الدّارس في التاريخ المدارس - ج ١

عبد القادر بن محمّد النعيمي الدمشقي

الدّارس في التاريخ المدارس - ج ١

المؤلف:

عبد القادر بن محمّد النعيمي الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

سليمان ، روى الصحيح عن الزبيدي (١) حضورا ، وسمع من ابن اللتي وجعفر وابن المقير وكريمة (٢) وابن الجميزي (٣) والحافظ الضياء. وأجاز له عمر بن كرم (٤) وأبو الوفاء محمد بن محمود بن منده (٥) وشهاب الدين السهروردي (٦) ، وله معجم في مجلدين عمله ابن الفخر ، وكان بصيرا بالمذهب ديّنا متعبدا متواضعا ، كثير المحاسن واسع الرواية أفتى نيفا وخمسين سنة ، وتخرج به الفقهاء انتهى. ثم درس بها ولده بعده عز الدين.

قال الذهبي في تاريخه في سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة : ومات في صفر قاضي الحنابلة عز الدين محمد ابن قاضي القضاة تقي الدين سليمان المقدسي وله ست وثلاثون سنة روى عن الشيخ وعن أبي بكر الهروي وبالاجازة عن ابن عبد الدائم (٧) ودرس بدار الحديث الأشرفية وغيرها ، وكان متوسطا في العلم والحكم متواضعا ، ثم درس بها ولده بعده بدر الدين ، قال الصفدي في حرف الحاء : الحسن بن محمد بن سليمان بن حمزة ابن الشيخ الامام أقضى القضاة بدر الدين ابن قاضي القضاة سليمان المقدسي الأصل ثم الدمشقي ، سمع من جده وعيسى (٨) المطعم ويحيى بن سعد (٩) وغيرهم وحدث ودرس بدار الحديث الأشرفية بالسفح ، وذكر لي جدي الشيخ شرف الدين أنه كان يحفظ شيئا من شرح المقنع للشيخ شمس الدين بن أبي عمر مقدارا ويلقيه في الدرس ويتكلم الحاضرون فيه ودرّس بالجوزية وكان بيده نصف تدريسها وناب في الحكم عن ابن قاضي الجبل بعد عزله بصلاح الدين ابن المنجا ، وقد أعيد بعد وفاته مات ليلة الخميس خامس شهر ربيع الأول سنة سبعين وسبعمائة ، ودفن بالسفح ، ثم استمر كل من تولى قضاء الحنابلة يتولاها وإن لم يكن أهلا

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ١٤٤.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٢١٢.

(٣) شذرات الذهب ٥ : ٢٤٦.

(٤) شذرات الذهب ٥ : ١٣٢.

(٥) شذرات الذهب ٥ : ١٥٥.

(٦) شذرات الذهب ٥ : ١٥٣.

(٧) شذرات الذهب ٦ : ٤٨.

(٨) شذرات الذهب ٦ : ٥٢.

(٩) شذرات الذهب ٦ : ٥٦.

٤١

للتدريس بها ولها إعادة.

(فوائد) الأولى : الوف عليها خمس ضياع بالبقاع : الدير والدوير والتليل والمنصورة والشرفية ولها بيت ابن النابلسي المعروف بابن الشكل والجنينة وحكر حارة الجوبان.

الثانية : أسمع بها الإمامان القاضيان المحب أحمد بن نصر الله (١) البغدادي الحنبلي قاضي القضاة بالديار المصرية والشمس محمد بن أحمد البساطي المالكي قاضي القضاة بها أيضا ، جزءا مخرجا من حديث شيخ الاسلام سراج الدين أبي حفص عمر بن أرسلان البلقيني تخريج الحافظ ولي الدين أبي زرعة أحمد ابن العراقي المصري (٢) الشافعي له من مسموعاته لما قدما دمشق مع السلطان الملك الأشرف (٣) في يوم السبت رابع عشر ذي الحجة الحرام سنة ست وثلاثين وثمانمائة بحضور العلامة الحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر عبد الله بن ناصر الدين الدمشقي الشافعي.

الثالثة : أسمع بها قاضي القضاة نظام الدين أبو حفص عمر ابن أقضى القضاة برهان الدين إبراهيم بن مفلح ونائبه الشمس أبو عبد الله محمد بن عمر ابن ثابت الدروسي (٤) الحنبليان مشيخة أبي محمد عيسى بن عبد الرحمن المطعم المقدسي الدلال تخريج الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي له يوم السبت ثالث جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وثمانمائة بحضور المحدث جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي الصالحي (٥) رحمهم‌الله سبحانه وتعالى.

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٢١٩.

(٢) شذرات الذهب ٧ : ١٧٣.

(٣) شذرات الذهب ٧ : ٢٣٨.

(٤) شذرات الذهب ٧ : ٣٦٦.

(٥) شذرات الذهب ٨ : ٤٣.

٤٢

١٠ ـ دار الحديث البهائية

داخل باب توما قال الحافظ ابن كثير في تاريخه في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة : شيخنا الجليل المسند المعمر الرحلة بهاء الدين أبو محمد القاسم ابن الشيخ بدر الدين أبي غالب المظفر إلى أن قال : ووقف آخر عمره داره المعروفة دار حديث. وولي تدريسها الشهاب الأذرعي وهو كما قال الحافظ برهان الدين الحلبي (١) في مشيخة تخريج الحافظ نجم الدين بن فهد (٢) أحمد ابن حمدان بن أحمد بن عبد الله بن عبد الواحد بن عبد الغني بن محمد بن أحمد بن سالم بن داود بن يوسف بن جابر الأذرعي نسبة إلى أذرعات الشام ثم الدمشقي ثم الحلبي الشافعي الامام العلامة شيخ المذهب أبو العباس ابن الشيخ شهاب الدين مولده في إحدى الجماديين سنة ثمان وسبعمائة بأذرعات ونشأ بدمشق وسمع على القاسم ابن عساكر وأحمد بن الشحنة (٣) وسمع من الصدر عبد المؤمن بن عبد الرحمن بن عبد العزيز الحارثي النصف الأخير من رسالة الشافعي أو أكثر ، وقرأ على الحافظين الذهبي والمزي وذكر أنهما كانا يعجبان بقراءته وأجاز له من دمشق أبو نصر ابن الشيرازي (٤) وإسحاق الآمدي (٥) وأبو عبد الله ابن الزراد وغيرهم ، ومن مصر أبو الحسن بن قريش وأبو الحسن الواني وأبو الفتح الدبوسي وصالح بن مختار الأشنهي ويوسف بن عمر الختني (٦) وآخرين ، ومن الاسكندرية عمر بن محمد العتبي (٧) وعبد الله بن خلف الصواف وغيرهما خرج له عنهم الامام شهاب الدين أبو العباس أحمد ابن حجي جزءا حدّث به وأخذ الفقه عن شيوخه بدمشق وتفقه وبرع وتميز وساد وشهر حتى صار شيخ البلاد الشامية ، وأحفظ الناس لفروع المذهب ، وناب في الحكم في بعض الجهات الدمشقية ، ثم انتقل إلى حلب واستوطنها ،

__________________

(١) شذرات الذهب ٧ : ٢٣٧.

(٢) شذرات الذهب ٧ : ٣٤٢.

(٣) شذرات الذهب ٦ : ٩٣.

(٤) شذرات الذهب ٦ : ٦٢.

(٥) شذرات الذهب ٦ : ٦٦.

(٦) شذرات الذهب ٦ : ٩٧.

(٧) شذرات الذهب ٦ : ٦٤.

٤٣

وناب في الحكم عن ابن الصائغ (١) أول ما قدم حلب ، ثم ترك ذلك ، وذكر لي القاضي شرف الدين الأنصاري أنه كان يأخذ العهد على أصحابه أنهم لا يلون القضاء ، ولما ترك القضاء اقتنع ببعض المدارس ، وأكبّ على الاشتغال وأقبل على التصنيف ، فصنف كتابا في المذهب سماه (قوة المحتاج) وآخر سماه (غنية المحتاج) كلاهما في شرح المنهاج ، ثم صنف (المتوسط في الفتح بين الروضة والشرح) يعني شرح الرافعي الكبير في عشرين مجلدة ، وهو كتاب جليل جمع فيه فأوعى ، وتعقب على المهمات للأسنوي ، واختصر (الحاوي) للماوردي ، ودرّس بالمدرسة البلدقية بقرب الكلاسة وبالمدرسة الظاهرية وبالمدرسة الأسدية وبدار الحديث البهائية ، وله إعادة بعدة مدارس من مدارس الشافعية ، وتصدر بالجامع للافتاء والتدريس ، وشاعت فتاويه في الآفاق مع التوقي الشديد ، خصوصا في الطلاق ، وكان الشيخ زين الدين الباريني يجمع عنده فتاوى يستشكلها فيأتي الأذرعي فيسأله عنها ، ولم يكن له خبرة بحساب الفرائض ، وقد وقعت له في ذلك أغلاط اعتنى بجمعها فقيه ورد عليهم حلب من مصر يقال له النوي ، وأوقف عليها الشيخ سراج الدين البلقيني والشيخ ضياء الدين القربي فأطلق فيها ضياء الدين لسانه إذ لم يكن عارفا بحقيقته ، وعظم البلقيني شأنه لما يعرف من حاله لكنه كتب أنه لا يصلح للفتوى في الفرائض انتهى. وعرض له في آخر عمره سقطة وصمم شديد ، وكان كثير الاسناد للشعر ، وله نظم على طريقة الفقهاء ، وكانت وفاته عند الزوال من يوم الأحد الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة وصلي عليه بالجامع الأموي بحلب المحروسة ، وتقدم عليه في الصلاة القاضي جمال الدين بن العديم (٢) الحنفي ودفن من يومه خارج باب المقام تجاه تربة ابن الصاحب والفريب من تربة سودون ، ولم يخلف بعده بتلك الديار مثله. وولي مشيختها السيد الشريف المؤلف المفيد شمس الدين

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ١٢٣.

(٢) شذرات الذهب ٦ : ٢٩٥.

٤٤

أبو المحاسن ويقال أبو عبد الله الحسيني الدمشقي (١) ، ميلاده سنة خمس عشرة وسبعمائة.

قال الحافظ الذهبي في المعجم : المحقق العالم الفقيه المحدّث ، طلب وكتب الأجزاء وهو في زيادة من السماع والتحصيل والتخريج والإفادة ، وقال الحافظ ابن كثير : جمع أشياء مهمة في الحديث وكتب أسماء رجال مسند أحمد ، واختصر كتابا في أسماء الرجال مفيدا وولي مشيخة دار الحديث التي وقفها في داره بهاء الدين القسم داخل باب توما. وقال الحافظ ابن رافع : جمع مختصرا من (تهذيب الكمال) لشيخنا المزي وزاد فيه رجال مسند أحمد وكتب بخطه كثيرا. وقال الحافظ العراقي (٢) إنه شرع في شرح (سنن النسائي). وقال تقي الدين الأسدي : ومن مؤلفاته (اختصار الأطراف للمزي) وكتاب (رياض الزاهدين في مناقب الخلفاء الراشدين) وكتاب (الإمام في آداب دخول الحمام) وكتاب (العرف الذكي في النسب الزكي) و (ذيلا على العبر) من سنة إحدى وأربعين إلى سنة اثنتين وستين. كذا قال وفيه نظر إنما هو إلى أن توفي في شعبان سنة خمس وستين وسبعمائة ودفن رحمه‌الله تعالى بقاسيون.

١١ ـ دار الحديث الحمصية

المعروفة بحلقة صاحب حمص ، لم نقف له على ترجمة ، ودرس فيها الحافظ أبو الحجاج المزي ، وقد تقدمت ترجمته في دار الحديث الأشرفية بدمشق. ثم درّس بها بعده الحافظ صلاح الدين العلائي قال الذهبي في العبر في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة : وفيها في المحرم درّس العلائي بحلقة صاحب حمص بحضرة القضاة فأورد درسا باهرا نحو ستمائة سطر وقال تلميذه ابن كثير في تاريخه في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وفي يوم الأربعاء ثاني المحرم ، درّس بحلقة صاحب حمص الشيخ الحافظ صلاح الدين العلائي نزل له عنها شيخنا

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٢٠٥.

(٢) شذرات الذهب ٦ : ٢٣٤.

٤٥

الحافظ المزي ، وحضر عنده الفقهاء والقضاة والأعيان وذكر درسا حسنا مفيدا انتهى. وقال الصفدي في تاريخه في حرف الخاء المعجمة ما عبارته : خليل بن كيكلدي بن عبد الله الشيخ الإمام العلامة الحافظ المحدث الفقيه الأصولي الأديب صلاح الدين ابن العلائي الدمشقي الشافعي ، ولد في احد الربيعين سنة أربع وتسعين وستمائة اول سماعه صحيح مسلم سنة ثلاث وسبعمائة على الشيخ شرف الدين الفزاري خطيب دمشق عن المشايخ الأربعة عشر وفيها كمل عليه ختم القرآن العظيم ثم إنه سمع صحيح البخاري على ابن مشرف (١) سنة أربع ، وفيها ابتدأ بقراءة العربية وغيرها على الشيخ نجم الدين القحفازي والفقه والفرائض على الشيخ زكي الدين زكوي ، ثم إنه جدّ في طلب الحديث سنة عشر وسبعمائة ، وقرأ بنفسه على القاضي سليمان الحنبلي الكثير وعلى أبي بكر بن عبد الدائم وعيسى المطعم وإسماعيل بن مكتوم (٢) وعبد الأحد بن تيمية (٣) والقاسم بن عساكر وابن عمه إسماعيل (٤) وهذه الطبقة ومن بعدها ، وشيوخه بالسماع نحو سبعمائة شيخ ، ومن مسموعاته الكتب الستة وغالب دواوين الحديث ، وقد علق ذلك في مجلد سماه (آثار الفوائد المجموعة في الإشارة إلى الفرائد المسموعة) ، ومن تصانيفه أيضا كتاب (النفحات القدسية) في مجلد كبير يشتمل على تفسير آيات وشرح أحاديث. ذكره مواعيد حفظا بالمسجد الأقصى. و (كتاب الأربعين في أعمال المتقين) في ستة وأربعين جزءا ، وكتاب (تحفة الرائض بعلوم آيات الفرائض) و (برهان التيسير في عنوان التفسير) ، و (إحكام العنوان لأحكام القرآن) ، و (نزهة السفرة في تفسير خواتيم سورة البقرة) ، و (المباحث المختارة في تفسير آية الدية والكفارة) ، و (نظم الفوائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد) ، و (تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد) ، و (تفصيل الإجمال في تعارض الأقوال والأفعال) ، و (تحقيق الكلام في نية الصيام) ، و (شفاء المسترشدين في اختلاف

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ١٦.

(٢) شذرات الذهب ٦ : ٣٨.

(٣) شذرات الذهب ٦ : ٣٠.

(٤) شذرات الذهب ٦ : ٢٥.

٤٦

المجتهدين) ، و (رفع الاشتباه عن أحكام الإكراه) وغير ذلك ، ومن تصانيفه مما لم يتم إلى يومئذ كتاب (نهاية الإحكام لدراية الأحكام) ، وكتاب (الأربعين الكبرى) يقع كل حديث منها بطريقة والكلام عليه في مجلد ، وله التعليقات الأربعة : الكبرى والوسطى والصغرى والمصرية في اثني عشر مجلدا. ومن الأجزاء الحديثية ما يطول ذكره. وخرّج للقاضي تقي الدين ولابن جماعة من الشيوخ ، وكان أولا يعاني الجندية ، ثم انه في سنة خمس عشرة وسبعمائة عاود الاشتغال بالفقه والأصوليين وغير ذلك وحفظ التنبيه ومختصر ابن الحاجب ومقدمتيه في النحو والتصريف ، وكتاب (لباب الأربعين في أصول الدين) لسراج الدين الأموي ، وكتاب الإمام في الأحكام وعلق عليه حواشي ، ثم أنه رحل صحبة الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى زيارة القدس سنة سبع عشرة وسبعمائة وسمع من زينب بنت شكر (١) وغيرها ، ولازم الشيخ كمال الدين المذكور سفرا وحضرا وعلق عنه كثيرا وحج معه سنة عشرين وسبعمائة ، وسمع بمكة من الشيخ رضي الدين الطبري (٢) ولازم القراءة على الشيخ برهان الدين الفزاري في الفقه والأصول مدة سنين وخرج له مشيخة وغيرها. وولي تدريس الحديث بالناصرية سنة ثمان عشرة وسبعمائة ، ثم انه درس بالأسدية سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ، وأفتى باذن الشيخ كمال الدين الزملكاني وقاضي القضاة سنة أربع وعشرين وسبعمائة ثم إنه درّس بحلقة صاحب حمص سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ، ثم انتقل إلى تدريس المدرسة الصلاحية بالقدس سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة ، وأقام به إلى يومئذ وتولى مشيخة دار الحديث السيفية بالقدس اجتمعت به مرة بدمشق والقدس والقاهرة وارتويت من فوائده في كل علم وقلّ ان رأيت مثله في تحقيق ما يقوله وتدقيقه. ونقلت له من خطه خطبة أنشأها لدرس الحديث بحلقة صاحب حمص وهي قوله : الحمد لله الذي رفع متن العلماء وجعل لهم من لدنه سندا وأبقى حديثهم الحسن على الإملاء أبدا ، وأمدهم بمتتابعات كرمه

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٥٦.

(٢) شذرات الذهب ٦ : ٥٦.

٤٧

المشهور بوصل ما كان مقطوعا وأعزّ من كان مفردا ، وحمى ضعيف قلوبهم من الاضطراب حتى غدت ثابتة الأفكار ، وعدد موازين نظرهم حين رجحت بفضلهم المبين بشواهد الاعتبار ، وأنجز لهم من صادق وعده علوّ قدرهم المرفوع ، وأطاب بألسنة الأقلام وأفواه المحابر مشافهة ثنائهم المسموع ، وجعل شرفهم موقوفا عليهم وشرف من عداهم من جملة الموضوع ، أحمده على حديث نعمه الحسن المتصل المسلسل ، وتواتر مننه التي يرفع بها تدليس كل أمر معضل ، ومزيد كرمه الذي عمّ المختلف والمؤتلف ، فلا ينقطع ولا يوقف على أن يطل وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة اتخذها لسعي الخير منهجا ، وآنس بها يوم أمسي في جانب اللحد غريبا وفي طيّ الأكفان مدرجا ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أنصح من جاء عن ربه مرسلا ، وأفصح من خاطب بوحيه حتى أمسى جانب الشرك متروكا مهملا ، الذي رمى قلوب الأعداء وخشومهم بالتجريح ، وطاعن بالعوالي حتى استقام وقوي متن الدين الصحيح ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أبادوا المنكر ، وأربى على المتفق والمختلف سنا مجدهم الأكبر ، صلاة معتبرة الإفراد دالة على أنهم في فضل الدنيا والآخرة نعم السادة الأفراد انتهى.

وقال السيد الحسيني في ذيل العبر في سنة إحدى وستين وسبعمائة : وفي الثالث المحرم مات شيخنا بقية الحفاظ صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي العلائي الدمشقي ثم المقدسي الشافعي مدرّس المدرسة الصلاحية وغيرها بالقدس عن سبع وستين سنة ، وروى عن القاضي تقي الدين سليمان الحنبلي وطبقته وأكثر. وكان إماما في الفقه والنحو والأصول ، مفتنا في علوم الحديث ومعرفة الرجال ، علامة في المتون والأسانيد ، ومصنفاته تنبىء عن إمامته في كل فن ، توفي رحمه‌الله تعالى ببيت المقدس وولي بعده تدريس الصلاحية ابن الخطيب العلامة ابن جماعة (١) ومشيخة التنكزية شهاب الدين محمود (زاد الأسدي بالهامش) قال شيخنا بتفويض منه متقدم ودرّس بها

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٣١١.

٤٨

الشيخ علاء الدين المقدسي الشافعي.

قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في وافيه : علي بن أيوب بن منصور الشيخ الإمام علاء الدين المقدسي الشافعي معيد المدرسة البادرائية كان يعرف بعليان وكتب ذلك بخطه في اول امره ، ودرّس بالأسدية وبحلقة صاحب حمص ، وسمع من الفخر ابن البخاري وعبد الرحمن ابن الزين (١) ، وحدث بدمشق والقاهرة ، وكتب بخطه المليح في أول أمره كثيرا من كتب العلم ، ولما بيعت في حياته تغالى الناس فيها لصحتها. وكان قد عني بالحديث وطلب بنفسه وقرأ بنفسه أيضا وحرر وجوّد الألفاظ وضبطها ، ثم إنه سكن القدس بآخره ، واختلط في سنة ثنتين وأربعين وسبعمائة ، وكان يعبث في اختلاطه بذكر الجن ويقول : قد وعدوني بأن يأتوا يسوقون نهرا من النيل ونهرا من زيت نابلس إلى داري هذه ، ويعد لذلك أماكن يكون بها الماء والزيت وأشياء من هذه المستحيلات ، وقاسى فقرا شديدا وفاقة ، وتوفي بالقدس سنة ثمان وأربعين وسبعمائة في شهر رمضان المعظم انتهى.

١٢ ـ دار الحديث الدوادارية والمدرسة والرباط

قال ابن كثير في سنة ثمان وتسعين وستمائة : وفيها وقف الأمير علم الدين سنجر الدوادار رواقه داخل باب الفرج دار حديث ومدرسة وولي مشيخته الشيخ علاء الدين بن العطار وحضر عنده القضاة والأعيان وعمل لهم ضيافة انتهى.

وقال الذهبي في العبر في سنة تسع وتسعين وستمائة : الأمير الكبير علم الدين سنجر التركي الصالحي كان من نجباء الترك وشجعانهم وعلمائهم ، وله مشاركة جيدة في الفقه والحديث. وفيه ديانة وكرم ، وسمع الكثير من الزكي المنذري (٢) والرشيد العطار (٣) وطبقتهما ، وله معجم كبير وأوقاف بدمشق

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٤٠٨.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٢٧٧.

(٣) شذرات الذهب ٥ : ٣١١.

٤٩

والقدس ، تحيز إلى حصن الأكراد. فتوفي به رحمه‌الله تعالى في شهر رجب عن بضع وسبعين سنة انتهى.

وقال الصلاح الصفدي في حرف السين المهملة : سنجر الأمير الكبير العالم المحدث أبو موسى الدواداري ، ولد سنة نيف وعشرين وستمائة وتوفي رحمه‌الله تعالى سنة تسع وتسعين وستمائة وقدم من الترك في حدود سنة أربعين وستمائة ، وكان مليح الشكل مهيبا كبير الوجه خفيف اللحية ، صغير العينين ربعة من الرجال ، حسن الخلق والخلق ، فارسا شجاعا ، ديّنا خيّرا عالما فاضلا ، مليح الخط ، حافظا لكتاب الله تعالى ، قرأ القرآن على الشيخ نجيب الدلاصي وغيره ، وحفظ الإشارة في الفقه للشيخ سليم الرازي (١) ، وحصل له عناية بالحديث وسماعه سنة بضع وخمسين ، وسمع الكثير وكتب بخطه ، وحصل الأصول ، وخرّج له المزي جزءين عوالي ، وخرّج له البرزالي معجما في أربعة عشر جزءا ، وخرّج له ابن الظاهري قبل ذلك معجما.

سار بكسوة البيت الشريف بعد ان اخذ بغداد من الديار المصرية وقبل ذلك كان نائبها الاستادار من الخليفة وحج مرة هو واثنان من مصر على الهجن. وكان من الأسرى في أيام الظاهر ثم أعطي امرية بحلب ،. ثم قدم دمشق وولي الشدّمرة ، ثم كان من أصحاب سنقر الأشقر ثم أمسك ثم أعيد إلى رتبته واكثر ، ثم اعطي خبزا وتقدمة على الألف. وتقلبت به الأحوال وعلت رتبته في دولة الملك المنصور حسام الدين لاشين (٢) وقدمه على الجيش في غزوة سيس. وكان لطيفا مع اهل الصلاح والحديث يتواضع لهم ويحادثهم ويؤانسهم ويصلهم ، وله معروف كثير وأوقاف بدمشق والقدس ، وكان مجلسه عامرا بالعلماء والشعراء والأعيان ، وسمع الكثير بمصر والشام والحجاز ، وروى عن الزكي عبد العظيم (٣) والرشيد العطار وابن عبد السلام (٤) والكمال

__________________

(١) شذرات الذهب ٣ : ٢٧٥.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٤٤.

(٣) شذرات الذهب ٥ : ٢٦٥.

(٤) شذرات الذهب ٥ : ٣٠١.

٥٠

الضرير (١) والشرف المرسي وعبد الغني بن بنين (٢) وإبراهيم بن بشارة وأحمد ابن حامد الأرتاحي وإسماعيل بن عزّون (٣) وسعد الله أبي الفضل الفتوحي وعبد الله بن يوسف بن اللمط (٤) وعبد الرحمن بن يوسف المنبجي ولاحق الأرتاحي (٥) وأبي بكر بن مكارم وفاطمة بنت الملثم بالقاهرة وفاطمة بنت الحزام الحميرية بمكة المشرفة وابن عبد الدائم (٦) وطائفة بدمشق وهبة الله ابن رزين واحمد بن النحاس (٧) بالاسكندرية وعبد الله بن علي بن معن وبأنطاكية وحلب المحمية وبعلبك والقدس وقوص والكرك وصفد وحماة وحمص وطيبة والفيوم وجدّة ، وقلّ من أنجب من الترك مثله ، وسمع منه خلق بدمشق والقاهرة ، وشهد الوقعة وهو ضعيف ثم التجأ بأصحابه إلى حصن الأكراد فتوفي به ليلة الجمعة ، ثالث شهر رجب بتاريخ تقدم انتهى.

قلت وكان الشيخ فتح الدين به خصيصا ينام عنده ويساهره ، فقال لي : كان الأمير علم الدين قد لبس الفقيري وتجرد ، وجاء مكة فجاور بها ، وكتب الطباق بخطه ، وكانت في وجهه آثار الضروب من الحروب ، وكان إذا خرج إلى غزوة خرج طلبه (كذا) وهو في زيه ، وإلى جانبه شخص يقرأ عليه جزءا فيه أحاديث الجهاد. وقال إن السلطان حسام الدين لاجين رتبه في عمارة جامع ابن طولون ، وفوض امره إليه فعمره ، وعمر وقوفه ، وقرر فيه دروس الفقه والحديث ، وجعل من جملة ذلك وقفا يختص بالديوك التي تكون في سطح الجامع في مكان مخصوص بها وزعم ان الديوك تعين الموقتين وتوقظ المؤذنين في الأسحار ، وضمن ذلك كتاب وقف ، فلما قرىء على السلطان أعجبه ما اعتمده في ذلك ، فلما انتهى إلى ذكر الديوك انكر ذلك ، وقال : ابطلوا هذه لا يضحك الناس علينا. وكان سبب اختصاص فتح الدين به أنه سأل الشيخ

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٣٠٦.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٣٠٦.

(٣) شذرات الذهب ٥ : ٣٢٤.

(٤) شذرات الذهب ٥ : ٢٨٩.

(٥) شذرات الذهب ٥ : ٢٩٦.

(٦) شذرات الذهب ٥ : ٣٢٥.

(٧) شذرات الذهب ٥ : ٣٣٣.

٥١

شرف الدين الدمياطي عن وفاة البخاري فما استحضر تاريخها ، فسأل فتح الدين عن ذلك فأجابه ، وغالب رؤساء دمشق وكبارها وعلماؤها نشوءه وجمع الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مدائحه في مجلدين او واحد ، وكتب ذلك بخطه وكتب إليه علاء الدين الوداعي (١) بولد اسمه عمر ومن خطه نقلت :

قل للأمير وعزه في نجله

عمر الذي أجرى الدموع أجاجا

حاشاء يظلم ربع صبرك بعد ما

أمسى لسكان الجنان سراجا

ومن خطه نقلت :

علم الدين لم يزل في طلاب ال

علم والزهد سائحا زمالا

فيرى الناس رأيين ووراء

عند الأربعين وأبدالا (كذا)

وقال فيه لما اخذ في دويرة السميساطي بيتا :

لدويرة الشيخ السميساطي من

دون البقاع فضيلة لا تجهل

هي موطن للأولياء ونزهة

في الدين والدنيا لمن يتأمل

كملت معاني فضلها مذ حلها

العالم الفرد الغياث الموئل

إني لأنشد كلما شاهدتها

ما مثل منزلة الدويرة منزل

انتهى.

والشيخ علاء الدين بن العطار الذي تولى مشيختها أولا هو كما قال الصلاح الصفدي في وافيه : علي بن إبراهيم بن داود الشيخ الامام المفتي المحدث الصالح بقية السلف علاء الدين أبو الحسن بن الموفق العطار ابن الطبيب الشافعي شيخ دار الحديث النورية ومدرس القوصية والعلمية يعني هذه لا العلمية الحنفية الآتية ، ثم قال : ولد يوم عيد الفطر سنة أربع وخمسين وستمائة وتوفي في سنة أربع وعشرين وسبعمائة وحفظ القرآن وسمع من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر (٢) وعبد العزيز بن عبد الله والجمال الصيرفي (٣) وابن أبي

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ٣٩.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٣٣٨.

(٣) شذرات الذهب ٥ : ٣٦٣.

٥٢

الخير (١) والجمال محمد بن إسماعيل بن عساكر والعماد بن محمد صصري (٢) وابن مالك شيخ الصوفية والشمس ابن هامل (٣) وأبي بكر محمد بن البشتي وخطيب بيت الأبار (٤) ومحمد بن عمر (٥) الخطيب وابن أبي عصرون (٦) وأحمد بن هبة الله الكهفي (٧) والكمال بن فارس المقري والشيخ حسن الصقلي والفقيه زهير الزرعي والقاضي أبي محمد بن عطاء الأذرعي (٨) ومدلّلة بنت الشيرجي وابن علوان المقري (٩) وعدة. وسمع بمكة من يوسف بن إسحاق الطبري وأبي اليمن بن عساكر (١٠) وبالمدينة من أحمد بن محمد النقيبي ، وبالقدس من قطب الدين الزهري (١١) وبنابلس من العماد عبد الحافظ ، وبالقاهرة من الأبرقوهي (١٢) وابن دقيق العيد (١٣) وعمل له الشيخ شمس الدين معجما سمعه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني بقراءته سنة سبع وتسعين وابن الفخر ، وابن المجد (١٤) والبرزالي والمقاتلي (١٥) وصحب الشيخ محيي الدين النواوي رحمه‌الله تعالى وتفقه عليه وقرأ عليه التنبيه وأفتى ودرس وجمع وصنف ونسخ الأجزاء ودار مع الطلبة ، وسمع الكثير ، وكان فيه زهد ويفيد ويأمر بالمعروف على عادة في أخلاقه ، وله أتباع ومحبون ، أصيب بالفالج سنة إحدى وسبعمائة ، وكان يحمل في محفة إلى المدارس وإلى الجامع رأيته غير مرة ولم أسمع منه وكان والده يهوديا انتهى.

وذكره الذهبي في المعجم المختص وقال : وأحسن باستجازته لي كبار المشيخة. وفي العبر وقال : كان يلقب بمختصر النواوي ، وخرجت له معجما ،

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٣٦٠.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٣٣٢.

(٣) شذرات الذهب ٥ : ٣٣٤.

(٤) شذرات الذهب ٥ : ٣٢١.

(٥) شذرات الذهب ٥ : ٣٩٣.

(٦) شذرات الذهب ٥ : ٣٤٥.

(٧) شذرات الذهب ٥ : ٣٣٤.

(٨) شذرات الذهب ٥ : ٣٤٠.

(٩) شذرات الذهب ٥ : ٤٣٥.

(١٠) شذرات الذهب ٥ : ٣٩٥.

(١١) شذرات الذهب ٥ : ٤٠١.

(١٢) شذرات الذهب ٦ : ٤.

(١٣) شذرات الذهب ٥ : ٤٥٢.

(١٤) شذرات الذهب ٥ : ٣٧٦.

(١٥) شذرات الذهب ٦ : ٤٦.

٥٣

وأصابه فالج أكثر من عشرين سنة. وذكره ابن كثير في تاريخه وقال : وله مصنفات وتواريخ وفوائد ومجاميع توفي رحمه‌الله تعالى يوم الاثنين مستهل ذي الحجة سنة أربع المذكورة وصلي عليه بالجامع ودفن بقاسيون. وقال غيرهما أخذ عن جمال الدين بن مالك (١) ولازم النواوي وهو أشهر أصحابه وأخصهم به لزمه طويلا وانتفع به وله معه حكايات واطلع على أحواله ، وكتب مصنفاته كثيرا وبيض منها ، ومن تصانيفه (شرح العمدة) لكنه أخذ شرح ابن دقيق العيد وزاد عليه من شرح مسلم للنواوي رحمه‌الله تعالى مع فوائد أخر حسنة سماء (أحكام شرح عمدة الأحكام) ، ومصنف (في فضل الجهاد) ، وآخر في (حكم البلوى وابتلاء العباد) ، وآخر في (حكم الأخبار والاحتكار عند فقد غلاء الأسعار) انتهى. قلت وممن درس بهذا المكان الشيخ الأصيل الفقيه نور الدين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ العالم الصالح القدوة نجم الدين أبي بكر بن محمد بن عمر ابن الشيخ الكبير أبي بكر ابن قوام بن علي بن قوام البالسي الأصيل الدمشقي المعروف بابن قوام ، ولد في شهر رمضان سنة سبع (بتقديم السين) عشرة وسبعمائة ، وسمع من جماعة وتفقه ودرس بالناصرية البرانية مدة سنين بعد أبيه وبالرباط الدواداري داخل باب الفرج وكان يحب السنة ويفهمها جيدا وقال ابن رافع سمع وتفقه ودرس ، وكان حسن الخلق ، توفي في شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وسبعمائة ودفن بسفح قاسيون بزاويتهم انتهى.

١٣ ـ دار الحديث السامرية

وبها خانقاه أوقفها الصدر الكبير سيف الدين أبو العباس أحمد بن محمد ابن علي بن جعفر البغدادي السامري (بفتح الميم وتشديد الراء) نسبة إلى مدينة سرّ من رأى وهي بلدة على الدجلة وينسب إليها أيضا بلفظ السرمري وهي إلى جانب الكروسية بدمشق ، وكانت داره التي يسكن فيها فدفن بها

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٣٣٩.

٥٤

بعد أن وقفها دار حديث وخانقاه. وكان قد انتقل إلى دمشق وأقام بها بهذه الدار مدة ، وكانت قديما تعرف بدار ابن قوام بناها من حجارة منحوتة كلها ، وكان السامري كثير الأموال حسن الأخلاق ، معظما عند الدولة ، جميل المعاشرة له أشعار رائقة ومبتكرات فائقة. توفي رحمه‌الله تعالى يوم الاثنين ثامن عشر شعبان سنة ست وتسعين وستمائة ، وقد كان له حظوة ببغداد عند الوزير ابن العلقمي (١) وامتدح المستعصم (٢) وخلع عليه خلعة سوداء سنية. ثم قدم دمشق في أيام الناصر صاحب حلب فحظي عنده أيضا ، فسعى فيه أهل الدولة فصنف فيهم أرجوزة فتح عليهم بسببها باب مصادرة الملك لهم بعشرين ألف دينار ، فعظموه جدا وتوسلوا به إلى أغراضهم. وله قصيدة في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كتب عنه الحافظ الدمياطي شيئا من شعره قال ذلك كله ابن كثير في سنة ست وتسعين ، بعد أن قال في سنة ست وثمانين وستمائة : وفيها استدعى سيف الدين السامري من دمشق إلى الديار المصرية ليشتري منه ربع قرية حزرما الذي اشتراه من بنت الملك الأشرف موسى فذكر لهم أنه أوقفه ، وقد كان المتكلم في ذلك علم الدين الشجاعي ، وكان قد استنابه الملك المنصور بديار مصر ، وجعل يتقرب إليه بتحصيل الأموال فقرر لهم ناصر الدين محمد ابن أبي عبد الله عبد الرحمن المقدسي (٣) أن السامري اشترى هذا من بنت الأشرف وهي غير رشيدة وأثبت سفهها على زين الدين بن مخلوف (٤) وأبطل البيع من أصله واسترجع على السامري بمغل عشرين سنة مائتي ألف درهم ، أخذوا منه حصة من الزنبقية قيمتها سبعون ألفا وعشرة آلاف مكملة ، وتركوه فقيرا على برد الديار ثم أثبتوا رشدها واشتروا منها تلك الحصص بما أرادوا ثم أرادوا أن يستدعوا الدماشقة واحدا بعد واحد ويصادروهم ، وذلك أنه بلغهم أن من ظلم بالشام لا يفلح وأن من ظلم بمصر أفلح وطالت مدته ، فكانوا يطلبونهم إلى مصر أرض الفراعنة والظلم ويفعلون بهم ما أرادوا انتهى.

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٢٧٢.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٢٧٠.

(٣) شذرات الذهب ٥ : ٤٠٨.

(٤) شذرات الذهب ٦ : ٤٩.

٥٥

وممن ولي مشيختها الشهاب بن قوام قال الشيخ تقي الدين بن قاضي شهبة في ذيله في جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين وثمانمائة شهاب الدين أحمد بن علاء الدين علي بن قوام الشافعي ، حفظ المنهاج للنواوي وطلب الحديث وأفتى وولي مشيخة الحديث بالسامرية قبل الفتنة ثم أنه أصابه وجع في صلبه وأقعد وافتقر وصار يشهد وتكلّم في شهادته ، وكان حسن المحاضرة له عقل جيد ، توفي في يوم الأحد سادس عشرين رجب سنة التاريخ المتقدم ودفن بالروضة رحمه‌الله تعالى انتهى.

١٤ ـ دار الحديث السكرية

بالقصاعين داخل باب الجابية وبها خانقاه لم أقف لواقفها على ترجمة. وولي مشيختها الشيخ الامام العالم الفقيه شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ الامام العلامة مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن القاسم بن محمد بن الخضر بن تيمية الحراني (١). قال ابن كثير في سنة اثنتين وثمانين وستمائة : والد شيخنا العلامة العالم تقي الدين بن تيمية مفتي الفرق ، الفارق بين الفرق. كانت له فضيلة حسنة ، ولديه فوائد كثيرة ، وكان له كرسي بجامع دمشق يتكلم عليه عن ظهر قلبه ، وولي مشيخة دار الحديث السكرية بالقصاعين وبها كان مسكنه تم درس ولده الشيخ بها بعده في السنة الآتية كما سيأتي ودفن بمقابر الصوفية.

وقال ابن مفلح في طبقاته : سمع من المجد والده (٢) وغيره ، ورحل في صغره الى حلب وسمع من ابن اللتي وابن رواحة (٣) وقرأ العلم على والده المجد وتفنن في الفضائل ودرّس وأفتى وصنف وصار شيخ البلد بعد أبيه المجد وخطيبه وحاكمه. وكان إماما كثير الفوائد جيد المشاركة في العلوم له يد طولى في الفرائض والغوامض والحساب والهيئة وكان ديّنا متواضعا حسن

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٣٧٦.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٢٥٧.

(٣) شذرات الذهب ٥ : ٢١٥.

٥٦

الأخلاق جوادا من حسنات الدهر ، وكان من أنجم الهدى وإنما اختفى بين نور القمر وضوء الشمس إشارة إلى أبيه وابنه الشيخ تقي الدين ، فان فضائله وعلومه انغمرت بين فضائلها وعلومهما ، توفي رحمه‌الله تعالى ليلة الأحد سلخ ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين وستمائة بدمشق ودفن من الغد بسفح جبل قاسيون انتهى. ولم يذكر أنه ولي مشيخة السكرية وقال إنه دفن بالسفح وهو وهم وإنما دفن بالصوفية كما قاله ابن كثير. ثم قال أيضا في تاريخه في سنة ثلاث وثمانين وستمائة وفي يوم الاثنين ثاني المحرم منها : درّس الشيخ الامام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني بدار الحديث السكرية التي بالقصاعين وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين يوسف بن الزكي الشافعي ، والشيخ تاج الدين الفزاري شيخ الشافعية ، والشيخ زين الدين بن المرحل والشيخ زين الدين المنجا الحنبلي (١) وكان درسا هائلا حافلا يعنى في البسملة كما ذكره ابن مفلح في طبقاته ، وقد ذكره الشيخ تاج الدين الفزاري بخطه لكثرة فوائده وكثرة ما استحسنه الحاضرون. وقد أطنب الحاضرون في شكره على حداثة سنه وصغره ، فانه كان إذ ذاك عمره عشرين سنة وسنتين ، ثم جلس الشيخ تقي الدين المذكور أيضا يعني مكان والده بالجامع كما ذكره ابن كثير يوم الجمعة عاشر صفر بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة على منبر قد هيء له لتفسير القرآن العزيز فابتدأ من أوله في تفسيره ، وكان يجتمع عنده الخلق الكثير والجم الغفير ، ومن كثرة ما كان يورد من العلوم المتنوعة المحررة مع الديانة والزهادة والعبادة سارت بذكره الركبان في سائر الأقاليم والبلدان واستمر على ذلك مدة سنين متطاولة.

زاد ابن مفلح في طبقاته وأنه كان بورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر وبقي يفسر في سورة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام عدة سنين. وأطال في ترجمته كثيرا ، وشهرته تغني عن الاطناب في ذكره

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٤٣٣.

٥٧

والإشهار في أمره. ولد يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة بحرّان وقدم مع أهله سنة سبع وستين وستمائة إلى دمشق فسمع بها من ابن عبد الدائم والمجد بن عساكر وابن أبي الخير والقاسم الاربلي والمسلم بن علان وإبراهيم بن الدرجي (١) وابن أبي اليسر وخلق كثير ، وأقبل على العلوم في صغره فأخذ الفقه والأصول عن والده والشيخ شمس الدين بن أبي عمر والشيخ شمس الدين بن المنجا (٢) وبرع في ذلك وقرأ في العربية أياما على ابن عبد القوي ، ثم أخذ كتاب سيبويه وتأمله ففهمه وأقبل على تفسير القرآن العزيز فبرز فيه ، وأحكم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة وغير ذلك من العلوم ، ونظر في علم الكلام وبرز في ذلك على أهله ، وردّ على رؤسائهم ، وتأهل للفتوى والتدريس وله دون العشرين سنة. وأمدّه الله تعالى بكثرة الكتب وسرعة الحفظ وقوة الفهم وبطء النسيان ، وعني بالحديث أتمّ عناية ونسخ الأجزاء ، ودار على الشيوخ وخرّج وانتقى وبرع في الرجال وعلل الحديث ، وكان كثير المحاسن ، فارغا عن شهوات المأكل والملبس والجماع ، لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه ، عرض عليه قضاء القضاة قبل التسعين ومشيخة الشيوخ فلم يقبل شيئا من ذلك ، وامتحن وأوذي مرات وحبس بقلعة مصر والقاهرة وبالاسكندرية وبقلعة دمشق مرتين ، وصنف التصانيف الحسنة التي هي أشهر من أن تذكر ، وأعرف من أن تنكر ، وحدث بدمشق ومصر والثغر ، وسمع منه خلق من الحفاظ والائمة من الحديث ومن تصانيفه ، وخرج له ابن الواني أربعين حديثا حدث بها وقد أفرد له الحافظ أبو عبد الله بن عبد الهادي (٣) ترجمة في مجلدة وكذلك أبو حفص البزار (٤) البغدادي في كراريس ومات بدمشق في القلعة معتقلا سحر ليلة الاثنين عشرين ذي الحجة أو ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ثم جهز وأخرج إلى جامع البلد وكان الجمع أعظم من جمع الجمع حزر الرجال بستين ألفا وأكثر والنساء

__________________

(١) شذرات الذهب ٥ : ٣٧٣.

(٢) شذرات الذهب ٥ : ٢١٠.

(٣) شذرات الذهب ٦ : ١٤١.

(٤) شذرات الذهب ٦ : ١٦٣.

٥٨

بخمسة عشر ألفا صلى عليه أخوه زين الدين عبد الرحمن (١) بسوق الخيل بعد خروج جنازته من باب الفرج ، ودفن بمقابر الصوفية إلى جانب أخيه بالشرق وهو عبد الله (٢) أي أخيه ورؤيت له منامات حسنة. ثم وليها بعده الحافظ ابن عبد الله الذهبي وهو محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله التركماني الفارقي الأصل الدمشقي الشافعي ، الامام العلامة شيخ المحدثين قدوة الحفاظ والقراء ، مؤرخ الشام ومفيده شمس الدين ، ولد سنة ثلاث وسبعين وستمائة بدمشق ، وجمع القراآت السبع على الشيخ أبي عبد الله بن جبريل المصري نزيل بيت المقدس فقرأ عليه ختمة جامعة لمذاهب القراء السبعة بما اشتمل عليه كتاب التيسير لأبي عمرو الداني ، ونظم حرز الأماني لأبي محمد القاسم الشاطبي (٣) ، وعني بالحديث من سنة اثنين وتسعين وهلم جرّا ، فسمع ما لا يحصى كثرة من الكتب الكبار والأجزاء على خلق كثير ، فسمع من أحمد بن عساكر (٤) صحيح مسلم والموطأ للامام مالك (٥) رضي الله تعالى عنه رواية أبي مصعب ، وعلى ابن القواس (٦) معجم ابن جميع (٧) ، وعلى زينب بنت كندي وخلق كثير ، ورحل إلى مصر فسمع بها على أبي المعالي الأبرقوهي السيرة النبوية لابن إسحاق (٨) وجزاء ابن الطلاية (٩) وبالقاهرة من ابن الحافظ شرف الدين الدمياطي وغيره ، وسمع بالاسكندرية من الغرافي (١٠) وببعلبك من التاج عبد الخالق (١١) وبحلب من سنقر (١٢) وبنابلس من العماد بن بدران (١٣) وغيره وبمكة من الفخر التوزي وعدة مشايخ. وأجاز له بالاستدعاء الشيخ علاء الدين ابن العطار وأحمد بن أبي الخير بن سلامة الحداد والشيخ عبد الرحمن بن أبي

__________________

(١) شذرات الذهب ٦ : ١٥٢.

(٢) شذرات الذهب ٦ : ٧٦.

(٣) شذرات الذهب ٤ : ٣٠١.

(٤) شذرات الذهب ٥ : ٤٤٥.

(٥) شذرات الذهب ١ : ٢٨٩.

(٦) شذرات الذهب ٥ : ٤٤٢.

(٧) شذرات الذهب ٤ : ١٥٧.

(٨) شذرات الذهب ١ : ٢٣٠.

(٩) شذرات الذهب ٤ : ١٤٥.

(١٠) شذرات الذهب ٦ : ١٠.

(١١) شذرات الذهب ٥ : ٤٣٥.

(١٢) شذرات الذهب ٦ : ١٤.

(١٣) شذرات الذهب ٥ : ٤٤٢.

٥٩

عمر وخلق كثير من أصحاب ابن طبرزد والكندي وحنبل وابن الحرستاني وغيرهم ، فشيوخه في معجمه الكبير أزيد من ألف ومائتين بالسماع والإجازة ، وخرج جماعة من شيوخه وأقرانه ، وعدّل وخرّج وصحح واستدرك وأفاد وانتقى واختصر كثيرا من تواريخ المتقدمين والمتأخرين وصنف الكتب المفيدة منها (تاريخ الاسلام) عشرين مجلدا ، و (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) مجلدين ، و (طبقات الحفاظ) مجلدين ، و (طبقات القراء) مجلد ، و (المغني في أحوال الرواة) مجلد ، ومصنفاته ومختصراته وتخاريجه تقارب المائة وقد سار بكل منها الركبان في أقطار البلدان. وولي مشيخة الظاهرية قديما ومشيخة النفيسية والفاضلية والسكرية هذه وأم الصالح وغير ذلك ، ولم يزل يكتب ويصنف وينتقي حتى أضرّ في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ، ومات رحمه‌الله تعالى ليلة الثلاثاء الثالث من ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة بدمشق ودفن بمقبرة الباب الصغير رحمه‌الله. ثم ولي مشيخة السكرية هذه بعده الصدر المالكي ، قال الشيخ شمس الدين السيد في ذيل العبر سنة تسع وأربعين وسبعمائة : والامام صدر الدين سليمان بن عبد الحكم المالكي مدرس الشرابيشية وشيخ السكرية بعد الذهبي انتهى. وقال الصلاح الصفدي في تاريخه في حرف السين : سليمان بن عبد الحكم الشيخ الامام الفاضل صدر الدين الباردي (بالباء الموحدة وبعد الألف راء ودال مهملة) المالكي الأشعري مدرس المدرسة الشرابيشية بدمشق مولده سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة ووفاته يوم الأحد خامس جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبعمائة ودفن بالشرابيشية انتهى.

١٥ ـ دار الحديث الشقيشقية

بدرب البانياسي ، قال الذهبي في تاريخه فيمن مات سنة ست وخمسين وستمائة : وابن الشقيشقة المحدث نجيب الدين أبو الفتح نصر الله بن أبي العز مظفر بن عقيل الشيباني الدمشقي الصفار الشاهد ، ولد بعد الثمانين وخمسمائة وسمع من حنبل وابن طبرزد وخلق كثير وروى مسند احمد (١).

__________________

(١) شذرات الذهب ٢ : ٩٦.

٦٠