الدّارس في التاريخ المدارس - ج ١

عبد القادر بن محمّد النعيمي الدمشقي

الدّارس في التاريخ المدارس - ج ١

المؤلف:

عبد القادر بن محمّد النعيمي الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

بانياس وتبنين والشقيف فأقام هناك مدة ، ولما مات اقرّ العادل ولده على ما كان عليه ، وكان أكبر من بقي من أمراء الصلاحية ، وقيل في اسمه إياز جركس يعني اشتري بأربعمائة دينار انتهى. وقال : خطلبا الأمير صارم الدين التنيسي كان غازيا مجاهدا دينا كثير الرباط والصدقات ، توفي سنة خمس وثلاثين وستمائة بدمشق ، ودفن بتربة جهاركس بالجبل ، وهو الذي أنشأها ووقف عليها من ماله انتهى. وقال الأسدي في تاريخه في سنة ثمان وستمائة : الأمير جهاركس الصلاحي ويقال شركس الأمير الكبير فخر الدين أبو منصور الصلاحي ، أعطاه العادل نيابة بانياس والشقيف وتبنين وهونين ، وكان أكبر من بقي من أمراء صلاح الدين وابنه الملك العزيز ، وكان كريما نبيل القدر ، عالي الهمة ، شهد مع أستاذه الغزوات كلها ، وكان منحرفا عن الأفضل. قال ابن خلكان : وهو الذي بنى بالقاهرة القيسارية الكبرى المنسوبة إليه ، وبنى في أعلاها مسجدا وربعا معلقا ، توفي في شهر رجب ، ودفن بتربته كما تقدم ، ولما توفي ترك ولدا صغيرا ، فأقره العادل على ما كان يليه أبوه وجعل له مدبرا ، فلم تطل حياته بعد أبيه ، وقيل مات سنة سبع ، وجهاركس بكسر الجيم ، قال ابن خلكان : ومعناه بالعربي أربعة أنفس ، وهو لفظ أعجمي معربة إستار ، والاستار أربع أواق. وقال في المرآة : جهاركس معناه اشترى بأربعمائة دينار انتهى. وقال في المرآة أيضا : وقام بأمره الأمير صارم الدين خطلبا التنيسي ، واشترى الكفر بوادي بردى وأوقفها على تربة فخر الدين ، وقبره له قبة عظيمة على الجادة انتهى. قلت : ومن وقفها الحصة من قرية (بيت سوى) ومبلغها النصف والثلث وحصة أخرى مبلغها اثنا عشر سهما والثلث من المزرعة.

٩٩ ـ المدرسة الجوهرية

شرقي تربة أم الصالح داخل دمشق بحارة بلاطة ، وكانت دارا للامير الكبير ممدوح ودارا للست عذراء ، أنشأها الصدر نجم الدين أبو بكر محمد

٣٨١

ابن عياش التميمي الجوهري. قال الذهبي في العبر في سنة أربع وتسعين وستمائة : والجوهري الصدر نجم الدين أبو بكر بن محمد بن عياش التميمي صاحب المدرسة الجوهرية الحنفية بدمشق ، توفي في شوال ودفن بمدرسته عن سن عالية انتهى. ورأيت قد رسم على عتبة بابها بعد البسملة : «هذه المدرسة المباركة وقف العبد الفقير الى الله تعالى أبو بكر بن محمد بن أبي طاهر بن عياش بن أبي المكارم التميمي الجوهري على مذهب الامام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وكان الفراغ من عمارتها والتدريس بها في سنة ست وسبعين وستمائة» انتهى. وقال ابن كثير : في سنة ثمانين وستمائة وفي يوم الاحد سابع شهر رمضان فتحت المدرسة الجوهرية بدمشق في حياة منشئها وواقفها الشيخ نجم الدين محمد بن عياش بن أبي المكارم التميمي الجوهري ، ودرس بها قاضي الحنفية حسام الدين الرازي (١) انتهى. وقال في سنة أربع وتسعين وستمائة : واقف الجوهرية توفي ليلة الثلاثاء تاسع شوال ودفن بمدرسته ، وقد جاوز الثمانين ، وكان له خدم على الملوك فمن دونهم انتهى. ثم درس بها الشيخ محيي الدين الأسمر الحنفي ، ثم أخذ تدريس الركنية ودرس بها رابع عشرين جمادى الأولى سنة عشرين وسبعمائة ، وأخذت منه الجوهرية لشمس الدين الرقي الأعرج ، وسيأتي ذلك من كلام ابن كثير في الركنية. وقال ابن كثير في سنة ثلاثين وسبعمائة : وفي يوم الأحد سادس شهر رجب حضر الدرس الذي أنشأه القاضي فخر الدين كاتب المماليك على الحنفية بمحرابهم بجامع دمشق ، ودرّس به الشيخ شهاب الدين ابن قاضي الحصن او قاضي القضاة برهان الدين بن عبد الحق بالديار المصرية ، وحضر عنده القضاة والأعيان ، وانصرفوا من عنده إلى عند ابن أخيه صلاح الدين بالجوهرية ، فدرس بها عوضا عن حموه شمس الدين الرقي نزل له عنها انتهى. ورأيت بخط الحافظ علم الدين البرزالي في تاريخه سنة ثلاثين المذكورة : وفي يوم الأحد سادس عشر شهر رجب الفرد ذكر الدرس الشيخ شهاب الدين أحمد ابن قاضي الحصن الحنفي بجامع دمشق

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٤٤٦.

٣٨٢

بمحراب الحنفية الجديد ، وهذه الوظيفة أنشأها القاضي فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة ، ورتبها بالمكان المذكور تقبل الله منه ، وحضر القضاة والأعيان وانصرفوا من درسه إلى درس ابن أخيه الفقيه صلاح الدين ولد شمس الدين ابن قاضي الحصن بالمدرسة الجوهرية فانه وليها مكان حموه الشيخ شمس الدين الرقي بمقتضى نزوله له عنها ، وكان الشيخ شهاب الدين المذكور قدم من الديار المصرية هو وأخوه قبل ذلك بأيام من زيارة أخيهم قاضي القضاة برهان الدين الحنفي الحاكم بالديار المصرية ، بعد المثول بالأبواب السلطانية والانعام عليهم وتشريفهم بالخلع انتهى. ثم ولي تدريسها الشيخ شرف الدين أبو محمد نعمان ابن الشيخ فخر الدين بن جمال الدين يوسف الحنفي. قال الأسدي في شعبان سنة عشرين من ذيله لتاريخ شيخه : مولده سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة ، وهكذا أخبر به وأنا أسمع ، وكان والده من أهل العلم فأخذ عنه ، وقدم دمشق وسكن المدرسة النورية ، ثم بعد الفتنة ولي مشيخة الخانقاه الحسامية وسكنها ، وتزوج بعد الفتنة ، وكان قد تكلم فيه بسبب العزوبية ، ودرس بالمدرسة العزّية البرانية ، وله تصدير بالجامع الأموي للاشتغال ، وولي الخدمة بالخانقاه السميساطية في سنة خمس عشرة ، وكان له مشاركة في النحو والأصول وبعض العلوم العقلية ، لكنه قاصر في الفقه ، وكان كذلك في الفتاوى ، وتوفي يوم الأربعاء عاشر الشهر بالمارستان النوري عن سبع وسبعين سنة ، وصلي عليه بالجامع الأموي ، ودفن بمقابر الصوفية ، وحضر جنازته القاضي الحنفي وبعض الفقهاء ، وولي عوضه تدريس الجوهرية ومشيخة الحسامية وبعض التصدير ابن عوض بنزول قديم كان معه ، ونصف تدريس العزية ونصف الخدامة والامامة بالخانقاه المذكورة ، وهو الذي كان بيد شهاب الدين ابن الفصيح ، وليس بأهل للتدريس بوجه من الوجوه انتهى. وسيأتي ذكر شهاب الدين هذا بالعزية إن شاء الله تعالى.

١٠٠ ـ المدرسة الحاجبية

والخانقاه بها ، قبلي المدرسة العمرية بصالحية دمشق ، أنشأها الأمير ناصر

٣٨٣

الدين محمد ابن الأمير مبارك الاينالي دوادار سودون النوروزي ، كان قد توجه في حياة مخدومه هذا إلى مصر ، فبعد توجهه بثلاثة أيام مات مخدومه سودون المذكور ، وكان صحبته منه للسلطان تقدمة كثيرة ، ثم عاد إلى دمشق وقد استقر حاجبا صغيرا بها وأمير التركمان ، وشرع في تجهيز الأغنام الشامية إلى مصر ، ثم خرج إلى البلاد الشمالية واستخرج عدد الأغنام ، فكانت عدة ستة عشر ألف رأس غنم ، واشترى نائب القلعة سودون عدة عشرين ألف رأس غنم ، وجهزاها إلى مصر ففتحت عيون المصريين إلى حضور الغنم إليهم ، فصارت سنة قبيحة ، وكانت العادة أن أعداد الأغنام تذبح وتباع بدمشق ، فحصل للناس بسبب ذلك غلاء في اللحم حتى صار الرطل يباع بستة دراهم. وفي سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة استقر في نيابة البيرة ، واستهلت سنة سبع وخمسين وهو الحاجب الكبير بدمشق. وفي ثاني عشرين جمادى الأولى منها عزل عنها. وفي يوم تاسع جمادى الآخرة منها ألبس التشريف بامرة التركمان والأكاريد. وفي يوم الجمعة تاسع عشرين شهر ربيع الآخر سنة ثمان عاد من مصر إلى دمشق ، وكان له مدة بمصر ، وقد استقرّ أحد الألوف بدمشق مع إمرة التركمان والأكاريد ، فأقام أياما قلائل ثم سافر إلى البلاد الشمالية لجمع أعداد الأغنام وإرسالها إلى مصر قاتله الله تعالى على ظلمه ، والتركمان معه في أسوإ الأحوال ، ثم في أوائل سنة اثنتين وسبعين ورد إليه مرسوم بتجهيز الأغنام على العادة ، ومن مضمونه أن يشتري مائة فرس ويجهزها إلى الاصطبلات الشريفة ، فشرع في ذلك. [وقال] شيخنا الجمال ابن المبرد في الرياض : ولي نيابة طرابلس وحماة ، وعنده معرفة ومشاركة توفي سنة ثمان وسبعين وثمانمائة ، ودفن بتربته بالقرب من تربة السبكيين تحت كهف جبل جبريل بسفح قاسيون.

١٠١ ـ المدرسة الخاتونية البرانية

مسجد خاتون على الشرف القبلي عند مكان يسمى صنعاء الشام المطل على وادي الشقراء ، وهو مشهور بدمشق ، واقفته الست خاتون أم شمس الملوك

٣٨٤

أخت الملك دقاق (١) قاله ابن شداد. وقال الحافظ في العبر في سنة سبع وخمسين وخمسمائة : المحترمة صفوة الملوك زمرد خاتون ابنة الأمير جاولي أخت دقاق لأمه وزوجة تاج الملوك بوري ، وأم ولديه شمس الملوك إسماعيل ومحمود ، سمعت الحديث من أبي الحسن علي بن قبيس واستنسخت الكتب ، وحفظت القرآن الكريم ، وبنت المدرسة الخاتونية بصنعاء دمشق ، ثم تزوجها أتابك زنكي ، فبقيت معه تسع سنين ، فلما قتل حجت وجاورت بالمدينة المنوّرة ، فماتت ودفنت هناك بالبقيع ، وأما خاتون بنت (٢) أنر زوجة الملك نور الدين فتأخرت ، ولها مدرسة بدمشق وخانقاه معروفة على نهر بانياس انتهى. وقال ابن كثير في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة عقب ذكر خاتون عصمة الدين الآتية : فأما الخاتونية البرانية التي على القنوات بمحلة صنعاء دمشق ، ويعرف ذلك المكان الذي هي فيه بتلّ الثعالب ، فهي من إنشاء الست زمرد خاتون ابنة جاولي ، وهي أخت الملك دقاق لأمه ، وكانت زوجة زنكي والد نور الدين صاحب حلب ، وقد ماتت قبل هذا الحين كما تقدم انتهى. وقال صلاح الدين الصفدي : زمرد الخاتون بنت الأمير جاولي بن عبد الله الحجة صفوة الملوك أخت الملك دقاق وزوجة الملك بوري تاجر الملوك (٣) وأم الملك إسماعيل شمس الملوك (٤) ومحمود (٥) ابني بوري ، سمعت الحديث ، واستنسخت الكتب ، وقرأت القرآن الكريم ، وبنت المسجد الكبير الذي في صنعاء ، ووقفت مدرسة للحنفية ، وهي من كبار مدارسهم وأجودها معلوما ، وكانت كبيرة القدر وافرة الحرمة ، خافت على ابنها شمس الملوك فدبرت الحيلة في تسليمه بحضرتها وأقامت أخاه شهاب الدين محمود ، وتزوجها الأتابك قسيم الملك زنكي والد نور الدين (٦) ، وسارت إليه إلى حلب ، فلما مات عادت إلى دمشق ، ثم حجت على درب بغداد وجاورت إلى أن ماتت [بالمدينة] ، ودفنت بالبقيع سنة سبع وخمسين وخمسمائة ، وإليها ينسب مسجد خاتون الذي هو مدرسة الأصحاب

__________________

(١) شذرات الذهب ٣ : ٤٠٥.

(٢) شذرات الذهب ٤ : ٢٧٢.

(٣) شذرات الذهب ٤ : ٢٦٥.

(٤) شذرات الذهب ٤ : ٩٠.

(٥) شذرات الذهب ٤ : ١٠٣.

(٦) شذرات الذهب ٤ : ٦١.

٣٨٥

أي أصحاب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بأعلى الشرف القبلي وقد تقدم ذكره انتهى.

وقال شيخنا بدر الدين في كتابه الكواكب الدرية في السيرة النورية في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة : وفيها أخذ عماد الدين زنكي مدينة حمص ، وتزوج بالست زمرد خاتون أم شمس الملوك إسماعيل ، وهي التي تنسب إليها المدرسة الخاتونية البرانية بدمشق بأعلى الشرف القبلي انتهى. وقال ابن شداد : تاريخ وقفه سنة ست وعشرين وخمسمائة ، وقف على الشيخ أبي الحسن علي البلخي المشهور ، وهو أول من ذكر بها الدرس ، والذي علم من بعده فخر الدين القاري. وبعده ولده نجم الدين. وبعده القاضي شرف الدين عبد الوهاب الحوراني. ثم من بعده قاضي القضاة صدر الدين سليمان المشهور. ثم من بعده ابن أخيه عز الدين عبد العزيز. ثم من بعده فخر الدين موسى ابن هلال بن موسى ، وهو مستمر إلى سنة أربع وسبعين وستمائة. وقال الذهبي في تاريخه العبر سنة إحدى وتسعين وستمائة : والخبازي الامام العلامة جلال الدين أبو محمد عمر بن محمد بن عمر الحنفي الخجندي ، كان فقيها ، بارعا ، زاهدا ، ناسكا ، عابدا ، عارفا بالمذهب ، صنف في الفقه والأصلين ، ودرّس بالعزية على الشرف الشمالي ، ثم حجّ وجاور بمكة سنة ، ثم رجع إلى دمشق ، فدرس بالخاتونية التي على الشرف القبلي إلى أن توفي في آخر ذي الحجة عن اثنين وستين سنة ، ودفن بالصوفية رحمه‌الله تعالى انتهى. وقال تلميذه ابن كثير في سنة تسعين : وفي هذا الشهر درس الشيخ جلال الدين الخبازي بالخاتونية البرانية انتهى. وقال في سنة إحدى وتسعين المذكورة : جلال الدين الخبازي عمر بن محمد بن عمر أبو محمد الخجندي وأحد مشايخ الحنفية الكبار ، أصله من بلاد ما وراء النهر من بلد يقال لها خجندة ، وهناك اشتغل ، ودرس بخوارزم وأعاد ببغداد ، ثم قدم دمشق فدرس بالعزية والخاتونية البرانية ، وكان فاضلا بارعا ، مصنفا في فنون كثيرة ، توفي رحمه‌الله تعالى لخمس بقين من ذي الحجة منها ، وله اثنان وستون سنة ، ودفن بالصوفية انتهى. ثم ولي

٣٨٦

تدريسها في سنة ثمان وتسعين وستمائة شمس الدين بن الحريري قاضي القضاة ، وستأتي ترجمته في المدرسة الفرخشاهية. وقال الذهبي في ذيل العبر في سنة خمس عشرة وسبعمائة : قدم قاضي ملطية بعد فتحها إلى دمشق ، فأعطي تدريس الخاتونية البرانية وشيخ الصوفية انتهى. وقال تلميذه ابن كثير في تاريخه في السنة المذكورة : وفي يوم الأربعاء سادس عشر جمادى الآخرة درس قاضي ملطية الشريف شمس الدين بالمدرسة الخاتونية البرانية عوضا عن قاضي القضاة الحنفي البصروي (١) ، وحضر عنده الأعيان ، وهو رجل له فضيلة وحسن خلق ، كان قاضيا بملطية وخطيبا بها نحوا من عشرين سنة انتهى. وقاضي القضاة المشار إليه هو صدر الدين أبو الحسن علي ابن الشيخ صفي الدين أبي القاسم الحنفي البصروي ، وفي يوم الجمعة التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة ست قدم دمشق من القاهرة متوليا قضاء الحنفية عوضا عن الأذرعي مع ما بيده من تدريس النورية والمقدمية ، وخرج الناس لتلقيه وهنؤوه ، وحكم بالنورية ، وقريء تقليده بالمقصورة الكندية في الزاوية الشرقية من جامع بني أمية ، وتوفي رحمه‌الله تعالى في شعبان سنة سبع وعشرين وسبعمائة عن خمس وثمانين سنة. وقال ابن كثير في سنة تسع عشرة وسبعمائة في جمادى الآخرة : وفي هذا الشهر درس بالخاتونية البرانية القاضي بدر الدين أبو نويرة الحنفي وعمره خمس وعشرون سنة ، عوضا عن القاضي شمس الدين محمد قاضي ملطية لما توفي انتهى.

وقال الأسدي في شهر رمضان سنة ست عشرة وثمانمائة من ذيله على تاريخ شيخه : وفي يوم الجمعة ثامن عشريه ، بلغني وفاة قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي بالقاهرة ، مات رحمه‌الله تعالى بالفولنج ولم ينقطع إلا يومين ، وكان له بدمشق جهات كثيرة ، وكانت خرجت قبل ذلك ، فلما جاء الخبر بموته أخرج باقيها ، فما كان بيده : تدريس الخاتونية البرانية ، والقصاعين ، والشبلية ، وخزانة كتب الأشرفية بالجامع ، ومباشرات ، وأنظار كثيرة ، وخلف

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٧٨.

٣٨٧

ابنا صغيرا انتهى.

فائدتان (الأولى) : قال ابن كثير في تاريخه في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة : وفي يوم الجمعة ثاني ربيع الأول أقيمت الجمعة بالخاتونية البرانية ، وخطب بها شمس الدين النجار المؤذن بالأموي ، وترك خطابة جامع القابون انتهى. زاد البرزالي في تاريخه ومن خطه نقلت : وخلع عليه خلعة الخطابة وقرر له معلوم على مال المصالح المبرورة ، وانتفع بذلك أهل تلك الناحية ، وولي مكانه خطابة القابون الإمام به ولد الشيخ عبد الوهاب التركماني الحنفي انتهى. (الثانية) : قال ابن كثير أيضا فيه في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة : وفيها توفيت الست خاتون والدة الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب ، توفيت بدمشق في ذي الحجة في دارها المعروفة بدار العقيقي انتهى. ويقول كاتبه : كأنها أم ست الشام أو زوجة أبيها ، ولم أدر أين تربتها الآن ، فان دار العقيقي الآن هي المدرسة الظاهرية وشرقيها دار ابن البارزي ؛ بل رأيت في كلام بعضهم أن الأسدية تجاه العزيزية شرقي دار العقيقي ، وهي الآن الدار المذكورة ، فليحرر.

١٠٢ ـ المدرسة الخاتونية الجوانية

بمحلة حجر الذهب (١) ، أنشأتها خاتون بنت معين الدين أنر زوجة الشهيد نور الدين محمود بن زنكي تنسب إليها ، وقفها سعد الدين (٢) أخوها عليها ، ثم من بعدها على عقبها ونسلها ، وماتت ولم تعقب ، قاله عز الدين. وقال الذهبي في العبر في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة : وعصمة الدين الخاتون بنت الأمير معين الدين أنر زوجة نور الدين ثم صلاح الدين واقفة المدرسة التي بدمشق للحنفية والخانقاه التي بظاهر دمشق ، توفيت في ذي الحجة ، ودفنت بتربتها التي هي تجاه قبة جركس بالجبل انتهى. وقال في مختصر تاريخ الاسلام في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة : وفيها سار صاحب حلب نور الدين محمود بن

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ١٣٨.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ١٣٨.

٣٨٨

زنكي ، فاستفاد أبراجا من الفرنج ، فخافته ورعبت منه ، وتزوج بابنة نائب دمشق معين الدين أنر ، وأرسلت إليه إلى حلب انتهى. وقال ابن كثير في تاريخه في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة : وفي صفر منها تزوج السلطان صلاح الدين بالست خاتون عصمة الدين بنت معين الدين أنر ، وكانت زوجة الملك نور الدين ، فأقامت مدة في القلعة محترمة مكرمة معظمة ، وولي تزويجها منه أخوها الأمير سعد الدين مسعود بن أنر ، وحضر القاضي ابن أبي عصرون العقد ومعه جماعة من العدول ، وبات السلطان عندها تلك الليلة والتي بعدها ، ثم سافر إلى مصر بعد يومين من الدخول بها انتهى. وقال في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة : الست خاتون عصمة الدين بنت معين الدين نائب دمشق وأتابك عساكرها قبل نور الدين كما تقدم ، وقد كانت زوجة نور الدين ثم خلف عليها من بعده صلاح الدين ، وكانت من أحسن النساء وأعفهن وأكثرهن خدمة ، وهي واقفة الخاتونية الجوانية بمحلة حجر الذهب وخانقاه خاتون ظاهر باب النصر في أول الشرف القبلي على بانياس ، ودفنت بتربتها في سفح قاسيون قريبا من قباب الجركسية ، ولها أوقاف كثيرة غير ذلك انتهى. وقال الأسدي في تاريخه في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة : عصمة الدين خاتون بنت معين الدين أنر زوجة السلطان صلاح الدين ، تزوجها سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ، وكانت قبله زوجة نور الدين محمود ، وكانت من أعف النساء وأكرمهن وأحزمهن ، ولها صدقات كثيرة وبرّ عظيم ، بنت بدمشق مدرسة لأصحاب أبي حنيفة النعمان رضي الله تعالى عنه في محلة حجر الذهب ، وبنت للصوفية خانقاه خارج باب النصر على بانياس ، وبنت تربة بقاسيون على نهر يزبد مقابل تربة جركس ، ووقفت على هذه الأماكن أوقافا كثيرة ، وكانت وفاتها في شهر رجب كذا قال في المرآة.

وقال الذهبي : توفيت رحمها الله تعالى في ذي القعدة ودفنت بتربتها ، وبلغ السلطان وفاتها وهو مريض بحرّان ، فتزايد مرضه وحزن عليها وتأسف ، وكان يصدر عن رأيها ، ومات بعدها أخوها سعد الدين مسعود في جمادى

٣٨٩

الآخرة من هذه السنة من جرح أصابه في حصار ميافارقين ، وكان من أكبر الأمراء ، زوّجه السلطان أخته ربيعة خاتون ، فلما توفي تزوجها مظفر الدين (١) صاحب إربل ، وفي زماننا وسعت تربتها وصارت جامعا وأقيمت فيه الجمعة وغيرها انتهى. قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الروضتين في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة : قال العماد في هذه السنة توفيت الخاتون ذات العصمة بدمشق في ذي القعدة ، وهي عصمة الدين بنت معين الدين أنر ، وكانت في عصمة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه‌الله ، فلما توفي وخلفه السلطان بالشام في حفظ البلاد ونصرة الاسلام تزوج بها في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ، وهي من أعف النساء وأعصمهن وأجهلن في الصيانة وأحزمهن ، متمسكة من الدين العروة الوثقى ، ولها أمر نافذ ومعروف وصدقات ورواتب للفقراء وإدرارات وبنت للفقهاء والصوفية بدمشق مدرسة ورباطا. قلت : وكلاهما ينسبان إليها ، فالمدرسة داخل دمشق بمحلة حجر الذهب قرب الحمام الشركسي ، والرباط خارج باب النصر راكب على نهر بانياس في أول الشرف القبلي ، وأما مسجد خاتون الذي في آخر الشرف القبلي من الغرب ، فهو منسوب إلى خاتون أخرى قديمة تقدم ذكرها ، وهي زمرد بنت جاولي أخت الملك دقاق لأمه والد نور الدين رحمهما‌الله تعالى ، قال العماد : وذلك سوى وقوفها على معتقيها وعوارفها وأقاربها ، وكان السلطان حينئذ بحرّان في بحر المرض وبحرانه ، وعنف الألم وعنفوانه ، فما أخبرناه بوفاتها خوفا من تزايد علته وتوقد غلته ، وهو يستدعي في كل يوم درجا ويكتب إليها كتابا طويلا ، ويلقي على ضعفه من تعب الكتابة والفكر حملا ثقيلا ، حتى سمع نعي ناصر الدين محمد بن شيركوه ابن عمه فنعيت إليه الخاتون ، وقد تعدت عنه إليهما المنون ، وكانت وفاة ناصر الدين بحمص في تاسع ذي الحجة فجأة من غير مرض ، وأجرى السلطان أسد الدين شيركوه ولده على ما كان لوالده ومقابلته بأحسن عوائده. قلت : وقبر الخاتون المذكورة في التربة المنسوبة إليها بسفح

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٤٣٨.

٣٩٠

جبل قاسيون قبلي المقبرة الشركسية ، وأما ناصر الدين فنقلته ابنة عمه ست الشام بنت أيوب فدفنته في مقبرتها بمدرستها بالعوينة ، فهو القبر الأوسط بين قبرها وقبر أخيها ، وكانت ست الشام كثيرة المعروف والبر والصدقات. إلى أن قال : قال العماد وفيها في جمادى الآخرة توفي أخو الخاتون المذكورة سعد الدين مسعود ابن أنر ، ونحن قد فتحنا ميافارقين بها ، ولقد كان من الأكارم والأكابر ، ومن ذوي المآثر والمفاخر ، وما رأيت أحسن منه خلقا وأزكى عرقا ، ولم يزل في الدولتين النورية والصلاحية أميرا مقدما وعظيما مكرما ، ولغور فضائله ووفور فواضله وجدّ شهامته وحدّ صرامته ، رغب السلطان وهو زوج أخته أن يكون هو أيضا زوج أخته ، فزوجه بالتي تزوجها مظفر الدين كوكبري بعده. قلت : وهي ربيعة خاتون بنت أيوب عمرت إلى أن توفيت بدمشق بدار أبيها ، وهي دار العقيقي في شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين وستمائة ، وهي آخر أولاد أيوب لصلبه موتا ، وكان يحترمها الملوك من أولاد إخوتها وأولادهم ويزورونها في دارها ، انتهى كلامه. وقال شيخنا في الكواكب الدرية في السيرة النورية : وقد كانت زوجته هذه أيضا من الصالحات الخيرات تكثر القيام ، فنامت ذات ليلة عن وردها ، فأصبحت وهي غضبى ، فسألها نور الدين عن أمرها ، فذكرت لها نومها الذي فوّت عليها وردها ، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانات في القلعة وقت السحر ليوقظ النائم بذلك الوقت لقيام الدين ، ورتب للضارب جراية وجامكية انتهى. قال ابن الأثير : وكان لا يفعل فعلا إلا بنية حسنة انتهى. وقال ابن شداد : وانتقلت المدرسة في شهور سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. وأول من ذكر بها الدرس حجة الاسلام والدين إلى أن توفي. ثم من بعده تولاها فخر الدين الحواري إلى أن توفي. واستمر بها ولده إلى أن توفي. وبقيت على ولده تاج الدين محمد المذكور. وقد ناب عنه بها نجم الدين خليل بن علي الحموي إلى أن توفي فجأة ، ووليها بعده ولده شمس الدين علي وانتزعت من يده في زمان الملك الصالح نجم الدين أيوب في جمادى سنة أربع وأربعين وستمائة. ووليها

٣٩١

بعده القاضي عز الدين السنجاري إلى أن توفي في سادس عشرين شعبان سنة ست وأربعين وستمائة. ووليها بعده ولده كمال الدين عبد اللطيف في الشهر المذكور في السنة المذكورة ، واستمرّ بها إلى حين استيلاء التتار على دمشق في صفر من سنة ثمان وخمسين وستمائة ، فوليها في أيام التتار القاضي شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطاء الحنفي إلى حين عود الشام إلى يد المسلمين ، فعاد كمال الدين عبد اللطيف المذكور وانتزعها من يده ووليها واستمر بها إلى حين توجه الخليفة إلى بغداد ، فسار معه وقتل بالفلوجة في سنة تسع وخمسين وستمائة ، وكان ينوب عنه في حال غيبته صدر الدين إبراهيم بن عقبة الحنفي ، فلما صحّ قتله وليها القاضي شمس الدين عبد الله بن محمد الحنفي المتقدم ذكره إلى حين توفي وهو متوليها في خامس جمادى سنة ثلاث وسبعين وستمائة ، ودفن بسفح قاسيون بالتربة المعظمية ، وكان له من العمر ثمان وسبعون سنة ، وكان رجلا فاضلا. ثم ولي بعده قاضي القضاة مجد الدين أبو المجد عبد الرحمن ابن الصاحب كمال الدين أبي القاسم عمر ابن قاضي القضاة نجم الدين أبي الحسن أحمد ابن قاضي القضاة جمال الدين أبي الفضل هبة الله ابن قاضي القضاة مجد الدين أبي غانم محمد ابن قاضي القضاة جمال الدين أبي الفضل هبة الله ابن قاضي القضاة نجم الدين أبي الحسن أحمد بن أبي جرادة الحنفي ، وهو مستمر بها إلى سنة خمس وسبعين وستمائة انتهى.

أما ابن عطاء المذكور ، فقال الذهبي في العبر في سنة ثلاث وسبعين وستمائة : وفيها توفي قاضي القضاة شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطاء الأذرعي الحنفي ، وكان المشار إليه في مذهبه ، مع الدين والصيانة ، والتواضع والتعفف ، واشتغل عليه جماعة ، وتوفي في جمادى الأولى ، روى عن ابن طبرزد وغيره ، ومات وقد قارب الثمانين انتهى.

وأما ابن عقبة ، فقال الذهبي فيها أيضا : والصدر بن عقبة الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عقبة البصروي ، أفتى ودرس وولي مرة قضاء حلب ، وكان ذا همة وجلادة وسعي ، توفي في شهر رمضان عن سن عالية

٣٩٢

سنة سبع وتسعين وستمائة انتهى. وقال ابن كثير في تاريخه في هذه السنة : الصدر بن عقبة إبراهيم بن أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطاء البصروي الحنفي ، درّس وأعاد وولي في وقت قضاء حلب ، ثم سافر قبل وفاته إلى مصر ، فجاء بتوقيع فيه قضاء حلب ، فلما اجتاز بدمشق توفي بها في شهر رمضان من هذه السنة ، وله سبع وثمانون سنة انتهى.

وأما ابن أبي جرادة فقال الشيخ نجم الدين الطرسوسي في شرح منظومته : قاضي القضاة مجد الدين أبو محمد عبد الرحمن ابن الصاحب الكبير كمال الدين بن عمر بن أحمد بن هبة الله بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة ، ميلاده بحلب سنة أربع عشرة وستمائة ، كان إماما جليلا فاضلا دينا متعبدا متقشفا ، مواظبا على ورده من النوافل ، ممدوحا رئيسا ، لم يزل من أول عمره عند الناس معظما ، حتى قيل إنه في حياة والده كان يرجح عليه مع جلالة والده ، درس بحلب ودمشق ومصر : فدرّس بدمشق بالخاتونية العصمية ، وهو أول من درس بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة ، وحضر السلطان درس وسمع بحثه ومناظرته ، وتأخر هو عن الناس حتى تكاملوا ، فلما حضر قام له السلطان وتلقاه ، وولي الخطابة بالجامع الحاكمي مدة بمصر ، وكان له أوراد من العبادة لا يخل بشيء منها ، وفي يوم الأربعاء سلخ ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وستمائة قدم دمشق قاضي القضاة بها بعد القاضي شمس الدين عبد الله ، واستناب القاضي بدر الدين مدرّس المعينية الآتي ذكرها ، ومات بجوسقه ظاهر دمشق في الشرف القبلي يوم الثلاثاء سادس عشر شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين وستمائة ، ودفن بتربته بالقرب منه ، ومما أنشد لنفسه يقول :

شهود ودّي تؤدي وهي صادقة

وحاكم الشوق بالأسجال قد حكما

هب أنني مدّع قد غاب شاهده

أليس قلبك يقضي بالذي علما

وممن درس بها البرهان بن الموفق. قال الذهبي في العبر في سنة تسع وتسعين (بالتاء فيهما) وخمسمائة : والعلامة أبو الموفق مسعود بن الموفق شجاع

٣٩٣

الأموي الحنفي الدمشقي مدرس النورية والخاتونية وقاضي العسكر ، كان صدرا معظما مفتيا رئيسا في المذهب ، وارتحل إلى بخارى ، وتفقه هناك ، وعمّر دهرا ، توفي رحمه‌الله تعالى في جمادى الآخرة وله تسعون إلا سنة ، وكان لا يغسل له فرجيه ، يهبها ويلبس جديدة انتهى. وقال الأسدي في تاريخه في هذه السنة : مسعود بن شجاع بن محمد الامام برهان الدين بن الموفق القرشي الأموي الدمشقي الحنفي مدرس النورية والخاتونية أيضا ، إمام خبير بالمذهب ، درّس وأفتى وأشغل ، وكان ذا أخلاق شريفة وشمائل لطيفة ، ولد بدمشق ورحل إلى ما وراء النهر فتفقه على شيوخ بخارى ، وسمع بها من الامام ظهير الدين الحسن بن علي المرغيناني وجماعة ، وولي قضاء العسكر لنور الدين ، وحصل له جاه وافر ، ودنيا واسعة ، وكان لا يغسل له فرجية ، بل إذا اندعكت وهبها ولبس أخرى جديدة ، وطال زمانه ، ولد في جمادى الآخرة سنة عشر وخمسمائة ، وتوفي في جمادى الآخرة أيضا ، روى عنه الشهاب القوصي في معجمه وابن خليل. قال بعضهم : وجمع كتابا في الفقه انتهى. ودرّس بها الحسام الرومي.

قال الصفدي في وافيه في حرف الحاء : الحسن بن أحمد بن أنو شروان قاضي القضاة حسام الدين أبو الفضائل ابن قاضي القضاة تاج الدين أبي المفاخر الرازي الحنفي الرومي ، ولد سنة إحدى وثلاثين بآق سراي ، وولي ملطية أكثر من عشرين سنة ، وخرج إلى الشام سنة خمس وسبعين وستمائة بعد القاضي صدر الدين سليمان ، وامتدت عليه أيامه إلى أن تسلطن حسام الدين لاجين ، فسار إليه سنة ست وتسعين وستمائة ، فأقبل عليه وولاه القضاء بالديار المصرية ، وولي ابنه جلال الدين (١) مكانه بدمشق ، وبقي معظما وافر الحرمة إلى أن قتل السلطان حسام الدين وهو عنده ، فلما زالت دولة حسام الدين قدم دمشق على مناصبه وقضائه بدمشق ، وعزل ولده ، وكان مجمع الفضائل كثير المكارم ، يتودّد إلى الناس ، له أدب وشعر وفيه خير ومروءة وحشمة ،

__________________

(١) ابن كثير ١٤ : ٢٢٥.

٣٩٤

خرج إلى المصاف وشهد الغزاة ، فكان ذلك آخر العهد به في سنة تسع وتسعين وستمائة. قال الشيخ شمس الدين : والأصح أنه لم يقتل بالغزو ، وصحّ بروزه مع المنهزمين بناحية الجرديين ، وأنه أسر مع الفرنج وأدخل إلى قبرس هو وجمال الدين المطروحي ، وقيل إنه تعاطى الطب والعلاج ، وإنه جلس يطيب بقبرس ، وهو في الأسر ، ولكن لم يثبت ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. قلت : ولما كان بدمشق سنة خمس وثلاثين وسبعمائة جاء الخبر إلى ولده القاضي جلال الدين ، فأشاع بدمشق أن والده القاضي حسام الدين حيّ يرزق بقبرس ، وأنه يريد الحضور إلى الشام ، ويطلب بما يفك به من الأسر ، ثم أن القضية سكنت ، انتهى كلام الصفدي.

وقال الذهبي في العبر في سنة تسع وتسعين وستمائة : وقاضي القضاة حسام الدين الرازي ثم الرومي الحنفي عدم بعد الوقعة ، وتحدث أنه بقبرس ولم يثبت ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم ، وكان هو والمطروحي من أبناء السبعين انتهى. وقال تلميذه ابن كثير في سنة سبع وتسعين وستمائة : وفي عاشر صفر تولى جلال الدين بن حسام الدين القضاء مكان أبيه بدمشق ، وطلب أبوه إلى مصر ، فأقام عند السلطان وولاه قضاء مصر للحنفية ، عوضا عن شمس الدين السروجي (١) ، واستقر ولده بدمشق قاضي قضاة الحنفية ، ودرس بمدرستي أبيه والمقدمية ، وترك مدرسة القصاعين والشبلية انتهى. وقال في سنة ثمان وتسعين وستمائة : وفي العشر الأول من ذي الحجة عاد القاضي حسام الدين الرازي إلى قضاء الشام ، وعزل عن قضاء مصر ، وعزل ولده عن قضاء الشام انتهى. وقال في سنة تسع وتسعين وستمائة وفي يوم الأحد الحادي والعشرين من شعبان : وولي قضاء الحنفية بدمشق شمس الدين بن الصفي الحريري عوضا عن حسام الدين الرازي فقد يوم المعركة في ثاني شهر رمضان انتهى. وقال فيه أيضا : حسام الدين أبو الفضائل الحسن ابن القاضي تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن الحسن بن أنو شروان الرازي الحنفي ، ولي قضاء ملطية مدة عشرين سنة ، ثم

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٢٣.

٣٩٥

قدم دمشق فوليها مدة ، ثم انتقل إلى مصر فوليها مدة ، وولده جلال الدين بالشام ، ثم صار إلى الشام فعاد إلى الحكم بها ، ثم لما خرج الجيش إلى لقاء قازان بوادي الخزندار عند سلمية خرج معهم ، ففقد من الصف ولم يدر ما خبره ، وقد قارب السبعين ، وكان فاضلا بارعا رئيسا ، له نظم حسن ، ومولده بأفسس من بلاد الروم في المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة ، قلت : وسلمية هذه ببلاد الشيخ محيي الدين النواوي رحمه‌الله تعالى انتهى. وفقد يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول منها ، وقد قتل فيه يومئذ من سادات الأمراء خلق. ثم ولي القضاء بعده شمس الدين الحريري انتهى. وقال في سنة سبعمائة : وفي يوم الجمعة ثالث عشرين من ذي القعدة عزل شمس الدين بن الحريري عن قضاء الحنفية بالقاضي جلال الدين بن حسام الدين على قاعدته وقاعدة أبيه ، وذلك باتفاق من الوزير الأمير شمس الدين الأعسر ، ونائب السلطان الأفرم انتهى. وقال في سنة إحدى وسبعمائة : استمرت الخاتونية الجوانية بيد القاضي جلال الدين بن حسام الدين باذن نائب السلطنة انتهى. وقال السيد شمس الدين رحمه‌الله تعالى في ذيله : ومات بدمشق العلامة قاضي القضاة جلال الدين أبو المفاخر أحمد ابن قاضي القضاة حسام الدين الحسن بن أحمد بن الحسن بن أنو شروان الرازي ثم الدمشقي الحنفي ، عن ثلاث وتسعين سنة ونصف ، حدث عن ابن البخاري وغيره ، ونائب في الحكم بدمشق عن والده ، ثم ولي استقلالا ، ثم عرض له صمم فصرف بالقاضي شمس الدين الحريري ، ودرس بالخاتونية والزنجارية والقصاعين ، وإليه المنتهى في مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، توفي رحمه‌الله تعالى في شهر رجب سنة خمس وأربعين وسبعمائة ، ودفن بمدرسته التي أنشأها بدمشق المعروفة بالجلالية ، وكانت سكنه رحمه‌الله انتهى.

وقال تقي الدين بن قاضي شهبة في ذيله في شهر ربيع الأول في سنة خمس وعشرين وثمانمائة : وفي يوم الأحد حادي عشريه حضر ابن القاضي شهاب الدين بن العز بالمدرسة الخاتونية الجوانية ، وحضر عنده القاضي الشافعي

٣٩٦

وبعض الفقهاء والترك ، وكان يوما مطيرا انتهى. ثم قال في ثامن عشرين المحرم سنة ست وعشرين وثمانمائة وهو يوم دخل المحمل ما عبارته : وفي يوم دخول المحمل سأل قاضي القضاة شهاب الدين بن العز قاضي القضاة الشافعي أن يستنيب ولده في القضاء فأجابه إلى ذلك ، وهو شاب لم تطلع ذقنه بعد ، ولكنه قد قرأ كتبا واشتغل ، وباشر الخاتونية الجوانية وباشر القصاعين ، وكان يحضر معه نواب والده وغيرهم من الحنفية انتهى. ثم قال في محرم سنة أربعين : وفي يوم الجمعة ثاني عشره بلغني أن قاضي القضاة شمس الدين الصفدي رجع ومعه ولايته بالخاتونية الجوانية ، ثم قاتل في ذلك غريمه ، ووقفا للنائب ، ثم قيل إنهما يصطلحان فلم يتفق ذلك ، وأرسل كل منهما قاصده يسعى في ذلك انتهى. ثم قال في سنة إحدى وخمسين ما عبارته : وفي العشر الأخير أي من شهر رمضان ، الى أن قال : وفيه جاء مرسوم فيه أن القاضي حسام الدين بن العماد الحنفي أنهى أن الخاتونية والقصاعين كانتا بيد القضاة ، وهي معروفة عندهم وبهم ، فجاء مرسوم أن يعقد لهما مجلس عند النائب بحضرة القضاة والعلماء ، فإن كان كما أنهاه فيسلمان إليه ، وإن كانتا بيد القاضي شمس الدين الصفدي بطريق شرعي فتستمران بيده ، فعقد له مجلس في رابع عشريه وحضر الصفدي وأظهر بيده نزولا من ابن العز بالقصاعين ، محكوما له بالاستحقاق ، وولاية الخاتونية عوضا عن ابن العز بحكم وفاته ، ومحضر مثبوت على المصريين ، على أن الوظيفة المذكورة لم تزل بيد بني العز في حال ولايتهم وعزلهم ، ومال أكثر أهل المجلس مع الصفدي ، وتكلم خصمه حسام الدين بكلام ساقط ، ونسب أهل المجلس إلى التحامل عليه ، وانقضى المجلس على المراجعة ، واحتج الحسام بأشياء لا تجدي شيئا ، فأجيب عنها في المجلس انتهى.

١٠٣ ـ المدرسة الدماغية

قد تقدم محلها وأنها على الفريقين الحنفية والشافعية وترجمة واقفها. قال

٣٩٧

ابن شداد : أول من درس بها ـ يعني من الحنفية ـ الافتخار الكاشغري (١) إلى أن توفي ، وهو من أصحاب الشيخ جمال الدين بن الحصيري ، ثم وليها بعده القاضي عز الدين السنجاري ، ثم استناب فيها تاج الدين عبد الله بن الأرشد إلى أن تولى المدرسة الخاتونية القاضي عز الدين المذكور ، فنزل عنها لفخر الدين أحمد ولم يزل بها إلى أن توفي. ووليها بعده عماد الدين محمد ، ولم يزل بها إلى أن انتزعت من يده. وتولاها مجد الدين بن السحنون خطيب النيرب ، وهو بها إلى الآن انتهى. قال الذهبي في العبر في سنة أربع وتسعين وستمائة : وابن سحنون خطيب النيرب مجد الدين شيخ الأطباء أبو محمد عبد الوهاب بن أحمد بن سحنون الحنفي ، روى عن خطيب مردا يسيرا ، وله شعر وفضائل ، توفي في ذي القعدة. وقال ابن كثير في السنة المذكورة : الشيخ الامام العالم المفتي الخطيب الطبيب مجد الدين أبو محمد عبد الوهاب بن أحمد ابن أبي الفتح بن سحنون التنوخي الحنفي ، خطيب النيرب ومدرس الدماغية للحنفية ، وكان طبيبا ماهرا حاذقا ، توفي بالنيرب ، وصلي عليه بجامع الصالحية ، وكان فاضلا ، وله شعر حسن ، وروى شيئا من الحديث ، توفي ليلة السبت خامس ذي القعدة عن خمس وسبعين سنة ، رحمه‌الله تعالى انتهى.

١٠٤ ـ المدرسة الركنية البرانية

بالصالحية. قال القاضي عز الدين : منشئها الأمير ركن الدين منكورس الفلكي (٢) في سنة نيف وعشرين وستمائة انتهى. وقال الحافظ ابن كثير في تاريخه في سنة إحدى وثلاثين وستمائة : واقف الركنية الحنفية الأمير الكبير ركن الدين منكورس الحنفي الفلكي ، غلام فلك الدين أخي الملك العادل لأمه ، واقف الفلكية كما تقدم ، وكان هذا الرجل من خيار الأمراء ، ينزل في كل ليلة وقت السحر إلى الجامع وحده بطوافة ويواظب على حضور الصلوات فيه مع الجماعة ، وكان قليل الكلام ، كثير الصدقات ، وقد بنى المدرسة الركنية

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٢٣٠.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ١٤٧.

٣٩٨

بسفح قاسيون ، وأوقف عليها أوقافا كثيرة ، وعمل عندها تربة ، وحين توفي بقرية جرود حمل إليها رحمه‌الله انتهى. قال الأسدي في تاريخه في سنة خمس وعشرين وستمائة : وفيها نجزت مدرسة ركن الدين الفلكي بالسفح ، ودرس بها ملك شاه أبو المظفر وجيه الدين القاري ، وكان رجلا فاضلا بارعا متعبدا مشهورا بالدين والعلم إلى أن انتقل عنها. فوليها بعده تاج الدين محمد بن وثاب بن رافع البجلي إلى أن انتقل عنها إلى المدرسة بالقصاعين. فوليها بعده صدر الدين بن عقبة إلى أن انتقل عنها إلى حلب المحروسة. فوليها بعده ولده محيي الدين أحمد إلى حين عود والده من حلب. ثم أخذها من ولده واستمر بها إلى الآن انتهى. ووجدت بخط تقي الدين الأسدي على هامش ذيل الحسيني في وفاة زين الدين القحفازي ، خطيب جامع تنكز ومدرّس الحنفية بالظاهرية ما صورته : أول من خطب به ودرّس بالركنية بالجبل ثم تركها ، لأنه اطلع على أن من شرط واقفها على المدرس السكن بها ، ذكره البرزالي في معجمه وقال : تميز في الفقه والعربية وغيرهما ، وله ذهن جيد ومناظرة صحيحة ، وهو ملازم للاقراء بالجامع ، وله شعر جيد ، وتعين للفتوى والتدريس والاشتغال ، وقصده الطلبة ، وقد مات البرزالي قبله بمدة في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة ، انتهى ما وجدته بخطه. وقال ابن كثير في تاريخه في سنة عشرين : وفي يوم الأربعاء رابع عشرين جمادى الأولى درس بالركنية الامام محيي الدين الأسمر الحنفي ، وأخذت منه الجوهرية لشمس الدين الرقي الأعرج ، وتدريس جامع القلعة لعماد الدين بن محيي الدين الطرسوسي الذي ولي قضاء الحنفية بعد هذا ، وأخذ من الرقي إمامة مسجد نور الدين بحارة اليهود لعماد الدين بن الكيال ، وإمامة الربوة للشيخ محمد النصيبي انتهى. ثم درس بها الشيخ برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم ابن الشيخ العالم شهاب الدين أبي العباس أحمد بن خضر الحنفي ، مولده في سابع شهر رمضان سنة أربع وأربعين وسبعمائة. وقال الأسدي في تاريخه : في شهر ربيع الأول سنة ست عشرة نقلته من خط شيخنا وقال إنه أخبره بذلك ، اشتغل على والده

٣٩٩

وغيره ، وفضل وافتى ودرس بالركنية بالسفح والمقدمية شريكا لغيره ، وناب في القضاء بالديار المصرية قديما عن القاضي ابن منصور ، وباشر إفتاء دار العدل بدمشق مدة طويلة ، وكان عنده جرأة وإقدام ومرافعة ، ثم أنه بعد الوقعة تأخر وترك الاشتغال بالعلم وافتقر وضعف ، توفي بسكنه بالشبلية ليلة السبت سابع عشريه ، وصلى عليه من الغد بعد الظهر بجامع الحنابلة ، وحضر جنازته جمع من الفقهاء وغيرهم ، ودفن بسفح قاسيون. واستقرّ في جهاته أخوه القاضي عز الدين (١) ، وصهره السيد ركن الدين بن زمام ، ووالده توفي في شهر رجب سنة خمس وثمانين ، وقد مرت ترجمته. ثم قال تقي الدين في شعبان سنة خمس وعشرين : وفي هذا الشهر أخرج النائب تنبك ميق عن السيد ركن الدين الركنية البرانية ونصف النظر عليهما لشمس الدين ابن اللبودي بلا سبب ، فشقّ عليه وعلى غيره ذلك مع أنه لم يكن محمودا في مباشرته نظرها انتهى. ثم قال تقي الدين في محرم سنة ست وعشرين وفي يوم الأربعاء ثاني عشريه حضر تدريس المدرسة الركنية بالسفح شرف الدين بن برهان الدين ابن الشيخ شرف الدين بن منصور ، وحضر معه القضاة والفقهاء ، وذلك عن ربع التدريس بالمكان المذكور ، نزل عنه ابن عمه ، وكان تدريس هذه المدرسة قد صار إلى بدر الدين ابن الشيخ صدر الدين بن منصور ، فنزل عن نصفه للشيخ بدر الدين ابن الرضي (٢) ، فلما توفي نزل عنه لولده شمس الدين ، فنزل عنه للقاضي بدر الدين المقدسي ، ثم نزل عنه لابنه ، فنزل عنه للشيخ برهان الدين ابن خضر ، ثم نزل عنه للسيد ركن الدين بن زمام ، واستمر النصف الآخر بيد ولده بدر الدين بن منصور ، ثم نزل عنه لابن منصور وشمس الدين بن الرضي نصفين انتهى. ثم قال في الشهر المذكور منها وفي هذا الشهر : وحكى لي القاضي ناصر الدين بن اللبودي الحموي أنه صالح السيد ركن الدين وردّ إليه تدريس الركنية ، ورجع هذا معيدا ورتب له شيء وعجل له بعضه انتهى.

__________________

(١) شذرات الذهب ٧ : ١٣٣.

(٢) شذرات الذهب ٦ : ٣٦٨.

٤٠٠