنة تسع (بتقديم التاء) وعشرين وسبعمائة ، ودفن بسفح قاسيون ، ثم درس عوضا عنه الشيخ شهاب الدين بن المجد وهو بالقاهرة.

قال ابن كثير في سنة سبعمائة : وفي شوال درّس بالاقبالية الشيخ شهاب الدين بن المجد عبد الله عوضا عن علاء الدين القونوي بحكم إقامته بالقاهرة انتهى. والشيخ شهاب الدين هو قاضي القضاة شهاب الدين محمد بن المجد عبد الله بن الحسين بن علي الروذراوري الاربلي الأصل ثم الدمشقي ، قاضي قضاة الشافعية بدمشق ، ولد سنة اثنتين وستين وستمائة ، اشتغل وبرع وحصل وأفتى سنة ثلاث وتسعين ودرّس بالاقبالية هذه ثم بالرواحية ، وتربة أم الصالح ، ثم ولي وكالة بيت المال ، ثم صار قاضي قضاة الشام ، إلى أن توفي في مستهل جمادى الآخرة ، ثم درس بالاقبالية المذكورة الامام العلامة المدرس المحقق عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن خليفة بن عبد العالي ، وهو نابلسي الأصل الحسباني ، ميلاده تقريبا سنة ثماني عشرة وسبعمائة ، وأخذ بالقدس عن الشيخ تقي الدين وهو القلقشندي الأصل ولازمه حتى فضل ، وقدم دمشق سنة ثمان وثلاثين ، فقرر فقيها بالشامية البرانية ، وأنهاه مدرّسها الشيخ شمس الدين ابن النقيب ، وانتهى معه الشيخ علاء الدين بن حجي في السنة المذكورة ، ولم يزل في نموّ وازدياد واشتهر بالفضيلة ، ولازم الشيخ فخر الدين المصري حتى أذن له بالإفتاء ، ودرّس وأفتى وأفاد وقصد بالفتاوى من البلاد ، وناب عن أبي البقاء والبلقيني ، وكان ممن قام على القاضي تاج الدين السبكي ، وأخذ منه تدريس الأمينية ، ودرّس بالاقبالية هذه والجاروخية ، توفي في ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وسبعمائة ، ودفن بباب الصغير قبلي جامع جراح على يسرة المار نحو القبلة ، ثم درّس بها نحو سنة خمسين وسبعمائة الكمال أبو بكر بن الشريشي وقد تقدمت ترجمته في دار الحديث الناصرية ، ثم درّس بها بعده ولده العلامة الأصيل إمام أهل اللغة في عصره بدر الدين أبو عبد

١٢١

الله محمد ، أخذ العلم عن والده ، وقرأ النحو على أبي العباس العنابي وبرع في الفقه ، واللغة ، والغريب ، ونظم الشعر ، وكان يستحضر الفائق للزمخشري ، والصحاح للجوهري (١) ، والجمهرة والنهاية ، وغريب أبي عبيد ، والمنتهى في اللغة للبرمكي ، وهو أكثر من ثلاثين مجلدا ، وقد عقد له مجلس فحضره أعيان علماء دمشق ، وامتحن في هذه الكتب في شعبان سنة ثلاث وستين ، ودرّس بالاقبالية هذه ، نزل له عنها والده ، وكان قليل الاختلاط بالناس ، منجمعا على طلب العلم ، كان يقول أخوه شرف الدين : أخي بدر الدين أزهد مني. قال الحافظ تقي الدين بن رافع : اشتغل باللغة والفقه ، وبرع في اللغة ، ودرّس ، ونظم الشعر ، وكان متوددا للناس حسن الخلق ، توفي في شهر ربيع الأول سنة سبعين وسبعمائة عن ست وأربعين سنة ، كما قاله ابن حبيب في تاريخه ، ودفن عند والده. ثم درّس بها ابن أخته قاضي القضاة جلال الدين أبو المعالي (٢) ، قال الأسدي : محمد بن محمد بن عثمان بن أحمد بن عمرو بن محمد بن قاضي القضاة جلال الدين أبو المعالي ابن قاضي القضاة نجم الدين الزرعي الأصل الدمشقي ، الشهير بابن شمر نوح ، سبط الشيخ جمال الدين ابن الشريشي ، رباه جده وخالاه بدر الدين وشرف الدين ، حفظ المنهاج وحضر المدارس بين الفقهاء ، ونزل له خاله بدر الدين عن تدريس الاقبالية ، ولم يتم أمره بها ، نازع فيها بعد ذلك وأخذها ، وكان توجه إلى حلب وناب لابن عمه فخر الدين ، ثم تولى قضاء حلب بعد وفاته في شوال سنة ثمان وسبعين ، ثم قدم دمشق في شهر رمضان متوليا قضاء العسكر عوضا عن القاضي شرف الدين ، ووكالة بيت المال ، وتدريس الاقبالية ، ثم استعاد الحسباني منه الاقبالية بعد شهر ، ثم استعادها هو في آخر السنة ، ثم ولي هو قضاء حلب بعد عزل المعري في ربيع الآخر سنة ثمانين ، وصالح الحسباني عن الاقبالية بمال وباشر قضاء حلب ، واستمر إلى أن توفي. قال ابن قاضي شهبة : رأيت في بعض تواريخ المصريين أنه كان جميل الوجه ، قليل الكلام ،

__________________

(١) شذرات الذهب ٣ : ١٤٢.

(٢) شذرات الذهب ٦ : ٢٥٧.

١٢٢

كثير الصمت ، جيّد المعرفة والدراية لأحكام الشريعة ، توفي في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة. قال ابن حجي : وما أظنه بلغ الأربعين انتهى كلام الأسدي : ثم درّس بها الشيخ شهاب الدين أبو العباس أحمد ابن الامام العلامة عماد الدين اسماعيل الحسباني ، ميلاده سنة تسع (بتقديم التاء) وأربعين وسبعمائة ، واشتغل في صباه بعلم الفرائض وأتقنها ثم اشتغل بالعربية على أبي العباس العنابي فبرع فيها ، وطلب الحديث ، وقرأ قراءة حسنة ، وحصل الكتب ، وفضل في هذا العلم ، ورحل إلى القاهرة ، وسمع بها وبدمشق من جماعة ، وحصل الأجزاء وضبط الأسماء ، واعتنى بتحرير المشتبه منها ، وكتب بخطه أشياء نسخا وتصنيفا ، وكان يحضر عند والده في الحلقة ، أي في حلقة الفقه ، وفهمه جيد صحيح ، ودرّس بالاقبالية هذه ، والأمينية وغيرهما ، وخطب بجامع التوبة ، وأفتى وحكم نيابة مدة ، ثم بعد الفتنة ولي قضاء القضاة استقلالا وشارك في الخطابة ومشيخة الشيوخ. قال الشيخ تقي الدين الأسدي : وكانت نفسه سامية ، وامتحن من جهة الدولة وكاد يهلك ، وجرى له مع القاضي برهان الدين ابن جماعة فتنة ، وآداه ابن جماعة كثيرا ، وكان عليه مآخذ في دينه ، وأكثر الفقهاء يكرهونه ، مات في شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وثمانمائة ، ودفن بقاسيون ، ثم وليها الشيخ تقي الدين بن قاضي شهبة. قال في تاريخه في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة : وفي يوم الأحد سادس عشريه درس الولد أبو الفضل محمد ، حفظه الله تعالى ، بالمدرسة الاقبالية ، وكنت نزلت له عنها ، وحضر عنده القاضي تقي الدين الحصني (١) ونوابه ، وجمع من الفقهاء والطلبة ، ولم أكن حضرتها درسا إلى الآن ، وكنت قد وليتها أنا والشيخ شمس الدين الكفيري عن تاج الدين الحسباني نزل لي وله عن التدريس والنظر ، فنازع ابن الأفتكين في النظر واستولى عليه ، وعمرها ، ولما مات الشيخ شمس الدين الكفيري ، ولّيت النصف الذي كان بيده انتهى.

__________________

(١) شذرات الذهب ٧ : ٣٣١.

١٢٣

٣٢ ـ المدرسة الأكزية

قال ابن شداد في كلامه على المدرسة الشبلية الحنفية : إنها قبالة الأكزية ، وقال في الكلام عليها : بانيها أكز حاجب نور الدين محمود انتهى. وهي غربي الطيبة والتنكزية وشرقي أم الصالح ، وقد رسم على عتبة بابها ما صورته بعد البسملة : «وقف هذه المدرسة على أصحاب الامام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي‌الله‌عنه الأمير أسد الدين أكز في ست وثمانين وخمسمائة ، وتمت عمارتها في أيام الملك الناصر صلاح الدين والدنيا ، ومنقذ البيت المقدس من أيدي المشركين ، أبي المظفر يوسف بن أيوب محيى دولة أمير المؤمنين ، الدكان التي شرقيها وقف عليها ، والثلث من طاحون اللوان ، سنة سبع وثمانين وخمسمائة.

(فائدة) : قال البرزالي في تاريخه في سنة ست وثلاثين وسبعمائة : ومن خطه نقلت ، وفي ليلة السبت ثامن عشر جمادى الآخرة توفي الشيخ الفقيه العدل ، الكبير المعمر ، شرف الدين أبو محمد حسن بن يعقوب بن إلياس بن علي الحاكي الشافعي بسكنه بالمدرسة الأكزية بدمشق ، وصلي عليه ظهر السبت بالجامع المعمور ، ودفن بمقبرة الباب الصغير ، وكان مولده بعد الأربعين والستمائة بقليل ، بلغ خمسا وتسعين سنة ، وسمع من ابن أبي الخير ، وحدث عنه ، وكان فقيها في المدارس ، وشاهدا بمركز الطيوريين داخل باب الجابية ، ومأذونا له في العقود ، ولم يزل يواظب على الجلوس مع الشهود ، والتردد إلى المدارس على دابته إلى آخر وقت ، وكان متواضعا ، حسن الخلق انتهى. قال ابن شداد : ثم درس بها تاج الدين بن جهبل ، ثم من بعده المجد بن الروذراوري عبد المجيد ، وكان عالما أديبا فاضلا في أنواع العلوم ، ثم من بعده برهان الدين المراغي (١) ثم من بعده مجد الدين محمود الشهرزوري وهو مستمر بها إلى الآن انتهى. ثم ممن درّس بها الكمال بن الحرستاني. قال الأسدي في

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٣٧٤.

١٢٤

تاريخه في سنة أربع وعشرين وستمائة : عبد الجبار بن عبد الغني بن علي بن أبي الفضل بن علي بن عبد الواحد بن عبد اللطيف الأنصاري كمال الدين أبو محمد بن الحرستاني ، الفقيه المفتي الشافعي ، مولده سنة تسع وأربعين ، سمع أبا القاسم الحافظ ، وأبا سعد بن أبي عصرون ، وأجاز له خطيب الموصل ، والحافظ أبو موسى المديني ، سمع منه البرزالي ، وخرّج له جزءا ، وأبو حامد بن الصابوني وطائفة. وقال ابن الحاجب : درّس الكلاسة والأكزية ، وهو من بيت طليس ، توفي في شعبان انتهى والبدر النابلسي هو الشيخ بدر الدين محمد بن البرهان إبراهيم بن وهيب ، ويقال هبة الله بن عبد الرحمن بن أبي القاسم بن محمد الجزري الأصل الصلتي النابلسي ، ولي قضاء نابلس قديما ، وكان قبل ذلك ينوب بها ، وولي أيضا قضاء بعلبك ، ثم نقله قاضي القضاء تاج الدين إلى دمشق ، واستنابه في الحكم وربما أنابه في الخطابة ، ثم ولي قضاء طرابلس ، واستمر نحو عشرين سنة ، وكان ولي بدمشق تدريس الأكزية هذه ، ومشيخة الأسدية ، وإمامة مسجد القصب ، ودرّس بها أيضا بطرابلس وولي خطابتها بنزاع كثير ، وكان قد سمع من الجرائدي جزء القرآن والتوكل لابن أبي الدنيا ، وسمع من ابن الشحنة الصحيح ، وسمع من النجم بن هلال العسقلاني ، والمزي سنة اثنتين وعشرين ، وسمع من زينب بنت شكر (١) ، وأبي العباس بن جبارة (٢) ، وحدث قديما بنابلس وبعلبك ودمشق وطرابلس ، وكان كبير السن جاوز الثمانين ، مولده سنة ست وسبعمائة ، ويقال إنه حكم في أيام ابن صصري ، فلم يكن قاض أقدم منه في القضاء ، وكان يحفظ المنهاج ، ولما كان بدمشق كان جيد السيرة في الأحكام ، سمع منه الأنفي (٣) وابن سعد سنة إحدى وخمسين ، كان قاضي بعلبك. ومن نظمه يقول :

زار الحبيب بلا وعد تقدمه

فلك الهنا يا مقلتي فتمتعي

سرّحت طرفي في بهاء جماله

وحفظت جوهر لفظه في مسمعي

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٥٦.

(٢) شذرات الذهب ٦ : ٨٧.

(٣) شذرات الذهب ٦ : ٢٩٢.

١٢٥

وفرشت خدي في الثرى لقدومه

وجعلت منزله حشاي وأضلعي

ونحرت نومي في الجفون قرى له

وسألته وصلا بغير تمنع

فأجابني بالمنع وهو مودّع

أهلا به من زائر ومودّع

[انتهى كلام أخينا المعتمدي].

٣٣ ـ المدرسة الأمجدية

بالشرف الأعلى. قال ابن شداد : بانيها ومنشئها الملك المظفر نور الدين عمر ابن الملك الأمجد حين قتل والده الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن عز الدين فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب بدار السعادة قتله مملوك له في صفر سنة تسع وعشرين وستمائة. وقيل شرع الملك المظفر في عمارة هذه المدرسة من مال وصية أوصى بها والده انتهى. وقال الذهبي في العبر في سنة ثمان وعشرين وستمائة : والملك الأمجد مجد الدين أبو المظفر بهرام شاه بن فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب بن شادي صاحب بعلبك ، تملكها بعد والده خمسين سنة ، وكان جوادا كريما شاعرا محسنا ، قتله مملوك له مليح بدمشق انتهى. وقال ابن كثير في ترجمة فروخشاه : وإليه تنسب المدرسة الفروخشاهية بالشرف الشمالي وإلى جانبها التربة الأمجدية ، وهما على الحنفية والشافعية انتهى. وقال في سنة ثمان وعشرين وستمائة : الملك الأمجد واقف الأمجدية بالشرف ، فيها كانت وفاة الأمجد بهرام شاه بن فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك بعده ، ولم يزل بها حتى قدم الأشرف موسى بن العادل إلى دمشق فملكها في سنة ست وعشرين ، فانتزع من يده بعلبك في سنة سبع وعشرين ، وأسكنه عنده بدمشق في دار أبيه. وقال في سنة خمس وثلاثين في وفاة الأشرف : إنه وقف دار فروخشاه التي يقال لها دار السعادة وبستانه بالنيرب على ابنه انتهى. ثم قال في سنة ثمان وعشرين وستمائة : فلما كان في شهر شوال من هذه السنة عدا عليه مملوك من مماليكه تركي فقتله ليلا ، وكان قد اتّهمه بحياصة له وحبسه ، فتغلب عليه بعض الليالي فقتله

١٢٦

وقتل المملوك بعده ، ودفن الأمجد في تربته التي إلى جانب تربة أبيه في الشرف الشمالي ، وقد كان شاعرا فاضلا له ديوان شعر ، وقد أورد له ابن الساعي (١) قطعة جيدة من شعره الرائق الفائق ، وترجمته في طبقات الشافعية ، ولم يذكره ابو شامة في الذيل وهو عجيب منه. وقال الصفدي في وافيه في حرف الباء : بهرام شاه بن فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب السلطان الملك الأمجد مجد الدين أبو المظفر صاحب بعلبك ، ولي بعلبك بعد أبيه خمسين سنة ، وكان أديبا فاضلا شاعرا جوادا ممدوحا ، له ديوان شعر موجود ، أخذت منه بعلبك سنة سبع وعشرين ، وتملكها الأشرف موسى وسلمها إلى أخيه الصالح (٢) ، فقدم الأمجد إلى دمشق وأقام بها قليلا ، وقتله مملوك له مليح ، ودفن بتربة والده على الشرف الشمالي في شهر شوال سنة ثمان وعشرين وستمائة ، وحصره الأشرف موسى وأعانه صاحب حمص أسد الدين شيركوه ، فلما قدم دمشق اتفق انه كان له غلام محبوس في خزانة الدار ، فجلس ليلة يلهو بالنرد ، فعالج الغلام برزة الباب ففكها وهجم على الأمجد فقتله ثاني عشرين شوال ، وهرب الغلام ورمى بنفسه من السطح فمات ، وقيل لحقه المماليك عند وقوعه فقطعوه. ويقال إنه رآه بعض أصحابه بالمنام فقال له : ما فعل الله بك؟ فقال :

كنت من ذنبي على وجل

زال عني ذلك الوجل

أمنت نفسي بوائقها

عشت لما مت يا رجل

ثم ذكر أبياتا له في نحو ورقة وهي أشعار رائعة فراجعها من وافيه انتهى. وقال الأسدي في سنة ثمان وعشرين وستمائة : بهرام شاه بن فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب ، الملك الأمجد مجد الدين أبو المظفر صاحب بعلبك ، أعطاه صلاح الدين بعلبك بعد وفاة أبيه سنة ثمان وسبعين إلى سنة سبع وعشرين ، أخذ منه الأشرف البلد وسلمها إلى أخيه الصالح ، فقدم هو دمشق وأقام بها قليلا. قال أبو المظفر : وكان المظفر يحب الأمجد ويحترمه ويعظمه ، ولقد رأيته

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٣٤٣.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٢٤١.

١٢٧

يقبّل يده ، وكان يتعزز على الكامل (١) والأشرف والناس بالمعظم ، فلما مات المعظم ثارت الأحقاد فأخرجوه من بعلبك ، وجاء إلى دمشق ، وسرق له حياصة لها قيمة ودواة تساوي مائتي دينار ، فاتهم بها بعض مماليكه فظهر عليه ، فأخذه وحبسه في خزانة دار فروخشاه ، وكانت الخزانة خلف الأمجد ، وهدّد المملوك بقطع اليد والصلب ، فجلس الأمجد ليلة في شوال ومعه جماعة من عشرائه بين يدي الخزانة التي فيها المملوك ، وكان مع المملوك سكين صغيرة ، فعالج رزة باب الخزانة قليلا قليلا فقلعها ، وهجم وأخذ سيف الأمجد وجذبه وضربه ، فصاح لا والك يا مأبون وهو يضربه ، فحلّ كتفه ونزل السيف إلى بزه ، ثم ضربه ضربة أخرى فقطع يده ، وطعنه في خاصرته وانهزم ، فصعد إلى السطح وصعدوا خلفه ، فألقى نفسه إلى الدار فمات وقطعه الغلمان قطعا ، ودفن الأمجد بتربته التي على شرف الميدان الشمالي. وقال أبو المظفر والذهبي : إنه دفن بتربة أبيه. وقال ابن كثير : بتربته التي كانت تربة أبيه : وقال : ذكره ابن الساعي وأهمله أبو شامة في ذيله ، وهو عجب. وقال أبو المظفر : وكان فاضلا شاعرا نسيخا كاتبا ، وله ديوان كبير ، وكان جوادا ممدحا مدحه خلق كثير ، وأجازهم الجوائز السنية. ومن شعره في شاب رآه يقطع قضبان بان ، فأنشأ على البديهة يقول :

من لي بأهيف قال حين عتبته

في قطع كل قضيب بان رائق

يحكي شمائله الرشاق إذا انثنى

ريان بين جداول وحدائق

سرقت غصون البان لين شمائلي

فقطعتها والقطع حدّ السارق

وله دو بيت :

كم يذهب هذا العمر في الخسران

ما أغفلني عنه وما أنساني

ضيعت زماني كله في لعب

يا عمر فهل بعدك عمر ثان

انتهى كلام الأسدي. قال ابن شداد : اول من درّس بها رفيع الدين الجيلي (٢) ، ثم بعده نجم الدين بن سني الدولة ، ثم من بعده أمين الدين بن

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ١٧١.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٢١٤.

١٢٨

عساكر ، ثم من بعده برهان الدين بن الخلخال ، ثم من بعده تاج الدين بن الخلخال ، ثم من بعده مجد الدين المارداني ثم من بعده جمال الدين المعروف بالمحقق وهو مستمر بها إلى الآن انتهى. قال ابن كثير في سنة أربع وتسعين وستمائة : الجمال المحقق أحمد بن عبد الله بن الحسين الدمشقي اشتغل بالفقه على مذهب الشافعي وبرع فيه وأفتى وأعاد ، وكان فاضلا في الطب ، وقد ولي مشيخة الدخوارية لتقدمه في صناعة الطب على غيره ، وعاد المرضى بالمارستان النوري على قاعدة الأطباء ، وكان مدرّسا في الشافعية في الفروخشاهية ومعيدا بعدة مدارس ، وكان جيد الذهن مشاركا في فنون كثيرة سامحه الله انتهى. ثم درّس بها الشيخ العالم القاضي شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الدمشقي المعروف بالظاهري ، ميلاده في شوال سنة ثمان وسبعين وستمائة ، وقيل سنة سبع وخمسين ، وسمع من جماعة ، وتفقه على الشيخ برهان الدين الفزاري ، وحدث. وسمع منه البرزالي والذهبي وولده تقي الدين ، ودرس بالأمجدية المذكورة والمجنونية ، وأعاد بعدة مدارس وأفتى ، وولي قضاء الركب سنين كثيرة ، وحجّ بضعا وثلاثين سنة ، وزار القدس أكثر من ستين مرة ، توفي في شعبان سنة خمس وخمسين وسبعمائة ودفن بقاسيون. ثم درس بها شهاب الدين احمد بن محمد بن قماقم الدمشقي الفقاعي ، كان أبوه فقاعيا فاشتغل هو بالعلم ، وأخذ عن الشيخ علاء الدين ابن حجي ، وقرأ بالروايات على ابن السلار (١) ، وكان يفهم ويذاكر ، وقدم القاهرة سنة الكائنة العظمى ، وأقام بها مدة ثم رجع إلى دمشق ، فمات بها في جمادى الآخرة سنة تسع وثمانمائة ، سمع بقراءة الحافظ ابن حجر على البلقيني في الفقه والحديث ، وقماقم لقب أبيه. قال ابن حجي : كان يستحضر البويطي (٢) ؛ وسمعت البلقيني يسميه البويطي لكثرة استحضاره له ، ثم وليها السيد ناصر الدين محمد ابن السيد علاء الدين علي بن نقيب الأشراف. قال الأسدي في صفر سنة أربع عشرة وثمانمائة من تاريخه : اشتغل في اوائل الأمر يسيرا

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٢٧٥.

(٢) شذرات الذهب ٢ : ٧١.

١٢٩

بخلاف أخيه شهاب الدين (١) فلم يشتغل قليلا ولا كثيرا. ثم إن المذكور اولا لما كان بعد الفتنة ورأى الدنيا قد خلت ، بقي يذهب إلى مصر ويرجع ويصحب الأكابر وتولى وظائف ؛ منها : تدريس الناصرية ونظرها ، ومشيخة الأسدية الجوانية ، وتدريس الأمجدية ، وتصدير في الجامع ، ونصف خطابة مسجد القصب وغير ذلك من الوظائف والأنظار ورأس وبقي معظما بين الناس بغير فضل ولا فضيلة ، فإنه كان رديء المباشرة في الأوقاف إلى الغاية ، مع إظهار دين وتقشف وبراءة ساحة ، ولما مات والده استقر له ولأخيه ما كان بيده من الجهات ، ولم يتزوج قط ، وإنما عقد عقده على ابنة ابن المزلق فيما أظن ولم يدخل بها ، حكى لي شيخنا جمال الدين الطيماني (٢) عنه أنه قال : لم أطأ قط وطأ لا حلالا ولا حراما ، وكان عنده شح لم يبلغنا عنه أنه أحسن إلى أحد ولا آثره بشيء ، وجمعها من غير حل وخلفها لمن لا يعمل فيها بتقوى الله ولا قوة إلا بالله. أخرجت جنازته يوم الثلاثاء ثانيه ، وكان عمره نحو خمسين سنة أو ثلاثين سنة ، وكان أشقر الذقن ، أزرق العينين ، وكان الناس يسمونه زريق ، وولي أخوه شهاب الدين بعده تدريس الناصرية ونظرها. وقام ابن الحسباني ينازعه ، وزعم أن بيده حصة من التدريس والنظر ، وأن قاضي القضاة كان وافقه على ذلك ، ثم قام مع ابن النقيب أي نقيب الأشراف وساعده على ابن الحسباني فاستقرت باسمه. ثم قال الأسدي في ذيله في جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وثمانمائة : وفي يوم السبت حادي عشرة بلغني ان شمس الدين محمد ابن قاضي القضاة شهاب الدين أحمد الباعوني قد رجع من مصر ، وقد أخذ جهات باسمه واسم أخيه برهان الدين (٣) ، نظر الحرمين ، ونصف تدريس الأمجدية ونظرها عن السيد شهاب الدين نقيب الأشراف وغير ذلك ، كل شهر ألف درهم ، وكان ألطنبغا العثماني (٤) قد ساعده على ذلك ، فلما رجع قاضي القضاة يعني ابن حجي ، واستقرت الأمور رتب لهم

__________________

(١) شذرات الذهب ٧ : ٢٠١.

(٢) شذرات الذهب ٧ : ١١١.

(٣) شذرات الذهب ٧ : ٣٠٩.

(٤) شذرات الذهب ٧ : ٣٥٠.

١٣٠

شيء من معلوم وقف نظر الحرمين من غير مباشرة ، واستقر بأيديهم بعض الجهات ثم أخذت منهم فيما بعد انتهى. ثم نزل شيخنا المرحوم العلامة بدر الدين بن قاضي شهبة عن نصف الأمجدية للسيد القاضي عز الدين حمزة الحسيني ، والنصف من التدريس الآخر للقاضي محب الدين أبي الفضل محمد ابن القاضي برهان الدين إبراهيم بن قاضي عجلون ، فدرّس بها ، وحضر شيخنا النازلي وشيخنا شمس الدين بن سعد والسيد عز الدين وبرهان الدين بن المعتمد (١) والطلبة وحضرت معهم ، وأولم وليمة لم أر مثلها من لحوم الأوز والدجاج وألوان من الأطعمة ، ودرّس في قوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) الآية. وشيخنا عن يمينه ولم يبدأ في الدرس حتى استأذنه ثم أثنى عليه في أثناء الخطبة ، ثم قال : وعن سيدي وشيخي من نحن بين يديه وأشار إليه ، ثم استمرت بيد القاضي محب الدين إلى أن توفي ليلة الجمعة ثالث عشرين شهر ربيع الأول سنة إحدى وتسعين ودفن عند والده غربي القلندرية بتربة باب الصغير ، وميلاده سنة ست وعشرين وثمانمائة ، وكان رئيسا خطيبا بليغا ، وتولى القضاء بدمشق ، وحسنت سيرته وأحبه الناس ، وكان يخطب بالأموي نيابة خطبا بليغة عليها الأنس الكثير وعلى قراءته بالمحراب ، ثم تولاها عنه العلامة السيد كمال الدين ابن المرحوم أقضى القضاة السيد عز الدين البعلبكي الحسيني (٢) مضافا لما بيده عن والده النصف الأول ، فكلمت له أي للسيد. والقاضي عز الدين حمزة هو العلامة الحسيب النسيب رئيس المؤذنين بالأموي ، ميلاده سنة خمس عشرة ، وتوفي غريبا بالقدس الشريف في ثاني شهر ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وثمانمائة ، ودفن بمقبرة ماملّا بين الشيخ بولاد والشيخ العلامة شهاب الدين بن الهائم (٣). كان ظريفا دمث الأخلاق ، تولى نيابة القضاء بدمشق فسار أحسن سيرة ، وكان والده ابن أبي هاشم ابن الحافظ شمس الدين الحسيني الدمشقي الشافعي رئيس

__________________

(١) شذرات الذهب ٨ : ١٣.

(٢) شذرات الذهب ٨ : ١٩٤.

(٣) شذرات الذهب ٧ : ١٠٩.

١٣١

المؤذنين بالجامع الأموي ، ميلاده سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة ، ومات سلخ صفر سنة ثمان وأربعين وثمانمائة بدمشق. والعلامة السيد كمال الدين محمد هو المفنن ، ميلاده خامس جمادى الأولى سنة خمسين وثمانمائة ، تولى عدة تداريس عن والده ، وعن عمه وعن المرحوم القاضي محب الدين أبي الفضل محمد ابن القاضي برهان الدين إبراهيم بن قاضي عجلون ، وعنه تولى إفتاء دار العدل ، وعن خاله الشيخ العلامة تقي الدين بن ولي الدين بن قاضي عجلون ، وأذن له شيخنا بدر الدين بن قاضي شهبة بالافتاء واستولى إليه رئاسة دمشق لحسن سيرته وذكائه ، وصودر في سنة خمس وتسعين وحبس بجامع القلعة مدة وخرج سالما بحمد الله تعالى ، وسيأتي له ذكر بالركنية وغيرها.

٣٤ ـ المدرسة الأمينية

قبلي باب الزيادة من أبواب الجامع الأموي المسمى قديما بباب الساعات ، لأنه كان هناك بنكاب الساعات يعلم منها كل ساعة تمضي من النهار ، عليها عصافير من نحاس ووجه حية من نحاس وغراب ، فإذا تمت الساعة خرجت الحية ، وصفرت العصافير ، وصاح الغراب ، وسقطت حصاة ، قاله القاضي ابن زير (كذا) ، وهي شرقي المجاهدية جوار قاسارية القواسين بظهر سوق السلاح ، وكان به بابها ، وتعرف هذه المحلة قديما بحارة القباب ، وهناك دار مسلمة بن عبد الملك. وقد حكى ابن عساكر في ترجمة محمد بن موسى أبو عبد الله البلاساغوني الحنفي القاضي المتوفى في سنة ست وخمسمائة انه كان قد عزم على نصب إمام حنفي بالجامع ، فامتنع أهل دمشق من الصلاة خلفه ، وصلوا جميعهم في دار الخيل ، وهي التي قبلي الجامع مكان المدرسة الأمينية وما يجاورها ، وحدها الطرقات الأربع ، قيل إنها أول مدرسة بنيت بدمشق للشافعية ، بناها أتابك العساكر بدمشق ، وكان يقال له أمين الدولة. وقال ابن شداد : بانيها أمين الدولة ربيع الإسلام. وقال الذهبي في مختصر تاريخ الإسلام في سنة ثلاثين وخمسمائة : وفيها ولي أتابكية عسكر دمشق أمين الدين

١٣٢

كمشتكين بن عبد الله الطغتكيني واقف الأمينية انتهى. قلت وهو نائب قلعة بصرى وقلعة صرخد ، ولاه على القلعتين الأتابك طغتكين ، فامتدت أيامه فيهما إلى أن توفي رحمه‌الله تعالى. قال الذهبي في تاريخ الإسلام : أمير جليل ، كثير الحرمة ، توفي سنة إحدى وأربعين وخمسمائة ، قاله الذهبي في الكبير وأهمله في العبر. وفي هذه السنة توفي عماد الدين زنكي والد نور الدين الشهيد رحمه‌الله تعالى. وقال الكتبي : توفي امين الدين المذكور في سنة أربعين ، وقيل في السنة التي بعدها ، وكان وقف هذه المدرسة سنة أربع عشرة ووقف عليها غالب ما حولها من سوق السلاح وقيسارية القواسين ، وقد اخبرني بعض شيوخي انها كانت تسمى حق الذهب ، ولها حصة من بستان الخشاب بكفرسوسيا وغير ذلك.

(فائدة) : قال الذهبي في سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة : وفيها لقي كمشتكين بن الدانشمند صاحب ملطية وسيواس الفريج بقرب ملطية وكسرهم وأسر ملكهم بيمند ، ووصل في البحر سبعة قمامصة ، فأخذوا قلعة أنكورية وقتلوا أهلها. فالتقاهم ابن الدانشمند ، فلم يفلت أحد من الفرنج سوى ثلاثة آلاف هربوا من الليل ، قال : وكانوا ثلثمائة ألف انتهى.

قال ابن شداد : درّس بها جمال الدين بن سيما والنظر من جهة الواقف مسند إليه ، ثم من بعده ابن عبد الله الذي كان خطيبا بالجامع ، ثم من بعده نجم الدين أبو البركات عبد الرحمن بن أبي عصرون ، ثم من بعده القاضي بدر الدين أبو المحاسن يوسف ابن قاضي سنجار ، وكان ينوب عنه فيها شمس الدين الأحمدي أخوه بها وبالعزيزية ، ثم تولى من بعده نجم الدين بن سني الدولة نيابة عن القاضي بدر الدين المذكور ، ثم وليها شمس الدين بن عبد الكافي ، ثم عادت إلى نجم الدين نيابة عن القاضي بدر الدين أيضا ، ثم من بعده محيي الدين بن زكي الدين (١) ، وبقي مستمرا بها الى حين طلب إلى الديار المصرية ، ثم وليها رفيع الدين الجيلي عبد العزيز بن عبد الواحد أبو

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٣٢٧.

١٣٣

حامد الشافعي ، ثم وليها قطب الدين بن أبي عصرون ، واستمر بها إلى سنة تسع وستين وستمائة ، ثم أخذها نجم الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن سني الدولة ، وهو مستمرّ بها إلى الآن انتهى. قلت : أول من درّس بها بتعيين الواقف جمال الإسلام أبو الحسن علي بن المسلم بن محمد بن علي السلمي الدمشقي الفقيه الفرضي ، تفقه على القاضي أبي المظفر عبد الجليل بن عبد الجبار المروزي ، ثم تفقه على الفقيه نصر المقدسي (١) وسمع عليه وأعاد الدرس له ، ولازم الغزالي (٢) مدة مقامة بدمشق ، ودرّس بحلقة الغزالي بالجامع مدة ، وهو الذي أشار على الغزالي بجلوسه في حلقة الشيخ نصر ، هو المكان المعروف في الجامع بالغزالية.

قال الحافظ شمس الدين الذهبي في كتابه العبر في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة : مدرس الغزالية والمعينية ، ومفتي الشام في عصره ، صنف في الفقه والتفسير ، وتصدر للإشتغال والرواية ، فحدث عن أبي نصر بن طلاب (٣) وعبد العزيز الكناني وطائفة ، وأول ما درّس بمدرسة أمين الدولة سنة أربع عشرة وخمسمائة انتهى. وسمع منه ابن عساكر والسلفي وبركات الخشوعي وطائفة. قال الحافظ ثقة الدين أبو القاسم بن عساكر في تاريخه : بلغني أن الغزالي قال : خلفت بالشام شابا إن عاش كان له شأن عظيم ، قال : فكان كما تفرس فيه الغزالي رحمه‌الله تعالى. وسمعنا منه الكثير ، وكان ثقة ثبتا عالما بالمذهب والفرائض. وكان حسن الخط موفقا في الفتاوى ، وكان يكثر من عيادة المرضى وشهود الجنائز وملازما للتدريس والإفادة ، حسن الأخلاق ، له مصنفات في الفقه والتفسير ، وكان يقعد في مجلس التذكير ، ويظهر السنة ، ويردّ على المخالفين ، ولم يخلف بعده مثله ، وذكر أيضا في طبقات الأشاعرة ، ومن تصانيفه كتاب أحكام الخنائي وهو مختصر مفيد في بابه ، توفي في ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة في حياة الواقف وهو ساجد في صلاة

__________________

(١) شذرات الذهب ٣ : ٣٩٥.

(٢) شذرات الذهب ٤ : ١٠.

(٣) شذرات الذهب ٣ : ٣٣٦.

١٣٤

الصبح ، ودفن بباب الصغير في الصفة التي فيها جماعة من الصحابة رضي‌الله‌عنهم. ثم درّس بها بعده ولده أبو بكر محمد.

قال الأسدي في تاريخه في سنة أربع وستين وخمسمائة : محمد بن علي بن المسلم ابن محمد بن علي بن الفتح الواعظ أبو بكر بن جمال الإسلام أبي الحسن السلمي الفقيه الدمشقي ، سمع أباه ، وعلي بن الموازيني (١) ، وهبة الله بن الأكفاني (٢) وجماعة ، وكتب وحصل ودرّس ووعظ في حياة أبيه ، وولي تدريس الأمينية بعد أبيه ، وخطابة جامع دمشق ، وتدريس الزاوية المقابلة لباب البرادة ، وناب في القضاء عن القاضي كمال الدين بن الشهرزوري (٣) وكان حسن الأخلاق ، قليل التصنع ، روى عنه القاسم بن عساكر ، الحسن بن صصري (٤) وغيرهما ، توفي في شوال منها عن اثنتين وستين سنة ، ودفن على أبيه. وقد ذكره الذهبي هكذا في تاريخ الإسلام وأهمله في العبر. ثم درّس بها وبعده ولده شرف الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن جمال الإسلام السلمي مدة طويلة. قال الشيخ جمال الدين الأسنوي في الطبقات : مولده بدمشق سنة أربع وأربعين وخمسمائة ، وتفقه وسمع من أبي يعلى بن الحبوبي وأبي القاسم بن البن (٥) وخاليه الصائن هبة الله بن عساكر والحافظ أبي القاسم وجماعة ، وحجّ ودخل بغداد وقرأ على الكمال الأنباري (٦) بعض تصانيفه ، وحدّث ببغداد ومصر ، وكانت له اليد الطولي في الخلاف والبحث ، وكان فصيحا حسن العبارة. درّس بالأمينية مكان أبيه ، والزاوية المقابلة لباب البرادة ، ثم أخرج من دمشق فأقام بحمص مدة إلى أن توفي. قال الذهبي في تاريخ الإسلام : وكانت له اليد الطولي في الخلاف والبحث ، وكان فصيحا حسن العبارة وأهمله في العبر. وقال أبو شامة : وكان عالما بالمذهب والخلاف ماهرا في ذلك.

__________________

(١) شذرات الذهب ٤ : ٤٦.

(٢) شذرات الذهب ٤ : ٧٣.

(٣) شذرات الذهب ٤ : ٢٤٣.

(٤) شذرات الذهب ٥ : ١١٨.

(٥) شذرات الذهب ٤ : ١٥٨.

(٦) شذرات الذهب ٤ : ٢٥٨.

١٣٥

وقال ابن كثير في تاريخه في سنة اثنتين وستمائة : وممن توفي فيها من المشاهير شرف الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي جمال الإسلام ابن الشهرزوري بمدينة حمص في جمادى الآخرة. وقال الأسدي في هذه السنة بعد أن ذكره : وحدّث عنه يوسف بن خليل والضياء محمد والشهاب الفوي. وقال : أخبرنا مفتي الشام شرف الدين بقراءتي عليه بمدرسة الأمينية ، وعجب من ابن شداد لم يذكره ولا أباه بعد جده جمال الإسلام ، وإنما ذكر بعده ابن عبد أبا البركات الحارثي الدمشقي خطيبها ومدرّس الغزالية والمجاهدية. قال الذهبي : قرأ على أبي الوحش سبيع صاحب الأهوازي ، وسمع من أبي الحسن ابن الموازيني. وقال غيره : بنى له نور الدين الشهيد رحمه‌الله تعالى المدرسة التي داخل باب الفرج التي يقال لها العمادية ، فهو أول من درّس بها ، ثم اشتهرت بمدرسها بعده العماد الكاتب ، تفقه على الشيخ نصر المقدسي ، وجمال الإسلام ابن المسلم ، وبرع في المذهب ، وبعد صيته ، أخذ عنه ابن عساكر وأثنى عليه. ولد سنة ست وثمانين وأربعمائة ، وتوفي رحمه‌الله تعالى في ذي القعدة سنة اثنتين وستين وخمسمائة ، ودفن بباب الفراديس. ثم ممن درس بها الشيخ الإمام العلامة قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد النيسابوري الطريثيثي صاحب كتاب الهادي في الفقه ولد في شهر رجب سنة خمس وخمسمائة ، وتفقه بنيسابور على محمد بن يحيى (١) صاحب الغزالي ، وبمرو على إبراهيم المروزي ، وأخذ الأدب عن والده وسمع من جماعة ، وأقبل على الوعظ ، ودرّس بنظامية نيسابور نيابة ، وورد بغداد ووعظ بها وحصل له بها القبول التام ، ثم قدم دمشق سنة أربعين ، فأقبلوا عليه ، فدرّس بالمجاهدية ، ثم بالزاوية الغزالية بعد موت نصر الله المصيصي ، ثم خرج إلى حلب ودرّس بالنورية والأسدية ، ثم مضى الى همذان ، وولي بها التدريس مدة ، ثم عاد إلى دمشق سنة ثمان وستين ، فدرس بهذه المدرسة الأمينية وبالغزالية ، وشرع نور الدين الشهيد رحمه‌الله تعالى في بناء مدرسة له وهي العادلية الكبرى ، وقد درّس

__________________

(١) شذرات الذهب ٤ : ١٥١.

١٣٦

بالجاروخية أيضا ، وانتهت إليه رئاسة المذهب بدمشق ، وكانت له اليد الباسطة في الخلاف والتفسير ، والأصول والأدب ، وكان حسن الأخلاق ، قليل التصنع ، قاله ابن النجار. ويقال بلغ حدّ الإمامة على صغر سنه. مات في آخر شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. قال الذهبي : ودفن بتربة أنشأها بغربي مقابر الصوفية ، وبنى مسجدا على الصخرات التي مقابل طاحون الميدان ، ثم درّس بها أبو الحسن علي بن عقيل.

قال الأسدي في تاريخه في سنة إحدى وستمائة : علي بن عقيل بن هبة الله ابن الحسن بن العلي الفقيه الشافعي ضياء الدين أبو الحسن بن الحوبي الثعلبي الدمشقي العدل ، ولد سنة سبع وثلاثين وخمسمائة ، وحدّث عن أبي المكارم عبد الواحد بن هلال وأبي المظفر الفلكي (١) وأبي محمد بن الموازيني. روى عنه ابن خليل والشهاب القوصي.

وقال : كان كثير الفضل ، ظريف الشكل ، درّس بالأمينية ، وأمّ بمشهد علي رضي الله تعالى عنه ، توفي في شهر رجب انتهى. وقد أهمله الذهبي في الكبير والعبر. ثم درّس بها الإمام صائن الدين أبو محمد عبد الواحد بن إسماعيل ابن ظافر الدمياطي الشافعي المتكلم ، ولد سنة ست وخمسين ظنا ، ونزل بدمشق ، ودرّس بالأمينية ، وأفاد وسمع من السلفي وأحمد ومحمد (٢) ابني عبد الرحمن الحضرمي ، وعبد الله بن بري (٣) النحوي ، ودخل اصبهان ، وسمع من أحمد بن أبي منصور التركي وغيره ، روى عنه الضياء والزكيان البرزالي والمنذري والشهاب القوصي وجماعة ، آخرهم الفخر علي المقدسي ، توفي رحمه‌الله تعالى في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وستمائة ، قاله الأسدي في تاريخه. ثم درّس بها التقي عيسى بن يوسف بن أحمد العراقي الضرير.

قال أبو شامة : كان ضريرا ، عفيفا ، فقيها ، مفتيا ، مدرّسا بالمدرسة الأمينية. قال

__________________

(١) شذرات الذهب ٤ : ١٨٨.

(٢) شذرات الذهب ٤ : ٢٩٧.

(٣) شذرات الذهب ٤ : ٢٧٣.

١٣٧

الذهبي في العبر في سنة اثنتين وستمائة : وفيها توفي التقي الأعمى مدرّس الأمينية ، وجد مشنوقا بالمنارة الغربية ، امتحن بأخذ ماله ، فأتهم به قائده وأحرق بيته ، فأهلك نفسه. ودرّس بعده جمال الدين المصري وكيل بيت المال انتهى. وقال ابن كثير في تاريخه : في هذه السنة التقي الضرير ، مدرّس الأمينية ، كان يسكن المنارة الغربية ، وكان عنده شاب يخدمه ويقوده ، فعدم للشيخ دراهم ، فاتهم هذا الشاب بها ، فلم يثبت له عنده شيئا ، وأتهم الشيخ عيسى هذا بأنه يلوط به ، ولم يكن يظن أن عنده شيئا من المال ، فضاع المال ، واتهم عرضه ، فأصبح يوم الجمعة السادس من ذي القعدة مشنوقا ببيته من المنارة الغربية ، فأحجم الناس عن الصلاة عليه لكونه قتل نفسه ، فتقدم الشيخ فخر الدين عبد الرحمن بن عساكر فصلى عليه فأتمّ الناس به. قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة : وإنما حمله على ما فعله كثرة همه بضياع ماله والوقوع في عرضه. قال : وقد جرت لي أخت هذه القصة وعصمني الله تعالى بفضله.

وقد درّس بعده في الأمينية الجمال المصري (١) وكيل بيت المال انتهى كلام ابن كثير. وقال الأسدي في تاريخه في السنة المذكورة : التقي الضرير الفقيه الشافعي مدرس الأمينية كان فقيها عارفا بالمذهب مفننا نبيلا. قال أبو شامة : وفي ذي القعدة وجد مشنوقا بالمئذنة الغربية ، وكان يسكن في أحد بيوت منارة الجامع الغربية ، وكان ابتلي بأخذ مال له من بيته ، وأتهم شخصا كان يقرأ عليه ويطلع معه إلى البيت يقضي حاجته ، ويقوده من المدرسة إلى البيت ، ومن البيت إلى المدرسة ، فأنكر الشخص المتهم ذلك ، وتعصب له أقوام عند نائب البلد وواليها ، فوقع الناس في عرضه من اتهامه من ليس من أهل التهم ، ومن كونه جمع ذلك المال وهو وحيد غريب ، ونسبوه إلى أنه غير صادق فيما ادعاه ، فزاد عليه الهم من ضياع ماله والوقوع في عرضه ، ففعل بنفسه ما فعل ، وبلغني أن جماعة المتفقهة امتنعوا من الصلاة عليه وقالوا قتل نفسه ، فتقدم شيخنا فخر الدين بن عساكر فصلى عليه فاقتدى الناس به ، ودرّس

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ١١٢.

١٣٨

بعده بالأمينية الجمال المصري وكيل بيت المال ، انتهى كلام الأسدي. ثم درس بها بعده الجمال المصري وهو قاضي القضاة جمال الدين أبو الوليد يونس بن بدران بن فيروز بن صاعد بن عساكر بن محمد بن علي القرشي الشيبي الحجازي الأصل المصري ، ولد بمصر تقريبا في سنة خمس وخمسين وخمسمائة ، وسمع من السلفي وغيره ، وحدث وسمع من جماعة منهم عمر بن الحاجب ، قال أعني ابن الحاجب : يشارك في علوم كثيرة ، وكان وكيلا لبيت المال بدمشق فلم يحسن السيرة ، ثم ولي قضاء القضاة بدمشق في شهر رجب سنة ثماني عشرة ، ونبل شأنه أيام العادل ، ودرس بالأمينية هذه وولاه إياها الوزير صفي الدين أبو بكر بعد الضرير التقي ، وكان معتنيا بأمره ، وباشر وكالة بيت المال بعد عزل الزكي بن الزكي ، وولاه تدريس العادلية الكبرى حين كمل بناؤها ، فكان أول من درّس بها ، وحضر عنده الأعيان ، وكان ذلك أيام الملك المعظم ، وألقى بها التفسير كاملا دروسا ، واختصر كتاب الأم للشافعي رضي الله تعالى عنه ، وصنف كتابا في الفرائض. وقال أبو شامة : وكان في ولايته عفيفا نزها مهيبا ملازما للحكم ، وكان ينقم عليه أنه كان يشير على بعض الورثة بمصالحة بيت المال ، وفي استنابته لولده (١) مع أن سيرته غير مستقيمة ، وطعنوا في نسبته إلى قريش. وقال الذهبي في العبر : كان غير محمود في ولايته. وقال ابن كثير : كان يجلس في كل يوم جمعة قبل الصلاة بالعادلية بعد فراغها سنة تسع عشرة ، وفي هذه السنة درّس بها لإثبات المحاضر ، ويحضر عنده في المدرسة جميع الشهود من كل المراكز ، حتى يعسر على الناس إثبات كتبهم في الساعة الواحدة ، وقال : في سنة ثلاث وعشرين وستمائة : ولي تدريس العادلية الكبيرة ، وكان أولا : يقول درسا في التفسير حتى أكمل التفسير إلى آخره ، ثم توفي عقيب ذلك ، ويقال درّس الفقه بعد التفسير ، وكان يعتمد في أمر إثبات السجلات اعتمادا حسنا ، وهو أنه كان يجلس في كل يوم جمعة

__________________

(١) ابن كثير ١٣ : ٢١١.

١٣٩

بكرة ، ويوم الثلاثاء ويستحضر عنده في أبواب العادلية جميع شهود أهل البلد ، ومن كان له كتاب يثبته حضر واستدعى شهوده فأدوا على الحاكم ، ويثبت ذلك سريعا ، وكان يجلس كل يوم جمعة بعد العصر في الشباك الكمالي بمشهد عثمان فيحكم حتى يصلي المغرب ، وربما مكث حتى يصلي العشاء أيضا ، وكان كثير المذاكرة للعلم ، كثير الاشتغال حسن الطريقة لم ينقم عليه أنه أخذ شيئا لأحد ، وإنما ينقم عليه أنه استناب ولده محمدا التاج ، ولم يكن مرضي الطريقة ، وأما هو فكان عفيفا في نفسه نزها مهيبا ، ودرّس بالعمادية ، توفي في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وستمائة ، ودفن بقاعته بداره بقرب القليجية الحنفية في رأس درب الريحان من ناحية الجامع قبلي الخضراء ، ولتربته شباك شرقي المدرسة الصدرية الحنبلية التي بجانبها الغربي ، وقد قال فيه ابن عنين وكان هجاه :

ما قصّر المصريّ في فعله

إذ جعل التربة في داره

أراح الأحياء من ريحه

وأبعد الأموات من ناره

وتولى القضاء بعد شمس الدين أحمد بن الخليل الخويّي (١) انتهى ملخصا. ثم درّس بها رفيع الدين الجيلي ، وهو القاضي الرفيع أبو حامد عبد العزيز ابن عبد الواحد بن إسماعيل بن عبد الهادي بن محمد بن حامد الجيلي الشافعي ، أخذ قضاة الجور ، وولاه الصالح إسماعيل قضاء دمشق سنة ثمان وثلاثين بعد شمس الدين الخويي مع تدريس الغزالية ، وكان قاضيا ببعلبك ، فأحضره إلى دمشق الوزير أمين الدولة غزال (٢) ، الذي كان سامريا فأسلم ، ووزر للصالح إسماعيل ، واتفق هو وهذا القاضي ، وفي آخر الأمر كان سببا في قتله. قال الذهبي في تاريخ الإسلام : كان فقيها فاضلا مناظرا متكلما متفلسفا رديء العقيدة ، مغترا. وقال في عبره في سنة اثنتين وأربعين وستمائة : وكان بارعا في المعقولات ، رقيق الديانة ، قبض عليه في أواخر سنة إحدى وأربعين ، ثم بعث من ورائه من رماه في هوة بأرض البقاع ، نسأل الله الستر. وقال أبو

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ١٨٣.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٢٤١.

١٤٠